الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[11] تابع قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب} الآية 23 إلى قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} الآية 24.
تاريخ النشر: ١١ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 6504
مرات الإستماع: 4133

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله: ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة [1] [لفظ مسلم].

وقوله ﷺ: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم.

وله -عليه الصلاة والسلام- من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به، ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فدلائل النبوة التي يعرف بها صدق النبي ﷺ كثيرة جداً، كما قال الحافظ ابن حجر: تفوق الحصر.

ودلائل النبوة على قسمين، قسم منها ما يكون من قبيل المعجزة، أو ما يسميه المتأخرون بالمعجزات، وقسم منها ليس بمعجز.

فالمعجز كالقرآن، وكنبع الماء من بين أصابعه ﷺ وتكثير الطعام، وانقياد الشجر، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، وغير ذلك مما عرف ونقل في الأدلة الثابتة الصحيحة.

وغير المعجز مثل ما يعرف في وجهه من أنه نبي ﷺ كما في الحديث في قصة عبد الله بن سلام إذ يقول: فما إن رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فهذه من دلائل النبوة.

ومن ذلك أيضاً ما عرف عنه من الأمانة، والصدق قبل أن يبعث وبعد أن بعث، إلى غير ذلك من شمائله -عليه الصلاة والسلام- التي هي من دلائل نبوته.

فهذه يقال لها: دلائل النبوة، ويقال لها: آيات الأنبياء، ثم بعد ذلك صار التعبير عن المعجز منها بالمعجزات.

وبالنسبة لما يقع من الخوارق على يد أتباع النبي من الصحابة فمن بعدهم يقال له: كرامات الأولياء، وإلا فإن ذلك جميعاً، يقال له: آيات الأنبياء ويقال له: دلائل النبوة.

والشاطبي -رحمه الله- ذكر أصلاً وقاعدة، وهي: أن كلَّ ما أعطيه نبي من الأنبياء قبل النبي ﷺ فقد كان للنبي ﷺ مثله، يعني سواء وقع ذلك للنبي ﷺ مباشرة أو وقع لأحد أتباعه؛ لأنه قرر قاعدة أخرى، وهي أن كل آية وقعت لتابع النبي فهي آية للنبي، وهذا صحيح، فإبراهيم ﷺ مثلاً ألقيَ في النار ولم يحترق، ولم يقع ذلك للنبي ﷺ لكنه وقع لبعض أتباعه وهو أبو مسلم الخولاني في قصة الأسود العنسي، كما هو معروف، وقل مثل ذلك في الآيات الأخرى للأنبياء. 

لكن لكل قاعدة استثناءات وإنما يقصد بالقواعد بحيث إنه يدخل تحتها معظم الصور، وإلا فإن انفلاق الصخرة حناقة فلم تحصل لأحد من أتباع النبي ﷺ.

وكذلك ما وقع لبعض الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الآيات كقصة موسى ﷺ مع السحرة بالصورة العظيمة التي وقعت فهذه لم تقع للنبي ﷺ أما إبطال السحر على يد أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في مقام المناظرات فإن ذلك قد وقع.

قول النبي ﷺ هنا: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ: هذه العبارة على سبيل الحصر؛ لأن "إنما" هي من أقوى صيغ الحصر، وليس ذلك الحصر هنا مقصوداً، وإنما المراد أن ذلك هو أبرز آيات النبي ﷺ، كقوله -عليه الصلاة والسلام- مثلاً: الحج عرفة [2]، مع أن من وقف بعرفة فحسب لا يكون حاجَّاً، فلا بد من طواف وسعي وما إلى ذلك، مع أن الصيغة تشبه الحصر في قوله: الحج عرفة، وكأنه حصر الحج بعرفة.

فقوله هنا: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، أي أن هذه أبرز آياته -عليه الصلاة والسلام- وليس المقصود منها الحصر.

وقوله تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24]،

أما الوَقود -بفتح الواو- فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه.

يعني ما تتوقد به، مثل ما يقال: الوَضوء، فهو الماء الذي يُتوضأ به، والسَّحور، هو الطعام الذي يؤكل، وما أشبه ذلك.

وأما الوُضوء –بضم الواو- فإنه الفعل، والسُّحور هو أكل الإنسان أي فعله في ذلك الوقت، وهنا وَقُودُهَا يعني ما تتوقد به، أي المادة التي تشتعل بها النار هي الناس والحجارة، وليس الحطب وغيره مما توقد به النار، كالزيت وغيره.

كما قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [سورة الجن:15]، وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ۝ لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:98-99].

والمراد بالحجارة ها هنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها.

وقيل: المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية.

القول بأن الحجارة المراد بها حجارة الكبريت لم يثبت عن النبي ﷺ، وإنما الذين قالوا ذلك هم طائفة من السلف، وهو قول لا يقال من جهة الرأي، لكن يمكن أن يؤخذ عن بني إسرائيل، والذي حداهم أن يبحثوا عن تفسير لهذه الحجارة هو أن ذكر الحجارة بمجرده، لم يعهد في كونه وقوداً؛ ولذلك فإن بعضهم قال: المراد بالحجارة هنا هي الأصنام التي تعبد من دون الله وهذا دلّ عليه القرآن، قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فأصنامهم يوقد بها النار كما توقد بهم.

وقول من قال: إنها حجارة الكبريت باعتبار أن ذكرها يؤثر في هذا المقام؛ حيث إنها تزيد النار توقداً وحرارة، والمقام مقام ترهيب، فلو قال لهم الحجارة العادية هذه هي وقود النار لربما كان ذلك سبباً لإبهام الأمر عليهم، فلا يدركون المراد منه، والعلم عند الله .

المقصود أن هذا هو توجيه تفسير بعض السلف للحجارة بحجارة الكبريت، وأنهم لم يقولوه من عند أنفسهم.

وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان.

قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ أي: أُعِدَّتْ هي، والقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هي الحجارة، بمعنى أن هذه الحجارة أعدت للكافرين لتسجَّر عليهم فيحصل لهم التعذيب والإحراق.

وقيل: أُعِدَّتْ  أي النار، مع أن القاعدة هي عود الضمير إلى أقرب مذكور وهي الحجارة، لكن قالوا: النار؛ لأنها هي المخبر عنها، ثم وصفها بأنها التي وقودها الناس والحجارة، فهو لا يتحدث عن الحجارة، وليس المقام مقام تفصيل وتوضيح للحجارة، وإنما المقام مقام ذكر للنار وتحذير منها.

فحينما تفهم هذا تدرك لماذا يتخطى التفسير القاعدة أحياناً، ولذلك إذا أردنا أن نرجح بين القولين، لا نقول هنا: إن الضمير يرجع إلى آخر مذكور، كما هو مقتضى القاعدة، وإنما نقول: يرجع إلى النار؛ لأنها هي المحدث عنه والمخبر عنه، كما قال أصحاب القول الثاني، فهذا هو الأقرب..

وإذا أردنا أن نجمع بين القولين فلا نحتاج إلى ترجيح، بل نقول: الضمير هنا احتمل أن يعود إلى الموضعين -النار والحجارة؛ لأن القاعدة تقول: إن الضمير إذا احتمل أن يعود إلى موضعين فأكثر فإنه يحمل على ذلك جميعاً إلا لمعارض.

وابن كثير -رحمه الله- في هذا المثال، يقول: أعدت النار وأعدت الحجارة؛ وقال بذلك؛ لأن هذا المثال من أجلى صور هذه القاعدة، فالضمير إذا احتمل أن يعود إلى موضعين فأكثر فإنه يحمل على ذلك جميعاً إلا لمعارض ولو لم تكن بين المعنيين ملازمة، فكيف إذا وجد بينهما ملازمة؟!.

ووجه الملازمة في هذه الصورة أن النار معدة للكافرين، والحجارة مما تسعر به النار، إذن: الحجارة أعدت للكافرين.

فإذا قلت: إن النار معدة للكافرين فإن ما تسعر به أيضاً معد للكافرين، إذن: صار بين القولين ملازمة، أي: يلزم من أحدهما الآخر.

وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا- أعدت للكافرين، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.

قوله تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24]، أي هي للكافرين عموماً، وهؤلاء من الكافرين فهم داخلون تحت هذا العقاب.

ولو أنه قال: التي وقودها الناس والحجارة أعدت لكم فقد يفهم من هذا أنها مختصة بهم لأمر ما، لكن حينما يذكر العلة في دخولهم النار، أو في إعدادها لهم -وهي الكفر- فهي تصدق عليهم، وتصدق على كل من جاء بعدهم، أو من كان في زمانهم ممن هو متصف بذلك الكفر، وهذا الأسلوب كثير في القرآن، فتجده يذكر العلة للحكم، فيقول مثلاً: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ  [سورة التوبة:80].

أو يقول: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10]، ويقول: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83]، ويقول: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:108] وأشباه ذلك كثير، فهو يذكر الأوصاف التي نتجت عنها تلك العقوبات في باب الترهيب، وكذلك في باب الترغيب يذكر الأوصاف التي نتجت عنها تلك الجزاءات من النعيم، أو محبة الله وما أشبه ذلك، فهي مرتبة عليها.

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن بقوله تعالى: أُعِدَّتْ أي: أرصدت وهيِّأت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: تحاجت الجنة والنار [3]

قوله تعالى: أُعِدَّتْ التعبير هنا بالماضي، فقد يقول قائل: إنه يعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، وهذه قاعدة صحيحة معروفة. 

ومن أوضح الأمثلة على ذلك قوله تعالى في صدر سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، مع أن هذا الأمر الذي هو يوم القيامة لم يأت بعد، فيقولون: يعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، فأنت تقول: أتاك الربيع، وتقول: أتاك المطر، ولم يأت بعد لتحقق الوقوع.

نقول: قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24]، لا يقال فيها أبداً: إن ذلك من باب التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع؛ وذلك لوجود أدلة أخرى صريحة دلت على أن النار موجودة، فيحمل لفظ أعدت على أن ذلك كان في الماضي، وبالتالي فإن النار موجودة الآن.

والإعداد يدل على عناية بالمعد، وأنها مهيأة لهم وجاهزة، ومما يدل على أن النار موجودة الأدلة التي سيذكرها الحافظ ابن كثير هنا، وغيرها.

وقد رآها النبي ﷺ ورأى فيها أقواماً كعمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، وكذلك رأى فيها رجالاً ونساء وغير ذلك.

وكذلك الجنة هي موجودة الآن، وقد رآها النبي ﷺ وهي كما وصفها الله عرضها السموات والأرض، وهي في السماء كما قال تعالى: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [سورة الذاريات:22 ].

وليس هنا مجال للعقل إطلاقاً أن يقول الإنسان: كيف يكون عرضها السموات والأرض، فأين هي أو أين النار أو نحو هذا الكلام؛ فهذه أمور لا دخل للعقل البشري فيها إذ هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

ومنها: استأذنت النار ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف [4].

وحديث ابن مسعود -: "سمعنا وجبة، فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله ﷺ: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها [5] [وهو عند مسلم].

سمعنا وجبة: الوجبة: هي صوت سقوط شيء، قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [سورة الحـج:36]، يعني سقطت.

وهذا الحديث في احتجاج الجنة والنار، وفيه أن النبي ﷺ أخبر أن أشد ما نجد من الحر، فإنه من فيح جهنم، وأشد ما نجد من البرد فإنه من زمهرير جهنم.

وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى.

رأى النبي ﷺ الجنة والنار في صلاة الكسوف في قبلة جدار المسجد، وكذلك في ليلة الإسراء رأى النار ورأى الذين يعذبون فيها، ورأى مالك وهو يهش النار..

وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25].

لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به، وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه، كما سنوضحه إن شاء الله.

قوله: لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به..إلى آخره، هذا ما يسميه المفسرون علم المناسبة، وهو وجه الارتباط بين الآية وبين التي قبلها.

فالله لما ذكر النار ووعيد الكفار ذكر الجنة وما أعد الله لأهل الطاعة من الثواب، وهذا كثير في القرآن، حيث يذكر هذا وهذا ليجمع لهم بين الخوف والرجاء، وهذا كثير جداً، وبهذا أخذ بعض أهل العلم أن مقصود الشارع من المكلفين فيما يتعلق بهذا الباب أن يجمعوا بين الخوف والرجاء، فيكون العبد سائراً بينهما على حد سواء فلا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون الخاسرون، فليس ذلك من صفة أهل الإيمان، ولا يكون أيضاً مغلِّباً للرجاء معرضاً عن الخوف إلا من حصل له الاغترار والأمن من مكر الله فلا يغلب الرجاء ولا يغلب الخوف، وإنما يجمع بينهما.

والكلام في هذه المسألة معروف، وقول من قال: إنه في حال الصحة والعافية يغلب الخوف، وعند الموت يغلب الرجاء له وجه.

قوله: وهذا معنى تسمية القرآن مثاني: عند ابن كثير وطائفة من أهل العلم أن هذا هو المراد بأن القرآن مثاني كما في قوله تعالى:  اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [سورة الزمر: 23]، أي أن الله يذكر الشيء ومقابله، كأن يذكر نعيم أهل الجنة ثم يذكر عذاب أهل النار والوعيد الذي لهم.

وأن التشابه هو أن يذكر الشيء ونظيره، مثل ذكر قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، كقصة موسى –- تتكرر في أكثر من موضع.

وبعض أهل العلم يفسرون بما هو أوسع من هذا، فيقولون: مثاني: أي تثنى فيه القصص أي تعاد، وتثنى فيه الأخبار، وتثنى فيه المواعظ، وغير ذلك، أي: ما يذكر أكثر من مرة، وهذا هو القول المشهور في تفسير المثاني.

وبالنسبة لذكر الجنة والنار ونعيم أهل الجنة ونعيم أهل النار هذا الخلاف فيها كثير، ولو نظرت في كتاب القواعد الحسان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- تجد أنه أفرد لهذه المسألة قاعدة، وتكلم عليها وأتى بأمثلة كثيرة على هذا.

ويؤخذ من هذه الطريقة فائدة تربوية لتربية الناس والوعظ وتعليمهم أنه يجمع بين هذا وهذا، بحيث لا يكون الغالب على كلام الداعية هو ذكر ما يحصل به الطمع لهؤلاء الناس من رحمة الله ومغفرته، ويكون كلامه دائماً مما يستهوي الناس ويروق لهم من ذكر ما ينتظرهم من النعيم المقيم وسعة رحمة الله وأنه غفور؛ لأنه إن اعتاد ذلك فإنه يفسدهم بذلك حيث يفرطون في العمل. 

وكذلك لا يكون الغالب على حال الواعظ دائماً تخويف الناس، وذكر أمور قد تيئسهم من رحمة الله وإنما يجمع لهم بين هذا وبين هذا، قال تعالى: اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  [سورة المائدة:98].

فلهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [سورة البقرة:25]، فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت أشجارها وغرفها.

وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، ومسكها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.

أنهارها تجري في غير أخدود: الأخدود هو الشق في الأرض، والنهر معروف، وهو الشق الكبير في الأرض، ودونه الجدول، وأعظم منه البحر، وهو الماء الكثير المستبحر المعروف، فالمعهود في الدنيا أن الأنهار لا تجري على ظهر الأرض المستوية، وإنما تكون في شق من الأرض، أما أنهار الجنة تجري من غير أخدود، والنهر يطلق على نفس الشق، تقول: حفرت النهر، ويطلق على الماء الجاري فيه، فتقول: جرى النهر، من باب التعبير بالحال، وإرادة المحل، والعكس، فقوله: تجري من غير أخدود هذا غير معهود في الدنيا.

في الكوثر قال: حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف: يعني يحتمل أن يكون المراد بذلك، أنه يجري أيضاًَ من غير أخدود وتكون حوافه التي تحجز الماء هي قباب اللؤلؤ.

وعلى كل حال، الله على كل شيء قدير، قادر على أن يجري الماء من غير شق في الأرض، فيجريه بما شاء كيف شاء .

يقول: فطينها المسك الأذفر، ومسكها اللؤلؤ والجوهر: الطين معروف، والحصباء، هي الحجارة الصغيرة التي تفرش بها الأرض، وما إلى ذلك.

فإذا كان هذا هو صفة طين الجنة وحصباؤها، فما بالك بالأشياء التي هي أعظم من طينها وحصبائها؟ ما ظنك بجواهر الجنة، وحلي أهل الجنة؟ وما ظنك بأهل الجنة وقصورهم وبأثاثهم ورياشهم ونعيهم؟

قال -عليه الصلاة والسلام- وهو يشير إلى حلة حرير كان الصحابة يمسونها ويعجبون من لينها: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا [6].

وقال –عليه الصلاة والسلام:موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها [7].

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أنهار الجنة تفجر تحت تلال، أو من تحت جبال المسك [8].

وروى أيضاً عن مسروق، قال: قال عبد الله -: "أنهار الجنة تفجر من جبل المسك".

وقوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ [سورة البقرة:25]. 

 
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة - قول النبي ﷺ: بعثت بجوامع الكلم (6846) (ج 6/ص 2654)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (152) (ج 1/ص 134).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك - باب: من لم يدرك عرفة  (1949) (ج 1/ص 599)، والترمذي في كتاب: الصوم - باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3/ص 237)، والنسائي في كتاب: مناسك الحج - باب: فرض الوقوف بعرفة (3016) (ج 5/ص 256)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3172).
  3. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة ق (4569) (ج 4/ص 1836)، ومسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2846) (ج 4/ص 2186).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: صفة النار وأنها مخلوقة (3087) (ج 3/ص 1190)، ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه (617) (ج 1/ص 431)، ولفظهما: (اشتكت النار إلى ربها).
  5. أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب: في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (2844) (ج 4/ص 2184)، ولفظه: "كنا مع رسول الله ﷺ إذ سمع وجبة فقال النبي ﷺ: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها.
  6. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3076) (ج 3/ص 1187) ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة (2468) (ج 4/ص 1916).
  7. أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق - باب: مثل الدنيا في الآخرة (6052) (ج 5/ص 2358).
  8. أخرجه ابن حبان (7408) (ج 16/ص 423) وقال الألباني: حسن صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3721).

مواد ذات صلة