بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المفسر رحمه الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج: 23، 24]
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار -عياذًا بالله من حالهم- وما هم فيه من العذاب والنَّكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار، ذكر حال أهل الجنة -نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة- فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ [سورة الحج:23] أي: تتخَرَّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا، يُحَلَّوْنَ فِيهَا من الحلية، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا أي: في أيديهم، كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوُضُوء[1].
وقوله: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير، إستبرقه وسُنْدُسه، كما قال: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:21، 22]، وفي الصحيح: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة[2].
قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة، لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
وقوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كقوله: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [سورة إبراهيم:23].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكره الله هنا من نعيم أهل الجنة هذا على طريقة القرآن بذكر ما يحصل به الخوف والرجاء، فقوله -تبارك وتعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا التقدير: ويحلون لؤلؤاً، وعلى القراءة الثانية، وهي أيضاً قراءة متواترة بالجر بأساور من ذهب ولؤلؤٍ يكون اللؤلؤ عائداً على المجرور معطوفاً عليه وهو الذهب، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- أن هذا الذهب مرصع باللؤلؤ، وعلى قراءة النصب: ولؤلؤاً أي: ويحلون لؤلؤاً، فيحتمل أن تكون الحلية من اللؤلؤ، يعني حلية من ذهب وحلية من لؤلؤ، بمعنى أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ، مع أنه جرت العادة في الدنيا فيما هو معروف أن الأساور في الدنيا لا تكون من اللؤلؤ، وإنما اللؤلؤ يرصع بالذهب مثلاً، ولكن نعيم الجنة يختلف عن نعيم الدنيا، فيمكن أن يحلى هؤلاء بأساور من اللؤلؤ الخالص وأساور من الذهب الخالص، مع أن الاحتمال أيضاً قائم بأن المراد ولؤلؤاً أي: ويحلون لؤلؤا، فلا يلزم من ذلك أن السوار برمته من اللؤلؤ، وإنما هو من الذهب رصع باللؤلؤ، وعلى كل حال نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا وما فيها من البهرج والزينة.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ما ذكره من قول ابن الزبير وقول النبي ﷺ: فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة قال: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، يعني أن ابن الزبير -ا- فهم من قوله: لم يلبسه في الآخرة أنه لم يدخل الجنة؛ لأن الحرير لباس أهل الجنة، ولكن هذا أيضاً غير قاطع؛ فالحديث قد يفهم منه هذا المعنى، وقد يفهم منه غير ذلك، فالنبي ﷺ أخبر أن من مات وهو يشرب الخمر ولم يتب أنه لن يشرب من خمر الجنة[3]، فهل معنى ذلك أنه لا يدخل الجنة؟ وأنه يخلد في النار؟ لا، وإنما يُحرم من هذا اللون من النعيم في الجنة.
وبعض أهل العلم كابن القيم -وقد يفهم هذا من بعض كلام شيخ الإسلام في بعض المواضع- يرى أن النعيم في الجنة ينقص بحسب حال الإنسان في الدنيا، وابن القيم لا يتقيد بما ورد في الأحاديث من أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، أو من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، يعني إن لم يتب، بل يرى أن من تعاطى شيئاً من هذه المحرمات في الدنيا عموماً فإن ذلك يكون نقصاً في نعيمه في الجنة، فيُحرم من نظيره، ولكن هذا الكلام لا دليل عليه، ومثل هذه القضايا لا يجري فيها القياس.
يبقى سؤال إذا وقفنا عند الأشياء التي ورد فيها النص كالخمر، والحرير إذا قلنا بأن الحديث يحتمل معنى آخر وهو أنه يُحرم من حرير الجنة، وليس معنى ذلك أنه لا يدخل الجنة، فمن مات وهو يلبس الحرير ولم يتب هل يخلد في النار؟ لا، فهذا الفهم الذي ذكره ابن الزبير من أنه لا يدخل الجنة لأن هذا هو لباس أهل الجنة يمكن أن يقال: إنه يُحرم هذا النوع من النعيم، ولقائل أن يقول: إن هذا من نصوص الوعيد فيجرى على ظاهره؛ ليحصل الردع والزجر، ولا يتعرض له بتأويل.
ومن أهل العلم من يؤول ذلك بأن هذا إن كان مستحلاً؛ فالمستحل يكفر، ولا حاجة إلى هذا لأن الحديث ليس فيه ذكر هذا القيد، فيبقى-والله تعالى أعلم- أن يقال: إن هذا من نصوص الوعيد، ولكن في مجالس العلم يحتاج الناس أن يفهموا هذا؛ من أجل أن لا يبنوا على ذلك لوازم فاسدة، كأن يقال –مثلاً: الذي يلبس الحرير في الدنيا ويموت على هذا يخلد في النار، فهذا لا يجوز، وكذا أن يقال: الذي يموت وهو يشرب الخمر ولم يتب فإنه يخلد في النار؛ لأنه لا يشرب من خمر الجنة، لا، بل يقال: إن ذلك يكون نقصاً في نعيم الجنة بإزاء هذه المقارفة.
هنا يرد سؤال هو أن نعيم الجنة نعيم عظيم وكامل فإذا كان لا يشرب من خمر الجنة فإنه يكون ناقص النعيم، والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين فكيف هذا؟ فيقال: كما أنه قطعاً أخبرنا الله عن تفاوت نعيم أهل الجنة ودرجاتهم، والنبي ﷺ أخبر عن هذا وأن الجنة درجات، وأن أصحاب الدرجات العالية يتراآهم أهل الجنة، كما يتراءى الكوكب الغابر في الأفق، ولا يكون ذلك نقصاً في نعيم من كان في مرتبة أدنى؛ لأنه يرى أنه ما أُعطي أحدٌ أفضل مما أعطي، فالجنة ليس فيها تنغيص، فيكون ما عنده من اللذات والنعيم والحبرة وما أشبه ذلك بحيث لا يحصل له شعور بنقص الراحة والسرور والنعيم في الجنة. هذا الجواب، والله تعالى أعلم.
أما مذهب عمر فهو يرى أن من توسع في المباحات يدخل في عموم قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20] وأن ذلك يكون على حساب حظه من الآخرة، فينقص نعيمه في الآخرة، ومرتبته بحسب ما حصل له من التوسع في اللذات، حتى الكلام في اللذات المباحة، فهذا مذهب عمر .
ومذهب عامة أهل العلم أن الإنسان إذا شكر النعمة وأدى حق الله فيها فإن ذلك لا يكون نقصاً في حقه، فالصحابة كصهيب الرومي، وغيره كما ورد في الآثار حينما يتذكرون من مات من إخوانهم، ولم يحصِّل ما حصَّلوا ولم تفتح عليهم الدنيا كانوا يخافون أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في الدنيا، والنبي ﷺ ذكر عن المجاهد في سبيل الله أنه إما أن يقتل في سبيل الله فيكون أجره وافيا على الله، وإما أن يرجع بما يرجع من أجر أو غنيمة، فهذا الأجر الذي يرجع به هل هو مثل الأجر الذي يحصل لذاك الذي قتل ولم يرجع، ويكون هؤلاء كما جاء في بعض الأحاديث أنهم قد تعجلوا شطر ثوابهم أو أجرهم أو جزائهم، فأهل العلم يتكلمون عن هذا..
وقوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [سورة الحج:24]، كقوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [سورة إبراهيم:23]، وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23، 24]،
وقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:25، 26] فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وقوله: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [سورة الفرقان:75] لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم: ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة آل عمران:181].
قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ هذه الآيات التي أوردها على نوعين منها ما يدل على أن ذلك السلام يصدر منهم، ومنها ما يدل على أن ذلك يصدر من غيرهم، أو أنهم لا يسمعون إلا التسليم –مثلاً، ولهذا قال هنا بعد قوله -تبارك وتعالى: وَالمَلاَئِكَةُ قال لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا هذا الذي يسمعونه، قال فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وجه هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أنه بمعنى هدوا إليه فلا يصدر منهم إلا الطيب من القول، ومن هذا القول الطيب الذي يصدر منهم السلامُ، وفي الآية التي ذكرها هنا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا يعني ما يوجب الإثم إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا قيلاً: يعني قولاً، سَلَامًا سَلَامًاحبب إلي من الدنيا النساء والطيب[4] ومعروف في أحوال الناس أن الرجل قد يسمع من هذه المرأة التي يعاشرها كلمة واحدة تتحول بسببها اللذة إلى تنغيص فيزهد فيها ولا يستطيع أن يعاشر، فكلمة تجرح مشاعره، والناس يذكرون مثل هذا، قد يذكره بعضُ مَن أكثرَ من الجواري، ومن الزوجات وهكذا أيضاً لربما كان الإنسان يأكل ولكنه إذا غلبه الغم أو امتَلأ قلبه بالغل لا يجد طعما للطعام.
القول بأن وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ يعني القرآن أو نحو هذا أو الأذكار المشروعة!! الجنة ليس فيها لا قراءة قرآن ولا أذكار إنما يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفَس، فالجنة ليس فيها تكاليف، ولكن هؤلاء العلماء قصدوا بذلك -والله أعلم- أن هذا في الدنيا هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كما ذكر الله هذا النعيم لأهل الجنة أنهم هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ في الدنيا، مع أن ظاهر السياق أن هذا من نعيمهم في الجنة، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ولكن كأن من فسره بأن هذا في الدنيا وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إذا قيل: لا إله إلا الله أو نحو ذلك، أن هذا كان في الدنيا وكان سبباً لهذا النعيم، وهكذا وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ أيُّ: هدايةٍ تكون في الآخرة؟ مع أن الله قال عن الشهداء: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4، 5] وقد قتلوا فكيف يهديهم؟
ولهذا يقال: الهدايات منها ما هو موجود في الدنيا، ومنها ما يوجد في الآخرة، فالهدايات التي توجد بعد الموت كثيرة، يُهدى الإنسان عند سؤال الملكين في القبر إلى الجواب إذا سئل عن المسائل الثلاث، وكذلك العبد أيضاً يحتاج إلى هداية حينما يقوم من قبره فيتوجه إلى محشره، فالله وصف خروج الناس من قبورهم كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43] ويحتاج أيضاً إلى هداية حينما يحاسبه الله فيلهم العبد الحجة، ويسدد، لم فعلت كذا؟ أو يقال له: فعلتَ كذا، رأيت شيئاً يجب عليك أن تغيره، فالنبي ﷺ أخبر أن العبد إذا ألهم الحجة، قال: ربي..
فالشاهد أنه يلهم الجواب الصحيح الذي يحصل له به الخلاص والنجاة، ثم إن الإنسان أيضاً يحتاج إلى هداية أخرى بعد ذلك إلى الصراط، ويحتاج إلى هداية على الصراط، ويحتاج إلى هداية أخرى إلى باب الجنة، ويحتاج إلى هداية إلى منزله في الجنة، ولهذا قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيصْلِحُ بَالَهُمْ والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [سورة يونس:9] وابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم، يعني هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ في الدنيا لما يكون سبباً لهذا النعيم، وكذلك أيضاً في الجنة، وظاهر السياق في الجنة وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ الصراط هو الطريق الواسع صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي: صراط الله وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي إلى طريق الله -تبارك وتعالى- فقد تكون الآية تشمل هذا الذي ذكره السلف جميعاً، والله أعلم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25].
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34].
وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية، كما قال في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاج ُأَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:217]، وقال: هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي: ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام مَن أراده مِن المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد:28] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا كما قال الله : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الفتح:25] كما وقع عام الحديبية، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ [سورة المائدة:2] فهذا كان معروفاً عنهم صد أهل الإيمان عن المسجد الحرام، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا من أن هذه الآية دليل على أن الآية مدنية باعتبار أن الآيات تدل على هذا، فهذا الصد عن المسجد الحرام إنما كان بعد الهجرة إلى المدينة، وسبق الكلام على أن هذه السورة فيها ما هو مكي، وما هو مدني.
وقوله -تبارك وتعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قبله: كفروا: هذا فعل ماضٍ، ويصدون: فعل مضارع، فعطف المضارع على الماضي، فيحتمل أن يكون المراد بهذا الفعل المضارع ويصدون معنى المضي، يعني وصدوا، وتبقى النكتة البلاغية، لم عبر بمضارع في شيء قد مضى؟ وهنا يمكن أن يقال: إنه يعبر بالمضارع عن الماضي لتصوير ما وقع كأنك تشاهده، قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ [سورة البقرة:91] وما قال: فلم قتلتم؟ والقتل وقع من زمن، من أجدادهم.
وأمثلة هذا كثيرة في القرآن، وإذا نظرت إلى كثير الخطابات التي خاطب الله -تبارك وتعالى- بها اليهود تجدها من هذا القبيل، تارة يكون ذلك للتشنيع، وتارة لبيان العظمة ولمعانٍ بلاغية، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحج:63] قال: تصبح، ولم يقل: فأصبحت، تصبح، كأنك تشاهد عملية النبات وهي تحصل، والإنبات خروج الزرع من الأرض، وهكذا.
ويمكن أن يقال هذا هنا -والله أعلم- ويصدون وكما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة النساء:167] فعبر بالماضي كفروا وصدوا فعطف الماضي على الماضي، وهنا في هذه الآية قال: ويصدون عن سبيل الله وعلى كل حال هم حينما نزلت هذه الآيات كان الصد مستمرا منهم، ولهذا يمكن أن يقال: إنه عبر بالمضارع لإفادة الاستمرار، فهذا أمرٌ مستمر، والصد متكرر جارٍ غير متوقف فعبر به.
وبعض أهل العلم يقول: الواو زائدة، وعليه تكون الجملة الفعلية: ويصدون خبر إن، فالتقدير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لكن هذا وإن قال به جماعة من أهل العلم إلا أن الأصل عدم الزيادة، ولاشك أن هذا أولى، ويمكن أن تحمل الآية على معنى واضح بلا تكلف من غير الدعوى بالزيادة، ولكن يبقى السؤال: أين خبر إنّ إذا قلنا: الواو غير زائدة؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تكون هذه صفة لهم، فأين خبر إنّ؟
بعضهم يقول: إنه مقدر بعد قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أي: خسروا وخابوا وهلكوا، وبعضهم يقول محذوف تقديره مثلاً: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ استئناسا بما يليها في قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وكذلك أيضاً الكفر والصد عن سبيل الله هو من جملة الإلحاد في الحرم، فيكون الخبر مقدراً نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
وبعضهم يقول: إن قوله: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ في الآية هو الخبر، وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن الله قال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فهذا جواب لهذا، فكيف يكون جواب الأول؟ والقول بأن الواو زائدة أيضاً لا يخلو من إشكال، وبعضهم يقول إن جملة يصدون خبر مبتدأ محذوف، وليست خبراً لإنّ والتقدير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهميَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فـ: الذين كفروا اسم إنّ، من الأسماء الموصولة، و"هم يصدون" هم: مبتدأ، والجملة الفعلية خبر، والمبتدأ والخبر -الجملة برمتها- في محل رفع خبر إنَّ.
نحن لا نشتغل بالإعراب لكن أحيانا حتى يتبين المعنى كما قيل: المعنى تحت الإعراب، والإعراب تحت المعنى، فما يتبين أحياناً المعنى إلا بالإعراب، فكيف تفهم هذه الآية إلا بالإعراب؟
قوله: كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يصدون الناس عن الإيمان واتباع النبي ﷺ، وقال وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني: يصدون عن المسجد الحرام، والمسجد الحرام هنا يحتمل ثلاثة أشياء: يحتمل أن يكون المراد به المسجد نفسه، مسجد الكعبة، ويحتمل أن يراد به مكة، ويحتمل أن يكون المراد به منطقة الحرم بكاملها، وهذا الخلاف سببه أن المسجد الحرام يطلق تارة ويراد به المسجد نفسه، وتارة يطلق ويراد به الحرم، ولذلك اختلفوا في الإسراء بالنبي ﷺ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الإسراء:1] هل أسري به من المسجد؟ أو أسري به من بيته أو من بيت آخر؟ باعتبار أن الحرم يقال له المسجد الحرام، وهكذا صلاة في المسجد الحرام[6] الاختلاف نفسه لهذا السبب.
وأما ذكر مكة هنا فمن أجل أن الله قال سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ البادي: هو الذي يبدو، أو الذي يطرأ عليه من غير أهله يقال له ذلك، وبعضهم يقول: هو من جاء من البادية، وليس هذا بلازم، لأن المعنى أوسع من هذا، فالطارئ عليه من غير أهله هو المقصود بهذا -والله أعلم، وهؤلاء الذين يأتون هم إما يأتون إلى المسجد، وإما يأتون إلى مكة، ولا يأتون إلى أرض الحرم في أماكن غير معمورة وغير مأهولة، وإنما يأتون لمكة سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ولهذا قال بعضهم: المقصود مكة؛ لهذا السبب، ولهذه القرينة التي في الآية، والكلام في هذا كثير جداً، ويترتب عليه مسائل.
فـسَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ سيأتي الكلام على تأجير بيوت مكة، وسواء يستوون في ماذا؟ إذا قلنا: إنه المسجد فلا إشكال، لأنه ليس لأحد فيه حق، ولا أحد أولى من أحد، فأهل مكة ليسوا بأولى من غيرهم بالمسجد، لكن هل يشمل ذلك منطقة الحرم بكاملها؟ أو مكة؟ فيستوي الناس فيها بحيث لا يجوز لأحد أن يؤجر ولا يبيع، فلا يستأثر بشيء دون غيره، مما زاد على حاجته، وتفتح البيوت ولا توضع لها أبواب، أو لا تغلق أبوابها، وكل من طرأ على مكة له أن يسكن حيث شاء، فهذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم يأتي الكلام عليه إن شاء الله.
- رواه مسلم برقم: (609) كتاب الطهارة –باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء.
- رواه البخاري برقم: (5110) كتاب الأطعمة –باب الأكل في إناء مفضض، ومسلم برقم: (5531) كتاب اللباس والزينة -باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.
- في مسلم برقم: (5336) عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة كتاب الأشربة -باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام.
- رواه النسائي برقم: (3939) وقال الألباني حسن صحيح.
- رواه مسلم برقم: (7331) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها –باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا.
- رواه ابن ماجه برقم: (1406) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها -باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي ﷺ وصححه الألباني.