بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة الحـج:75، 76].
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدَره، ومن الناس لإبلاغ رسالته، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، أي: سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124].
وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة الحـج:76]، أي: يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، كما قال: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إلى قوله: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [سورة الجن:26- 28] فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] الآية.
قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحـج:75] يصطفى من الملائكة، أي: يختار من يكلفهم برسالاته، كما قال الله -تبارك وتعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [سورة فاطر:1]، وهكذا أيضاً اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فهؤلاء يبلغون رسالات الله -تبارك وتعالى- إلى أنبيائه ورسله، كما أنه أيضاً قد يرسل رسلاً ويكلفهم بما شاء، كما قال الله : وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً [سورة الأنعام:61].
والضمير كما هو ظاهر في قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة الحـج:76] يرجع للمذكور قبله وهم الرسل، والله يعلم أحوال خلقه لا يخفى عليه خافية يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255]، هذا في عموم الخلق، وهذه الآية في الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يرسلهم من الملائكة، ومن الآدميين يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أي: يعلم أحوالهم وما يقولون وما يجيبهم به أقوامهم، وهو يحفظهم ويكلؤهم ويرعاهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [سورة الحـج:77، 78].
عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ: فُضلت [سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما[1].
وقوله: وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ، أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.
حديث عقبة بن عامر مرفوعاً فيه ضعف، والسجود كما هو معلوم لا يجب، ومن ترك سجود التلاوة فلا حرج عليه.
وقوله -تبارك وتعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ قال: أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102]، بمعنى: أن ذلك مقيد بالاستطاعة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [سورة التغابن:16] فقوله -تبارك وتعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أو وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ ليست بمنسوخة وإنما هي محكمة، ولكن ذلك مقيد بالاستطاعة، حيث إن الآية الأخرى توضحها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [سورة التغابن:16].
ومن أهل العلم من أطلق النسخ وقد يريد به التقييد أو التخصيص، كما هو معلوم أن السلف يطلقون النسخ كثيراً، ويقصدون به ما يعرض للنص العام من تخصيص وللمطلق من تقييد بل وللمجمل من بيان، فكل يقال له نسخ، إضافة إلى ما عرف عند المتأخرين على سبيل التحديد بالنسخ وهو الرفع، فكل ذلك يقال له نسخ في لغتهم، وعلى كل حال بعض المتقدمين أطلق النسخ هنا وقصد به معنى الرفع، وهو معنى لا ينكر، والأقرب أن الآية ليست بمنسوخة، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102] بمعنى بحسب قدرتكم واستطاعتكم.
قال ابن القيم -رحمه الله: "وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره وارتكاب نهيه، فإنه يعِد الأماني ويمنِّي الغرور، ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء، وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر وأخلاق الإيمان كلها، فجاهِده بتكذيب وعده ومعصية أمره فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعُدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله لتكون كلمة الله هي العليا.
واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد فقال ابن عباس: هو استفراغ الطاقة فيه وألا يخاف في الله لومة لائم، وقال مقاتل: اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته، وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى، ولم يصب من قال إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق، وحق تقاته وحق جهاده هو ما يطيقه كل عبد في نفسه وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل، فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء، وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78]"[2].
وقوله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ أي: يا هذه الأمة، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ.
أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث.
هذا ما جاء في عدد من الأحاديث، بعض هذه مخرج في الصحيحين، وسبق الكلام على هذا في التعليق على هذا الكتاب، وكذلك أيضاً في الكلام على الفقه -شرح كتاب المقنع- بصورة أوسع.
وعلى كل حال ظاهر بعض الأحاديث أن صلاة الخوف يمكن أن تقصر إلى ركعة واحدة، بل ذهب بعض الأئمة إلى أكثر من هذا، والمسألة فيها خلاف معروف، والمقصود هنا التمثيل، وليس المقصود به التحقيق والكلام عن الفقه في هذا الموضع، وبيان ما يتعلق بصلاة الخوف، إنما هو مثال سواء قلنا: إنه تقصر الرباعية إلى ركعتين أو يمكن أن تكون ركعة واحدة، والتوسعة والتخفيف قد بنيت عليه هذه الشريعة كما قيل: قد أسس الفقه على رفع الضرر، والمشقة تجلب التيسير، فهذه إحدى القواعد الخمس الكبرى، وأدلة ذلك كثيرة جداً، فالله -تبارك وتعالى- رفع الأغلال والآصار، وهي التكاليف الثقيلة الشاقة التي كانت على الأمم أو على بعض الأمم السابقة، لاسيما على بني إسرائيل وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157]، وهذا في سائر الأبواب، التوبة المعروفة المشهورة في التاريخ التي كتبها الله على بني إسرائيل لما عبدوا العجل، قال: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] فأمرهم بأن يقتل بعضهم بعضاً كانت تلك هي توبتهم، أما هذه الأمة فيكفي الإنسان أن يحقق في التوبة الشروط المعروفة، فيتوب الله عليه.
وكانت اليهود إذا وقعت النجاسة على ثوب أحدهم فإنه يقطع الثوب، والمرأة الحائض لا تؤاكل ولا تجالس، وقل مثل ذلك في أمور كثيرة.
أما في شريعتنا فقد جاءت الرخص الكثيرة للمسلم، فالإنسان إذا كان مسافراً أو مريضا فله أن يفطر في رمضان، والصلاة تقصر للمسافر، ولم يكلف الله هذه الأمة بما لا طاقة لها به في قوله - تبارك وتعالى: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ [سورة البقرة:286] الشاهد أن الله قال: قد فعلت، ولهذا يقول الله : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78] فهذا شامل لسائر الأبواب لا يختص بباب، وما تجدونه في بعض كتب التفسير من أقوال السلف أو بعضهم في ذكر بعض هذه الصور أو الاقتصار على واحدة منها إنما ذلك من قبيل التوضيح والتفسير بالمثال لا الحصر، لا يقصدون به الحصر فهو عام.
هذا الحديث بهذا اللفظ فيه ضعف هو حديث مرسل، ولكن الحديث الآخر حديث ابن عباس -ا- وهو عند البخاري تعليقاً، وقد رواه الأمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة[4] يؤدي هذا المعنى تماماً.
أصل الحرج الضيق يقال هذا مكان حرج، وفلان في حرج، ويقال للشجر الكثيف الملتف حرجة، ولذلك يقال للمكان الذي يكمن فيه الأسد حرجة، وتجدون في السير في قصة غزوة بدر، قالوا: إن أبا الحكم -أي أبا جهل- كالحرجة، أي: أن حوله الرجال يحملون الرماح، فلكثرتهم حوله صار كالحرجة -الشجر الملتف- كما يقول كعب بن زهير في القصيدة المشهورة التي يمدح فيها رسول الله ﷺ:
مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ | مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غيلُ |
فالغيل هو المكان الذي يكمن فيه الأسد، ويقال له حرجة، فقوله –تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يعني: من ضيق، هذا تفسير له بالمعنى المباشر الذي تدل عليه اللغة، وما سبق إنما هو بيان للمقصود بالآية وتطبيقات ذلك من الشريعة.
هذا أيضا قال به الفراء، أي: كملّة أبيكم إبراهيم، فيكون نُزع منه الخافض الذي هو حرف الجر "الكاف".
ويكون منصوباً بفعل مقدر محذوف، أي: الزموا ملة أبيكم إبراهيم، ويمكن أن يكون النصب على الإغراء، وبعضهم يقول: إن النصب هنا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله، وسّع عليكم دينكم توْسعة مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَفليس فيها حرج، إنما الأغلال حصلت للإسرائيليين مثلاً بسبب جناياتهم وذنوبهم وعتوّهم على الله -تبارك وتعالى- كما قال الله : فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء: 160].
وهكذا قال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام: 146]، فهذا في غاية العسر، فحينما يأتون ويفحصون هذه الأشياء لاشك أن في هذا حرجاً كبيراً عليهم، وتجد هؤلاء لما ضاقوا بهذا الحرج ذهبوا وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها.
وبعضهم يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ أي: اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، إنما يذكر هذا؛ لأن الإعراب هنا متصل تماماً بالمعنى.
هذا الذي عليه أكثر السلف والأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فأقرب مذكور هو إبراهيم ﷺ ولكن هناك قاعدة أخرى وهي أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فكون الضمائر ترجع إلى شيء واحد أولى من أن تقول هذا يرجع إلى كذا، وهذا يرجع إلى كذا، فإذا نظرت من بداية سياق الآيات فقد قال –تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ... [سورة الحـج:73].
ثم قال تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَع ُالأمُورُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكم ْوَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ... [سورة الحـج:74-78]، فكل الضمائر ترجع إلى الله –تبارك وتعالى- وكون الضمائر ترجع إلى واحد أولى من أن يقال هذا يرجع إلى كذا، وهذا يرجع إلى كذا، ومثلنا على هذا بأمثلة متنوعة كقوله -تبارك وتعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفتح:9].
فمن أهل العلم من قال: الضمير في قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ يرجع إلى النبي ﷺ المذكور قبله، ومن أهل العلم من قال: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، أي: الله، وَتُسَبِّحُوهُ أي: الله، فالضمائر كلها له، والله أعلم.
قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر وَفِي هَذَا يعني: القرآن، وهذا أيضاً اختيار كبير المفسرين ابن جرير هُوَ سَمّاكُمُ أي: الله، هذا الذي عليه عامة السلف، فالله هو الذي سمانا وليس إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهذا القول اختاره ابن كثير بناءً على القاعدة.
قال الشنقيطي -رحمه الله: "قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا، اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ "هو" من قوله: هُوَ سَمَّاكُمُ فقال بعضهم: الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، وهذا القول مروى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعطاء، والضحاك، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة، كما نقله عنهم ابن كثير.
وقال بعضهم: هو أي إبراهيم سماكم المسلمين، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة:128] وبهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كما نقله عنه ابن كثير.
وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول، وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم غير صواب.
إحداهما: أن الله قال: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا أي: القرآن، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير.
القرينة الثانية: أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله، لا إلى إبراهيم، فقوله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ أي: الله، وما جعل عليكم في الدين من حرج: أي الله، هو سماكم المسلمين: أي الله.
فإن قيل: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور للضمير المذكور: هو إبراهيم.
فالجواب: أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف، وهنا قد صرف عنه صارف، لأن قوله وفي هذا -يعني القرآن- دليل على أن المراد بالذي سماهم المسلمين فيه: هو الله لا إبراهيم، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج:78]، يناسبه أن يكون هو سماكم -أي الله- المسلمين"[6].
هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78]، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول -صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يُتلى على الأحبار والرهبان، فقال: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ [سورة الحـج:78]، أي: من قبل هذا القرآن وَفِي هَذَا روى النسائي عن الحارث الأشعري عن رسول الله ﷺ قال: من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثِيّ جهنم، قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله[7].
قوله: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة الحـج:78]، أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم، لتكونوا يوم القيامة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك.
وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة.
أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها وأدوا حق الله، فالفاء هنا تدل على التعليل، والأصوليون يسمون هذا بدلالة الإيماء والتنبيه، بمعنى أن الله يذكر شيئاً ثم يرتب عليه الفاء كهذا، يقول: إعطاؤه فشكره، فما علة الشكر؟ هو العطاء، ابتُلي فصبر، ما علة الصبر؟ البلاء، وضابط هذه الدلالة: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً، سكر فهذى، لماذا هذى؟ لأنه سكر، فهنا هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [سورة الحـج:78] إلى آخره، ثم قال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَمن أهل العلم من يقول خص الصلاة والزكاة بالحكم؛ لأن الصلاة والزكاة أشرف العبادات.
قوله -تبارك وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ، أي: اعتصموا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه، وهذا آخر تفسير سورة الحج، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
- رواه الحاكم في المستدرك، كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، باب التأمين (1/ 343)، برقم: (805).
- زاد المعاد (3/ 5).
- رواه الإمام أحمد (36/ 623)، برقم: (22291)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف.
- رواه أحمد (4/ 18)، برقم: (2109).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل -ا- إلى اليمن قبل حجة الوداع (4/ 1578)، برقم: (4086)، ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير (5/ 141)، برقم: (4623)، بلفظ: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا.
- أضواء البيان (5 / 302- 303).
- سنن النسائي الكبرى (5/ 272)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم: (1724).