السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(259) ما يقوله الصائم إذا سابه أحد " إني صائم، إني صائم "
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1998
مرات الإستماع: 1344

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: هذا باب "ما يقول الصَّائم إذا سابَّه أحدٌ"، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن أبي هريرة : أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: الصِّيام جُنَّة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين[1].

وأيضًا جاء في حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنَّه لي،وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم[2].هذا الحديث مُخرَّج في "الصحيحين".

وقوله ﷺ: الصِّيام جُنَّة، الجنَّة هيما أجنّك وسترك، ومن ذلك يُقال للترس ونحوه: جُنَّة؛ لأنَّحاملَه يستتر به ويجتنّ من ضرب السِّلاح، فأصل هذه المادّة تدلّ على السّتر في كل تصرّفاتها؛ ولهذا يُقال: الجنّ؛ لاستتارهم عن العيون، ويُقال أيضًا: الجنين؛ لاستتاره في البطن، ويُقال أيضًا: للجنّة؛ لكثرة أشجارها، فهي تستر مَن بداخلها، وهكذا.

فكلّ ما يجنّك، أي: يسترك ويقيك مما تخاف هنا فهو داخلٌ فيه على قول بعض أهل العلم، بمعنى: أنَّه يستر، أو أنه يحفظ صاحبه من الوقوع في المعاصي والفواحش والموبقات؛ وذلك أنَّ البطنَ إذا جاع شبعت الجوارح، فلا تتطلع إلى مُواقعة المعاصي والذنوب والقبائح.

وقد ذكر بعضُ أهلالعلم -كالقُرطبي في "المفهم"- أنَّ المراد: أنَّه يستره بحسب مشروعيَّته[3]،الصوم جُنَّة، فينبغي للصَّائم أن يصونه مما يُفسده وينقص ثوابَه.

ويحتمل أن يُراد أنَّه ستره بحسب فائدته وأثره، وهو ما يتعلَّق بإضعاف الشَّهوات،الصوم جُنَّة، يعني: له هذا الأثر؛ ولهذا أشار إليه-أو كأنَّه يُشير إلى ذلك- بقوله بعده: يدع شهوتَه ... إلى آخره، فهذا يمكن أن يُفسّر به المراد بالجُنّة.

ويحتمل أنَّه أراد: أنه يستره بحسب ما يحصل من الثَّواب وتضعيف الحسنات،الصوم جُنَّة: إمَّا أنَّه يجنّه بنفسه، شُرع ليكون جُنَّةً، أو أنَّه يجنّه باعتبار الأثر؛ فيحفظه من مُواقعة ما لا يليق، أو أنَّه يكون جُنَّةً باعتبار ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات.

هذه ثلاث احتمالات ذكرها أهلُ العلم في تفسير هذه الجملة، وقد ذهب بعضُهم إلى بعض هذه المعاني، كما قال القاضي عياض -رحمه الله-: أنَّ المراد أنه يستره من الآثام، أو من النار[4].

ويحتمل أنَّ ذلك جميعًا يكون مُرادًا بهذا الحديث: يستره من الآثام، ويستره من أثرها، وما يحصل من جرَّاء هذه الآثام من العقوبة، فهو يستره من النار، ويكون ذلك جميعًا داخلاً في المعنى، واختار الأخيرَ الإمامُ النَّووي -رحمه الله[5].

وقد ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي -رحمه الله- أنَّه إنما كان الصومُ جُنَّةً من النار، هذا باعتبار التَّفسير بهذا المعنى: جُنَّة من النار، قال: لأنَّه إمساكٌ عن الشَّهوات[6]،والنار محفوفة بالشَّهوات، فإذا كفَّ نفسَه عن الشَّهوات في الدنيا؛ كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة، وتفسيره بهذه الطريق من الملازمة، فالكفّ عن الشَّهوات في الدنيا يكفّ وجهه عن النار يوم القيامة، فالصوم جُنَّة يُبعده عن مُواقعة الآثام، فيكون ذلك سببًا لمباعدته عن النار.

وقال بعضُهم، كولي الله الدَّهلوي: أنَّه جُنَّة باعتبار أنه يقي شرَّ الشيطان والنَّفس الأمَّارة بالسُّوء، يحفظ الإنسان من تأثيرهما، فيُخالف الإنسانُ هواه، ويُخالف الشَّيطان؛ فيكون بذلك قد سلم[7]، فالصوم جُنَّة، يقوى به على نفسه الأمَّارة، ويقوى به على شيطانه؛ فيغلب النَّفس، والهوى، والشَّيطان.

فعلى كل حالٍ، النبي ﷺ أطلق قال: الصوم جُنَّة، فحذف المقتضى، يعني: المقدّر هنا، ما قال: جُنَّة من النار، جُنَّة من الآثام، جُنَّة من النفس الأمَّارة بالسُّوء، والشَّيطان، والهوى.

والأصل حمل المقتضى على أعمِّ معانيه، فالصوم جُنَّة، لا شكّ أنه يحفظ الإنسانَ من مُواقعة الآثام والموبقات؛ لأنَّه -كما سبق- إذا جاع البطنُ شبعت الجوارح، فتنكفّ –تنكسر- نفسه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصّوم؛ فإنَّه له وجاء[8]، فهو جُنَّة بهذا الاعتبار، يكفّه، يحجزه عن مُواقعة هذه الآثام، وذلك ما تدعو إليه النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوء والشَّيطان، فهي قضايا مُتلازمة، فهو جُنَّة له من ذلك: من طاعة الله، والنَّفس، والشيطان، وما يعقب ذلك من العذاب والنار، فيكون ذلك حفظًا له وحرزًا من النار، فيكون الصومُ جُنَّةً من النار، ومن مُقارفة ما لا يليق، ومن طاعة أيضًا ما لا ينبغي طاعته من النفس، والهوى، والشيطان.

ثم نهى النبيُّ ﷺ الصَّائم، قال: فلا يرفث، ولا يجهل، الرفث يُقال للجماع، وهو أحد إطلاقاته، ويُقال لمقدّمات الجماع، والله يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة:197]، ففسر الرَّفث بالجماع، ومُقدّمات الجماع، وما يُقال من ذلك بحضرة النِّساء، فيكون ذلك من قبيل الرَّفث، كما يُطلق أيضًا على معنى أعمّ من هذا؛ يُطلق على الفُحْشِ.

وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أنَّ المراد به في هذا الحديث: فلا يرفث يعني: الفُحش، ورديء الكلام -قبيح الكلام-، فهذاكله داخلٌ فيه، فلا يتكلم بما لا يليق.

وقد فسَّره الحافظُ ابن عبد البرِّ -رحمه الله- بالكلام القبيح، والشَّتم، والخنا، والغيبة، والجفاء، قال: وأن تُغضب صاحبك بما يسوؤه، والمراء، ونحو ذلك كلّه[9]حمله على معنًى واسعٍ، يعني: مُواقعة ما لا يجمل ولا يليق من الفُحش، والسِّباب، والشَّتائم، وكذلك الجدال، والخصومات، ومالا يُجدي طائلاً على أصحابه.

وكذلك أيضًا فسَّره القرطبي في "المفهم" بنحوٍ من هذا، وذكر أنَّ ذلك لا يُفهم منه، يعني: بإعمال مفهوم المخالفة أنَّ غير الصَّائم يُباح له مثل هذه الأمور[10]؛ فإنَّ النبي ﷺ ذكر ذلك مُقيدًا بالصوم: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، طيب، إن لم يكن يوم صومٍ فهل له أن يفعل هذه الأشياء؟ هل يرخص له في مُقارفة هذه المدنسات؟

الجواب: لا، ولكن ذلك يتأكّد مع الصوم، ولا معنى للصوم إذا كان الإنسانُ يكفّ عن الطَّعام والشَّراب، ويُطلق لسانَه بالقبيح من القول، ويُطلق بصرَه بالنَّظر إلى الحرام، ويُطلق جوارحَه بمُعافسة المنكرات بأنواعها، ولكن على كل حالٍ هذا يحرم على المسلم، ويتأكّد ذلك في الصّوم، فإنَّ الآثام تعظم بحسب مُتعلّقاتها كما ذكرنا في مناسبات مختلفة.

قال: ولا يجهل فسَّره ابنُ عبدالبرِّ -رحمه الله- بنحوٍ مما سبق أيضًا: الشَّتم، السِّباب، القبائح، أنَّ هذا هو الجهل[11]. وفُسِّر بما هو أعمّ من ذلك، كما قال القرطبي -رحمه الله-: العمل على خلاف ما يقتضيه العلم.

فهنا بهذا التَّفسير ربطه بمعنًى يتَّصل بأصله: الجهل يُقابل العلم، فالعمل على خلاف مُقتضى العلم هو الذي يُوقع الإنسان بأنواع من السَّفه، والهبوط بكلامه، وتصرُّفاته، وتعامُله، ونحو ذلك؛ ولهذا قالوا: أي لا يفعل شيئًا من فعل أهل الجهل. قالوا: كالصِّياح، رفع الصَّوت، يصرخ، والسَّفه، والسُّخرية، وما إلى ذلك من أفعال السُّفهاء.

وجاء في بعض الرِّوايات بزيادة الجدل: ولم يُجادل[12].

لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- فسّر الجهل هنا بالكلام الباطل، كل كلامٍ باطلٍ فهو من الجهل، وهذا ظاهرٌ، وذكر البيت المشهور:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا[13]

فالجهل يُقال بمعنى: العدوان؛ العدوان باللِّسان، العدوان بالجوارح، قال: ومن هنا سُميت الجاهلية: جاهلية، وهي مُتضمنة لعدم العلم، أو لعدم العمل به[14]، فتصدر منه تصرّفات في الفعل، أو تصرّفات بالقول، على خلاف مُقتضى العلم، فإنَّ العلم الصَّحيح النَّافع يحجزه عن مُقارفة ما لا يليق، هذا العلم الذي ينفع.

وعلى كل حالٍ، الجهل قال النَّووي -رحمه الله-:بأنَّه قريبٌ من الرَّفث، وهو خلاف الحكمة؛ لأنَّ النَّووي فسَّر الرَّفث بالسّخف وفاحش الكلام، فقال: الجهل قريبٌ منه، وهو خلاف الحكمة، خلاف الصَّواب من القول والفعل[15].

ثم عقب ذلك بالفاء: فإن سابَّه أحدٌ لما نهاه عن أن يجهل، ونحو ذلك، فإن استفزّ ماذا يفعل؟ إن حصل عليه عدوانٌ، فهل يُقابل ذلك بالمثل؟ هو لا يبتدئ غيره، لكن إن ابتدأه أحدٌ: فإن سابَّه أحدٌ، وفي روايةٍ في "الصَّحيحين":شاتمه أحدٌ، يعني: خاصمه باللِّسان، وأسمعه ما لا يليق، أو قاتله، فسّر بمعنى المقاتلة، بمعنى: المنازعة والمدافعة، كما قال القاضي عياض، وهذا قريبٌ من معنى المشاتمة والملاعنة، فقد جاء القتلُ بمعنى: اللَّعن، وقد فسّر بذلك أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ[عبس:17]، قيل: بمعنى: اللَّعن، ونحو ذلك.

وقد لا يُقصد به حقيقة المعنى، وإن كان هذا هو المعنى عند العرب، مثلما يقولون: قاتله الله ما أشجعه! للتَّعجب، وكذلك حينما يُقال: تربت يداه، فهم لا يقصدون الدُّعاء عليه.

لاحظوا أنَّ هذه المادّة في بنائها:"قاتله"، الأصل في المفاعلة: المقاتلة، والمضاربة، والمكالمة، والمجادلة، والمخاصمة، والمقاولة، ونحو ذلك؛ أنها تكون بين طرفين فأكثر، لا تكون من طرفٍ واحدٍ، هذا الأصل، ولكنَّه يأتي على خلاف الأصل في مواضع غير قليلةٍ، وقد أشرتُ إلى هذه في بعض المناسبات.

ومن هنا فإنَّ أهل العلم نظروا إلى هذه اللَّفظة: شاتمه، قاتله، بين طرفين فأكثر، هو صائم، هو ممنوعٌ من هذا أصلاً، فكيف تقع المشاتمةُ بين طرفين: بين الصَّائم وغير الصَّائم، أو بين صائمٍ وسفيهٍ؟! وهذه المشاتمة والمخاصمة تكون من الطَّرفين، فتصدر من هذا، وتصدر من هذا، فكيف يصدر منه وقد مُنع من ذلك باعتبار أصل اللَّفظة: شاتمه، الشَّتم يحصل من الطَّرفين؟!

فهذا ذكر له بعضُ أهل العلم توجيهات؛ فمن ذلك ما ذكره أبو الوليد الباجي؛ ذكر ثلاث توجيهات لهذا المعنى:

الأول: أنَّه يحتمل أنه يريد: إن أراد أن يُشاتمه، أو يُقاتله؛ فليمتنع منذلك، وليقل: إني صائم. هذا تأويلٌ، يعني: الطَّرف الآخر اعتدى على هذا الصَّائم بكلامٍ لا يليق، وسبٍّ، وشتمٍ، أو دافعه، أو نحو ذلك، هذا الطَّرف صائم، ممنوعٌ من هذه التَّصرفات، قال: إن أراد، قال: إن تحركت نفسُه للانتقام فليقل: إني صائمٌ، فاعتبر هذا القصد والنية والإرادة بمنزلة الفعل، فصار طرفًا في ذلك، لكن هذا لا يخلو من بُعْدٍ.

التوجيه الثاني: أنَّ لفظ المفاعلة هذا: قاتله، خاصمه، شاتمه، هي في الأصل ما يكون بين طرفين فأكثر، إلا أنها قد تُستعمل في فعل الواحد، وهذا الذي كنتُ أُشير إليه في بعض المناسبات، حينما يُقال مثلاً: سافر فلانٌ، سافر، فاعل، المسافرة تكون بين طرفين فأكثر، وإنما تُقال من جهةٍ واحدةٍ، من طرفٍ واحدٍ، ولا يُقصد بها ما يكون بين طرفين.

وهكذا أيضًا يُقال: عالج، الطَّبيبُ عالج المريض، المعالجة تكون من طرفٍ واحدٍ، تصدر من طرفٍ واحدٍ، الذي هو الطَّبيب، وأمَّا المريض فهو مُستسلم، لكن المعالجة في القتال تكون بين طرفين، يعني: الاقتتال.

وهكذا يُقال: عافاه الله، المعافاة تصدر من الله، وليس للمخلوق في ذلك قليلٌ، ولا كثيرٌ، عافاه الله، بارك الله له، بارك، المباركة، البركة تصدر من الله، فعبّر بالمباركة: باركه الله، بارك له، بارك فيه، بارك عليه، وذلك من طرفٍ واحدٍ.

ومن ثم فإنَّ ما قد يُقال مما نسمعه أحيانًا في المناقشات العلمية في رسائل الماجستير والدّكتوراه، ونحو ذلك، يُقال: لا تقل: مُلاحظة؛ فإنَّ الملاحظة تكون بين طرفين فأكثر، قل: ملحوظة.

يمكن أن يُردّ على هؤلاء بهذه الطَّريقة؛ بأنَّ هذا الأصل في بناء هذه الكلمة، وقد تأتي مُرادًا بها ما يكون من طرفٍ واحدٍ.

ومثلما مثَّلتُ بهذه الأمثلة، وكنتُ ذكرتُ ربما في بعض المناسبات أمثلةً أخرى، فلا إشكالَ في ذلك، فهذا الجواب جيدٌ، ولا إشكالَ فيه -إن شاء الله.

الجواب الثالث: أن يكون المرادُ: إن وُجدت المشاتمةُ منهما جميعًا؛ حصلت، فليذكر الصَّائم نفسَه بصومه، ولا يستمرّ على المشاتمة والمقاتلة[16].لكن هذا فيه بُعْدٌ.

وقد استبعده أيضًا الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-، وقد جاء في بعض الألفاظ: فإن شتمه[17]، يدلّ على أنَّ ذلك صدر من طرفٍ واحدٍ، وليس من طرفين، فهذه تُفسّر هذه، فإن شتمه[18].

والنَّووي -رحمه الله- قال: معناه: شتمه مُتعرضًا لمشاتمته، شتمه، اعتدى عليه، فهو تسبّب في استفزازٍ يُؤدي إلى المقابلة، والمشاتمة، مُقابلة ذلك بالمثل، قال: هذا معنى شاتمه، بأنَّ فعله هذا يستفزّ الطرف الآخر، فيُقابله بالمثل، هكذا فسَّره النَّووي[19].

وجميع ذلك يرجع إلى ما ذكرتُ: أنهم نظروا إلى أصل اللَّفظة: المفاعلة، فجاءت هذه العبارات، سواء كانت ابتداءً؛ يذكرونها من غير ذكر الإشكال، أو كانوا يذكرون الإشكالَ، ثم يُجيبون عنه.

فعلى كل حالٍ، هذا كلّه مما يُذكر في الجواب، وقد لا يخلو بعضُه من بُعْدٍ، والله -تبارك وتعالى- أعلم.

فليقل: إني امرؤ صائم، بقي هنا الكلامُ في المراد بذلك، هل يُصرّح ويُعلن ويقول: إني امرؤ صائم، يُخبر غيره أنه صائم؟ والصِّيام لا يطّلع عليه إلا الله -تبارك وتعالى-،لا يطّلع عليه المخلوق، فهل يُخبر غيره؟

ولذلك قالوا: الصِّيام لا يدخله الرِّياء؛ لأنَّالناس لا يطَّلعون عليه، بينه وبين الله ، مع أني ذكرتُ في بعض المناسبات أنَّ الرياء يتطرق إليه من جهةٍ معينةٍ، وهو أن يُظهر آثار الصوم، أو أن يُظهر بعض ما يتعلّق به؛ كأن يُظهر الفطر أمام الناس قصدًا؛ ليُعرف أنه صائم، يعني: يُفطر في مكانٍ ليُشاهده الناس، لصوم التطوع مثلاً، أو أنَّه يُظهر شيئًا من الأمارات التي تكون على الوجه، أو أنَّه يتصنع الحضور في بعض المواقع والمناسبات، ثم يمتنع عن طعامٍ وشرابٍ قد حضره؛ من أجل أن يُعرف أنه صائم: الأعمال بالنيات[20]، المقصود: إذا كان له قصدٌ فاسدٌ في ذلك.

لكن هنا في هذه المشاتمة هل يُخبر هذا المشاتم أنَّه صائم، وذلك خلاف إخفاء العمل؟

أمَّا إذا كان الصومُ واجبًا -صوم رمضان- فهذا لا إشكالَ فيه؛ ولهذا الخلاف الذي وقع بين أهل العلم إنما هو في صوم التَّطوع، وليس في صوم الفرض، يعني: هم بالنسبة لصوم الفرض ليس عندهم إشكالٌ في أنَّه يقول: إني صائم، لكن هذا الخلاف في إظهار العملوإخفاء العمل إنما هو في صيام التَّطوع، هكذا قالبعضُ أهل العلم.

فالمقصود هل يُعلن ذلك، أو أنَّه يقوله في نفسه؛ لردِّها عن المقابلة بالمثل؛بالمشاتمة، ونحو ذلك؟

ذهب القُرطبي -رحمه الله- صاحب "المفهم" إلى أنَّ الصائم يقول ذلك القول المأمور به للسَّابِّ ليُسمعه؛ ليُعلمه اعتصامه بالصوم؛ فيكفّ عن سبِّه[21]، هو يقول له: أنا صائمٌ؛ ليكفّ عنه.

وأيضًا من جهةٍ أخرى يقول له: لم أترك ذلك عجزًا، ولكني لا أُقابل بالمثل؛ لأني صائم، عندي ما يحجزني عن المقابلة بالمثل.

ويحتمل أن يكون المرادُ أنه يُخاطب بذلك نفسَه مُذكِّرًا لها؛ لئلا يستفزّ فيصدر منه ما لا يليق مما يخدش صومَه، فيزجره ذلك عن السبِّ، والشَّتم، ونحو ذلك.

الجمهور تكلَّموا على هذه المسألة من جهة أثرها على الصّوم، لكن فيما يتعلّق بالإعلان هل يقول ذلك له علانيةً، أو يقوله لنفسه؟

النَّووي -رحمه الله- قال:كلٌّ منهما حسنٌ، فإنَّه يقوله مُعلمًا؛ لينكفّ، ويقوله لنفسه أيضًا من أجل أن تنزجر، فيجمع بين ذلك[22].

وبعضهم -كما سبق- يقول: إن كان في رمضان قاله بلسانه، وإن كان في غير رمضان قاله بنفسه.

شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره:

الأول: أنه يقول ذلك في نفسه، فلا يردّ عليه.

والقول الثاني: أنه يقوله بلسانه.

والقول الثالث: وهو ما سبق من التَّفريق بين صوم الفرض وصوم النَّفل، فالفرض مُشترك، والذي يُخاصمه قد يكون في الغالب أيضًا من الصَّائمين، وأمَّا النَّفل فإنه يخاف عليه من الرِّياء.

شيخ الإسلام يقول: الصَّحيح أنه يقوله بلسانه.من أي جهةٍ رجّح هذا؟

من جهة أنَّه قال: فليقل، شيخ الإسلام يقول في الردِّ على المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم: أنَّ الكلامَ والقول لا يكون إلا بمجموع اللَّفظ والمعنى، وأمَّا الذي يكون في النَّفس فلا يُقال له: كلامًا، ولا يُقال له: قولاً إلا إذا قيّد بالنَّفس، قلتُ في نفسي، وكذلك الحديث، يقول: حدَّثتُ نفسي، كلَّمتُ نفسي، فلان يُكلم نفسَه، فهذا بقيدٍ، أمَّا إذا أطلق: قل كذا، فالأصل أنَّ القولَ يكون لمجموع اللَّفظ والمعنى في لغة العرب؛ ولهذا فسّر الكلام: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ[التوبة:6]، أنَّه مجموع اللَّفظ والمعنى، قال الله، مجموع اللَّفظ والمعنى، لا كما يقول الأشاعرةُ: بأنَّ القول والكلام في كلام الله هو اللَّفظ دون المعنى. فهذا غير صحيحٍ، لا في اللغة، ولا في الشَّرع.

فالقول المطلق لا يكون إلا باللسان، لكن إذا أُريد به ما يكون في النَّفس فهذا لا بدّ فيه من قيدٍ، كما قال النبيُّ ﷺ: إنَّ الله تجاوز لأُمتي عمَّا حدَّثت به أنفسها يكون مُقيدًا، مثلما يُقال: الإنسان، فهو مجموع الروح والجسد، روحٌ بلا جسدٍ لا يُقال: إنسان، جسدٌ بلا روحٍ جُثَّة، لا يُقال له: إنسان. فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع.

هذا كلام شيخ الإسلام[23] -رحمه الله-،فإذا قال بلسانه: إني صائميكون قد بيَّن عذرَه في إمساكه عن الردِّ، وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان.

لاحظ أنَّه يُكرر هذا مرتين: إني صائم؛ فيتأكّد الانزجار.

طائفةٌ من أهل العلم -كما سبق- قالوا: يقول واحدةً لخصمه، والثانية لنفسه ليزجرها. ولا دليلَ على هذا، لكن هذا للتَّأكيد.

وعلى كل حالٍ، هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-باعتبار ما سبق.

أمَّا قوله في الحديث هنا: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها هكذا يعني: إلا الصّوم فإنَّه لي، أهل العلم اختلفوا في تفسيره اختلافًا كثيرًا، حتى أوصل بعضُ أهل العلم الأقوالَ فيه إلى خمسين قولاً، في شرح قوله ﷺ: إلا الصّوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به.

كل الأعمال لله ، العبادات، فما معنى أنَّ الصوم يكون لله دونها؟

بعضهم قال: من جهة الجزاء والثواب، فإنَّ الأعمال التي يعملها الإنسانُ الحسنة بعشر أمثالها، قد علم ذلك، ويرجع إليه أجره وثوابه، أمَّا الصوم فيكون بغير حسابٍ: إلا الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به، المقصود: تعظيم الثواب والأجر.

وبعضهم قال: إلا الصّومفإنَّه لي قالوا: العبادات الأخرى يرجع أثرُها إلى العامل؛ فالناس يرونه، وإذا كان يُصلي مع الجماعة تحصل له تزكية بذلك، وتُقبل شهادته، ونحو هذا من الآثار الناتجة عن ذلك.

إنسانٌ يُصلي في المسجد، غير الذي لا يدخل المسجد، قالوا: ترجع إليه الآثار، وهكذا في سائر الأعمال، فإنَّه تسقط عنه التَّبعة والمطالبة، ونحو ذلك.

المرأة إذا تحجّبت: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ[الأحزاب:59]، تُعرف أنها حُرَّة، والحرّة لا تُخرج شيئًا من جسدها، تتحجّب الحجاب الكامل، بخلاف مَن قلَّ شرفها، وانحطّت مرتبتها، وهي الأَمَة؛ فإنَّ هذه لا يكون حجابها كالحرَّة، الحرّة لا تتهتك بالحجاب: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ يعني: أنهنَّ حرائر، لسن بإماءٍ؛ لأنها مُتحجبة حجابًا كاملاً: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، لا يتعرّض لها الفُسَّاق، وتمتدّ إليها العيون، يظنون أنها من الإماء؛ فيجترؤون عليها؛ لقلّة شرفها، وانحطاط رُتبتها.

فالمقصود أنَّ هذا المعنى ذكره بعضُ أهل العلم: أنَّ أعمال الإنسان يرجع إليه أثرٌ منها، أمَّا الصوم فلا يطّلع عليه الناسُ، ومن ثم فهو لله؛ ولهذا قال بعضُهم: من جهة الإخلاص، فإنَّه لايدخله الرِّياء. هكذا قالوا: إلا الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به.

وبعض أهل العلم ذكر معانٍ وتأويلات أخرى لقوله ﷺ: إلا الصّوم فإنَّه لي، وأناأجزي به.

هذا، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر نحو عشرة أوجهٍ في تفسير قوله: إلا الصّوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به، ذكر هذا في "الفتح"[24]، والله أعلم.

 


 

  1. أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم، برقم (1894).
  2. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
  3. انظر:"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(10/3).
  4. انظر:"شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" للزرقاني (11/215).
  5. انظر:"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (8/30-31).
  6. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (4/77).
  7. انظر: "حجة الله البالغة" للدهلوي (2/79).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن استطاع منكم الباءَة فليتزوج، لأنَّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج))، وهل يتزوج مَن لا أربَ له في النكاح؟، برقم (5065)، ومسلم: كتابالنكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه، ووجد مُؤنه، واشتغال مَن عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
  9. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البرّ(3/373).
  10. انظر:"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(10/4).
  11. انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر (3/373).
  12. أخرجه الفاكهاني في "أخبار مكة"، برقم (941).
  13. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (7/539).
  14. انظر: "الإيمان الأوسط" لابن تيمية(ص86).
  15. انظر:"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (8/28).
  16. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (2/74).
  17. أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه": كتاب الوصايا، باب الرجل يُعطي ماله كلّه، برقم (16408). وقال السيوطي: مُرسل عن الحسن. انظر: "جمع الجوامع" للسيوطي (8/191).
  18. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/105).
  19. انظر:"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (8/28).
  20. أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (1).
  21. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(10/4).
  22. انظر:"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (8/28).
  23. انظر: "منهاج السنة النبوية" لابن تيمية (5/197).
  24. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/107-108).

مواد ذات صلة