بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [سورة النمل:65، 66].
يقول تعالى آمرًا رسوله ﷺ أن يقول معلمًا لجميع الخلق: إنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب، وقوله: إِلا اللَّهَ استثناء منقطع، أي: لا يعلم أحد ذلك إلا الله ، فإنه المنفرد بذلك وحده، لا شريك له، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ الآية [سورة الأنعام:59]، وقال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ... [سورة لقمان:34] إلى آخر السورة، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة، كما قال: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً [سورة الأعراف:187]، أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض.
وقوله: بَلِ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا أي: انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها.
وقرأ آخرون: "بل ادَّارَكَ علمُهم"، أي: تساوى علمهم في ذلك، كما في الصحيح لمسلم: أن رسول الله ﷺ قال لجبريل -وقد سأله عن وقت الساعة: ما المسئول عنها بأعلم من السائل[1]، أي: تساوى في العجز عن دَرْك ذلك علم المسئول والسائل.
وقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا عائد على الجنس، والمراد الكافرون، كما قال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [سورة الكهف:48] أي: الكافرون منكم، وهكذا قال هاهنا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا أي: شاكُّون في وجودها ووقوعها، بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَأي: في عمَاية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الآية قراءتين وهما قراءتان متواترتان الأولى: {بل أدرك}، والثانية: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، وحمل الأولى {أدرك} قال: أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها، و{أدرك} بمعنى انتهى باعتبار أن الشيء إذا أدرك يكون قد بلغ منتهاه، تقول: أدرك الثمر بمعنى أنه بلغ منتهاه فليس له بعد ذلك إلا الزوال والاضمحلال، يعني لا يُنتظر فيه كمال بعد ذلك، بلغ المنتهى، فهنا قال: أدرك أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها هذا وجهه.
لما ذكر القراءة الأخرى ادَّارَكَ قال: أي تساوى علمهم في ذلك، ادَّارَكَ يعني تدارك فصاروا متساوين في علمها، بمعنى أنه لا يحيط أحد بعلمها أو لا يعلم متى وقوع الساعة إلا الله -تبارك وتعالى، هذا معنى ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
والآية فيها كلام كثير لأهل العلم، بل ذكر فيها بعضهم اثنتي عشرة قراءة، ولكن المتواتر منها قراءتان، وهو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، ومن أراد الوقوف على هذه القراءات فلينظر في مثل كتاب "البحر المحيط" لأبي حيان -رحمه الله- قد ذكرها وأطال الكلام عليها، كما تكلم عليها بكلام جيد مفصل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في: "أضواء البيان".
وخلاصة ما ذكره أهل العلم في تفسيرها بَلِ ادَّارَكَ فالجمهور يقولون: أصله تدارك، وبعضهم يقول: تكامل علمهم في الآخرة، وهذا المعنى من أدرك الثمر، إذا نضج واكتمل وبلغ الغاية، عكس ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- وهؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث ليس عندهم هذا العلم الكامل في الآخرة، لكن هؤلاء حملوه على أن ذلك واقع في الآخرة، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ، فـ"في" ظرفية يعني في الآخرة يحصل لهم كمال العلم لما عاينوا من الحقائق فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22] فتنكشف عنهم الحجب، ويعرفون حقية ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فتزول عنهم الأوهام والشكوك والتكذيب.
والآخرة كما هو معلوم إذا رأوها عندئذ يقرون، ويتمنون أنهم لو اتبعوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فهنا يقولون: يعني اكتمل، يعني في الآخرة يكتمل، ويحصل لهم كمال العلم، فهؤلاء جعلوه في الآخرة يعني في اليوم الآخر يحصل لهم الكمال لما يعاينون.
لكن من جعل ذلك متعلقاً -يعني متعلق العلم- بقضية الآخرة، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ فبعضهم يقول: بَلِ ادَّارَكَ أي: ضعف كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي فهذا يكون محمولاً على الدنيا عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ فيكون متعلق العلم القضية التي يرتبط بها علمهم من حيث الكمال والضعف والقوة إلى آخره هي قضية الآخرة التي يجادلون فيها، ويستبعدون وقوعها.
فإذا قلنا: إن هذا في الدنيا على ضعف العلم، وهكذا قول من قال ككبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- حيث حمله أيضاً على أن ذلك في الدنيا، بَلِ ادَّارَكَ قال تتابع هذا الشيء متدارِك أو متدارك فيه، تتابع متتابع علمهم في الآخرة هل هي واقعة أو غير واقعة، ادَّارَكَ أي: تتابع علمهم في شأن الآخرة من حيث الوقوع وعدمه، وهكذا القول الذي وجهت به كلام ابن كثير -رحمه الله، قال في الأول أدرك علمهم في الآخرة انتهى وعجز.
فبعضهم يقول: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ أي: انتهى وتلاشى واضمحل فلا علم لهم بها، فهذا في الدنيا إنما هي ظنون كاذبة، يقولون: تقول: أدرك الثمر يعني صار إلى حال يكون بعدها الاضمحلال، يكون إلى الجذاذ أو القطاف فلا يرجى له بعد ذلك كمال، وابن عاشور -رحمه الله- يذكر أن المفسرين تحيروا في هذا الموضع، وتقابلت فيه أقوالهم ثم حاول أن يستخرج خلاصة ما ذكروه أو ما تحتمله الآية فذكر ثلاثة احتمالات:
الأول: وهو الذي اختاره أن التدارك هو أنّ علم بعضهم لحق علم بعض في أمر الآخرة، وما المراد، يقول: هذا يحتمل يعني علم بعض هؤلاء أدرك علم بعض، يقول: فيحتمل أنها تداركت علوم الحاضرين مع أسلافهم، يعني تلاحقت فتلقى الخلف عن السلف علمهم بالآخرة بلا بصيرة ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ أدرك المتأخرون علم المتقدمين في الآخرة، وعلم المتقدمين منهم إنما هو ظنون وأقوال كاذبة لم تُبنَ على علم ولم تُتلقَّ من الوحي، وإنما هي أوهام وتخرصات يتلقاها الخلف عن السلف بلا بصيرة، ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ، أدرك المتأخرين علم الأولين، وصلهم علم الأولين فتلقفوه من غير تبين، وتبصر هم يتلقفون هذه الجهالات بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ، صاروا يقلدون الآباء، ويتلقفون مقالتهم دون تمحيص، وإنما مبنى ذلك كله الجهل، ادَّارَكَ وأدرك.
ويحتمل معنى آخر ذكره، وهو أن ذلك يرجع إلى معنى الاختلاط والتضارب والتداخل والتناقض، فهم ينكرونها كما جاء في كثير من المواضع في كتاب الله : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3] إلى غير ذلك من الآيات، وفي الوقت نفسه يعبدون الأصنام، ويقولون: هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ [سورة يونس:18]، إذاً هم ينكرون وقوع الآخرة، ثم في الوقت نفسه يعبدون الأصنام؛ لتكون شافعة لهم عند الله ، وأنتم لا تؤمنون بالآخرة، ولا تحتاجون هذه الشفاعة، يعني فقالوا: بَلِ ادَّارَكَ أي: اضطرب وتداخل وتناقض، ويحتمل أن ذلك مبالغة من الإدراك بمعنى النضج والكمال يعني أن يكون ذلك واقعاً في الآخرة، فتكون الفاء للظرفية ادارك في الآخرة، تكامل في الآخرة، هذا على قراءة ادَّارَكَ.
أما على قراءة ابن كثير وأبي عمرو {أدرك} فحمله بعض أهل العلم على الكمال، حال المعاينة في اليوم الآخر {أدرك} بمعنى بلغ، كما تقول: أدركته إذا بلغته يعني أنهم وصلوا إلى حقيقة علم الآخرة على أكمل الوجوه وأتمها، لكن لما فات الأوان، ولا ينفعهم الإيمان عند ذلك، وبعضهم يقول: هذا بمعنى الإنكار لأنه قال بعده: بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ، وهذا قال به: الزجاج، وذكره ابن عطية يعني أنه ينكر عليهم، لا يقرر هذا، لا يخبر عنهم، وإنما يقول: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ على سبيل الإنكار يعني أن علمهم لم يدرك، لم يبلغ، لم يحصل لهم بها معرفة، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ وابن جرير جعلها أيضاً من الاستفهام على هذه القراءة بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ أي: هل ادارك علمهم في الآخرة؟ وبعضهم يقول: حتى هذه القراءة بَلِ ادَّارَكَ أي ضل واضمحل وزال وتلاشى أخذاً من معنى الإدراك الذي ذكرته، وهذا الذي يميل إليه ابن عاشور -رحمه الله- ادَّارَكَ بمعنى فني، وزال واضمحل علمهم في الآخرة، أَدْرَكَتِ الثِّمَار إذا انتهى نضجها.
والخلاصة: أن القراءتين المتواترتين {ادارك} و{أدرك}، وأن العلماء -رحمهم الله- مختلفون هل ذلك واقع في الآخرة؟ فهو محمول على الكمال، ادَّارَكَ بمعنى اكتمل، وهنا يقال: اضطرب أو ضعف أو تلاشى، وقريب منه قول من قال: أي تتابع ولحق يعني علم الأولين بعلم الآخرين، الأولون يصدرون عن أقوال متكاذبة مبناها على الخرص والتخمين فآل ذلك إلى الآخرِين فصاروا يقولون بقولهم: ويتلقفون هذا الاعتقاد الفاسد في الآخرة، ويقولون: أدركنا عليه الآباء والأجداد، يعني هذه خلاصة هذه الأقوال، والكلام فيها كثير جداً لكن حاولت أن أقربها قدر المستطاع، وارجوا أن يكون المعنى قد قرب أو كاد.
في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ قال: أي في عماية، وجهل كبير في أمرها وشأنها، عَمِونَ جمع، عَمِىَ يَعْمَى والوصف منه عَمٍ، والجمع عمون، وتقول: هو أعمى وعمٍ كما يقول زهير:
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه | ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عَمِ |
يعني: أعمى بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلـِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عـَلَيْهِم ْوَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [سورة النمل:67-70].
يقول تعالى مخبرًا عن منكري البعث من المشركين أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظامًا ورفاتًا وترابًا، ثم قال: لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ أي: ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا، ولا نرى له حقيقة ولا وقوعًا.
وقولهم: إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ يعنون: ما هذا الوعد بإعادة الأبدان، إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ أي: أخذه قوم عَمَّن قبلهم، مَنْ قبلهم يتلقاه بعض عن بعض، وليس له حقيقة.
قال الله تعالى مجيبًا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد: قُلْ يا محمد لهؤلاء: سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي: المكذِّبين بالرسل وما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره، كيف حلت بهم نقَمُ الله وعذابه ونكاله، ونجَّى الله من بينهم رسله الكرام وَمَنْ اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي: المكذبين بما جئت به، ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي: في كيدك ورَدّ ما جئت به، فإن الله مؤيدك وناصرك، ومظهرٌ دينك على مَنْ خالفه وعانده في المشارق والمغارب.
الله -تبارك وتعالى- قال بعدما ذكر علمهم في الآخرة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُفالذين قالوا: تتابَعَ أي تلاحق علمهم في "ادارك" يقولون: الله -تبارك وتعالى- يصف حالهم أنهم ليس لهم علم في الآخرة، ولا إيمان صحيح، وأنهم تلقوا التكذيب من آبائهم، والذين يقولون: استوى علمهم بمعنى أنه لا علم للخلائق بالآخرة -بمعنى وقت الوقوع- نظروا إلى ما قبلها قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ يعني استوى علمهم بالآخرة، ما المسئول عنها بأعلم من السائل فتجد أن أهل العلم من يرجح بقرينة من الآيات قبلها، وبعضهم قد يرجح بقرينة بعدها، والآية تحتمل هذا وهذا -والله تعالى أعلم- والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة النمل:71-75] .
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قال الله مجيبًا لهم: قُلْ يا محمد عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، قال ابن عباس: أن يكون قرب -أو: أن يقرب- لكم بعض الذي تستعجلون، وهكذا قال مجاهد، والضحاك، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي.
وهذا هو المراد بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [سورة الإسراء:51]، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة العنكبوت:54].
وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل لكم" كما قال مجاهد في رواية عنه: عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ عجل لكم.
ثم قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: في إسباغه نعمَه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم، وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك، إلا القليل منهم، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ أي: يعلم السرائر والضمائر، كما يعلم الظواهر، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [سورة الرعد:10]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طه:7]، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة هود:5].
ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة -وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه- فقال: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ قال ابن عباس: يعني: وما من شيء فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحج:70].
قوله -تبارك وتعالى: قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، فـعَسَى من الله واجبة، بمعنى أنها تأتي بمعنى الترجي، ولكن ذلك يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، فإذا صدر ذلك عن الله فهو يعلم ما كان وما يكون، ولهذا قال من قال من السلف -رضي الله تعالى عنهم: إنّ "عسى" من الله واجبة، يعني متحققة ليست للترجي، ومعلوم أن الخطاب قد يصدر مراعاة لحال المخاطب، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، يعني بحسب رجائكما كما يقول بعض المفسرين، وهذا وجه، عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم [سورة الممتحنة:7] يقال فيها كما هنا: إن ذلك متحقق الوقوع، وقد كان، فأسلم من أسلم منهم.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: قال ابن عباس: أن يكون قرب، بمعنى قرب؛ ولهذا في قراءة غير متواترة لابن عباس -رضي الله عنهما- {عسى أن يكون أزف لكم}، وأزف بمعنى قرب، والقراءة الأحادية تفسر المتواترة.
يقول: وهكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء إلى آخره، قال: وهذا هو المراد بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، يقول: وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل لكم"، وعلى هذا الاعتبار -القول بالتضمين- لا تكون اللام زائدة، تقول: ردفه وأردفه إذا ركب خلفه، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] يعني يردف بعضهم بعضا، أي أنهم يُتبعون على قول جماعة من المفسرين بما ذكر في الوعد الآخر الثلاثة الآلاف والخمسة بشرطه.
فالشاهد هنا {ردف} تقول: ردفه وأردفه إذا ركب خلفه، رَدِفَ لَكُمْ قالوا هنا بمعنى تبِعكم ولحِقكم، بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، واللام زائدة للتوكيد، المعنى رَدِفَ لَكُمْ أي لحقكم وتبعكم يعني ردفكم بعض الذي تستعجلون، والذين قالوا بالتضمين والمراد به: أن يضمن الفعل معنى فعل آخر يعدى بتعديته فيكون ذلك أبلغ في المعنى، بمعنى أنهم ينظرون إلى الفعل الموجود، فيقولون: إنه عدي بالحرف الفلاني وهذا الفعل إنما يتعدى بنفسه لا يحتاج إلى حرف.
فبعضهم يقول: هذا الحرف زائد، وأحياناً قد يعدى بحرف آخر ليس بهذا الحرف، فيقولون: هذا الحرف بمعنى الحرف الآخر، وهذه طريقة الكوفيين، وتضمين الفعل معنى الفعل طريقة البصريين فيبحثون عن فعل يصلح أن يعدى بهذا الحرف، فيقولون: إن هذا الفعل مضمن فعلاً آخر يصح أن يعدى، مثل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] يَشْرَبُ بِهَا ويشرب، يقولون: بمن "يشرب منها"؛ لأن العين لا يشرب بها، وإنما يشرب منها، فالكوفيون يقولون: إن الباء مضمنة معنى حرف آخر وهو مِن، وإن حروف الجر تتناوب، وطريقة البصريين يقولون: الفعل مضمن معنى فعل آخر، فيشرب مضمن معنى فعل آخر يصلح أن يعدى بالباء وهو يرتوي بها، فقالوا: هذا أبلغ في المعنى فدل على الشرب إضافة إلى الارتواء.
لكن إذا قلنا: إن ردف كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: قال ابن عباس: أن يكون قرب إلى آخره، قال: وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل"، فعجل يعدى باللام، عجل لكم، فيكون بهذا الاعتبار قد دل على معنى لحق وتبع إضافة إلى عجل، وبعضهم فسر رَدِفَ لَكُمْ، قال: أي اقترب لكم، وبهذا الاعتبار لا تكون اللام زائدة، وهكذا قول من قال: رَدِفَ لَكُمْ أي دنا لكم، كما يقول الفراء، فدنا تعدى باللام، والمعنى قريب، يعني دنا واقترب وأزف كما يقول ابن جرير -رحمه الله.
وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ قال ابن عباس: يعني: وما من شيء في السماء والأرض إلا في كتاب مبين، هذا القول يشمل ما قاله السلف : وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ يعني ما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا في كتاب مبين، وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، وكونه مُّبِينٍ يعني مبين لمن نظر فيه وقرأ، مبين، كقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [سورة الحج:70]، فهذا من أحسن ما تفسر به الآية، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن الذي لا يشك في صحته، أعني في المفردة المعينة، وتفسير القرآن بالقرآن يتفاوت فأحياناً قد يعمد المفسر إلى شيء من هذا فيخطئ، قد يكون محتملاً، وقد يكون في غاية الظهور كهذا.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [سورة النمل:76-81].
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان: إنه يقص على بني إسرائيل -وهم حملة التوراة والإنجيل- أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه، فاليهود افتروا، والنصارى غَلَوا، فجاء إليهم القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام -عليه أفضل الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم:34].
وقوله: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: هدى لقلوب المؤمنين، ورحمة لهم في العمليات.
يعني في العمليات لم يكن عليهم من الآصار التي كانت على بني إسرائيل يعني التكاليف الثقال الشديدة الصعبة، فهو رحمة في هذا كله، رحمة في العمليات، وهو رحمة في غير الأمور العملية حيث بين لهم الحقائق التي تتحير فيها ألباب الذين لم يهتدوا بالوحي، ولم يستنيروا به، فهذا القرآن يجيب على الأسئلة التي تلح على الإنسان من أين جاء؟ لماذا جاء؟ إلى أين ينتهي؟ والحكمة من خلق هذه الحياة الدنيا، وما يجري فيها من الأحوال من ارتفاع وضعة، وتحول من حال إلى حال إلى غير ذلك، كل هذا يأتي مفسراً في القرآن فهو رحمة يبين لهم كل ما يحتاجون إليه من الأمور العلمية و العملية.
ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي: يوم القيامة، بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه، الْعَلِيمُ بأفعال عباده وأقوالهم.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: في أمورك، وبَلّغ رسالة ربك، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي: أنت على الحق المبين وإن خالفك مَنْ خالفك، مِمَّنْ كتبت عليه الشقاوة وحَقَّت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية؛ ولهذا قال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى أي: لا تسمعهم شيئًا ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وَقْر الكفر؛ ولهذا قال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي: إنما يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير، السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة، الخاضع لله، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل -عليهم السلام.
قوله -تبارك وتعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، ذكره بعد قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ هذا فيه عبرة كبيرة نحتاج إليها دائماً لاسيما مثل هذه الأوقات التي يستطيل فيها أعداء الله من الكافرين والمنافقين، وتظهر قرون النفاق ويحصل بسبب ذلك فتنة لمن شاء الله فتنته، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يتولى الحكم والفصل بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون، فيجازي كلًّا بعمله، وليس ذلك إلينا، وإنما علينا أن نبين حقائق الدين، وأن نتمسك به، ونسلك صراط الله المستقيم من غير تردد ولا وجل متوكلين في ذلك كله على الله.
وإذا كان السالك يثق بالطريق التي سلكها أنه على الحق المبين حصل له بذلك الثبات، يعرف الطريق ويحصل له التوكل، فإذا لم يحصل له التوكل ضعف، وكثرت مخاوفه، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] يعني يخوفكم من أوليائه، يعظمهم في نفوسكم فتهابونهم وتخافونهم فمن لم يحصل له التوكل لربما حصل له التراجع والتنازل عن الحق الذي آمن به، وإذا لم يحصل له كمال اليقين فإنه يكون قابلا للتشكيك فيحصل له اضطراب ويحصل له تحير وتساؤلات في نفسه هل هو على حق أو لا؟ وهذا يوجد عند بعض الذين لا بصر لهم، ويسمعون مثل هذه الشبهات، ومثل هذه الفِراء والأقاويل الكاذبة والطعون في أهل الإيمان وأئمتهم من الأحياء والأموات، والتشكيك في الثوابت، فيبدأ بعض الناس يتحير ويتردد فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.
الحافظ ابن القيم له كلام قصير في هذا، فقال -رحمه الله تعالى: " قال تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وفي ذكر أمره بالتوكل مع إخباره بأنه على الحق: دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين: أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده ونيته، وأن يكون متوكلاً على الله واثقاً به فالدين كله في هذين المقامين"[2].
وقال -رحمه الله: " فأمر سبحانه بالتوكل عليه وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل مصحح له مستدعٍ لثبوته وتحققه، وهو قوله تعالى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ فإن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله والاكتفاء به والإيواء إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق وهو ولي الحق، وناصره ومؤيده وكافٍ من قام به، فما لصاحب الحق أن لا يتوكل عليه وكيف يخاف وهو على الحق"[3] انتهى.
وهذا كقوله -تبارك تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:1-3]، نهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين ثم أمره باتباع ما يوحي إليه، وفي هذه الحال سيصوبون إليه سهامهم قال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: لا تسمعهم شيئا ينفعهم، إذ الموتى حقيقة من فارقت روحهم جسدهم، وهذا الذي قال به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الموتى الأموات لا يسمعون، وهذه يحتج بها جمع من أهل العلم على مسألة سماع الأموات، والآية تحتمل هذا المعنى، وتحتمل معنى آخر أن المقصود بالموتى موتى القلوب، بدليل أنه قال بعده إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، ثم قال: إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ فقابل هذا بهذا لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى يعني موتى القلب، إنما تسمع أصحاب القلوب الحية الذين وصفهم بالإيمان بآياته -تبارك وتعالى.
فالآية تحتمل هذا وهذا، ولهذا تجد ابن كثير -رحمه الله- ربط بين المعنيين يعني إن كنت لا تسمع الموتى حقيقة، فكذلك موتى القلوب فإنهم بمنزلتهم، كما أنك لا تسمع الأموات فإن هؤلاء بمنزلة الأموات؛ لأنهم موتى القلوب فإنك لا تسمعهم سماعا ينفعهم هذا هو المراد، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أشار إلى هذا المعنى، ولا شك أن بين المعنيين ملازمة يعني الذين قالوا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى حقيقة قالوا: هذا ذكر من أجل التوصل إلى المعنى المشار إليه، فكذلك هؤلاء لأنهم موتى، وإن كانت أرواحهم لم تفارق أجسادهم.
وقوله -تبارك وتعالى: إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ [سورة الروم:53] قال: أي: إنما يستجيب لك من هو سميع بصير، السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة، الخاضع لما جاء إلى آخره، فهم مسلمون، يعني هذا يحتمل أن يكون ذكر على سبيل الوصف لهؤلاء الذين ينتفعون، ويحتمل أن يكون ذلك مذكوراً للتعليل إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ، ولهذا يحصل لهم الانتفاع، ويسمعون سماع منتفع، يتعظون بما يسمعون، يعني كيف يكون إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ؟ أي: الإسلام هو الخضوع والانقياد فهم خاضعون منقادون، فهؤلاء هم الذين يستمعون لك والفاء في "فهم" تعليلية الذين يسمعون سماع انتفاع هم الذين يؤمنون بآيات الله -تبارك وتعالى- وذلك أنهم خاضعون منقادون فهم مسلمون، هذا إذا حُمل على أن الفاء للتعليل.
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهـُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [سورة النمل:82].
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتَرْكِهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يُخرج الله لهم دابة من الأرض -قيل: من مكة، وقيل: من غيرها كما سيأتي تفصيله- فَتُكَلِّم الناس على ذلك.
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ويُروى عن علي : تكلمهم كلاما أي: تخاطبهم مخاطبة.
وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة، فلنذكر ما تيسر منها -والله المستعان:
روى الإمام أحمد عن حُذَيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال: لا تقوم الساعة حتى تَرَوا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قَعر عدن تسوق -أو: تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا[4]، وهكذا رواه مسلم، وأهل السنن عن حُذَيفة مرفوعا، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه مسلم أيضاً عنه موقوفاً، فالله أعلم.
روى مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عمرو قال: حَفظْتُ من رسول الله ﷺ حديثًا لم أنسه بعد: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا[5].
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة[6].
روى أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تخرج دابة الأرض، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان -عليهما السلام، فتخطم أنف الكافر بالعصا، وتُجلي وجه المؤمن بالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخوان، يعرف المؤمن من الكافر[7].
قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهـُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لم يتعرض لمعني وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ في الأصل، وبعضهم يقول: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ أي: حق الغضب عليهم أي: وجب كما يقوله قتادة، وبعضهم يقول: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي: حق القول عليهم أنهم لا يؤمنون، أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ، كما يقول مجاهد: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حق القول بأنهم لا يؤمنون، وبعضهم يقول: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي حق العذاب، وهذا قريب من القول بأن المراد حق الغضب، وبعضهم يقول: المراد بذلك ما أخبر الله به عن وقوع القيامة، فإن ذلك يكون من علاماتها الكبرى.
وهناك أقوال أخرى كثيرة فيها، كقول من قال: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني موت العلماء، ويبقى الناس في حال من الجهالة، وبعضهم يقول: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيبقى الناس في عماية، وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ من أقرب هذه الأقوال أنه حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، ويقرب من هذا قول من قال: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ وجب يعني حق العذاب أو وجب الغضب، هذه أقوال متقاربة، والله تعالى أعلم.
يقول: يخرج الله لهم دابة من الأرض، قيل من مكة وقيل من غيرها كما سيأتي تفصيله، وهذا كله لا دليل عليه، لا يوجد دليل صحيح يخبر عن المكان الذي تخرج منه هذه الدابة، توجد روايات لكنها غير صحيحة؛ ولهذا بعضهم يقول: مكة، وجاء في بعض هذه الروايات أنها تخرج من الصفا، وفي بعضها أنها من جبل أبي قبيس، وبعضهم يقول: بين الركن والمقام، وبعضهم يقول: من تهامة، وبعضهم يقول: من الطائف، وكل هذا الكلام لا دليل عليه، أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ، الله أعلم من أين، فهذا غير مهم في الواقع أن يعرف من أين تخرج.
وقوله -تبارك وتعالى: أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ يقول هنا: فتكلم الناس على ذلك، ونقل عن بعض السلف: تكلمهم كلاماً أي تخاطبهم مخاطبة، وبعضهم يقول: تخاطبهم ببطلان الأديان سوى الإسلام، وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني متى تخرج؟ إذا طلعت الشمس من مغربها خرجت الدابة ضحى، وإذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [سورة الأنعام:158]، فتخبرهم عن حقية دين الإسلام وبطلان ما سواه من الأديان، هذا قال به جماعة من أهل العلم.
وبعضهم يقول: تكلمهم بما ذكر بعده تكلمهم: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، وبعضهم يقول تكلمهم بما يسوءهم، وبعضهم حمل ذلك على الكلْم الذي هو الجرح تُكَلِّمُهُمْ وابن عباس -رضي الله عنهما- لما سئل عن هذا حملها على ذلك كله، فهي تتكلم، وتسِم الناس سمة فتضع على الكافر علامة مثلا، سمة تضع عليه وسماً من الكلْم تُكَلِّمُهُمْ فحمله على المعنيين، وذلك أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
في قوله تعالى: تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ الجمهور قرءوه بالكسر تُكَلِّمُهُمْ إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ فبعضهم حمل المعنى في هذه القراءة أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ، وأبهَمَ، أي يحتمل أن يكون المراد العلامة، أو أنها تتكلم كما يتكلم الآدمي بما ذكر أو بغيره -الله أعلم، وأن ذلك على الاستئناف يعني هذا كلام جديد من الله يقول: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ كلام جديد، ليس ذلك من قولها، باعتبار أنه مستأنف.
وبعض أهل العلم يقول: على هذه القراءة يمكن أن يكون ذلك على تقدير القول: تكلمهم تقول: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، وهذا ظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- والقراءة الأخرى أَنَّ النَّاسَ وهي قراءة الكوفيين تكلمهم أن الناس، هذه توضحها قراءة ابن مسعود وهي غير متواترة، تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وهذه القراءة واضحة جداً لا إشكال فيها، فيكون ذلك من قولها، ويكون هذا هو التكليم المشار إليه في الآية، فالقراءتان يرجعان إلى معنى واحد، وبعضهم يقول: لا، هي تكلمهم، ثم ما بعده هذا كلام آخر من كلام الله يقول: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ.
وهذه الدابة بعضهم يقول: هي الجَسّاسة التي جاءت في الحديث الطويل في صحيح مسلم في قصة تميم الداري لما استقبلتهم دابة أهْلَبُ كثير الشعر، لا يُدرى قُبله من دبره، وكلمتهم وقالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق[8]، وبعضهم يقول: هي فصيل ناقة صالح يعني ولد ناقة صالح، وهذا الكلام لا دليل عليه، وإن قال به بعض أهل العلم كالقرطبي -رحمه الله، فالله أخبر أنها دابة، والبحث فيما وراء ذلك هو اشتغال بما لا يفيد، وليس عندنا فيه علم يمكن الركون إليه، وقوله ﷺ: تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان فتخطم أنف الكافر بالعصا وتجلي وجه المؤمن بالخاتم حتى يجتمع الناس على الخوان، يعرف المؤمن من الكافر الخوان هو الذي يؤكل عليه، الذي يوضع عليه الطعام.
وقال ابن جُرَيْج، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نَمر، وخاصرتها خاصرة هِرّ، وذنَبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا، تخرج معها عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتى يبيضّ لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نَكَتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتى يسودّ لها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق: بكم ذا يا مؤمن؟ بكم ذا يا كافر؟ وحتى إنّ أهل البيت يجلسون على مائدتهم، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم، ثم تقول لهم الدابة: يا فلان، أبشر، أنت من أهل الجنة، ويا فلان، أنت من أهل النار، فذلك قول الله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهـُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيه ِوَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة النمل:82-86].
يقول تعالى مخبرًا عن يوم القيامة، وحشْر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله ، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا، تقريعًا وتوبيخًا، وتصغيرًا وتحقيرًا فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا أي: من كل قوم وقرن فوجًا، أي: جماعة، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [سورة الصافات:22]، وقال تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [سورة التكوير:7].
وقوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: يدفعون، وقال قتادة: وَزَعَةٌ ترد أولهم على آخرهم.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا هذا حشر خاص غير الحشر العام، والحشر العام هو حشر الخلائق جميعاً في الآخرة، وهذا حشر خاص قيل هذا حشر لكبراء أهل الضلال، لأئمة الضلال كما قال الله -تبارك وتعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [سورة مريم:68] على الرُّكب، يعني حول جهنم، ذاك حشر عام ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [سورة مريم:69]، فهذا حشر من الحشر العام، يؤخذ هؤلاء الأئمة الكبار العتاة يبدأ بهم.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا يعني من كل قرن، من كل جيل، من كل طائفة، من كل أمة يحشر الله فئة منهم هذا الحشر الخاص، وقوله -تبارك وتعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [سورة الصافات:22] يعني ونظراءهم، وقوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [سورة التكوير:7] ليس المقصود بالتزويج أن الرجل يزوج بالمرأة، وإنما يكون النظير مع نظيره، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ يعني ونظراءهم.
فَهُمْ يُوزَعُونَ، قال ابن عباس: يدفعون، ويُوزَعُونَ يعني يحبس أولهم على آخرهم، هكذا يحشر الخلائق، ثم يحشر هؤلاء العتاة الحشر العام ثم حشر العذاب الذي يبدأ به بهؤلاء العتاة، فيلقون في جهنم، فجهنم لا يلقى الناس فيها دفعة واحدة، وإنما يلقى القادة وأئمة الضلال قبلُ، ثم بعد ذلك يأتي الأتباع كما ذكر الله ذلك، وبين خصومتهم في النار، هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَل ْأَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة ص:59، 60] إلى غير ذلك مما قصه الله -تبارك وتعالى، فيبدأ بالكبراء بعد الحشر العام فيلقون في النار ثم يتبع هؤلاء بأتباعهم -نسأل الله العافية، ويحصل بينهم: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء [سورة غافر:47] الآية.
وهنا فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم، فإذا أردت أن تتصور يُوزَعُونَ كما في قصة سليمان -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر الله حشر جنوده وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [سورة النمل:17]، تصور قطيعاً ضخماً من الغنم مثلا معهم رعاة هذا يسوقها من خلفها، وهذا عن يمينها وهذا عن شمالها، وهذا يرد من يسرع منها ويتقدم إلى آخرها فيضيف بعضها إلى بعض، ويجمع إليها ما تفرق عنها وشذ، ويحبس أولها على آخرها بحيث لا تصل أفواجاً متقطعة، فهذا يصور طريقة الحشر، وكيف يساقون إلى النار -نسأل الله العافية.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يساقون.
حَتَّى إِذَا جَاءُوا أي: أُوقفوا بين يدي الله ، في مقام المساءلة، قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي: ويُسألون عن اعتقادهم، وأعمالهم، فلما لم يكونوا من أهل السعادة، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [سورة القيامة:31، 32]، فحينئذ قامت عليهم الحجة، ولم يكن لهم عذر يعتذرون به، كما قال تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:35-37]، وهكذا قال هاهنا: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَأي: بُهتوا فلم يكن لهم جواب؛ لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظَلمة لأنفسهم، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.
قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا فسره جمع من أهل العلم بأن المراد أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ابتداءً من غير علم ولا إحاطة ولا بصر ولا نظر في دلائل ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ودلائل الحق والتوحيد والإيمان، يعني أنكم بادرتم بالكفر دون تبصر ولا نظر، ولا تأمل ولا معرفة، وإنما ابتدرتم ذلك عن جهل وعمى على سبيل العناد والمكابرة، ولم يصدر ذلك عن تمحيص وتفكير وتأمل، ودراسة للحجج والآيات التي جاءت بها الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
وهذا فيه عظة وعبرة لكل من بادر إلى تكذيب شيء دون نظر ولا تبصر، من غير دراسة ولا تمحيص، وإنما أنكره مباشرة ولم يقبله، تجد هذا في بعض المنتسبين للإسلام، ولربما يسمع الحديث عن رسول الله ﷺ فيسرع إلى إنكاره وتكذيبه؛ لأن ذلك لم يتفق مع عقله القاصر وفهمه المعوج، يقول: هذا ما يكون، هذا كذب على النبي ﷺ تقول: الحديث في الصحيحين! يقول: وإذا كان في الصحيحين! تجد هذه اللوثة كثيراً لدى بعض أبناء المسلمين، لربما الذين ذهب كثير منهم وتلقوا عن الغرب وتأثروا بمناهجهم في التفكير، وغلبت عليهم النزعة المادية، فصار الواحد منهم يبادر ويكذب بالنصوص ويجترئ على الله من غير نظر ولا تمحيص ولا دراسة، ولا علم له بقليل ولا كثير.
أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فـ"أم" هذه هي المنقطعة، يعني أم أيُّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر في دلائل الحق وبراهين الإيمان، فما الذي جعلكم تتحولون عما يجب النظر فيه، والتعرف على حقيته بحيث أشغلكم ذلك عن هذا النظر والفكر والاستدلال؟
وقوله تعالى هنا: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ بعضهم يقول: كلمة العذاب فهم لا ينطقون، وبعضهم يقول: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم يعني أنه يختم على أفواههم فهم لا ينطقون، فتشهد عليهم جوارحهم، فيكون قوله: فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ تفسيراً لوقوع القول عليهم، ولعل الأول أقرب -والله تعالى أعلم، وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أي: حق العذاب وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13].
وقوله -تبارك وتعالى: فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ يعني من أهل العلم من حمله على معنى وهو النطق الذي ينفعهم والذي يحصل لهم به تخفيف، أو قبول عذر، أو تخلص من العذاب أو نحو ذلك، هم لا ينطقون نطقاً يحصل به النفع، لكنهم يتكلمون بدليل قوله تعالى عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [سورة الزخرف:77]، ورَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [سورة المؤمنون:107] وما شابه ذلك مما أخبر الله به عن قول أهل النار، وعلى كل حال من أهل العلم من حمله على هذا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ جمعاً بين الآيات، ومن أهل العلم من قال: إن اليوم الآخر يوم طويل ففيه مقامات لا ينطقون، يختم على أفواههم، فإذا شهدت عليهم الجوارح ثم بعد ذلك تنطق الألسن وتشهد عليهم ففي حين لا ينطقون، وفي حين ينطقون، والله تعالى أعلم.
هنا وصف النهار بكونه مبصراً، وهذا محمول على أن المراد -والله تعالى أعلم- أن الناس يبصرون به مُبْصِرًا أي: يبصر الناس به، فهو وصف للناس، مبالغة في إضاءته، وبعضهم يقول: هذا الكلام فيه مقدر: أن الله جعل الليل مظلماً لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لينتفعوا في معايشهم ويتقلبوا في الأرض طلباً للمكاسب، ولتحقيق مصالحهم، والله تعالى أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام ابن القيم (2/ 127).
- طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (388).
- رواه أحمد في المسند، برقم (16144)، وقال محققوه: إسناده صحيح كسابقه لكن اختلف في رفعه ووقفه، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة، برقم (2901)، وأبو داود، كتاب الملاحم، باب أمارات الساعة، برقم (4311)، والترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الخسف، برقم (2183).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى وقتله إياه وذهاب أهل الخير والإيمان وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان والنفخ في الصور وبعث من في القبور، برقم (2941).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في بقية من أحاديث الدجال، برقم (2947).
- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (2687).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة، برقم (2942).