السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(294) الدعاء عند سماع صياح الديك ونهيق الحمار
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الآخر / ١٤٣٦
التحميل: 1973
مرات الإستماع: 1533

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب "الدعاء عند سماع صياح الدِّيك، ونهيق الحمار"، وذكر فيه حديث أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-: أن النبي ﷺ قال: إذا سمعتُم صياحَ الدِّيكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت مَلَكًا، وإذا سمعتُم نهيقَ الحمار فتعوَّذوا بالله من الشَّيطان؛ فإنه رأى شيطانًا أخرجه البخاري ومسلم[1].

قوله إذا سمعتُم صياح الدِّيكة،"صياح الديكة" المقصود هنا: سماع صوت صياح الدِّيك، سواء كان واحدًا، أو جمعًا، فإنَّ الديكة هنا جمعٌ، لكن ليس المرادُحقيقةَ الجمع؛ إذ يكفي سماع صوت ديكٍ واحدٍ.

والدِّيك معروفٌ: هو ذكر الدَّجاج، ويُقال لهذا الجنس من الطَّير للواحد منه: دجاجة، سواء كان ذكرًا أو أنثى، يعني: الدِّيك يُقال له: دجاجة أيضًا، وكذلك أيضًا الدَّجاجة تُقال للذكر والأنثى، وإلا فالأصل أنَّ الدِّيك هو ذكر الدَّجاج، يعني: أنَّ الأنثى منه لا يُقال لها: ديك.

والدِّيكة إذا صاحت فالناس يُسمّون ذلك: أذان الدِّيك، باعتبار أنَّه يصيح في أوقاتٍ محددةٍ معلومةٍ، إذا كان الدِّيك مُنضبطًا في هذا، والذي يُسميه الفقهاء: الدِّيك المجرّب، يعني: الذي يجعل الليلَ أثلاثًا، فهو يصيح في أوقاتٍ معينةٍ، يضبطها صيفًا وشتاءً، وهو كالذي يُنبه إلى وقت قيام الليل، إلى وقت السَّحر، إلى وقت صلاة الفجر، فيصيح قبل الفجر، ويصيح بعد طلوع الفجر، ويصيح أيضًا وقت الزَّوال، فهذا كأنَّه تنبيهٌ إلى أوقات هذه العبادات، فسمَّاه الناسُ: "أذانًا" بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وقد ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنَّ للديك خصيصةً ليست لغيره؛ من جهة معرفة الوقت الليلي، حيث يقسط أصواته فيها تقسيطًا لا يكاد يتفاوت[2]، يعني: بانضباطٍ ودقَّةٍ، فهو يُوالي صياحَه في أوقاتٍ معلومةٍ قبل الفجر وبعده، ولا يكاد يُخطئ، بصرف النَّظر عن طول الليل وقصره.

ومن ثم أفتى بعضُ الشافعية باعتماد الدِّيك المجرّب في الوقت[3]، ولا زال العامَّةُ يعرفون هذا؛ وذلك أنَّه كما يقولون بعبارتهم: يُثولث الليل، يعني: يجعله أثلاثًا، فهذا يكون صياحُه بدقَّةٍ في الوقت، فيُمكن أن يُعتمد في دخول الفجر، وفي معرفة وقت السَّحر، ونحو هذا، بخلاف الفراريج، وهي صغار الدِّيكة؛ فإنها تصيح لصياح الدِّيكة، كأنها تُقلّدها، ولكن لا بصرَ لها بذلك.

فالنبي ﷺ يقول: إذا سمعتم صياح الدِّيكة، هنا علَّقه بالشرط، وإذا شرطية: فاسألوا الله من فضله، يعني: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله هذا يقتضي التَّكرار؛ فإنَّ القاعدةَ أنَّ المعلّق على شرطٍ يتكرر بتكرره، فكلّما سمعت صياح الدِّيكة، فإنَّ ذلك يكون سببًا لسؤال الله من فضله.

وعادة هذه الدِّيكة التي عندها ضبطٌ للوقت أنها تصيح في وقتٍ واحدٍ، ومن ثم فإنَّه لا يرد هذا فيما يحصل بالنسبة للأذان: يُردد السامعُ خلف مَنْ مِنَ المؤذنين؟ هذا يُؤذن، ثم هذا يُؤذن، وهكذا، في أوقاتٍ بينها شيءٌ من التَّفاوت.

فبالنسبة للمُؤذنين يُقال: إنه يُردد تبعًا للمسجد الأقرب، الذي يليه، ويحتمل أنَّه يُردد تبعًا للأول، ولا يُطالب بعد ذلك أن يُردد خلف كل واحدٍ، وهذا يتفاوت بتفاوت المؤذنين؛ ففي بعض النَّواحي ربما يستمرّ ذلك إلى خمس دقائق، أو عشر دقائق، هذا يُؤذن، ثم يُؤذن الآخر، ثم يُؤذن الآخر، فليس بمطالب أن يُردد خلف هؤلاء، وإنما يكفيه أن يُردد خلف الأول، أو يُقال:حسب الأقرب، يعني: المسجد الذي يدعوه إلى الحضور للصَّلاة، فهو سيُجيب في هذا المسجد القريب؛ لأنَّ المشروع أنَّ المسلم يُصلي في المسجد الذي يليه، الأقرب إلى بيته، إلا لعذرٍ؛ كأن يكون مثلًا هناك مُلاحظات شرعية على الإمام: كأن يكون صاحب بدعةٍ، أو يكون صاحب فسقٍ ظاهرٍ، أو نحو ذلك.

فهذا الأذان بالنسبة للمُؤذنين، لكن كيف يُردد السامع بالنسبة للدّيكة؟

ليس هناك تفاوت بينها، لكن لو وُجد شيءٌ من التَّفاوت اليسير، فإنَّه يكفي أن يسأل الله من فضله عند سماع الأول؛ لأنها ترى ما لا نرى، فيكون ذلك قد تحقق عند سماع واحدٍ منها، لكن إن وُجد تفاوتٌ، فإنَّ ذلك قد يدلّ على أمرٍ آخر عارض غير الوقت، يعني: رؤية ملائكة تنزل، فيسأل كلّما سمع الدِّيك.

يعني: لو فرضنا أنَّ دِيكًا صاح الآن، وبعد ربع ساعةٍ صاح نفسُ الدِّيك، وبعد عشر دقائق نفس الدِّيك، وبعد نصف ساعة كذلك، إذًا هو يرى ملائكةً.

لكن كنتُ أتحدّث عن شيءٍ آخر: عن ديكة مُجتمعة في بيوتٍ مُتقاربةٍ، أو في بيتٍ واحدٍ، هي تصيح في وقتٍ مُتقاربٍ، فيكفيه أن يُردد خلف الأول، أمَّا إذا كان التَّفاوت بينها بحيث يكون هناك قدرٌ من الوقت، فإنَّه يسأل مع كل صياحٍ يسمعه.

يقول: فإنَّها رأت مَلَكًا، هذه الدَّواب والبهائم أعطاها الله من الإدراكات ما لا يُعطى للإنسان، فهي تحسّ وتُدرك وتُشاهد ما لا نُشاهده؛ ولذلك انظروا إذا أوشكت الزلازل أن تقع في ناحيةٍ، أو البراكين أن تثور، تجد أنَّ الطيور والحيوانات والكلاب ونحو ذلك تُصدر أصواتًا كثيرةً، ثم تبدأ الطيور تُغادر، ثم تبدأ الحيوانات تأخذ أطفالها، حتى الفئران تحمل صغارها من جُحورها وترحل من هذا المكان قبل أن يقع فيه الطُّوفان، أو قبل أن يقع فيه الزلزال، أو قبل أن يقع فيه البركان، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ ومعلومٌ، وهي ظاهرة مُدركة، مرصودة، معروفة عند العُلماء قديمًا وحديثًا.

فيقول هنا: فإنَّها رأت مَلَكًا إذًا رؤية الملائكةوحضورها لا شكَّ أنَّ هذا من الأسباب المقربة للرحمة، فحضور مثل هذه الأرواح الطّيبة، والمخلوقات الكريمة عند الله -تبارك وتعالى-؛ هذا مُؤذنٌ بنزول وقُرب الرحمة، فيسأل العبدُ ربَّه أن يؤتيه من فضله، يقول: "اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم تفضّل علينا، اللهم أعطنا من فضلك"، أو نحو ذلك من العبارات التي يسأل بها ربَّه من فضله.

كذلك انظر في ليلة القدر، قال الله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ۝ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:4-5]، ولما كانت هذه الليلة بهذه المثابة، كان من شرفها أنَّ الملائكة تتنزل فيها بكثرةٍ، فهذا كلّه مُؤذنٌ بقُرب رحمة الله بالعباد.

فالقاضي عياض يقول: "وذلك -والله أعلم- لتأمين الملائكة على دعاء بني آدم، واستغفارهم له؛ فرحًا ببركة ذلك، وحُسن عون الملك به إذا دعا بحضرته بالتأمين والاستغفار له، وإشهاده له بالتَّضرع إلى الله والإخلاص"[4].

وقال النبي ﷺ: إذا حضرتم المريض، أو الميت، فقولوا خيرًا؛ فإنَّ الملائكة يُؤمنون على ما تقولون[5]، فهم يحضرون عند الميت، عند خروج الروح، ويُؤمنون على ما يُقال، فيدعو الإنسانُ بخيرٍ، ولا يدعو على نفسه بشرٍّ.

وكذلك نعلم أو نشعر بنزول مَلَكٍ عندما نسمع صياح الدِّيكة، فنسأل الله من فضله.

فهؤلاء العلماء علَّلوا ذلك بتأمين الملائكة، ويحتمل أنَّ نزولهم مُؤذنٌ بقُرب الرحمة،والناس إذا رأوا شيئًا من الألطاف والرّحمات قالوا: نسأل الله من فضله، وإذا رأوا شيئًا من المكاره استعاذوا بالله من الشر، ومن الشياطين، ونحو ذلك، فهذا لعله هو السَّبب -والله أعلم- في سؤال الله من فضله.

قال: وإذا سمعتم نهيق الحمار، نهيق الحمار: هو صوته المعروف، وجاء في بعض الرِّوايات -وليست في "الصحيحين"- زيادة: ونباح الكلاب[6]، فهذه تكون قد رأت الشَّياطين، فالنبي ﷺ يقول: فتعوَّذوا بالله من الشَّيطان، وفي زيادةٍ: الرجيم[7]، أي: قولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لحضور الشياطين؛ لأنَّ الشياطين إذا حضرت فذلك مُؤذنٌ بحضور الشَّر والوساوس والخواطر السَّيئة، وحضور المنكر، والإغراء به، ونحو ذلك؛ ولهذا تحضر في الحفلات الماجنة، وعند المعازف، وفي أحوال العُري، وفي المراقص وأماكن الخمور والشَّر ومعصية الله ، هذه مواضع تجتمع فيها الشياطين؛ ولذلك ترون مَن بهم مسٌّ، أو نحو ذلك، حينما يُضرب بهذه المعازف والطبول ونحوها يُصرعون، فيتخبطون، وربما يستطير الواحدُ منهم، وتستفزّه الشياطين، وهؤلاء يعرفون ويُدركون هذا، وربما اجتمعوا ليلةً من أجل ذلك، يعني: من أجل الضَّرب بهذه الطبول ونحوها؛ ليطرب هؤلاء الشياطين ممن تلبَّسوا بهم، فهم يتهيؤون لهذا؛ فيُمسكون الرجل، وربما أوثقوه، وإلا فإنَّ الشياطين تستخفّه؛ فينطلق، فقد لا يُدركه أحدٌ، فيثبتونه أرضًا حتى يسكن ما به، نسأل الله العافية.

فهنا تحضر هذه الشياطين، وتجتمع، ويحصل بسببها من الشُّرور والتَّلبس والآفات؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: لا تُرسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمسُ، حتى تذهب فحمةُ العشاء؛ فإنَّ الشياطين تنبعث إذا غابت الشمسُ، حتى تذهب فحمةُ العشاء[8]، يعني: من غروب الشمس إلى مغيب الشَّفق تقريبًا، هذا وقت الانتشار؛ لأنهم ينتشرون في الظلام أكثر، فقد يتخطَّفون هؤلاء الصبيان، وقد يتخطفون غيرهم.

وكم من إنسانٍ ابتُلي، وكان ذلك لأدنى مُلابسةٍ، وبعضهم ربما ذهب إلى نزهةٍ، أو بريةٍ، أو مخيمٍ، أو نحو ذلك، فأنكر نفسَه، وأنكره مَن معه؛ لأنَّه -أعزكم الله- فقط تنحَّى ليقضي حاجته، وإذا به يرجع بحالٍ أخرى تمامًا، ثميتبين الأمرُ بعد ذلك: أنَّ هذا قد أصابه شيءٌ من تلبّس الشياطين، بزعمهم أنَّه قد تعدَّى عليهم، وأنَّه قد لوَّث مجلسهم، أونحو ذلك.

وكذلك أيضًا مواضع الخلاء -أعزكم الله- والحشوش، فإنها أماكن لاجتماع الشياطين؛ ولذلك لا يحسُن بالإنسان أن يُطيل المكث فيها.

واليوم أصبحت هذه الأماكن في بعض القصور، أو البيوت، أو نحو ذلك، بمساحات كبيرة جدًّا، وفيها من أسباب الرفاهية ما يبقى معه الواحدُربما السَّاعات الطوال، يبقى في هذا المكان، وليس ذلك في مصلحته بوجهٍ من الوجوه؛ فهذه أماكن تحضرها الشياطين، ونعرف من هذا أشياء وأشياء، فكم من إنسانٍ أنكر نفسَه لما دخل في هذه الأماكن، وبقي فيها مدةً، أكثر من حاجته، وكم من إنسانٍ وقع له ذلك بسبب أنه تعرّى في هذه المواضع، وبقي ينظر إلى نفسه في المرآة، فهذه الأماكن فيها مرايا، فيقول: أنكرتُ نفسي من تلك الساعة.

فبعضهم يذكر لي هذا هنا في هذا المسجد، يقول: أنكر نفسَه في تلك الساعة التي دخل فيها في هذا الخلاء، وبقي ينظر إلى نفسه، ويقلب النَّظر فيها مُعجبًا في هذه المرايا، ونحو ذلك.

فيتوقّى العبدُ مثل هذه المواضع، ومظانّ الشّر، ووجود الشَّياطين.

وهنا يتعوّذ، هذا هو المشروع؛ ولذلك إذا أراد أن يدخل الخلاء أيضًا يستعيذ بالله من الخبث والخبائث، كما مضى في الذكر الذي يُقال عند دخول الخلاء.

يقول النبي ﷺ: فتعوَّذوا بالله من الشيطان؛ فإنَّه رأى شيطانًا، الفاء تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لماذا التَّعوذ؟ وتدلّ على التَّعليل، يعني: لماذا نتعوَّذ؟ لأنَّه رأى شيطانًا.

إذًا هذا صريحٌ من كلام النبي أنَّ هذه الحيوانات: الكلاب والحمير -أعزكم الله- ترى الشياطين، ومن ثم تجد الكلاب في الغالب يكثر منها هذا النباح وقت الغروب، وتستقبل جهةً معينةً، وكأنها ترى شيئًا، ثم بعد ذلك تستمر مدةً طويلةً، كأنها قد نبحت على شيءٍ تراه، فهي ترى ما لا نرى.

وكذلك نهيق الحمار، وهذا النَّهيق وهذه الأصوات المنكرة يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في"مجموع الفتاوى": "فدلّ ذلك على أنَّ أصواتها مُقارنة للشياطين، وأنها مُنفرة للملائكة، ومعلومٌ أنَّ المشابه للشَّيء لا بدَّ أن يتناول من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه، وما يستدعي الشياطين ويُنفّر الملائكة لا يُباح إلا لضرورةٍ؛ ولهذا لم يُبح اقتناء الكلب إلا لضرورةٍ؛ لجلب منفعةٍ: كالصيد، أو دفع مضرَّةٍ عن الماشية والحرث، حتى قال مَن اقتنى كلبًا، إلا كلب ماشيةٍ أو حرثٍيعني: زرعًا، أو صيدٍ نقص من عمله كلّ يومٍ قيراط[9]"[10]، والقيراط قيل: بقدر جبل أُحدٍ، والإنسان ماذا عنده من الحسنات إذا كان كلّ يومٍ يفقد قيراطًا من أجل كلبٍ؟! يُضاهي به أعداء الله ؛ حيث يُربون الكلاب، ويُصاحبونها، ويُخالطونها، ويُعاشرونها، وتُعاشرهم، وتُؤاكلهم، ويُؤاكلونها، بل أكثر من هذا -أعزكم الله- كما هو معلومٌ في أحوالهم، فمثل هذا لا يليق بالمؤمن.

وإذا قيل: إنَّ هذه تُباح للضَّرورة، فينبغي أن تكون الضَّرورة بقدرها، يعني: بمعنى: ألا يزيد على ذلك، فإذا كان يكفي لحراسة الزرع أو الغنم كلبٌ واحدٌ، فإنَّه لا يضع كلبين، وكذلك أيضًا فيما يرخص فيه من غيرها.

أمَّا حراسة البيوت: فالأرجح أنَّ ذلك لا يجوز، وأنَّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطٌ؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يذكر البيوت، والبيوت يحرسها أهلُها، وتكون بين الناس، وفي أكنافهم، أما الزرع فيكون بعيدًا، ويذهب عنه صاحبُه ليلًا، كما جرت به العادة، وكذلك الماشية، فرخّص لهم أن يقتنوا الكلبَ؛ لأجل هذا.

وذكر أهلُ العلم، كالدَّاودي: أنَّه ينبغي أن يتعلم من الدِّيك خمسة أشياء: حُسن الصوت، والقيام بالسَّحر، والسَّخاء، والغيرة، وكثرة النِّكاح[11].

فالسَّخاء في الدِّيك يقولون: إذا كان شابًّا فإنهينثر الحبَّ للدجاج، وما يأكل، ينثر ذلك لهنَّ من أجل أن يأكل الجميع، لكن يقولون: إذا كبر وشاخ وضعف فإنَّه يأكل، ولا يفعل ذلك؛ لضعفه، وكذلك أيضًا هو شديد الغيرة، كما هو معلومٌ.

وقال الطّيبي أيضًا: "إنَّ الدِّيك أقرب الحيوانات صوتًا إلى الذَّاكرين الله؛ لأنها تحفظ غالبًا أوقات الصَّلوات، وأنكر الأصوات صوت الحمير، فهو أقربها صوتًا إلى مَن هو أبعد من رحمة الله تعالى"[12]؛ ولهذا يشبه الزفير والشَّهيق الذي يكون لأهل النار -أعاذنا الله ووالدينا وإخواننا المسلمين منها-: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ[هود:106]، فهذا صوت الحمار، وكذلك في قول لقمان لولده في وصيَّته له: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[لقمان:19].

فرفع الأصوات رفعًا زائدًا على قدر الحاجة في مجالس الناس، ومُنتدياتهم، ونحو ذلك، هذا أمرٌ لا يليق، ففيه تشبّه بهذه الحيوانات وأصواتها القبيحة. هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.

وجاء هذا في هذا الحديث مطلقًا، معناه: إذا سمعت ذلك ليلًا أو نهارًا، لكنَّه جاء في بعض الرِّوايات، وصححها بعضُ أهل العلم: إذا سمعتم نهيقَ حمارٍ، ونباح كلبٍ، وصوت ديكٍ بالليل[13]، وكذلك أيضًا في نهيق الحمار، أو نباح الكلب، فإذا حُمل المطلق على المقيد، قيل: إنَّ ذلك يكون في الليل خاصةً، أمَّا في النهار فلا، وهذا يحتمل، وليس محلّ اتِّفاقٍ بين أهل العلم، ولو أنَّ الإنسان سأل الله من فضله أخذًا بالإطلاق؛ فإنَّ ذلك لا إشكالَ فيه -إن شاء الله-، وكذلك لو استعاذ في النَّهار.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال، برقم (3303)، ومسلم:كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الدعاء عند صياح الديك، برقم (2729).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (6/353).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (6/353).
  4. "إكمال المعلم شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض (8/110).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند المريض والميت، برقم (919).
  6. "الدعاء" للطبراني (ص558)،برقم (2008).
  7. "المعجم الكبير" للطبراني (8/39)، برقم (7312).
  8. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السّراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2013).
  9. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذبابُ في شراب أحدكم فليغمسه، فإنَّ في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاءً، برقم (3325)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيدٍ، أو زرعٍ، أو ماشيةٍ ونحو ذلك، برقم (1574).
  10. "مجموع الفتاوى" (32/259).
  11. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (15/193).
  12. "شرح المشكاة" للطيبي = "الكاشف عن حقائق السنن" (6/1892).
  13. "عمل اليوم والليلة" لابن السني (ص271)، برقم (312).

مواد ذات صلة