السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[6] من قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} الآية:75 إلى قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} الآية:82
تاريخ النشر: ٠٨ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3568
مرات الإستماع: 4185

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ثم قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ [سورة الواقعة:68، 69] يعني: السحاب، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما، ومجاهد، وغير واحد، أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ يقول: بل نحن المنزلون.

لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [سورة الواقعة:70] أي: زُعاقًا مُرًّا لا يصلح لشرب ولا زرع، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي: فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبًا زلالاً! لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ۝ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل:10، 11].

ثم قال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي: تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها.

أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [سورة الواقعة:72] أي: بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها، وللعرب شجرتان: إحداهما: المرخ، والأخرى: العَفَار، إذا أُخذ منهما غصنان أخضران فحُك أحدهما بالآخر، تناثر من بينهما شرر النار.

وقوله: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً قال مجاهد، وقتادة: أي تُذَكّر النارَ الكبرى.

قال قتادة: ذُكر لنا أن رسول الله ﷺ قال: يا قوم، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية! قال: قد ضُربت بالماء ضربتين -أو مرتين- حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها[1].

وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ: إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد[2].

وروى الإمام مالك عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية! فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا[3]، رواه البخاري من حديث مالك[4]، ومسلم، من حديث أبي الزناد[5].

وقوله: وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والنضر بن عربي: معنى لِلْمُقْوِينَ المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال: ومنه قولهم: "أقوت الدار إذا رحل أهلها".

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي هنا الجائع.

وقال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد: وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: لِلْمُقْوِينَالمستمتعين، الناس أجمعين، وكذا ذكر عن عكرمة.

وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها سائر الانتفاعات، فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ قال: "يعني السحاب"، قوله -تبارك وتعالى: أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ يؤخذ منه أن جميع الماء المودع في الأرض مما يستخرج من الآبار أو يخرج من العيون أو يجري في الأنهار كل ذلك نازل من السماء، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [سورة المؤمنون:18].

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ [سورة الواقعة:73] بعدما ذكر النار وأنها آية: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ۝ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئونَ [سورة الواقعة:71، 72]، فهذه إحدى الآيات على قدرة الله على إحياء الموتى، أن يُخرج هذه النار الحارة المحرقة من الشجر الأخضر كما قال الله -تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ [سورة يس:80]، فقوله: تُوقِدُونَ مفسر لقوله: تُورُونَ، وهذا من أوضح صور تفسير القرآن بالقرآن.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ نقل هنا عبارات السلف قال: يعني "بالمقوين" المسافرين نقله عن ابن عباس وجماعة، وهذا التفسير أشبه ما يكون بالتفسير باللازم؛ لأن أصل معنى "المقوين" يعني: النازلين بالأرض القوى وهي الأرض الخلاء، الأرض الخالية الصحراء فإذا فسر بالمسافرين كأنه تفسير بلازمه؛ لأن المسافر يقطع الأرض الخلاء يمر بها فيحتاج إلى النار التي يصطلي بها وما إلى ذلك.

كأنه تفسير باللازم، ولا إشكال في هذا، ونقل عن بعضهم أن المقوي هو الجائع، والقول الآخر الحاضر والمسافر، وهو الحاضر والمسافر باعتبار أن النار يحتاج إليها الجميع، والله تعالى هنا خص المقوين، ومفهوم المخالفة هنا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ لا يحتج به، ولا عبرة به، ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور ولكنه لا يحتج به في نحو سبعة مواضع أو ثمانية، وأحد هذه المواضع: هو ما خرج مخرج الامتنان، كما قال في المراقي:

  ودع ما إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنانٍ أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع

فهذا من الامتنان، يمتن الله عليهم بهذا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ فإذا كان مفهوم المخالفة هنا لا يحتج به فمعنى ذلك ألا نقول: إنها متاع للمقوين، وغير المقوين ليست بمتاع لهم، فلو أعملنا مفهوم المخالفة، "ومتاعاً للمقوين" إذاً ليست بمتاع لغيرهم هذا مقتضى مفهوم المخالفة، لكنه هنا غير معتبر؛ لأنه جاء ذلك في سياق الامتنان، يمتن الله عليهم بهذا، كما قال الله في البحر: لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [سورة النحل:14]، فهذا لا يدل على أن القديد أو المجفف من لحم البحر لا يجوز أكله، أو ما طفا على البحر ومات، وألقاه البحر أنه لا يجوز أكله، وإنما خص الله اللحم الطري لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا للامتنان.

فهنا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ فسره من فسره قال: يعني المستمتعين من الناس أجمعين، فالذي فسره بهذا الاعتبار نظر إلى هذه الحيثية، فمفهوم المخالفة هنا لا يعتبر، وأن المقصود بذلك الامتنان وإلا فهي متاع للجميع، ولهذا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- العلة بتخصيص المقوين بالمسافرين؛ لأنهم أشد حاجة إليها من المقيمين.

أشد حاجة أيضاً فيه ملحظ آخر يمكن أن يذكر عند قوله: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ قلنا: إن المقوين يعني المسافرين، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: فيه إشارة باعتبار أنه حكم على الجميع بأن المقوين إذا ما قلنا: إنه فقط المسافر، قال: باعتبار فيه إشارة إلى أن جميع البشر مسافرون، وأن هذه الحياة قصيرة، كراكب استظل تحت ظل شجرة، فالجميع مسافرون وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ للمسافرين.

وهذا أشبه ما يكون بالتفسير الإشاري، ولا أعني به التفسير بالإشارة عند الأصوليين وهي دلالة اللفظ لمَا لم يكن القصد له قد علما، وإنما المقصود بالتفسير الإشاري الذي يذكره أرباب السلوك والتصوف، ومنه ما هو صحيح مقبول بشروط، ومنه ما هو مردود، وأكثره مردود، فهنا يمكن أن يدخل بهذا المعنى "المقوين". 

وابن القيم -رحمه الله- لا يخفى عليه أن "المقوين" بمعنى المسافرين، ويعرف أقوال السلف، لكنه أخذ منه أن التعبير بهذا فيه إشارة إلى أن الناس جميعاً على سفر، ومثل هذا من شروط التفسير الإشاري: ألا يفسر به النص.

يعني الآن لما نأتي نفسر الآية: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ نقول: متاعا لجميع الناس باعتبار أنهم مسافرون في هذه الحياة الدنيا حتى يصلوا إلى الآخرة، ليس هذا هو المعنى المتبادر إطلاقا، ولكن يذكر المعنى الأصلي وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ أي: المسافرين، ويؤخذ من التعبير بذلك -أو عبر بذلك- كأنه لمّا كان الناس -في الحقيقة- في انتقال من الدنيا إلى الآخرة مثلاً، من هذا الباب فقط، لا لأنه تفسير للآية، هذا من أهم شروط التفسير الإشاري: ألا يقال: إنه هو معنى الآية، وإنما يذكر معناها ثم يذكر مثل هذا، ويوجد له أمثلة صحيحة، ولطيفة، ويوجد له أمثلة فاسدة لا تصح إطلاقا.

وقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [سورة الواقعة:74] أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة الماء العذب الزلال البارد، ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم، وزاجرًا لهم في المعاد.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ يعني: يمكن أن يكون المعنى على ما ذكره بعض أهل العلم: فسبح ربك ذاكراً اسمه، وقيل غير ذلك.

فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۝ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ۝ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [سورة الواقعة:75-82].

 ليست "لا" زائدة لا معنى لها كما قال بعض المفسرين، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسمًا به على منفي، كقول عائشة -رضي الله عنها: "لا والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط"[6]، وهكذا هاهنا تقدير الكلام: "لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم".

وقال ابن جرير: وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: فَلا أُقْسِمُ فليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل: أقسم.

وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ قال مجاهد أيضًا: بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ في السماء، ويقال: مطالعها ومشارقها، وكذا قال الحسن، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير، وعن قتادة: مواقعها: منازلها.

قوله -تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ من أهل العلم من قال: معنى النجوم القرآن؛ لأنه نزل منجماً، وأقسم الله به فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [سورة النجم:1]، وذلك كقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ هكذا فسره بعض أهل العلم، وهنا فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ قال: ليست "لا" زائدة، والجمهور يقولون: إن "لا" هذه زائدة إعراباً تفيد معنى التوكيد، هذا قول عامة أهل العلم، وهذه العبارة -عبارة الزائدة- قد لا تحسن ولا تجمل أن يعبر بها فيما يتعلق بالقرآن، كما قال في المراقي:

ولم يكن في الوحي حشوٌ يقع  

فالزيادة حشو فلا يليق أن يقال ذلك، فليس فيه شيء إلا له معنى، وزيادة المبني لزيادة المعنى، والذين قالوا: بالزيادة لا يقصدون هذا، فهم يقولون: زائدة المعنى، ولم تكن إطلاقاً من قبيل الحشو، إنما يقصدون بذلك أنها زائدة إعراباً، ولهذا أحياناً يهذبون اللفظة، يقولون: صلة، ويقصدون بـ "زائدة" أنها زائدة إعراباً للتوكيد.

يعني إذا دخلت على القسم فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1]، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] معناها أقسم، والعرب تزيد "لا" تأكيداً للقسم، هذا هو المعنى، "لا": يقول: ليست زائدة، والذين قالوا: إنها زائدة قالوا: إن الله قال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فجعله قسماً فليست نافية قطعاً، وهذا الاحتجاج أو هذا الجواب يصلح رداً على من قال: إنها نافية للقسم.

ومن العلماء من قال: إنها زائدة لتوكيد القسم، تفيد معنى، وهو توكيد القسم، ولكن لا محل لها من الإعراب فَلا أُقْسِمُ بمعنى أقسم.

ومن العلماء من قال: ليست بزائدة، وقالوا: إن معناها النفي، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إنها تتعلق بنفي كلام مقدر، أو شيء مقدر، فلا أقسم بمواقع النجوم لا لما تزعمون، وتقولون في القرآن: إنه سحر وكهانة أُقسمُ بمواقع النجوم هذا القسم العظيم إنه لقرآن كريم، ليس كهانة ولا شعراً ولا سحراً، قالوا: هي نافية لكلام مقدر، لا لما تزعمون، لا لما تدعون، والأصل عدم التقدير، ومهما أمكن حمل الكلام على معنى صحيح من غير دعوى التقدير فهو الأولى.

ومن أهل العلم من قال: هي نافية، ليست نافية لأمر مقدر، وإنما نافية للقسم أن المسألة أوضح من أن يقسم عليها، فلا أحتاج أن أقسم بمواقع النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.

وهذا بعيد، وإن قال به بعض أهل العلم؛ لأنه قال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لكن يمكن لهؤلاء أن يجيبوا فيقولوا: وإنه لقسم لو أقسمتُ به، أنا لا أقسم بمواقع النجوم، ولو أقسمت به لكان قسماً عظيماً، يمكن أن يجيبوا، كل شيء يمكن أن يُجادَل فيه، والجدال ليس له حد محدود لمن أراد أن يجادل.

ومن أهل العلم من قال: إن هذه "اللام" أصلاً "لام" الابتداء فَلا أُقْسِمُ هذه "لام" الابتداء أصلاً، والأصل فلأقسم، وجاء هذا في قراءة غير متواترة، فأشبعت هذه الفتحة فتولد منها ألف، أي فلا أنا أقسم بذلك، وهذا -والله أعلم- كما قال بعض المفسرين: بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مُقسماً به على منفي، والذين منعوا من هذا وهم الجمهور قالوا: الآن تحتاج إلى تقدير مبتدأ وخبر، أي فلا لما تقولون في القرآن: إنه سحر، ولا حقيقة لقولكم في القرآن، وإن الذين منعوا من هذا قالوا: أصلاً لا يجوز حذف اسمها وخبرها معاً، وأولائك أيضاً عندهم الاستعداد الكامل أنهم يجيبون عن مثل هذا، ولو تتبعنا مثل هذا لطال الوقت، فالقول بأنها لتأكيد القسم قول قريب له وجه ظاهر من النظر -والله تعالى أعلم، ولا يحتاج إلى تقدير.

قال هنا يحتج على أن هناك كلاماً مقدراً: كقول عائشة -رضي الله عنها: "لا والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة" يعني: "لا" لما قد يتوهمه البعض من أن النبي ﷺ يصافح النساء أو نحو ذلك، "ما مست يده"، والسياق يبين المراد، والمناسبة، والحال، والاحتمال لاشك أنه وارد، يقول: "وهكذا هنا تقدير الكلام لا أقسم بمواقع النجوم.. إلى آخره، في معنى: مواقع النجوم يقول: قال مجاهد: مواقع النجوم في السماء، ويقال: مطالعها ومشارقها، وكذا قال الحسن، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير، العلماء اختلفوا في المراد بالنجوم، فمنهم من قال: هي النجوم التي في السماء، وهذا قول عامة السلف والمفسرين: أنها النجوم التي في السماء.

واختلفوا في المراد بمواقع النجوم ما هي؟ فمن قائل: هي مطالعها ومغاربها؛ لأن هذه آية تتجلى فيها عظمة الله ، كما قال الله : فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [سورة المعارج:40] أي: أقسم برب المشارق، فالشمس والقمر، أو الأفلاك، من الممكن أن تكون الشمس شتاءً وصيفاً كما ذكرنا أو الأفلاك كل هذه تتطلع ثم تغيب، يقولون: ولهذا أقسم الله بالليل في حال إقباله، وفي حال إدباره، فهذه مظاهر تتجلى فيها عظمة الله وقدرته، ومن أهل العلم من قال: مواقع النجوم هي مطالعها ومغاربها ومساراتها إذا سارت، ومنهم من يقول: "مواقع النجوم" هي مساقطها ومغاربها إذا غابت.

ومن أهل العلم من يقول: "مواقع النجوم" هي محالّها في السماء، ومنهم من يقول: هي منازلها، تمشي بمنازل كما أن القمر يمشي بمنازل، والشمس تسير وتجري بمنازل وهكذا، فقالوا: هذا هو المراد "مواقع النجوم" فهؤلاء كلهم يقولون: إنها النجوم التي في السماء، يقول هنا: "قال مجاهد: مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها". 

والمراد بقوله: مواقع النجوم في السماء، يقول: "وعن قتادة مواقعها منازلها" منازل يعني التي تسير فيها، يقول عن قول مجاهد مواقع النجوم في السماء، ويقال: "مطالعها ومشارقها وكذا قال الحسن وقتادة وهو اختيار ابن جرير".

ابن جرير فسره بمساقطها، ومن أهل العلم من قال: بمواقع النجوم يعني التي يرمى بها الشهب، وهذا القول الذي عليه عامة أهل العلم، ووجه العلاقة بين هذا وبين المقسم به إِنَّهُ لَقُرْآنٌ، فمن أهل العلم من يحاول أن يربط بين هذا وهذا كابن القيم يقول: النجوم للاهتداء لِتَهْتَدُواْ بِهَا [سورة الأنعام:97]، والقرآن للاهتداء، فهذه يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وهذه يهتدى بها من ظلمات الجهل والظلام، والنجوم آية من آيات الله في هذا الخلق، والقرآن آية، وكله آيات تدل على أنه من عند الله ، وتدل على صدق قائله، ونسبته إلى الله، النجوم رجوم للشياطين الجنية، والقرآن رجوم للشياطين الإنسية، والجنية معنوياً.

كما قال الله وصور في سورة البقرة: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة :17، 18]، قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة :19] ففسر هذا بآيات الوعيد والزجر، إذا سمعوه اضطربوا وخافوا هذا حال المنافقين، كالذي يمشي في ظلام، ويضع أصبعيه في أذنيه خوفاً من البرد والرعد، فزواجر القرآن هي الرعد، وآياته وبراهينه الواضحة وحججه الدامغة كالبرق الذي يخطف الأبصار.

والقول الآخر: إن المراد بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ أي: نجوم القرآن، وهذا هو الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وقال: المناسبة ظاهرة بين القسم فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۝ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ، قال فقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ يدل على أن مواقع النجوم هذه، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ تفسير لمواقع النجوم وهذا ليس بلازم، فأقسمَ بمواقع النجوم إنه لقرآن، ولم يقل: النجوم في السماء بأن هذا قرآن كريم، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، واحتج له ابن القيم -رحمه الله- من عشرة أوجه، أعني أنها النجوم التي في السماء، ورد على القائلين بغير هذا، والله أعلم.

وقوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي: وإن هذا القسم الذي أقسمتُ به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظّمتم المقسم به عليه، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي: إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ أي: معظّم في كتاب معظم محفوظ موقر.
  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3092)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم، برقم (2843)، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها.
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (7327)، وقال محققوه: هذا الحديث رواه سفيان بن عيينة بإسنادين:
    الأول: متصل، رواه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ، وهو صحيح على شرط الشيخين.
    والثاني: مرسل، رواه عن عمرو -وهو ابن دينار المكي، عن يحيى بن جعدة، وعمرو بن دينار ثقة من رجال الشيخين، ويحيى بن جعدة تابعي ثقة، روى له أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي في "الشمائل"، وابن حبان في صحيحه، برقم (7463)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
  3. رواه مالك في الموطأ، برقم (1804)، وأحمد في المسند، برقم (10032)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  4. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3092).
  5. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم، برقم (2843).
  6. رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي، برقم (4983)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء، برقم (1866).

مواد ذات صلة