السبت 19 / جمادى الآخرة / 1446 - 21 / ديسمبر 2024
(327) من أنواع الخير والآداب الجامعة
تاريخ النشر: ٠٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 1938
مرات الإستماع: 1744

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا هو الباب الأخير في هذا الكتاب، وهو "من أنواع الخير والآداب الجامعة"، وذكر فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، قد مضى الكلامُ على مضامينه عند الكلام على بعض الآداب في بعض الأبواب السَّابقة، وهو حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا كان جُنحُ الليل، أو أمسيتم، فكفّوا صبيانكم؛ فإنَّ الشياطين تنتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعةٌ من الليل فخلّوهم، وأغلقوا الأبوابَ، واذكروا اسمَ الله؛ فإنَّ الشيطان لا يفتح بابًا مُغلقًا، وأوكوا قربَكم، واذكروا اسمَ الله، وخمِّروا آنيتَكم، واذكروا اسمَ الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم، هذا الحديث مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين" في البخاري ومسلم[1].

وقوله ﷺ: إذا كان جُنحُ الليل"جُنح الليل وجِنحُه" بمعنى: الطائفة منه، وذلك في أوله حيث تشتدّ الظُّلمة، ثم بعد ذلك تخفّ قليلًا، كما هو مُشاهَدٌ، فهذه التي يُقال لها:"فحمة العشاء" كما جاء في بعض الرِّوايات.

فيُكفّ الصبيان من غروب الشمس حتى تذهب فحمةُ العشاء، يعني: جنح الليل، حينما تشتدّ ظُلمته؛ وذلك لأنَّ الشياطين تنتشر في هذا الوقت، وكما جاء في بعض الرِّوايات:أنها تكون لها خطفة[2].

فيقول النبي ﷺ: فكفّوا صبيانكم يعني: ضمّوهم، وامنعوهم من الانتشار، والتَّفرق، والخروج، واللَّعب، وما أشبه ذلك.

وفي بعض رواياته: فاكفتوا[3]، ومعناه: الضمّ، كل شيءٍ ضممتَه إلى غيره،أو ضممتَه إليك؛ فقد كفَتَّه.

وفي بعض الألفاظ: ولا تُرسلوا صبيانكم[4]، لا تُرسلوهم بمعنى: لا تُطلقوهم يلعبون، ويذهبون، ويجيئون، وينتشرون، ويخرجون.

وقد قال ابنُ الجوزي -رحمه الله- مُعللًا ذلك، يعني: وجه ذكر الصِّبيان على سبيل الخصوص، هذه الشَّياطين تكون لها خطفة، فيقع ذلك للكبير والصَّغير، فلماذا خصّ النبي ﷺ الصِّبيان؟

يقول ابنُالجوزي -رحمه الله-: "لعلتين: الأولى: النَّجاسة التي يلوذ بها الشياطين، أنها موجودة معهم غالبًا، يعني: أنَّه لا يخلو من مُلابسة نجاسةٍ؛ لأنه لا يتطهر كما ينبغي، وكذلك أيضًا قلّة الذكر الذي يستعصم به، فهو قليلٌ في حقِّ هؤلاء الصِّغار، فهم لا يتحصّنون بهذه الأذكار، والشياطين عند انتشارهم يتعلّقون بما يُمكنهم التَّعلق به؛ ولذلك خِيفَ على الصبيان في هذا الوقت"[5].

وهؤلاء ينتشرون أكثر ما ينتشرون في الليل؛ لأنَّه يعمّ به الظلام، وإنما تنتشر الشياطين في الغالب في أوقات الظلام،كما تنتشر شياطين الإنس في الظلام، وكما تنتشر السِّباع، والهوام، والشُّرور، والآفات، فإنَّ غالب ما يكون ذلك إذا عمّ الظلام، حتى إنَّ العلل، والأوصاب، والآلام، والأمراض، والأوجاع تشتدّ غالبًا إذا كان الليلُ.

وعلى كل حالٍ، هذا لا يختصّ بالصبيان، لكن لما كان الصبيان مظنّة لمثل هذه الأمور المذكورة، وهم مظنّة لكثرة الخروج والتَّفرق، مع ضعفهم، فإنَّه كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- حينما تحدّث عن السِّحر، ذكر أنَّ أكثر ما يقع ذلك على الصبيان والنِّساء، على الصِّغار والنِّساء، قال:"لضعف قلوبهم"[6].

وهذا مُشاهَدٌ؛ إذا ذهبتَ إلى الأماكن التي يتوجّه إليها هؤلاء لطلب الرقية؛ فإنَّ أغلب روّاد أولئك إنما هم من النساء، بصرف النَّظر عمَّا يقع لهنَّ أو لغيرهنَّ من الأوهام في هذاالباب، لكن هؤلاء الصِّغار وهؤلاء النِّساء لضعفهم؛ فإنَّ ذلك يكون أيسر وأسهل على الشيطان في إيذائهم، ووقوع بعض الملابسات نحوهم؛ لقلّة الذكر، ولضعف القلب؛ ولذلك إذا قوي الإيمان، وقوي القلب؛ فإنَّ ذلك يكون مظنّة لفرار الشيطان، فيرهبونه، ويفرّون منه.

وانظر إلى مثالٍ راقٍ في هذا الباب: عمر -رضي الله تعالى عنه- كانإذا سلك فجًّا سلك الشيطانُ فجًّا آخر[7]، فمثل عمر لا تقدر عليه الشياطين، ولا تقربه، إنما تقرب الشياطين من الضُّعفاء من الناس، فإذا رأت من الإنسان ضعفًا، ووجدت المحلَّ القابل؛ فإنها تتكاثر، وتتسلط، وقد يُبيّنون ذلك إذا رُقي هذا المصاب، أو هذا المصروع، أو تخبطته الشياطين، ثم وقع، وبدأ يتحدّث أولئك الذين تخبّطوه، فإنهم يقولون: أنَّ هذا قليل الذكر، وأنّه مُفرّط في الذكر، وأنه لا يتحصن بالأذكار.

وقد سمعتُ بعضَهم يُصرِّح بهذا، يعني: يُصرع الرجل، ويتكلم شيطانٌ فيه، ويُصرّح بأنَّ هذا المصروع قليل التَّحصن بالأذكار، وأنَّ أصحابه عليهم سياج، لا يستطيعون الوصول إليهم، هذا سمعتُه يتحدّث بهذا، ولستُ من الرُّقاة، ولستُ أُزاول شيئًا من ذلك، لكن على كل حالٍ قد يسمع الإنسانُ شيئًا في مقامٍ فينتفع به، وذلك مصداقٌ لما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

يقول: فإنَّ الشياطين تنتشر، وفي بعض ألفاظه: فإنَّ الشيطان[8]، ويكون الشيطانُ بهذا الاعتبار جنسًا يصدق على الواحد، والكثير، يعني: جنس الشياطين، فيخاف على الصبيان في هذا الوقت من إيذائهم؛ لكثرتهم، وهذا الخوف أيضًا يُوجد على النساء، ويُوجد على الكبار؛ ولهذا لو أنَّ هؤلاء الكبار أرادوا أن يلعبوا مثلًا، أو أن يتحرَّكوا بكثرةٍ، أو نحو ذلك بعد غروب الشمس، يُقال لهم: ليس هذا هو الوقت؛ لأنَّه قد جاء عن النبي ﷺ ما يدعو إلى السُّكون في مثل هذا الوقت، كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ، فيحصل من هؤلاء الشياطين تخطف للناس، ولكن الصبيان أكثر؛ لقلّة تحصنهم كما سبق، وإلا فالجميع الأولى بهم في مثل هذا الوقت أن يلزموا أماكنهم: أن يلزموا بيوتهم، أن يلزموا مكاتبهم، أن يلزموا مساجدهم، أن يلزموا دورهم، أو الأماكن التي يعملون فيها، أو نحو ذلك، لا يذهبون ويجيئون وينتشرون في مثل هذا الوقت، حتى تذهب فحمةُ العشاء.

ومُعاناة الناس الكثيرة هذا من أعظم أسبابها: قلّة التَّحصن، بالإضافة إلى الانتشار في هذه الأوقات التي تنتشر فيها الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجنّ، لكن الكلام هنا على شياطين الجنّ، يكون لهم انتشارٌ، يعني: كأنهم يسكنون في حال النَّهار ويكمنون؛ لوجود الضِّياء، ثم بعد ذلك يتحينون غروب الشمس، فإذا غربت الشمسُ حصل لهم انطلاقٌ، وانتشارٌ، وتكاثرٌ، فيذهبون للإفساد، وما ظنّكم إذا وجدوا مَن لم يتحصّن؟!

يقول المهلب-وهو من شُراح "الصَّحيح"-: خشي النبيُّ ﷺ على الصِّبيان عند انتشار الجنِّ أن تلمّ بهم فتصرعهم، فإنَّ الشيطان قد أعطاه اللهُ قوةً على هذا، وقد علّمنا رسولُ الله ﷺ أنَّ التَّعرض للفتن مما لا ينبغي، فإنَّ الاحتراس منها أحزم، على أنَّ ذلك الاحتراس لا يردّ قدرًا، ولكن لتبلغ النَّفس عذرها؛ ولئلا يُسبب له الشيطان، يعني: يتسبب إلى لوم نفسه في التَّقصير، ونحو ذلك[9].

فهذا على كل حالٍ يدلّ دلالةً ظاهرةً على أذى الشياطين للناس، وقول الله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة في تمثيل حال آكل الربا: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]، فهذا التَّخبط بمعنى: يصرعه.

والصّرع -كما هو معلومٌ- منه ما يكون بسبب تخبّط الشياطين، وهذه الآية نصٌّ في هذا الباب، ومنه ما يكون بسبب عللٍ وأورامٍ في الدِّماغ، أو أبخرة صاعدة من المعدة، وهذا يعرفه الأطباء، أما النوع الثاني فلا يعرفونه؛ الذي يكون بسبب تخبّط الشياطين.

وكذلك أيضًا ما جاء في بعض الأحاديث التي حسَّنها بعضُ أهل العلم؛ من أنَّ النبي ﷺ خنق رجلًا، أو نحو ذلك، وذلك أنه تخبّطه الشيطان، أو كان به تلبّس، وأبو هريرة حينما كان يسقط بين المنبر وبيت رسول الله ﷺ من الجوع، فكان الرجلُ يثب على صدره، يبرك على صدره، ويخنقه، يظنّ أنَّ الذي به المسّ [10]، يعني: أنَّ به الصرع، والشيطان يصرعه، هكذا كان مُقررًا عندهم، ويعرفونه، ويُدركونه.

وكذلك أيضًا يُوجد من الأدلة الدَّالة على هذا، وقد جاء شيءٌ من ذلك عن الإمام أحمد [11]-رحمه الله-، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية [12] -رحم الله الجميع-.

ولا عبرةَ بمَن يُنكر هذا من بعض المحدثين، وينبغي أن يتكلّم الإنسانُ فيما يُحسن، وفي فنِّه، فإذا تكلّم في غير فنِّه أتى بالعجائب، فبعض الناس الذين ربما يشتغلون ويُزاولون بعض المهن، وليسوا من العلم الشَّرعي في شيءٍ يُنكرون تلبس الجنّ، ويقولون: هذا الكلام غير صحيحٍ! وهذا غلطٌ.

فقوله ﷺ: فإذا ذهب ساعةٌ من الليل فخلّوهم يعني: إذا ذهبت فحمةُ العشاء خلّوهم، بمعنى: أطلقوهم، فهنا يكون الكفّ في أوله إذا غابت الشمسُ، ثم بعد ذلك تكون التَّخلية إذا ذهبت فحمةُ العشاء: فخلّوهم.

لاحظوا: هنا قال: وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسمَ الله؛ فإنَّ الشيطان لا يفتح بابًا مُغلقًا، وهناك قال: فكفّوا صبيانكم، هنا قال: وأغلقوا الأبواب، وفي بعض ألفاظه بالإفراد: وأغلقوا الباب[13].

على كل حالٍ، أجاب العُلماء -رحمهم الله- عن هذه اللَّفظة بالإفراد: بأنَّ ذلك باعتبار كلّ واحدٍ، فهو عامٌّ بحسب المعنى، أو هو في معنى المفرد؛ إذ مُقابلة الجمع بالجمع تُفيد التوزيع كما قالوا، يعني: كأنَّه قال: كفّ أنت صبيك، يعني: كلّ واحدٍ يكفّ صبيَّه، وكل واحدٍ يُغلق بابه.

ثم انظر: قال: وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسمَ الله يعني: إذا أُغلقت لا تكتفي بالإغلاق، وإنما تقول: "بسم الله"، فذكر أمرين:

الأمر الأول: حسيّ، وهو إغلاق الأبواب.

الأمر الثاني: معنوي، وهو تحصينٌ بذكر الله -تبارك وتعالى-.

فيكون له تحصينان: الأول: الحسيّ بإغلاق الأبواب. والثاني: بتحصينها بذكر الله -تبارك وتعالى-.

ثم انظر ماذا قال بعده عاطفًا عليه بالفاء التي تدلّ على التعليل، وتدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، لماذا نُغلق الأبواب، ونذكر اسمَ الله؟

قال: فإنَّ الشيطان لا يفتح بابًا مُغلقًا لا يفتح البابَ المغلق، يعني: أنَّه يضعف عن ذلك، لا يستطيع، ومن ثم إذا كان لا يفتح البابَ المغلق، فمعنى ذلك أنَّه لا يلج، لكن لو أنَّ هؤلاء الناس دخلوا بيوتهم ولم يذكروا اسمَ الله؛ فإنَّ الشياطين تدخل معهم، كما جاء في الحديث الآخر أنَّه يقول لأصحابه: أدركتم المبيت، فإذا صار هذا الإنسان يأكل ويطعم، ولم يُسمِّ الله؛ فإنهم يقولون: أدركتم المبيت والعشاء[14].

فانظر إلى أحوال مَن غفل عن ذكر الله عند الدخول في البيوت، وعند الأكل، كم يكون هؤلاء الشياطين في بيوتهم في رغدٍ، وطيب عيشٍ، ومقامٍ! أمَّا أولئك الذين يذكرون الله -تبارك وتعالى- فهم بمنأى عن الشياطين، فهي لا تأكل معهم، ولا تبيت عندهم.

فهذا إعلامٌ من النبي ﷺ أنَّ الشياطين لا يقوون على ذلك، وهذا لا يمكن أن يُعرف إلا بطريق الوحي، فنحن لا نرى الجنَّ، ولا الشياطين، وإنما أخبرنا الشارعُ عن ذلك بهذا الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه ﷺ رحمةً بنا؛ لتحصل السَّعادة الأبدية والكاملة في الدنيا والآخرة.

وكذلك قال ﷺ: وأوكوا قربَكم، واذكروا اسمَ الله، وخمّروا آنيتَكم إيكاء القِرَب بمعنى: أنه يربط القِربة، يربط فم القِربة، واذكروا اسمَ الله أيضًا مع هذا الربط، فذكر أمرًا حسيًّا، وأمرًا معنويًّا، ذكر تحصينين، وكذلك في قوله: وخمِّروا آنيتَكم، فذكر الأسباب المادية، والأسباب المعنوية، وتخمير الآنية بمعنى: التَّغطية.

وكذلك أيضًا قال: ولو أن تعرضوا عليها شيئًا، وجاء في بعض الألفاظ: عودًا[15] يعني: ولو أن يكون ذلك بصورةٍ رمزيةٍ؛ أن يعرض قلمًا على الكأس، أو الإناء، أو عودًا، أو نحوذلك، أو يجعل ملعقة مُعترضة، أو نحو هذا، فإنَّ ذلك مع التَّسمية يمنع من عبث الشيطان بهذا الإناء، فإنَّ هذه الشياطين تعبث بالناس بذواتهم، كما هو معلومٌ؛ فإنهم يُشاركونه بجماع أهله إن لم يُسمِّ الله -تبارك وتعالى-، وقد يعبثون به؛ فيحصل له الاحتلام كما هو معلومٌ، فإنَّ ذلك من تلاعب الشيطان به، وقد يصير الأمرُ إلى ما هو أكثر من ذلك، فإنَّ من النساء، أو من الرجال مَن يشعر أنَّ معه أحدًا من الناس يُلابسه، ويُقارف معه بعض المقارفة، يجد ذلك، ويشعر به.

وبعض أهل العلم قال: إنما أمر بتغطية الآنية لما جاء في الحديث الآخر: حديث جابرٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: غطّوا الإناء، وأوكئوا السِّقاء؛ فإنَّ في السنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ، لا يمرّ بإناءٍ ليس فيه غطاءٌ إلانزل فيه من ذلك الوباء. والحديث صحيحٌ[16].

وهذا أشرتُ إليه في مناسبةٍ سابقةٍ، في ليلةٍ في السنة، نحن لا نعرف متى هذه الليلة، لكن أرشدنا النبيُّ ﷺ إلى هذا الأمر: أن نُغطي الآنية، لا تترك الإناء مكشوفًا، سواء كان به شرابٌ، أو كان به طعامٌ، أو لم يكن، يعني: حتى لو كانت الآنيةُ فارغةً، إن كان فيه شرابٌ أو طعامٌ فاعرض عليه شيئًا، غطِّه، ولو بأن تعرض عليه عودًا، فإن كان هذا الإناءُ فارغًا؛ فإنه يُكْفَأ.

ومعنى "كَفْء الإناء": أنه يُقْلَب هكذا، حتى لا يدخله شيءٌ، فلا تحصل مُلابسة للشيطان بهذه الآنية، الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، كما أخبر النبي ﷺ؛ ولذلك أمر الإنسان أن يستنشق ويستنثر.

وكذلك أيضًا ربما تكون له مُلابسة بيده؛ ولهذا نهى النبي ﷺ أن يغمس النائمُ يدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا[17]، قد يكون ذلك لملابسةٍ مع الشيطان، وهكذا.

على كل حالٍ، أيضًا قد يبول في أذنه إذا نام عن الصَّلاة، وكم من إنسانٍ-أعزكم الله- تكون أذنُه موضعًا لخلاء الشيطان كل يومٍ؛ لأنَّه لا يقوم إلى الصلاة، لا يُصلي الفجر مع المسلمين، فصار محلًّا للخلاء-أكرمكم الله-، وخلاء مَن؟ خلاء الشيطان الذي هو أقذر، وأنجس، وأسوأ -أعاذنا الله وإياكم من ذلك كلِّه-.

فالحاصل: أنَّ هذا المعنى صحيحٌ في تخمير الآنية، لكن يبقى أيضًا معنًى آخر، وهو مُلابسة الشيطان، يعني: الدَّاء، وكذلك أيضًا الشَّيطان، فتُوكأ هذه الآنية، بمعنى: يشدّ فم القربة.

الناس اليوم ما عندهم قِرَبٌ، لكن هذه الآنية تُغطّى، وكذلك تُخمّر بشيءٍ يكون عليها، أو يكون فوقها؛ صيانةً لها، كذلك هذه الصيانة تكون من الأذى الذي قد يحصل بسبب الحشرات، والهوامّ، ونحو ذلك.

وقد جاء عن الليث بن سعد -رحمه الله- أنَّ ذلك عند الأعاجم، يعني: هذا التاريخ، الليث بن سعد إمامٌ، ومن أقران، أو من نُظراء الإمام مالك -رحمه الله-، إمام دار الهجرة، لكنَّه كان في البلاد المصرية، الليث بن سعد كان له مذهبٌ متبوعٌ كالإمام مالك، والشَّافعي، وأحمد، وأمثال هؤلاء، فهو من الأئمة الكبار، وهو أحد رواة هذا الحديث، يقول: بأنَّ الأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول، كأنَّ عندهم تجربة، وكثرة تتبع، واستقراء، فأدركوا ذلك، أو يكون ذلك مما قد بلغهم من الوحي النازل على الأنبياء -عليهم السلام-.

فهذا على كل حالٍ أخبرنا عنه النبيُّ ﷺ، فتُتقى هذه الشياطين، ويُتقى أيضًا هذا الدَّاء، فبعض الناس فيهم أدواء، وفيهم عِلل، ولا يدري الأطباءُ ما هي؟ لا يعرفونها، يعني: قد تكون النتائجُ سليمةً في فحوصاتهم المادية، ولكن فيه عِلّة عصيّةعلى هؤلاء الأطباء، وعلى أدويتهم، وقد يكون السببُ في ذلك هو هذا، عِلل وأمراض غامضة.

قال: ولو أن تعرض عليه شيئًا يعني: أي شيءٍ، فإنَّ ذلك يكفي، وإن لم يستر جميع فم الإناء، وكذلك يكون هذا من باب بذل السَّبب، يعني: لو عرض عليه عودًا، أو نحو ذلك.

قال: واذكروا اسمَ الله، ولو أن تعرضوا عليه شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم، كانت المصابيح في السَّابق -كما هو معلومٌ- السُّرج فيها فتيلة، وفيها زيت، وقد جاء ما يدلّ على تعليل ذلك: بأنَّ الفُويسقة -الفأرة- تُضرم على أهل البيت بيتهم[18]، فيحترقون، وهم ربما في حالٍ من النوم والغفلة عن ذلك كلِّه، فهذه الفأرة تعبث هذا العبث، فيُطفأ السراج، وما في معناه، مثل: الشموع، ونحو ذلك مما يتوقّد، فإنَّ ذلك يُطفأ جميعًا.

كذلك لو كانت عند الناس نارٌ يستدفئون بها، أو نحو هذا، وأرادوا النوم؛ فإنهم يُطفئون هذه النار، لا يتركونها، وسواء كانت هذه الفُويسقة تعبث بها، أو لسببٍآخر من الاختناق بسبب ما يتسرب من هذه النار، أو الفحم، أو نحو ذلك من الأبخرة التي تُسبب سمومًا، ونحو ذلك، تفتك بالإنسان.

فهذا الحديث يدلّ على إثبات وجود الشياطين، وهذا أمرٌ ثابتٌ في الكتاب، وفي السّنة، ومُجمعٌ عليه.

كذلك أنَّ هذه الشياطين تسعى فيأذية الناس، وليس فقط في الإضلال، بل يكون ذلك أيضًا فيما يتعلّق بصحة أبدانهم، وكذلك ما يتّصل بما يُلابسون من آنيةٍ، وفرشٍ، ودورٍ، وأبوابٍ، ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا حفظ الأطفال في المنازل،ومنع هؤلاء الأطفال من الخروج منها بعد غروب الشمس مباشرةً، إلى أن تذهب فحمةُ العشاء، وقد أشرتُفيما سبق إلى كون ذلك في ظاهر الأدلة في الخروج من الدور، أمَّا إذا كانوا يلعبون في الدار، أو يلعبون في فنائها، أو نحو ذلك؛ فإنَّه لا بأسَ عليهم في هذا -إن شاء الله-، فهذه الشياطين لا تنتشر في البيوت وتدخل الدُّور إذا ذُكر اسمُ الله عليها، لكن لا يمنع ذلك من الاحتياط، فإنَّ هذا موضع احتمال، أمَّا في داخل الدور نفسها فإنَّ ذلك ليس مُرادًا، والله تعالى أعلم.

المقصود أنهم لا يخرجون إلى خارج الدُّور، فيُخالطهم هؤلاء الشياطين، ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا في هذا الحديث إرشادٌ إلى اتِّخاذ الوسائل والأسباب المادية لحفظ المال، والنفس، والصحّة، وما إلى ذلكبهذا الإغلاق، والإطفاء، والتَّغطية، والربط للأسقية: كالقرب، ونحوها، والتَّحصن مع ذلك كلّه بذكر الله -تبارك وتعالى-، والتسمية؛ ليكون الإنسانُ مشمولًا بالعافية.

نسأل الله لنا ولكم العافية في الدين والدنيا والآخرة، وهذا آخر مجلسٍ، وآخر حديثٍ في هذه المجالس التي نشرح فيها هذا الكتاب:"حصن المسلم".

فنسأل الله أن يختم بالسعادة أعمالنا وآجالنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يتقبّل منا ومنكم، وأن يجعل ذلك نافعًا، مُباركًا، شاهدًا لنا، لا علينا، وأن يجعله ذخرًا يوم أن نلقاه.

 

 

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأشربة، باب تغطية الإناء، برقم (5623)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2012).
  2. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب: خمس من الدَّواب فواسق يُقتلن في الحرم، برقم (3316).
  3. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب: خمس من الدَّواب فواسق يُقتلن في الحرم، برقم (3316).
  4. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2013).
  5. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (15/173).
  6. انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/116).
  7. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3294)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه-، برقم (2396).
  8. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السِّراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2012).
  9. انظر:"شرح صحيح البخاري" لابن بطال(6/76-77).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحضّ على اتِّفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان: مكة، والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين والأنصار، ومُصلّى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمنبر، والقبر، برقم (7324).
  11. انظر: "الصفدية" لابن تيمية (1/180).
  12. انظر:"الرد على المنطقيين" لابن تيمية (ص470).
  13. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2012).
  14. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018).
  15. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأشربة، باب شرب اللبن، برقم (5605)، ومسلم: كتاب الأشربة، بابٌفي شرب النَّبيذ وتخمير الإناء، برقم (2010).
  16. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2014).
  17. أخرجه مسلم: كتاب الطَّهارة، باب كراهة غمس المتوضّئ وغيره يدَه المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، برقم (278).
  18. أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السِّقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكفّ الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم (2012).

مواد ذات صلة