الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(275) دعاء الركوب
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 1755
مرات الإستماع: 1435

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد:فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب "دعاء الركوب": فعن علي بن ربيعة قال:"شهدتُ عليًّا -رضي الله تعالى عنه-، وأُتِيَ بدابَّةٍ ليركبها، فلمَّا وضع رجلَه في الرِّكاب قال:"بسم الله"، فلمَّا استوى على ظهرها قال:"الحمد لله"، ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ[الزخرف:13-14]، ثم قال:"الحمد لله" ثلاث مرات، ثم قال:"الله أكبر" ثلاث مرات، ثم قال: "سبحانك، إني ظلمتُ نفسي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين، من أيِّ شيءٍ ضحكتَ؟ قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ فعل كما فعلتُ ثم ضحك، فقلتُ: يا رسول الله، من أيِّ شيءٍ ضحكتَ؟ قال:إنَّ ربَّك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنَّه لا يغفر الذنوبَ غيري.

هذا الحديث أخرجه أبو داود[1]، والترمذي[2]، وسكت عنه أبو داود، وقال الترمذي:"حسنٌ صحيحٌ"، وصحح إسنادَه الإمامُ النَّووي[3]، والحافظ جلال الدِّين السُّيوطي[4]، والشيخ ناصر الدين الألباني[5]-رحم الله الجميع-.

يقول علي بن ربيعة:"شهدتُ عليًّا "، يعني: علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه وأرضاه-،"وأُتِيَ بدابَّةٍ ليركبها"، والدَّابة عرفنا أنها في أصل اللغة: كلّ ما يدبّ على الأرض يُقال له: دابَّة، وخُصَّت في العُرف بذوات الأربع، وخُصَّت أيضًا بعُرْفٍ أخصّ بنوعٍ من ذوات الأربع، كالتي تُرْكَب:الجمل، والفرس، والبغل، والحمار، يُقال له: دابَّة.

وفي بعض الأعراف قد تُخصّ ببعض ذلك، فتُقال للحمار، وفي بعض الأعراف قد تُقال للحيّة، فهذه أعراف خاصَّة.

أُتِيَ بدابَّته، يعني: بمركوبه، فلمَّا وضع رجلَه في الرِّكاب قال:"بسم الله"،والرِّكاب هو ما يُعلَّق في السّرج، ما يُربط ويُعلَّق في السّرج ليضع عليه الراكبُ إذا همَّ بالركوب رجلَه، يُقال له: ركاب، وإذا كان من الجلد يُقال له: الغرز،فهذا هو الرِّكاب الذي يضع عليه مَن يريد الركوبَ رِجلَه، ثم يثب على ظهر الدَّابة، مَوضع الرِّجْل عند الركوب يُقال له: الرِّكاب.

هذا يُقابله الآن في السيارة إذا وضع رجلَه على ما تُوضَع عليه الرِّجْلُ عند الركوب، إن كانت السيارةُ من السيارات المرتفعة فقد يكون لها ما تُوضَع عليه الرِّجْل، فإذا أراد أن يركب قال:"بسم الله"، يعني: أول ما يضع الرِّجْلَ في السيارة، أيًّا كان حالها، فإنَّه بوضع رِجْلِه يقول: "بسم الله" قبل الركوب.

ثم بعد ذلك: فلمَّا استوى على ظهرها قال: "الحمد لله".

وفي المراكب الحديثة الآن إذا جلس في هذه السيارة، سواء كان يقودها، أو كان راكبًا فيها، فإنَّه إذا استقرَّ جلوسه عليها فإنَّه يقول: "الحمد لله"، ثم يقرأ هذه الآية من سورة الزخرف: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، يقول ذلك بعد أن يحمد الله -تبارك وتعالى-، والدَّابَّة لم تنطلق بَعْدُ، هذا حينما يستوي على ظهرها، كما قال الله -تبارك وتعالى-: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ[الزخرف:13]،فالاستواء هنا بمعنى: العلو والارتفاع، فإذا استقرَّ، استوى من معانيه: الاستقرار؛ استقرَّ، وعلا، وارتفع.

فإذا استقرَّ على ظهر دابَّته عند ذلك يقول:"الحمد لله"، ثم يقرأ هذه الآية، فهو يحمد ربَّه -تبارك وتعالى- على هذه النِّعمة، يحمد ربَّه -تبارك وتعالى- أن سخَّر له هذا: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ[الزخرف:13]، وذِكْر هذه النِّعمة يكون باللِّسان بأن يقول الإنسانُ:"الحمد لله"، ويقول: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، مع مُواطأة القلب باستحضار النِّعمة، واستحضار المنعِم الذي تفضّل بذلك عليه، وسخرها له، فإنَّ الكثيرين عادمون لمثل هذه النِّعَم، لا يقدرون عليها، ولا يُطيقونها.

سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا يعني: أنت تُنزّه الله -تبارك وتعالى- على هذا التَّسخير؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- ذلَّلها وهيَّأها وجعلها مُوطَّأةً للركوب، صالحةً للانتقال والحركة، فهذه نِعَمٌ لا يُقادر قدرها.

ولو أنَّ الناس عدموا مثل هذه الأشياء، وصاروا يتنقَّلون في الحضر -فضلًا عن السَّفر- على أقدامهم؛ لعرفوا قدر هذه النِّعمة.

والإنسان حينما يفقد مركبَه: يفقد سيارته، يفقد دابَّته، ربما ليومٍ واحدٍ يشعر أنَّه يتيمٌ، وأنه غريبٌ، وأنه لا يستطيع التَّصرف والانتفاع والانتقال، وأنَّه نقصه شيءٌ كثيرٌ، وأنه ربما صار في حالٍ من التَّعطل من أشغاله ومصالحه، وما إلى ذلك، في يومٍ واحدٍ! فكيف لو كان الناسُ عادمين لمثل هذه المراكب؟!

فهذا كلّه يحتاج من العبد أن يستحضر نعمةَ الله -تبارك وتعالى- عليه: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا تنزيهًا لله الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ما كنا له مُطيقين قبل ذلك، أو لولا هذا التَّسخير ما كنا مُقتدرين على ركوبها، والانتفاع بها، وأن تكون مُهيَّأةً لنا، من "أقرن له" إذا أطاقه وقوي عليه.

والله -تبارك وتعالى- ذكر هذا المعنى في مواضع من كتابه مما يشمل هذه الدَّواب التي كانت منذ القدم، أو كان ذلك في المراكب البحرية، ويشمل ذلك أيضًا المراكب الحديثة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ[يس:72].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۝ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:32-34].

ويقول -تبارك وتعالى-:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ[الحج:65] يعني: سخَّرها لكم، تمشي في البحر -على البحر- من غير أن تغرق وتنغمس في هذه المياه، في لُجَّتِه.

ويقول الله -تبارك وتعالى-:وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ[الزخرف:12-13]، فهذه اللام للتَّعليل: من أجل أن تستووا على ظهوره، أو للعاقبة،ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ[الزخرف:13].

ويقول الله -تبارك وتعالى-:اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَأي: من أجل أن تشكروا،وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[الجاثية:12-13].

فهذا كلّه يدل على هذا المعنى، وهذه المراكب بأنواعها: المراكب الجوية، والمراكب البحرية، والمراكب البرية، كلّها من نِعَم الله -تبارك وتعالى-، وهي من آياته، مَن الذي كان يتصور أنَّ الإنسان يقطع هذه المسافة من هذه النَّاحية إلى الناحية الأخرى عند البحر الأحمر، إلى مكة، إلى جدّة في ساعةٍ ونصف، يطير فوق السَّحاب، وينظر إلى السَّحاب تحته، وهو يحتسي كوبًا من القهوة، أو نحو ذلك، أو يُطالع جريدةً، ثم بعد ذلك ما يلبث حتى يسمع ما يُشير إلى وصوله وبلوغه إلى غايته؟!

هذه نِعَمٌ عظيمة جدًّا، ما كان أحدٌ يتصور أنَّ الناس يصلون إلى هذا، كان الإنسانُ يتمنى إذا كان في ناحيةٍ بعيدةٍ ونحو ذلك أن لو كان له جناحٌ، فيطير حتى يصل إلى بُغيته ومطلوبه، فأصبح الناسُ اليوم يخرجون من هنا من بيوتهم بالإحرام، مَن كان يتصور هذا؟!

لو حُدِّث الناسُ بهذا قبل نحو خمسين أو ستين سنةًلا يتصورون هذا إطلاقًا، ولكنَّه تسخير الله ونِعَمه التي تترى على الناس، بعدما كان الناسُ في نواحي الأرض، في أقاصي المغرب أو المشرق، لربما قضوا العام والعامين حتى يصلوا إلى مكّة، أصبحوا الآن يصلونها في ثلث يومٍ، في هذه المراكب الجوية.

فهذا كلّه من النِّعَم العظيمة، فلا يصح بحالٍ من الأحوال أن تُقابل بالجحود والكفران، وإذا رأى الإنسانُ حالَ الكثيرين وهم على هذه المراكب يتقلبون في نِعَم الله -تبارك وتعالى-، مع عظيم التَّقصير والمعصية، واستغلال ذلك أحيانًا في السفر المحرم، وكذلك أيضًا ما يُلابسونه في حال سفرهم من أصوات المعازف، وكذلك في هذه المراكب الخاصَّة في سياراتهم، ونحو ذلك، تجد هذه الأصوات تتعالى منها، فمثل هذا ليس هو شُكر النِّعمة إطلاقًا، لا يمكن أن تُقابل النِّعمة بمثل هذا.

وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ انظروا إلى هذا الارتباط والتَّذكير الدَّائم الذي أشرتُ إليه في مناسبات سابقة كثيرة: الانتقال في الدُّنيا يُذكّر بالانتقال للآخرة:سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، هذا الانتقال ليس هو نهاية المطاف، هناك انتقالٌ آخر، يجب أن يُذكّرك هذا الانتقال بذاك الانتقال، إن كنتَ في سفرٍ-كما سيأتي في الباب الذي بعده- فإنَّ هذا السفر في الدنيا الذي قد يكون مداه قصيرًا يُذكّرك بالسَّفر الآخر الذي في الآخرة.

وكما سبق في الكلام على آيات الحجّ وأذكار الحجّ بقوله -تبارك وتعالى-:فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ يوم النَّفر الأول،وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[البقرة:203]، فهم حينما يتفرَّقون يُذكّرهم بأنَّه سيجمعهم في صعيدٍ واحدٍ، ويُحاسبهم ويُجازيهم على أعمالهم، فكل شيءٍ يُذكّر بالآخرة.

وكما سبق في أذكار الاستيقاظ من النوم فإنَّ ذلك يُذكّره أيضًا بآخرته، وكذلك حينما يُريد الإنسانُ النومَ فإنَّ ذلك أيضًا يُذكّره بالوفاة ولقاء الله -تبارك وتعالى-، كل شيءٍ يُذكّرنا بهذا، وإذا كان الأمرُ كذلك فهل يصحّ أن تكون الغفلةُ هي الغالبة؟! وأن تكون هذه الوسائل التي ينبغي أن تكون سببًا لتذكّر نِعَم الله علينا،وأن تكون سببًا لمزيدٍ من الإخبات والخضوع والشُّكر لله ؛ أن تكون سببًا لكثيرٍ من الغفلة، أو تكون سببًا لكثيرٍ من الإسراف، والتَّبذير، والتَّضييع، والمباهاة، والمفاخرة، أو تكون سببًا للترفع على الناس، والكِبر، والتَّعاظم، وما إلى ذلك! هذه السيارة مهما كانت جودتها، ومهما بلغت قيمتُها، فإنَّ الذي امتنَّ عليك بها هو الله -تبارك وتعالى-، فينبغي أن يشكر ويذكر.

هذا بالإضافة إلى ملحظٍ آخر: وهو أنَّ هذه السيارات لم نصنعها، ولم تصنعها الأيدي المسلمة، وإنما -للأسف الشَّديد- الذي يصنعها هم أعداؤنا، فنحن مراكبنا منهم، وطعامنا نستورده منهم، وثيابنا نستوردها منهم، وحواسبنا نستوردها منهم، وسائر الأشياء مما يكون فيه الإنشاء والتَّعمير، وما إلى ذلك من الآلات واللباس وغير ذلك، كلّ هذا إنما نستورده من أعدائنا، فلا فخرَ، لا يحقّ لأحدٍ أن يرفع رأسَه وأن يفتخر حينما يركب سيارةً ربما تصل قيمةُ هذه السيارة إلى نصف مليون، أو أكثر، فإنَّ هذه السيارة لم تصنعها أيدي قومه، ولم يصنعها المسلمون، وإنما ما عليه إلا أن يدفع هذا الثمن، ثم بعد ذلك يركب هذه السيارة مُنتشيًا بها.

الذي ينبغي على العبد أن يخضع ويتواضع، وأن يُخبت لله ، وأن يتواضع لإخوانه المسلمين، وأن يعرف قدر نعمة الله عليه، وأن يستعمل هذه السيارة فيما يُقربه إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن تكون وسيلةً إلى تحقيق مطالبه المباحة أو المشروعة، وأن يكون كثير الحمد والشُّكران لله ، وكلّما ركب هذه السيارة تذكّر مجددًا إنعامَ الله وإفضاله عليه، فردد: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وحمد الله -تبارك وتعالى- على ذلك، وسبَّحه، ونزَّهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، فيقول: "الحمد لله" ثلاثًا بعدما يقول هذه الآية، يُردد ذلك ثلاث مرات، ثم يُكبر ربَّه -تبارك وتعالى- ثلاث مرات.

وقد عرفنا معنى الحمد: إضافة أوصاف الكمال لله -تبارك وتعالى-، مع المحبّة والتَّعظيم الذي يكون في القلب.

وكذلك التَّكبير، يقول: "الله أكبر" ثلاث مرات، الله أكبر من كل شيءٍ: الله أكبر من هذه النَّفس التي قد تترفع، الله أكبر من هذا المال الذي قد يطغى بسببه، الله أكبر من هذه الصَّنائع، وممن صنعها، فلا يغفل، ولا ينسى، ولا يطغى، والله أكبر من كل كبيرٍ، فيقول ذلك ثلاث مرات.

الإنسان الذي يكون بهذه المثابة لا يُتصور أنَّه يعدو بسيارته هذه أو بمركبته ويُؤذي الآخرين، أو يُزعجهم، ويكون ذلك سببًا لكثيرٍ من الطيش والتَّصرفات غير اللَّائقة التي يستحي منها العاقلُ.

وكثيرٌ من أبناء المسلمين –للأسف- لا سيّما من أهل الجِدَة والغنى والسّعة ربما يعطون الأولادَ هذه المراكب، وقد يستغلّها بعضُهم في غير ما وُضعت له.

هذه المظاهر من العبث الذي نُشاهده هنا وهناك، جموعٌ من الشباب تتجمع وتتصرف بتصرفات غير لائقةٍ، هذا لا نعلمه يُوجد في عامَّة البلاد في أرجاء المعمورة، فهي ظاهرة تدلّ على بطر النِّعمة، وأنَّ هذه النِّعَم لم تُستغل بالوجه الصَّحيح، وإنما وقع بعضُها في يد بعض مَن لم يُقدرها حقَّ قدرها، فصاروا يتصرفون بمثل هذه التَّصرفات، أو يقفون بطرقٍ معينةٍ في أماكن يُضيقون على الناس، ويُؤذونهم، ويتجمَّعون في بعض النَّواحي والطُّرقات يتباهون بمراكبهم، وكل واحدٍ لسان حاله أو مقاله: أنا عندي أفضل مما عند الآخرين، أو مما عندك! أو نحو ذلك، إلى غير ذلك من تصرفات قد تُودي بأرواحهم ونفوسهم، من غير عملٍ يُحْمَدون عليه، ولا وصفٍ يرفعهم -للأسف الشَّديد-، يظنّ أنه يترفع بمثل هذه الأمور.

فالإنسان لا ترفعه السيارة التي يركبها، ولا يرفعه الثوبُ الذي يلبسه، وإنما العبرة بما تحت الثياب، العبرة بما يحمله من نفسٍ كريمةٍ، تقيَّةٍ، مؤمنةٍ، طائعةٍ لله -تبارك وتعالى-، مُخبتةٍ، العبرة بهذا، العبرة بما تحت الثياب، وليس بالثياب.

كثيرٌ من الناس يظنّ أنَّ قيمتَه عند الآخرين هي السيارة التي يركبها، وأنَّ الآخرين إنما ينظرون إلى السَّاعة ذات (الماركة) الغالية جدًّا التي تزيد على مئة ألف ريال، والسيارة التي يركبها، وأنهم يُقيِّمونه ويُقدّرونه بمثل هذا، والواقع أنَّ هذا ضعفٌ في العقل، وقصورٌ في النَّظر، وكما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-:

والناس أكثرهم فأهل مظاهر تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ
فهم القشور وبالقشور قوامهم واللّبّ حظّ خلاصة الإنسان[6]

فلا تُقيم الذَّوات، لا يُقيم الناسُبالمراكب التي يركبونها، يا أخي، هذه المركبة ربما يُدرّب عليها قردٌ، أو نحو ذلك، وتُوضع على رأسه غترةٌ، أو يُوضع عليه ثوبٌ، أو نحو ذلك.

امرأة في إحدى الدول الغربية خلّفت مليارات الدّولارات، وقصرًا، وفيه مسبح ضخم، وفيه أشياء، وأشياء، تدرون لمن كتبتْ هذه التركة جميعًا؟

لكلبها، هل ارتفع الكلبُ وصار له شأنٌ، له قيمة؟! الكلب كلبٌ، فهو لا يرتفع بالمال، ولا يرتفع بالقصر، ولا يرتفع باللباس، ولا يرتفع بالمرافق التي يتمتع بها.

فالعبرة بما نحمله من المبادئ، بما نحمله من الأخلاق، بما نحمله من الدِّين، بما نحمله من المروءات والصِّفات الكاملة: الصِّدق، الأمانة، الكرم، هذه قيمة الإنسان الحقيقية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، وليست المظاهر التي  فُتن بها كثيرٌ من الناس، فمن الخطأ أن يُقيم الناس بمثل هذه الأمور.

فيقول: "سبحانك" يعني: أُنزهك يا ربّ.

"إني ظلمتُ نفسي، فاغفر لي"، ظلمتُ نفسي بماذا؟

لم أُؤدِّ شُكر هذه النِّعمة، أنا غير مُستحقٍّ لها، ظلمتُ نفسي بتقصيري في طاعتك، ظلمتُ نفسي بذنوبي، فهو يعترف، لاحظ هذا الاعتراف عند ركوب هذه الدَّابة.

إذن الدَّابة لا يمكن أن تكون سببًا لهذا البطر، والطُّغيان، وأذية الخلق، والتَّعالي على الناس، والتَّعاظم بمثل هذا؛ حينما تتحول القضيةُ إلى نوع مُباهاةٍ، كل واحدٍ يقول: أنا عندي أفضل مما عند الآخرين.

"إني ظلمتُ نفسي، فاغفر لي" استرني، فإنَّ الإنسان إن لم يستره ربُّه -تبارك وتعالى- فإنَّه يُهتك ويفتضح في الدنيا وفي الآخرة.

أيضًا يسأل ربَّه أن يكفيه، وأن يقيه تبعات الذُّنوب والجرائر والمعاصي، ومَن منَّا لا يُذنب؟!

"فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، عرف أنَّ ربَّه -تبارك وتعالى- هو الذي يغفر الذنبَ، وهو يعترف له بالتَّقصير بعدم القيام بحقِّه، يستحضر هذا لغفلته، لقلّة طاعاته، لكثرة ذنوبه، فيطلب المغفرة والسّتر والتَّجاوز.

"فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، فهذا مثل التَّعليل لطلب الغُفران، وفيه إشارة بالاعتراف بالتَّقصير، مع إنعام الله -تبارك وتعالى- الكثير.

فهنا حينما قال ذلك ضحك -رضي الله تعالى عنه-، فلمَّا سُئل عن سبب هذا الضَّحك أخبر أنَّه رأى النبيَّ ﷺ قال ذلك وضحك، فلمَّا سأله أخبره النبيُّ قال: إنَّ ربَّك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنَّه لا يغفر الذنوبَ غيري، يعني: الله يقول:"عبدي علم أنَّه لا يغفر الذنوبَ غيري"، وهذا من سعة رحمته -تبارك وتعالى-، المخلوق قد تُسيئ في حقِّه، قد تُقصِّر، قد تجفو، قد تتأخّر بالاتِّصال، أو ربما قد تتأخّر بما يجب في مناسبةٍ من المناسبات ونحو ذلك، ثم لا يقبل منك صرفًا ولا عدلًا، أمَّا الله -تبارك وتعالى- فانظروا، فإنَّه يقول: يعلم أنَّه لا يغفر الذنوبَ غيري.

هذا التَّكرار كما ترون بالحمد ثلاث مرات؛ هذا إشعارٌ بعظم جلال الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ العبد لا يقدر على توفية حقِّه وقدره، وهو مأمورٌ بالدأب في طاعته بحسب الإمكان والاستطاعة.

وبعض أهل العلم يقول: إنَّ هذا التَّكرار الأول لحصول النِّعمة؛ الحمد لله على هذه النِّعمة، والثاني لدفع النِّقمة، والثالث لعموم المنحة، فالعبد يحتاج أن يحمد الله -تبارك وتعالى- كثيرًا؛ يحمده قائمًا، وقاعدًا، وعلى جنبِه، وأن يُكثر من التَّنزيه والاستغفار.

فهذا الحديث قد اشتمل على هذه الأمور جميعًا.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذَّاكرين الله، الشَّاكرين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

 

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجلُ إذا ركب، برقم (2602).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا ركب دابَّةً، برقم (3446).
  3. "الأذكار" للنووي، ت: الأرناؤوط (ص219)، برقم (618).
  4. "الجامع الصغير" للسيوطي، برقم (2265).
  5. "صحيح أبي داود" للألباني، برقم (2342).
  6. "نونية ابن القيم = الكافية الشافية" (ص15).

مواد ذات صلة