السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
‏[14] من قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية 40 إلى قوله تعالى: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} الآية 48‏
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 4606
مرات الإستماع: 3342

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، قال الله تعالى:

وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [سورة الحج:40] أي: لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف.

لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم.

وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس.

وقال مقاتل بن حَيَّان: هي البيوت التي على الطرق.

وَبِيَعٌوهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها، وهي للنصارى أيضًا، قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قراءة نافع: ولولا دفاع، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، قال: أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف هذا القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع فيه بين الأقوال، فالآية تحتمل أن يكون المعنى" لولا أن يدفع بقوم عن قوم، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [سورة البقرة:251] لولا دفع الله -تبارك وتعالى- بقوم عن قوم لأهلك القوي الضعيف.

ويحتمل أن يكون وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني يدفع أهل الشر والفساد بقوم فيبقي الخير والشر بحال من التدافع، فيبقى للناس دينهم وعبادتهم، وهذا المعنى أيضاً تحتمله الآية بل قد يكون هذا المتبادر منها؛ لأن الله قال: لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وهذا الفساد في الأرض يشمل صور الفساد المتنوعة، هنا ذكر الله في هذه الآية لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ هذه أماكن العبادة ويحصل الفساد في الأرض بأن يهلك القوي الضعيف، ويحصل ذلك أيضاً بإظهار الفساد بأنواعه الفساد الأخلاقي، والاعتقادي وغير ذلك، ولكن الله من سنته أن يدفع هذا بهذا.

ومثل هذا سنته الجارية وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض [سورة محمد:4] وشرع الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيبقي الإيمان والكفر والخير والشر يعتلجان، فينكف كثير من الشر بسبب دفع أهل الإيمان، وقد يؤيد الله هذا الدين بالرجل الفاجر، قد يحصل مصالح بتدافع الكفار وذلك فيما يقع بينهم من تناقضات وتنافس وتضاد فينكف بعض الشر كما لا يخفى، وقد يكون ذلك بدفع المسلمين وأهل الإيمان، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ.

الحاصل أن ابن كثير هنا قال: لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف جمع بين القولين، وهذا الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، ومن هذا نعرف ما يجب علينا من مدافعة الفساد والمفسدين، قال: لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ الصوامع هنا قال: هي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم، الصومعة في اللغة: هي البناء المرتفع، فلان جالس في صومعة، يعني في بناء مرتفع، وهذا البناء المرتفع لا ينافي أن يكون صغيراً؛ لأن هذا يتخذه العابد أو الراهب متعبداً يمكث فيه، وينقطع فيه، لهدمت صوامع. 

وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية صوامع المجوس، والصابئون سبق الكلام عليها وأن الأرجح أن الصابئين طوائف وليسوا طائفة واحدة، فيوجد ممن يقال لهم هذا من يعبدون الكواكب، ولا زالت بقاياهم موجودة إلى اليوم في العراق، الصابئة، ويقال ذلك أيضاً: لقوم هم على الفطرة ليسوا بأهل إشراك؛ ولهذا كان المشركون يقولون لمن دخل في الإسلام: صبأ نسبةً إلى الصابئة لا يعبدون الأوثان، أو ربما يوجد طائفة من النصارى يقال لها أيضاً: الصابئة.

وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق، والظاهر من السياق أنها أماكن للعبادة، لهدمت صوامع: أماكن للتعبد صومعة الراهب، وَبِيَعٌ قال: وهي للنصارى أيضاً يعني الصومعة مكان صغير والبيعة مكان كبير كالمساجد، قاله أبو العالية، وقتادة والضحاك، وابن صخر ومقاتل وخصيف وغيرهم، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله- أن البيعة هي مكان التعبد الكبير أو الأوسع، والصومعة هي مكان للأفراد ينقطعون فيه للعبادة، والبيعة مثل المسجد، بمنزلة المسجد لهؤلاء، والعلم عند الله ، قال وحكى ابن جرير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود، وهذا لا يعارض قول من قال: إنها أكبر من البيع لكن هي اليهود أو النصارى أو كل هؤلاء يسمونها بيعة هذا قد لا يؤثر كثيراً، والمقصود أن هذه الأماكن جميعاً هي أماكن العبادة.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [سورة الحج:40]، قال الزجاج: تأويل هذا لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدم في كل شريعة نبي المكان الذي يصلى فيه"[1].

قد يقول قائل: وهل المحافظة على هذه الأماكن مطلب بحيث إن الله قرنها مع المساجد؟ فهذا القول يبين أن المراد بذلك زمن كل نبي من المدافعة، في زمن موسى وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لو لم توجد لهدمت أماكن التعبد، وأماكن التعبد في ذلك الوقت البِيعة مثلاً، أو الصلوات، وهكذا في زمن عيسى -عليه الصلاة والسلام، وفي الإسلام لهدمت المساجد، هذا المراد بهذا القول، كل زمن نبي تُهدم أماكن العبادة، ليس معنى ذلك أن هذه الأماكن شرعية في زماننا بعد بعث النبي ﷺ، وإن كان المسلمون لا يهدمون في حروبهم أماكن العبادة، ولا يقتلون العابدين، لكن يمنعون من تجديدها، ويمنعون من إحداث الجديد في هذه الأماكن التي يُعبد الله فيها على الضلال والكفر بعدما حرفت أديان الأنبياء، ونسخت شرائعهم.

وقال -رحمه الله: " فَلَوْلَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ الَّتِي كَانَ يُصَلَّى فِيهَا فِي شَرِيعَتِهِ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ الْمَسَاجِدُ.

وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْلَا دَفْعُهُ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْفَسَادِ بِبَعْضِهِمْ لَهُدِّمَتْ مُتَعَبَّدَاتُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَطَاعَتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ؛ لِأَنَّ صَلَوَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَصْحَابِهِمْ كَانَتْ فِيهَا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَأُخِّرَتِ الْمَسَاجِدُ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَهُمْ"[2].

يعني تنقطع الصلوات وهذا خلاف الظاهر؛ لأن الله قال: لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ فالعطف على ما قبله، ولا يحتاج هذا إلى تقدير لهدمت صوامع وبيع وتعطلت صلوات؛ لأن الأصل خلاف التقدير، فالأصل في الكلام الاستقلال وليس الإضمار.

وقال -رحمه الله: "وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّلَوَاتُ؛ صَلَوَاتُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ تَنْقَطِعُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ.

قَالَ الْأَخْفَشُ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ وَلَكِنْ تَحِلُّ مَحَلَّ فِعْلٍ آخَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: تُرِكَتْ صَلَوَاتٌ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: يُدْفَعُ عَنْ مُصَلَّيَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ"[3].

هذا القول بأن المقصود هدمت صوامع وبيع إلى آخره حيث يكون هؤلاء أهل الذمة فيدفع عنهم المسلمون، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ولكن هذا بعض ما يدخل في معنى الآية إذا وسعنا مدلولها، وعلى ما قبله يكون المراد بذلك في زمن كل نبي، فرق بين هذا وهذا.

وقال -رحمه الله: "وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْوَاقِعِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ -غَيْرَ الْمَسَاجِدِ- مَحْبُوبَةً مَرْضِيَّةً لَهُ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا دَفْعُهُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي كَانَتْ مَحْبُوبَةً لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ مِنْهَا مَا أَقَرَّ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْخُوطَةً لَهُ، كَمَا أَقَرَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ وَيَمْقُتُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ مَعَ بُغْضِهِ لَهُمْ.

وَهَكَذَا يَدْفَعُ عَنْ مَوَاضِعِ مُتَعَبَّدَاتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ يَدْفَعُ عَنْ مُتَعَبَّدَاتِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، فَهُوَ يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، كَمَا يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْ أَرْبَابِهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ"[4].

ابن القيم -رحمه الله- لم يحملها على أن المقصود بذلك في زمن كل نبي، وإنما ذلك جاء بحسب ما هو واقع، فالواقع أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض فتبقى لهم متعبداتهم، ولا شك أن أهل الذمة تسلم لهم متعبداتهم في بلاد المسلمين إذا أقروا بما يجب، والإسلام لم يهدم هذه الأماكن هدماً حسياً كالإغارة عليها، والمسلمون كانوا لا يقصدون هؤلاء ولا تلك الأماكن فإن دفعوا الجزية توفر لهم الحماية من قبل المسلمين فلا يتعدى عليهم أحد، ويبقى لهم تعبدهم وإن كانوا على باطل بحسب الشروط التي جرت بينهم وبين المسلمين، فابن القيم -رحمه الله- يبين أن مثل هذا لا يعني أن الله يحب هذه الأماكن، أو أنها أماكن شرعية، ولا يتوهم أحد أن متعبدات اليهود والنصارى حق، وأن الله أقرها، وذكرها في سياق واحد مع المساجد ليس هذا هو المراد، وإنما المراد الإخبار عن الواقع وإلا فقد جاءت النصوص الصريحة في بيان كفر هؤلاء وعداوتهم.

فالله يقول: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [سورة المائدة:73]، وقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدونَ [سورة المائدة:78]، وذكر أشياء كثيرة من كفر اليهود وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30]، وقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً [سورة المائدة:82] كل هذه الأشياء ذكرها الله وذكر غيرها، والحديث عن هؤلاء كثير في القرآن، فلا يجوز لأحد أن يرتاب في كفرهم وظلالهم، وأنهم أعداء لله ولأهل الإيمان، وأن هذه الأماكن التي يتعبدون بها هي أماكن باطلة، يُعبد الله فيها على الظلال، ولكن لا يجوز لأحد أن يتعدى عليها، ولا يجوز لهم أن يفتحوا شيئاً منها في بلاد المسلمين على سبيل الاستحداث، ولكن ما وُجد لا يُهدم، ولا يُرعى أو يرمم أو يعاد تشييده من جديد، فتبقى إلى أن تتلاشى.

وقال -رحمه الله: " قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مُوسَى- عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -َا: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ [سورة الحج:40] قَالَ: الصَّوَامِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ، وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ، وَالصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَأَخْبَرَنَا الْأَشَجُّ، حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَن دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ قَالَ: صَوَامِعُ وَإِنْ كَانَ يُشْرَكُ بِهِ! وَفِي لَفْظٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يذْكَرَ وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ.

وَفِي تَفْسِيرِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ: الصَّوَامِعُ لِلصَّابِئِينَ، وَالْبِيَعُ لِلنَّصَارَى، وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودِ، وَالْمَسَاجِدُ لِلْمُسْلِمِينَ"[5].

من أهل العلم من يقول بأن ذلك في زمن كل نبي، وهذا القول له وجه، وقاله جماعة من أهل العلم وذكره الزجاج من المفسرين، وقال به ابن عطية في التحرير -المحرر الوجيز، والقول الآخر بأن هذا بحسب الواقع، ولا يعني ذلك أن الله يحبها.

وقوله: وَصَلَوَاتٌ قال العوفي، عن ابن عباس: الصلوات: الكنائس، وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة: إنها كنائس اليهود، وهم يسمونها صلوات.

وقال أبو العالية، وغيره: الصلوات: معابد الصابئين.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: الصلوات: مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق، وأما المساجد فهي للمسلمين.

هذا يرجع فيه إلى الواقع، وكون هؤلاء يختلفون في زمن كانت هذه الأشياء فيه موجودة في البلاد المفتوحة وفي غيرها فيبدو -والله أعلم- أن هذا يشبه الاختلاف في غيره لقوله -تبارك وتعالى: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103]، وسبق الكلام على هذا، وكثرة الأقوال فيه، وأن المفسرين وأهل اللغة لم يتفقوا فيه على شيء حتى قال ابن جرير -رحمه الله- بأن هذه الأشياء كانت تصرفات لهم في هذه البهائم بغير حجة ولا برهان من الله -تبارك تعالى، ولم يرَ الدخول في التفصيل لكثرة الاختلاف فيه، وهكذا مثل هذه الأماكن بعضهم يقول: بأن الصلوات كلمة في أصلها معربة، هكذا يقول بعضهم: صارت معربة، ومثل هذا الأصل أن يقال: يرجع فيه إلى ما هو موجود والواقع، ولكن الذي يبدو أن هذا الواقع يصعب أن يحدد من خلاله المعنى لكل واحدة تحديداً دقيقاً قاطعاً وإلا لم يختلف هؤلاء الأئمة في تفسير ذلك.

وقوله: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا فقد قيل: الضمير في قوله: يُذْكَرَ فِيهَاعائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات.

هنا ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن المستفيض أن الصوامع للرهبان، هذا المستفيض عندنا، لكن المستفيض عندنا لا يحدد المعنى، كما تعرفون تغير كثير من الأشياء، ويقول: إن البِيع للنصارى والصلوات لليهود وهي كنائسهم، والمساجد للمسلمين، وابن جرير يرى بأن المستفيض هو أن الصوامع للرهبان، والبِيع للنصارى، والصلوات لليهود.

وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.

وقال ابن جرير: الصوابُ: لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.

المعنى الأول: يذكر فيها اسم الله كثيراً أن هذا الوصف عائد إلى الجميع، ومن أهل العلم من قال -كما سبق: إن ذلك في زمن كل نبي فهذا لا إشكال فيه، فهي أماكن لذكر الله كثيراً، ومن قال: إن ذلك إنما هو بحسب الواقع، فابن جرير -رحمه الله- قال: ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً، فيكون الذكر الكثير في المساجد، فإذا قيل بأن ذلك بحسب الواقع فهل معابد اليهود ومعابد النصارى يذكر فيها اسم الله تعالى كثيراً؟ فكنائسهم مكان للرقص والشرك ومحادة الله ، فإذا قلنا: في زمن كل نبي، فهذا يعود إليها جميعا، والله أعلم.

وقال بعض العلماء: هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عُباداً، وهم ذوو القصد الصحيح.

يعني تبقى الصومعة للراهب يتعبد وينقطع بها، ثم بعد ذلك البيعة، ثم بعد ذلك الصلوات ثم المساجد على هذا القول.

وقوله: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:7، 8].

وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ وَصَف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:171-173]، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21].

نعم هذا التعقيب لقوله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ بعد أن قال: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ في غاية المناسبة وذلك أنه بين -تبارك وتعالى- سنته الجارية في المدافعة بين الناس، وبين الحق والباطل، والخير والشر، ثم بعد ذلك بين أن معونته ونصره وتأييده يكون لمن نصَرَه، ونصْرُه -تبارك وتعالى- إنما يكون بنصر دينه الصحيح، فالصراع قائم وهو مستمر إلى أن يصير الناس في آخر الزمان إلى الحال التي وصف النبي ﷺ وأخبر حينما تأتي الريح الطيبة بعد عيسى ﷺ بزمان، ثم تأخذ أرواح المؤمنين، وعند ذلك لا يبقى في الأرض من يقول: الله، الله، فما قبل هذا يبقى هذا الصراع والتدافع.

فالمؤمن يختار أن يكون في ركاب أهل الإيمان، ويكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ناصراً لدين الله ، وهؤلاء هم الذين وعدهم الله بالنصر، ويبقى آخرون يجلبونهم من خيل الشيطان ورجِلِه، فكل راكب في معصية فهو من خيله، وكل ماشٍ إلى ضلاله فهو من رجله، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [سورة الإسراء:64]، والإنسان حارث وهمام، فعنده الهم يهم بالشيء، والإرادة، وعنده أيضا العمل: أصدق الأسماء حارث وهمام[6].

وإن كان فيه ضعف، لكن المقصود أن هذا المعنى يصدق على الإنسان ويصور حاله وواقعه، فإما أن تكون إرادته وعمله وسعيه في نصر دين الله ، وإما أن يصرف هذه الطاقة في معصيته، وهكذا الكاتب يصرف قلمه في الدعوة والذب عن الحق، أو قد يسلط كتابته وقلمه في السخرية من أهل الإيمان، ومن شرائع الله ، وإلى ما يسخط ربه -تبارك وتعالى- فيكون حرباً على الإسلام والمسلمين سواء كان صاحبه من المنافقين أو من غيرهم.

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ [سورة الحج:41].

وروى ابن أبي حاتم عن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فأُخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا: "ربنا الله"، ثم مُكنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي.

القول بأن هذه الآية نزلت في كذا، أو نزلت هذه الآية فينا المقصود بذلك غالباً التفسير، وليس سبب النزول، بمعنى أن هذا ما تصدق عليه الآية، وتنطبق عليه، وهذا صحيح، لا إشكال أن أصحاب النبي ﷺ أولى الناس دخولاً في هذه الآية، لكن ذلك لا يختص بهم دون غيرهم، وإنما هو وعد أو وصف لكل من كان بهذه المثابة في أي زمان، وفي أي مكان، فهذا كأنه بيان وتفصيل لما قبله من قوله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ مَن هؤلاء الذين ينصرهم وهم ناصروه؟ قال: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ، فكان من كان بهذه المثابة، فهؤلاء هم أولياء وهو ناصرهم ومؤيدهم سواء كان ذلك في ميدان القتال، أو كان ذلك في مقام الحجة والبيان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إن ابن عباس يقول عن الآية: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ [سورة الأنفال:65] ثم بعد ذلك لما نسخ هذا قال الله : فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة الأنفال:66] قال: أرى أن ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني أنه داخل فيه كما أنه في القتال، وكذلك أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيدفع الله بهؤلاء -وإن كانوا قلة- شراً كثيراً.

وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد ﷺ.

وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ الآية، ثم قال: إلا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولَّى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها.

وقال عطية العوفي: هذه الآية كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ [سورة النور:55].

وقوله: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ، كقوله تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة القصص:83].

وقال زيد بن أسلم: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِوعند الله ثواب ما صنعوا.

هي وصف لهذه الطائفة التي ينصرها الله : وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ فبالنسبة لمن بسط الله يده يكون ذلك بإقرار ذلك بالناس وبحملهم عليه، وبفعله بنفسه، ويكون ذلك وصفاً للجماعة المؤمنة، تكون بهذه المثابة تقيم الصلاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤتي الزكاة.

وقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ابن جرير -رحمه الله- يربط هذا الجزء أو هذه الآية بقوله -تبارك وتعالى- قبله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [سورة الحج:39]، وهنا قال: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ .

وقيل: إن ذلك يرتبط بما قبله مباشرة وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وعلى قول ابن جرير -رحمه الله- يمكن أن تتوجه الأقوال التي مضت عن بعض السلف من أن ذلك في أصحاب محمد ﷺ؛ لأنه قال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ هذه الأوصاف المحددة لقوم أُذن لهم بالقتال بأنهم ظلموا، وحمل الآية على ما هو أعم من هذا قد يكون أولى، والله أعلم.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۝ وَقَومُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ۝ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْت ُللكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۝ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ۝ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:42-46].

يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا ﷺ في تكذيب من خالفه من قومه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى أن قال: وَكُذِّبَ مُوسَى أي: مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات.

قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۝ وَقَومُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ۝ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ، ثم قال: وَكُذِّبَ مُوسَى قوم موسى الأصل هم بنو إسرائيل، فهل كذب بنو إسرائيل موسى ﷺ؟ الجواب: لا، فهنا جاء الفعل مبنياً للمجهول، فبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول: إن ذلك من أجل أن الذين كذبوه هم القبط، فقومه وهم الإسرائيليون لم يكذبوه، فقال: وَكُذِّبَ مُوسَى بني الفعل للمجهول.

فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ أي: أنظرتهم وأخرتهم، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي: فكيف كان إنكاري عليهم، ومعاقبتي لهم؟!

نكير اسم مصدر بمعنى الإنكار، أي فكيف كان إنكاري وأخذي لهم؟!

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[7] [سورة هود:102].

ثم قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أي: كم من قرية أهلكتها وَهِيَ ظَالِمَةٌ أي: مكذبة لرسولها، فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَاقال الضحاك: سقوفها.

العرش يعني السقف، خاوية على عروشها، جنات معروشات يعني وضُع لها سقوف خشب مثل الأعناب يوضع لها سقوف، فهي خاوية على عروشها أي على سقوفها.

أي: قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها.

خاوية على عروشها يعنى أنها صارت متهدمة قد سقطت حيطانها على سقوفها، فالعروش هي السقوف، خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني متهدمة هذا من حيث ظاهر المعنى أخذاً من ظاهر اللفظ، ومثل هذا يعبر به عما هو أوسع من ذلك، يعبر به عن الخراب بمعناه الأعم، خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا بمعنى أنها قد هُجرت وتركت وعطلت فلا ينتفع بها، وليس فيها ساكن، خاوية على عروشها بعد أن كانت عامرة بأهلها مزدهرة، تركت وهجرت ولم يعد ينتفع بها أحد خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ظاهر اللفظ أنها على سقوفها، والمعنى الأوسع من هذا أن يكون المراد أنها قد هجرت وتركت ليس فيها أحد، أو قد هلك أهلها فصارت خراباً.

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: لا يستقى منها، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها.

وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال عكرمة: يعني المُبَيّض بالجص.

قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي لا يستقي منها ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها يعني المدينة التي أهلكت أو القرية قد خلت من أهلها وتهدمت تساقط بنيانها وتلك البئر التي كانوا يزدحمون عليها لم يعد يرِدها أحد.

ويحتمل أن يكون المعنى كما قال طائفة من أهل العلم: إن الله يصور أحوال الأمم المهلَكة، وما حل بهم فذكر القرى التي أنزل بها بأسه فهي خاوية على عروشها قد هلك أهلها وتهدم بنيانها، ثم ذكر حالة أخرى مثل بئر ليست بهذه المدينة على وجه الخصوص، وإنما بئر أخرى قد عذب أهلها فهلكوا فبعد أن كانوا يرِدون هذه البئر ويستقون منها ويزدحمون عليها صارت معطلة، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا فيكون كأنه يقول: فكأين من بئر، فيكون معطوفاً على قرية، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ يعني يكون معطوفاً على قرية، فكأين من قرية، وكأين من بئر، فتكون حالات منفصلة، قرية نزل بها العذاب فحل بها الدمار وخلت من أهلها، وكم من بئر كان يردها واردون كثيراً، فلما نزل بهم بأس الله صارت تلك البئر معطلة لا يستقي منها أحد، ويحتمل أن يكون هذا مرتبطاً بالمعنى الذي ذكر قبله، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

وَقَصْرٍ مَشِيدٍقال عكرمة: يعني المُبَيّض بالجص.

الجص مثل النُّورة، الأسمنت الأبيض معروف، الأسمنت الأبيض جص، والمنازل كانت تطلى به إلى عهد قريب جداً، ويوجد إلى الآن لكن بصورة أكثر تطوراً، فالبيوت التي تكون من الطين عادة تطلى بالجص، فبحسب حال هذه البيوت وحال أهلها من اليسار، فقد يكون الطلاء بالجص فقط أقل من متر بالأسفل من الداخل، وأعالي البنيان؛ ليكون ذلك أولاً للزينة، وأحفظ له من أجل أن يتماسك إذا نزل عليه المطر، وإذا كان الناس هؤلاء عندهم إمكانية أكثر فإن هؤلاء قد يطلونه على الأقل من الداخل، يطلون جميع الجدران بالجص، وقد يكون هؤلاء بصورة أكثر عناية فيضعون على السقوف من أسفل يعني بدلاً من أن يوضع الآن الجبس أو السقف المستعار كما يقال كانوا يضعون مثل الشراع خرقاً تغطي السقف الذي هو من خشب، وهذا موجود إلى عهد قريب، ولعل بقاياه ما زالت موجودة، فالحاصل أن هذا يكون في البيوت حينما تنمق وتزين، والقصر يقال لِمَا كان مبنياً من الحجارة، فالقصر المشيد كلمة مشيد يقال ذلك لِمَا شيد بالجص، والنهي عن تشييد المساجد اختلف العلماء في المراد به فبعضهم حمله على هذا التشييد على الجدران، ويحتمل أن يكون ذلك برفع البنيان، بناء مشيد أي مرتفع، فيحتمل هذا وهذا، قصر مشيد يعني الذي قد ارتفع، أو الذي قد وضع فيه الجص أو زين به قال: يعني المبيَّض بالجص.

وروي عن علي بن أبي طالب، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المَلِيح، والضحاك، نحو ذلك.

وقال آخرون: هو المَنيف المرتفع.

وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين.

وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يَحْمِ أهلَه شدةُ بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78].

قال ابن جرير -رحمه الله تعالى: " القول في تأويل قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون؛ يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يُعبد، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه، وقوله: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يقول: فباد أهلها وخلت، وخوت من سكانها، فخربت وتداعت وتساقطت على عروشها; يعني على بنائها وسقوفها"[8].

وقال -رحمه الله: "وقوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، يقول تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ومن بئر عطلناها بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فاندفنت وتعطلت، فلا واردة لها ولا شاربة منها، ومن وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع بالصخور والجصّ[9].

يعني تكون هذه حالة ثالثة.

وقال -رحمه الله: " قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم، فبادوا وبقيت قصورهم المشيدة خالية منهم"[10].

 قال محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيراً من القرى في حال كونها ظالمة أي: بسبب ذلك الظلم، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها.

وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية جاء موضحا في آيات كثيرة"[11].

والشنقيطي -رحمه الله- يرى أن قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف على قرية كما سبق، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه هكذا.

وقال الشنقيطي -رحمه الله: "والظاهر أن قوله: وبئر معطلة معطوف على قرية أي: وكأين من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل، وفي هذه الآية وأمثالها تهديد لكفار قريش الذين كذبوه ﷺ"[12].

وقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ أي: بأبدانهم وبفكرهم أيضا، وذلك كافٍ، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار:

قال بعض الحكماء: أحْيِ قلبك بالمواعظ، ونَوِّره بالفِكْر، ومَوِّته بالزهد، وقَوِّه باليقين، وذَلِّلْهُ بالموت، وقرِّره بالفناء، وبَصِّره فجائع الدنيا، وحَذِّره صولةَ الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا، وأين حَلُّوا، وعَمَّ انقلبوا.

أي: فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال.

السير في الأرض يشمل هذا وهذا، ولهذا يقول الله في سورة السجدة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُم ْأَفَلَا يُبْصِرُونَ [سورة السجدة:27]، وقال: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [سورة السجدة:26]، فذكر السمع هنا أَفَلَا يَسْمَعُونَ؛ لأن مثل هذا تُتلقى أخباره فيه بما قص الله ، أو بما يتناقله الناس جيلاً بعد جيل، وأما آثار المطر فهي أشياء مشاهدة بالنسبة إليهم، فالسير في الأرض يكون بالتفكير والاعتبار، سير القلب والنظر بما حل بهؤلاء المكذبين، ويكون بالبدن بحيث يبصر الإنسان بعينه آثارهم كما قال الله : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ [سورة الصافات:137، 138].

فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أي: فيعتبرون بها، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِأي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر، وما أحسن ما قاله أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشَّنْتَريني، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:

يا مَن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء، وقَد نَادَى به الناعيَان الشيبُ والكِبَرُ
إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى، ففيم تُرَى في رَأسك الوَاعيان السمعُ والبَصَرُ
ليسَ الأصَمُّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل لم يَهْده الهَاديان العَينُ والأثَرُ
لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا وَلا الفَلَك الـ أعلى ولا النَّيِّران الشَّمْسُ وَالقَمَرُ
لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا، وَإن كَرِهـ ـا فرَاقَها، الثاويان البَدْوُ والحَضَرُ.

لا شك أن العمى الحقيقي هو عمى البصائر كما جاء عن ابن عباس -ا:

إنْ يأخذِ اللهُ مِن عينيَّ نورهَما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ

وكما قال الآخر:

إذا أبصرَ المرءُ المروءةَ والتُّقى فإنّ عمى العينينِ ليس يضيرُ

فالعمى هو عمى القلب سواء كان ذلك العمى بالعمى عن الحق والهدى، فيكون شغله وعمله وكدحه فيما يرديه، ويضره، أو كان ذلك بأخذ نور القلب فيكون الإنسان مثل البهيمة، يعني إذا ارتفع عنه العقل يكون مثل البهيمة فيقع على الحية ويقع على البئر، ويقع على النار، ولا يميز مع أن له بصراً في عينه لكنه لا ينفعه، وقد تجد الإنسان الذي قد ذهب بصر عينه يرجع ذلك إلى قلبه فيكون ذلك سببا للقوة في الإدراك والفهم والحفظ، فيحصل له من العلم الشيء الكثير ويكون عنده من المعرفة بمصالحه، بل حتى في مشيه وتقبله لربما يكون كالمبصر، وهو يمشي ويجتنب الحفرة، وأشياء عجيبة تقع من هؤلاء مع أن بصره مفقود.

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ۝ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة الحج:47، 48].

يقول تعالى لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ أي: هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16].

وقوله: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: الذي قد وَعَد، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه.

يعني هنا الله يقول وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وعده بإقامة الساعة مثلاً، وتعذيب الكفار، والإنعام على أهل الإيمان، ويحتمل أن يكون وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ هو ما وعدهم يعني أن العذاب الذي يستعجلونه هنا وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ يعني الدنيوي فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [سورة فصلت:13]، وهم يقولون: أين هذا العذاب الذي تعدنا؟

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ يعني الذي وُعدوا به في الدنيا، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني من تعذيبهم مثلاً، ويحتمل أن يكون العذاب الذي استعجلوه هو العذاب الأخروي وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا [سورة ص:16] يعني نصيبنا من العذاب، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ بإقامة الساعة، وتعذيبهم، وذلك حاصل لا محالة، وهم استعجلوا العذاب الأخروي، واستعجلوا العذاب الدنيوي وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32] استعجلوا بعذاب الدنيا، واستعجلوا بعذاب الآخرة، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني أن ذلك سيحصل ويقع في الوقت الذي حدده الله .

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرى أن العذاب الذي يستعجلون به هو العذاب الدنيوي.

وقوله: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي: هو تعالى لا يَعْجَل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإنْ أجَّل َوأنظَر وأملى.

يعني هذا يتطاول بالنسبة للمخلوقين يطول ويتناهى صبرهم وينقضي في مدد قصيرة يعني إذا حصل لهم كرب وشدة أو غلبة من قبل أعدائهم لربما ظنوا أن هذا هو نهاية المطاف، وأن هذه الكربة ليس لها من الله كاشفة، وإنما المسألة مسألة وقت هذا يستمر مائة سنة، وقد يستمر أكثر، ولكن كل شيء له نهاية، فالله  يختلف عنده الحساب والمقادير عن الحساب والمقادير عند المخلوقين، ففي زمن فرعون من كان يظن أن فرعون وما كان له من القوة والغلبة والتسلط والجبروت أن هذا سيكون خبراً بعد عين؟ من كان يظن في ذلك الزمان؟ والله قال: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس:92]، كأن هؤلاء الناس لن يصدقوا، يعني بقي النساء والخدم، وهذا يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فهؤلاء سيصدقون أنه فعلاً هلك، تركه لهم من أجل أن يشاهدوه ويتحققوا من أنه كيف كان صاغراً ذليلاً، وأنه مخلوق مربوب لله .

وهذا لا يعني ما يزعمه اليوم من يقول: إن المراد أن هذا المحنط هو فرعون موسى الذي غرق، وهذا معنى لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ولكن أين هذه القرون من بعد الإغراق؟ في التابوت في الهرم لماذا لم يره الناس؟ ويكون آية لهم طول هذه القرون الطويلة، وحينما نزلت الآيات أين كان؟ هذا المقصود أن مثل هذه الأشياء لا نصدقها ولا نحمل كلام الله فيها.

فالحاصل أن الإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأمور يعتبر، فالحروب الصليبية لما جاءت استمرت وقتاً، ثم بعد ذلك التتر لما جاءوا بحملاتهم المتتابعة الناس الذين كانوا يعيشون في ذاك الوقت لربما يظنون أن هذا هو نهاية كل شيء، فالخليفة ذبح، وبغداد خربت، ولم يبق أمامهم إلا جند الشام ومصر، اكتسحوا، مذابح من بخارى وتلك البلاد، وسمرقند، يحصرون بين جبلين سبعين ألفاً من الجند ويقتلونهم، ولكن أين التتر الآن؟ وأين هولاكو؟ وأين تيمورلنك؟ وقل مثل ذلك في بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس إلى الهند إلى البلاد الشاسعة الواسعة إلى جزرهم في أوروبا قبضة وتلاشت ورجعت إلى حجمها الحقيقي. 

وهذا العصر أقول: مَن خلَفَهم من الأمريكان بهذا الانهيار الذي نشاهد أوائله الآن، وروسيا في نحو سبعين سنة إذا كنتم رأيتم بعض الصور للمذابح التي قاموا بها، تحمل الجثث بالجرافات، شحن ضخم ملايين من البشر قتلوهم، وشهد ذلك الجيل نهايتها، وحل بهم ما حل، وهذا وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ولذلك انظر الآن حتى المقاييس بالنسبة للنائم أو الميت، النائم يمضي عليه ثلاثمائة سنة أو نحو هذا كأصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات، فلما استيقظوا قالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة المؤمنون:113]، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة البقرة:259].

فالشاهد أن الله أماته مائة عام ثم بعثه قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، والإنسان إذا أراد أن يقضي الوقت بسبب العطش أو الجوع أو الصيام أو الحزن أو غير ذلك ينام، فيمضي اليوم الكامل الذي تتطاول ساعاته كأنه لحظة، وهكذا أهل القبور يكون ذلك بالنسبة إليهم وقتاً يسيراً.

الله أماته مائة عام ثم بعثه قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، والإنسان إذا أراد أن يقضي الوقت بسبب العطش أو الجوع أو الصيام أو الحزن أو غير ذلك ينام، فيمضي اليوم الكامل الذي تتطاول ساعاته كأنه لحظة، وهكذا أهل القبور يكون ذلك بالنسبة إليهم وقتاً يسيراً.

ولهذا قال بعد هذا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام[13] .

ورواه الترمذي والنسائي، من حديث الثوري، عن محمد بن عمرو، به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وروى أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه عن سعد بن أبي وَقاص، عن النبي ﷺ أنه قال: إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها، أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة[14].

قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله: " بيّن -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده -جل وعلا- كألف سنة مما يعده خلقه، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَان َمِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة:5]، وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة، وذلك في قوله: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4]، فآية الحج، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى، وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا، وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنذكره إن شاء الله هنا ملخصاً مختصراً، ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه.

فقد ذكرنا ما ملخصه: أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كُلًّا من ابن عباس، وسعيد بن المسيب، سئل عن هذه الآيات: فلم يدرِ ما يقوله فيها، ويقول: لا أدري، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين:

الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج: هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة.

الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر; لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ۝ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر:9، 10] اهـ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان.

وذكرنا أيضا في كتابنا: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [سورة الفرقان:24] ما ملخصه: أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل القيلولة أو مكانها -وهي الاستراحة- نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية على ذلك، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.

وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار، كما ورد في حديث "انتهى منه"، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك.

والظاهر في الجواب: أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [سورة الفرقان:26]، فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك، وقوله تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ۝ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [سورة القمر:8]"[15].

لو حُسب من آدم ﷺ إلى يومنا هذا ما تبلغ عُشر ألف سنة، وربما لا تصل إلى ثُمن ألف، ويوم القيامة خمسون ألف سنة.  

  1. أحكام أهل الذمة، لابن القيم (3/ 1168).
  2. أحكام أهل الذمة، لابن القيم (3/ 1168-1169).
  3. المرجع السابق (3/ 1169).
  4. المرجع السابق (3/ 1169-1170).
  5. أحكام أهل الذمة (3/ 1170).
  6. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء، برقم (4950)، وأحمد في المسند، برقم (19032)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة عقيل بن شبيب"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (1977).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة هود، برقم (4409)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2583).
  8. جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام الطبري (18/ 652).
  9. المصدر السابق (18/ 652).
  10. المصدر السابق (18/ 654).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (5/ 269).
  12. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ الشنقيطي (5/ 270).
  13. رواه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم (2353)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب منزلة الفقراء، برقم (4122)، وأحمد في المسند، برقم (9823)، وقال محققوه:"حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (3189).
  14. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب قيام الساعة، برقم (4350)، وأحمد في المسند، برقم (1465)، وقال محققوه: "حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4246).
  15. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 277-279).

مواد ذات صلة