بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.
اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يس:1-7].
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول "سورة البقرة"، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم.
تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي: هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به مُنزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [سورة الشورى:52، 53].
وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ يعني بهم: العرب فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وذِكرُهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم، كما أن ذِكر بعض الأفراد لا ينفي العموم، وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته -صلوات الله وسلامه عليه- عند قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158].
قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ: قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالله، ولا يصدقون رسله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد مضى الكلام على الحروف المقطعة بفواتح السور، وأن العلماء -رحمهم الله- ذكروا في ذلك نحو أربعين قولاً، ولكن في هذا الموضع ذكروا أيضاً أقوالاً تخصه، كقول بعضهم: إن لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، يعني لم يُنذَر آباؤهم، لم تسبق لهم نذارة، وهذا قول أكثر أهل العلم، أكثر المفسرين يقولون: إنها نافية والقرينة الدالة على هذا هنا في هذه الآية أنه قال: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ المقصود بالآباء يعني القريبين وليسوا بالآباء البعيدين الذين أدركوا عيسى ﷺ مثلاً أو أدركوا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، فإن آباء الرجل هم آباؤه وإن علوا.
هنا لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ إذا قلنا: إنها نافية فهذا يكون لقريش أو للعرب مع عموم دعوته، وقد أجاب الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن هذا بالآيات الأخرى، لكن هنا: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] فهؤلاء لا يصل إليهم الهدى ولا الإيمان ولا الموعظة.
ومن أهل العلم من يقول: إن هذا القول الذي حق عليهم هو المراد بقوله -تبارك وتعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [سورة ص:84]، وهذا كله بهذا المعنى، رجع إلى هذا المعنى، وابن جرير -كما رأيتم- قال: وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، وهو قريب مما ذكره الشنقيطي، قريب مما ذكر، وذلك جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26]؛ لأنه كما قال الله : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [سورة محمد:17]، وأما هؤلاء الكفار فزاغوا فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5].
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [سورة يس:8-12].
يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غُل، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسُه، فصار مُقمَحا؛ ولهذا قال: فَهُمْ مُقْمَحُونَ والمُقمح: هو الرافع رأسه، كما قالت أم زَرْع في كلامها: "وأشرب فأتقمَّح" أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّياً، واكتفى بذكر الغُل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين.
قال العوفي عن ابن عباس في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ قال: هو كقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [سورة الإسراء:29] يعني بذلك: أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.
وقال مجاهد: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: رافعو رءوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير.
الغُل في العنق، والغِل في القلب، الغِل بمعنى الحقد، والغُل ما يربط به العنق، هذا مثل: ضربَه بالدُّرة والجوهرة الكبيرة، لكن ضربه بالدِّرة يعني العصا الصغيرة.
وقول الله : إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا كثير من أهل العلم يقولون: إن ذلك من قبيل المثل، من أمثال القرآن مع أنه كما تلاحظون هنا لم يذكر لفظ المثل، ما قال مثلهم ولم يذكر تشبيهاً أصلاً: مثلاً أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء [سورة البقرة:19] هذا راجع لما قبله بذكر المثل صراحة لكن في التشبيه فَهُمْ مُقْمَحُونَ.
قالوا: المُقمح هو الرافع رأسه، فالإنسان قد غلت يداه إلى عنقه وشدت فهو مقمح، صارت يداه إلى ذقنه، هكذا شدت في عنقه ارتفع الرأس، وتصوير هذا المثل بهذه الطريقة: رأسه مرفوع غاض بصره وإن غلت يداه ومن بين يديه سد ومن خلفه سد وعلى بصره غشاوة مثل هذا كيف يتصرف؟ وكيف يفعل؟ وكيف يهتدي؟ وكيف يصل إلى الهدى؟ لا يمكن، هذا تصوير لحال هذا الإنسان الذي طبع الله على قلبه بعدما أعرض عن الحق وآثر الباطل ورد دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فعاقبهم الله -تبارك وتعالى- فصارت الهداية لا تصل إلى قلوبهم، ختم عليها، طبع عليها.
قوله هنا: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: المقمح الرافع رأسه، ثم ذكر كلام أم زرع وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروى وأرفع رأسي تهنيئاً وتروِّياً، تشرب ثم تقول هكذا، يعني ليكون الشرب أهنأ وأمرأ إذا شرب الإنسان، وكذا يقال له: هنيئاً مريئاً، هي ترفع رأسها، لذا يشرب الإنسان بثلاثة أنفاس ليكون ذلك أهنأ وأمرأ، بعض أصحاب العلم -الإعجاز العلمي- يقول: لأنه ينزل لذا كان يحتاج أن يشرب ثلاثة أنفاس ويكون جالسا لأنه إذا كان واقفا فينزل مرتفعا فيتضرر بذلك، نقول: هو الذي ينزل إلى المعدة سواء كان جالساً أو كان قائماً المسافة واحدة، وبعض الناس يطرب لهذا الكلام وينقله ويذيعه، إعجاز علمي وما أشبه هذا.
فهنا فَهُمْ مُقْمَحُونَ هذا هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير: أنه يرفع رأسه ويغض بصره، هذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم، وقول جماعة من البصريين من أئمة اللغة، قال به الفراء والزجاج، يرفع رأسه، ويغض بصره، قال له: مقمح، فالإقماح رفع الرأس وغض البصر، يقول: أقمح البعير إذا رفع رأسه بهذه الطريقة عند الشرب، يعني رفع رأسه بعد الشرب أو لم يشرب، يعني رفض أن يشرب شتاء مثلاً حينما يورد على الماء لشدة برودته ونحو ذلك، وهو يرفع رأسه فيقال: أقمح البعير، رفع رأسه.
وبعضهم يقول: إنه يكون مقنعاً، هكذا يكون مقنعاً يعني الرأس، يعني ينزل بذقنه هكذا ثم بعد ذلك حتى يصير الذقن إلى الصدر ثم بعد ذلك يرفع رأسه، هذا يعني الفرق أن أولائك أي الكوفيين يقولون: يرفع رأسه ويغض بصره، وهؤلاء أعني البصريين يقولون: هو الذي يقنع رأسه ثم يرفعه، كأن الأولين جعلوا الخفض في البصر وهؤلاء جعلوه في الرأس ثم يكون رفعه، أولائك جعلوا الخفض في البصر والرفع في الرأس، والمشهور عند المفسرين أن المقمح رأسه هو الذي يرفعه ويغض بصره، يرفع رأسه ويغض بصره فهم لشدة شد اليد إلى العنق ارتفعت رءوسهم ونزلت أبصارهم.
قال هنا: واكتفى بذكر الغُل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين يعني على هذا المعنى وهو قول الأكثرين أن في الكلام حذفاً فَهِيَ يرجع إلى الأغلال باعتبار إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ يعني الأغلال على قول ابن القيم -رحمه الله- فهي أي الأغلال يقول: لكونها عريضة، ولكونها عريضة يرتفع العنق، الغُل عريض فالعنق يرتفع فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ يعني أن الأغلال تبلغ إلى الأذقان، ترتفع فيرتفع الرأس فلا يستطيع أن ينزل وينكس رأسه فقد أحاطت بعنقه، وهذا المعنى: كون الضمير يرجع إلى الأغلال وأنها عريضة إلى آخره هو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله، والذي عليه الأكثر هو أن ذلك يرجع إلى الأيدي فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ مشدودة إلى الأذقان.
قال العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: هو كقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ يعني بذلك: أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير، فهذا معنى آخر، المعنى الأول: هو ما يتصل بالبداية أنهم لا يستطيعون الوصول إلى الهداية.
والمعنى الثاني كقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ الذي غلت يده إلى عنقه في القراءة التي أشرت إليها آنفاً {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً فهي إلى الأذقان} هذا بمعنى هذا القول المروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- غُلت أيمانهم، اليمين هي التي يكون بها البذل والعطاء إلى آخره، فهم لا يبذلون معروفاً ولا خيراً ولا طاعة، والله المستعان.
وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا: قال مجاهد: عن الحق، وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا قال مجاهد: عن الحق، فهم يترددون، وقال قتادة: في الضلالات.
وقوله: فَأَغْشَيْنَاهُمْ أي: أغشينا أبصارهم عن الحق، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي: لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه.
قال ابن جرير: وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "فأعشيناهم" بالعين المهملة، من العشا وهو داء في العين.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [سورة يونس:96، 97] ثم قال: من منعه الله لا يستطيع.
وقال عكرمة: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ، قال: وكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره، رواه ابن جرير.
هذه الروايات لا تصح أنها نزلت في هذا المعنى أنهم لا يبصرون النبي ﷺ، والمشهور عند السلف فمن بعدهم المعنى الأول: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فيكون على هذا الاعتبار عن الهدى، والقول الآخر عن رؤية محمد ﷺ حينما أرادوا الإساءة إليه أو تآمروا على قتله كما جاء في بعض الروايات، ولكنه لا يصح من هذا شيء في سبب النزول.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ما المراد بـ "بين أيديهم"؟ بعضهم يقول: بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني في الدنيا، وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني الآخرة كما يقوله الضحاك، وبعضهم يقول بالعكس مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ما يستقبلوه من أمر الآخرة، ومن خلفهم ما وراءهم من الدنيا {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم} يعني عموا عن البعث سواء قلنا من بين أيديهم يعني الآخرة البعث وما بعده، ومن خلفهم الشرائع وما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والإيمان وما إلى ذلك، أو العكس.
وابن جرير يقول: المعنى أي زين لهم سوء أعمالهم وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ وهذا يرجع إلى معنى ما ذكر من أنهم صاروا لا يبصرون الهدى، فإذا انطمست البصيرة صار الإنسان يرى الأشياء على غير حقيقتها فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً فهذا معنى أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [سورة فاطر:8]، وهو في هذه الحال يراه حسناً مع قبحه، وهكذا كلما ضعفت البصيرة فإن الإنسان يصير إلى حالٍ لا يبصر الأشياء على حقيقتها كما هي ولكن ذلك بحسب حال بصيرته قوة وضعفاً وعمى.
ولذلك تجد من الممارسات والأفعال والأشكال والصور في الزي والهيئة وما إلى ذلك من الأعمال التي يستقبحها أهل الإيمان ويستبشعونها ذوقاً أيضاً قبل أن يكون ذلك ديانة، ومع ذلك ترى مِن خلْق الله مَن يعملها أو يتزيا بها أو يظهر بهذه الصورة فيكون في حال من التشويه والقبح حتى يخيل إليك أنه ليس من جنس الآدميين بما عمل بنفسه وشعره، وعند نفسه أنه في أحسن الأحوال وأكمل الأوصاف، وقد حصّل من المروءات والكمالات الغاية، لذلك تستغرب تقول: هذا الآدمي ما يجلس أمام المرآة وينظر نظرة إلى نفسه فيعرف حاله هنا زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فإذا أردت أن تعتبر هذا المعنى انظر إلى أحوال الناس في أعمالهم وما هم عليه من بدع وضلالات وأهواء وأعمال وما يستحسنون من ذلك فيحمد المؤمن ربه على العافية، ولكن في الوقت نفسه عليه أن يدرك أنه يقع في أشياء يستحسنها وهي ليست كذلك لضعف البصيرة، -والله المستعان.
وهنا قال: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ والمعنى -والله تعالى أعلم- هو أن المقصود حيل بينهم وبين الهدى فهم لا يصلون إليها فكانوا بتلك الصورة والمثابة في المثل المضروب.
وقوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: وكانوا يقولون: هذا محمد فيقول: أين هو؟ ولا يبصرونه الرواية هذه، هذا القول عموماً: لا يبصرون محمداً حين ائتمروا على قتله قاله السدي وجماعة، بعضهم يقول: إن من قرأ هذه الآية أي قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ هذا القدْر عدوه لا يراه هكذا يقولون، وإنه يقرؤها حال خوفه من عدوه، فالله تعالى أعلم، لم يرد في هذا شيء عن النبي ﷺ والمعنى ما ذكر، المعنى أنه وصف لحال الكافرين بكونهم لا يرون الهدى والإيمان.
وقوله: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي: قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به.
وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة، وكما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [سورة يونس:96، 97].
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر، وهو القرآن العظيم، وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ أي: حيث لا يراه أحد إلا الله، يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعله، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍأي: لذنوبه، وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي: كبير واسع حسن جميل، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة الملك:12].
يعني بخلاف حال المنافق فهو في العلانية أمام الناس يبدي تحرزاً وتحفظاً من مواقعة مالا يليق، وأما في حال السر فإنه ينتهك محارم الله ولا يبالي، فهنا أثنى على هؤلاء وجعلهم المنتفعين بالنذارة إِنَّمَا تُنذِرُ وجاء بأسلوب الحصر كأن النذارة محصورة في هؤلاء مع أنه منذر للجميع لكن لمّا كان هؤلاء الذين ينتفعون بذلك أتى بهذا الأسلوب.
وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ يعني أهل الإيمان وليسوا بأهل النفاق، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذا، وهذا يدل على أهمية هذا الوصف ومنزلته في الإيمان، الخشية بحال الغيب إذا غاب عن أنظار الناس أن يراقب الله -تبارك وتعالى- فهذه درجة عالية ينتفع صاحبها غاية الانتفاع بالتذكير إذا كان مراعياً وحافظاً لله في حال سره وغيبته، فهذا يدل على أنه بلغ مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[1]، ومن بلغ هذه المرتبة العالية فإنه يكون في غاية الانتفاع بالتذكير والموعظة، ويضعف أثرها في قلبه إذا انحط عن تلك المرتبة بحسب درجته؛ ولهذا كما ترون الناس في الموعظة في المسجد في خطبة الجمعة وما إلى ذلك يخرجون على درجات متفاوتة منهم من يخرج كما دخل، ومنهم من يتأثر بما سمع وينتفع ويلين قلبه ويستجيب.
يعني لاحظ الآن هنا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى قال: أي يوم القيامة يعني الإحياء الحقيقي البعث بعد الموت وهذا هو الظاهر المتبادر مع أن بعض السلف يقول: المقصود بذلك إحياء قلوب الكفار إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى، وبعضهم يفسر نظائر هذا في القرآن بهذا المعنى كان ميتاً فأحييناه، يعني كافراً فهديناه، وهذا بهذه الآية قال به من السلف الحسن البصري والضحاك يعني يحييها من الكفر إلى الإيمان، أو الإيمان بعد الجهل والضلال والكفر.
ابن كثير -رحمه الله- فسرها على ظاهرها ثم قال: وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، فيكون هنا قد جمع بين المعنيين لكنه جعل المعنى الأول من قبيل الظاهر، والمعنى الثاني من قبيل الإشارة، هذه الإشارة هل هي إشارة القبول عند الأصوليين دلالة الإشارة، إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علم؟
أنواع الدلالة في المنطوق: كلام منطوق ومفهوم، فأنواع المنطوق النص والظاهر والالتزام والإيماء والتنبيه والإشارة والتضمن، هذه أنواع دلالة المنطوق، دلالة المنطوق: المطابقة والتضمن والالتزام والإيماء والإشارة والتنبيه هل هذا هو المقصود هنا من كلام ابن كثير أو المقصود بالإشارة أن ذلك يشير إلى هذا المعنى من باب كأنه من باب الاعتبار والشيء بالشيء يذكر، ويقصد هذا المعنى الذي يسمونه التفسير الإشاري، وقد عرف بهذا النوع من تفسير الصوفية -التفسير الإشاري.
وبعضهم يقول: يصح التفسير الإشاري بشروط ويذكر منها ألا يكون في الكلام ما ينافيه ويعارضه، وأن يكون المعنى صحيحاً وإلا فيكون التفسير ليس باعتبار أنه المراد من الآية وإنما من باب الشيء بالشيء يذكر ونحو ذلك، والقياس والاعتبار، فهذا -بالشروط هذه- أمثلته المقبولة قليلة جداً أو نادرة.
هذا مثال على ما يقبل من هذا، والقرينة على ذلك لاحظ هنا إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هذا كله في مَن مُنع من الهداية، في الضلال يتخبطون إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ فذكر إحياء الموتى بعد ذكر الأحوال من الضلال التي يتخبط بها أصحابها ولا يرون الهدى، فيه نوع إشارة، فيه نوع مناسبة، إن إحياء الموتى فيه نوع ملائمة مع المعنى هذا، وهو أن الله يحيي القلوب الميتة فينقلها من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم.
لكن المعنى الظاهر المتبادر إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى لاحظ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ من هم؟ هؤلاء الذين يحييهم الله الموتى وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ فهذا ظاهره، فالأمثلة على هذا النوع -أي التفسير الإشاري المقبول- قليلة جداً، هذا مثال، وهناك أمثلة أخرى.
يعني ما يذكرونه مثلاً قوله تعالى: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:78، 79] المراد بالكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون اللوح المحفوظ، وبعضهم يقول: القرآن، ولكن الراجح أنه اللوح المحفوظ؛ لأنه قال: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ والقرآن ليس كذلك، فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون الذين هم الملائكة، إذا فسرت الآية بهذا من أهل العلم من يزيد زيادة هذه الزيادة هي التفسير الإشاري المقبول وهي أنهم يقولون: وإذا كان الذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون فينبغي أن يكون هذا الذي في الأرض لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فيدخل في "المطهرون" المؤمن ولا يمسه الكافر، ومن عليه حدث أكبر لا يمس القرآن، ومن عليه حدث أصغر لا يمس القرآن، يعني المصحف مع أن الآية ليست في هذا، لكن يقولون: هذا من باب الاعتبار، إذا كان في السماء لا يمسه إلا المطهرون ففيه إشارة إلى كون هذا الذي بين أيدينا لا يمسه إلا المطهرون هذا يسمى بالتفسير الإشاري.
والناس يستوحشون إذا سمعوا التفسير الصوفي ويقولون: ما لنا والصوفية، أقول: مَن ذكر من أهل العلم أن التفسير الإشاري يُقبل بشروط يقول: الأمثلة التي تصدق عليه قليلة أو نادرة، هذا منها، ومنها ما يذكر في قول النبي ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة[2]، ذكر هذا شيخ الإسلام بنقله عن غيره، يعني يقول: فكذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة، هذا من التفسير الإشاري، هذا أوضح.
ولكن التخليط الذي في كلامهم -الألوسي والنيسابوري صاحب غرائب القرآن ورغائب الفرقان وأمثال هؤلاء- في نحو قوله تعالى:قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [سورة التوبة:123] قال: هي النفس تذبح بسكين الطاعة، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] قالوا: هي النفس لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ قالوا: هذا الصوفي ليس في شرخ الشباب، ولا في سن الهرم والشيخوخة فيضعف عن العبادة صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69] قالوا: صفرة أصحاب الرياضات النفسية والمجاهدة والعبادة، ليست صفرة مرض، وهكذا.
وقوله: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا أي: من الأعمال.
وفي قوله: وَآثَارَهُمْ قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثّروها مِن بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كقوله ﷺ: مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء[3].
رواه مسلم، عن جرير بن عبد الله البجلي ، وفيه قصة مُجْتَابِي الثمار المُضريَّين[4]، ورواه ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله، فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ، وقد رواه مسلم من طريق آخر.
في قوله -تبارك وتعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير معنى مشهور ذكره كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً، وهو معنى ظاهر في الآية وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ما قدموا: ما عملوه وباشروه من الأعمال: صلى، صام، تصدق وما أشبه ذلك، وَآثَارَهُمْ ما تسببوا فيه من القدوة الحسنة واقتدى الناس بهم، من سن سنة حسنة كما في الحديث فله أجرها وأجر من عمل بها، فيكون ذلك دالاً على الهدى "من علم آية من كتاب الله فله أجرها ما تليت"[5]، كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- كما في الصحيح، فتكون هذه هي الآثار وتبقى بعدهم، دلوا على هذه، سنوا سنة حسنة ما عمل بها يأتيهم الأجر بعد موتهم، هذا المعنى لا إشكال فيه ولا غبار عليه.
وهنا معنى آخر أيضاً وهو: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ الخُطا التي تكون في الأعمال الصالحة أو السيئة يعني إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ، الذي سن سنة سيئة فإنه يجازَى على ذلك فيكون عليه مثل أوزار من تبعه من هؤلاء الذين أضلهم، فهؤلاء دعاة الضلالة بعدما يموتون تأتيهم الأوزار، لأنه قد أقام مؤسسة تنشر الضلال، أقام صحيفة تنشر الضلال، كتب مقالات، ألف، كتب، أسس، بدع، أسس مذاهب وفرقاً منحرفة، وهو بعدما يموت هؤلاء الذين يعملون بهذه الطريقة أو بهذا الضلال يأتيه وزرهم وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13]، يحمل أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من آثارهم، وفي الهدى نفس الشيء من دل على هدى.
المعنى الثاني: الخطا التي يمشونها إلى المساجد، إلى مجالس الذكر والعلم وما أشبه ذلك ذهاباً وإياباً كل هذا يكتب، وهذا معنى صحيح، وذكر فيه الحديث فيما يتصل في بني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فقال لهم النبي ﷺ: دياركم تكتب آثاركم[6]، وصح عند الترمذي في رواية: أن ذلك هو سبب النزول، مع أن ذلك لا يخلو من إشكال، وقد ذكر القرطبي -رحمه الله- أن هذه السورة مكية بالإجماع، وهذه الواقعة -قصة بني سلمة- كانت في المدينة قطعاً فكيف نزلت فيهم؟
فبعضهم كان يضعف الرواية أصلاً التي فيها التصريح بسبب النزول، لكن قوله ﷺ: دياركم تكتب آثاركم ثابتة في الصحيحين، والإمام أحمد، وهذه الرواية الثانية التي فيها التصريح عند الترمذي أنها سبب النزول، وبعض أهل العلم يضعفها، ولكن الترمذي حسنها وصححها الألباني، فإذا صحت هذه الرواية فيكون ذلك من قبيل سبب النزول الصريح، فهل يقال: إنها مستثناة نزلت في المدينة؟
يحتمل هذا، ويحتمل أنها نزلت مرتين، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- لما ذكر مثل هذا قال: ولعل النبي ﷺ ذكرها عندهم يعني عند هذا الموضع -أو هذه المناسبة- ذكر الآية، أو ذكرها جبريل بهذه المناسبة، لا أن الآية نزلت مرتين، يقول: ويمكن أن يحمل على هذا ما يقال فيه أنه نزل مرتين، لكن الذين قالوا الآية تنزل مرتين ولا إشكال يقولون كما يقول الحافظ ابن حجر: إنها قد تنزل ويتكرر النزول تذكيراً بالحكم الأول، ولبيان أن الحكم الجديد مثل الحكم الأول، أو نحوه يصدق عليه، أو نحو ذلك، فإذا قلنا: إن الأصل كل الآيات مكية فإذا ثبت شيء منها نزل في المدينة فهذا يقال: مستثنى، أو يقال: لعله نزل مرة أخرى تذكيراً بالحكم، أو كما يقول ابن القيم: النبي ﷺ قرأها أنها نزلت، أو قرأها جبريل في هذا المقام على النبي ﷺ وكانت نازلة عليه قبل ذلك، ولم يكن تنزيلاً جديداً، يعني من الله مباشرة في تلك اللحظة، وإلا فهي نازلة من الله المرة الأولى بلا إشكال.
وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده[7].
وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ قال: ما أورثوا من الضلالة.
قال ابن أبي نَجِيح وغيره، عن مجاهد: مَا قَدَّمُوا: أعمالهم، وَآثَارَهُمْ قال: خطاهم بأرجلهم.
قول مجاهد: ما أورثوا من الضلالة هذا من باب التفسير بالمثال، يعني ما أورثوا من الضلالة، وأيضاً من الهدى، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً ما ورد في هذا الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..، هي داخلة في هذه الآثار قطعاً من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، وهكذا في بعض الأمور الأخرى التي وردت بغيره مثل أو مصحف ورثه أو نهر أجراه أو بيت لابن السبيل بناه، كل هذه الأشياء داخلة فيه، والأوقاف والمدارس التي ينشئها.
الذي يُكتب هو الممشى الذهاب والمرجع، ولا يقطعون وادياً فهذه كلها تكتب، والرجل الذي قيل له: لو اتخذتَ حماراً يعني تركبه للذهاب إلى المسجد، فذكر للنبي ﷺ أنه يحتسب ممشاه حينما يمشي إلى المسجد، ورجوعه حينما يرجع فقال النبي ﷺ: "كل ذلك قد كُتب لك"، أو كما قال النبي ﷺ فدل على أن الرجوع من الطاعات من القربات يكتب.
روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم[8]، وهكذا رواه مسلم عن جابر .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: توفي رجل بالمدينة، فصلى عليه النبي ﷺ وقال: "يا ليته مات في غير مولده". فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: إن الرجل إذا توفي في غير مولده قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة[9].
ورواه النسائي وابن ماجه.
وروى ابن جرير عن ثابت قال: مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال: يا أنس، أما شعرتَ أن الآثار تكتب؟ أما شعرتَ أن الآثار تكتب؟
وهذا القول لا تنافِيَ بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم.
يعني هنا جمع بين القولين، فإذا كان كل قول تدل عليه أدلة، القول الأول والقول الثاني الذي عليه الأدلة ولا يوجد ما يمنع من حمل الآية على المعنيين تحمل عليهما لاسيما إن كان بينهما ملازمة، كأن يكون مثلاً أحد المعنيين يلزم منه الثاني، يقتضي القول الآخر كما هنا، فهذا مما يقال فيه: إن الآية تحمل على هذا وهذا، وهذا هو الأقرب، وإن كان ابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على كتابة الآثار التي هي بمعنى الخطا، وسبقه إلى هذا جماعة من السلف واختاره النحاس.
وهنا في الحديث أثر ثابت عن أنس: أخذ بيدي، لما أسرع أنس المشي، قد يقول قائل: إن النتيجة واحدة سواء كان قد أسرع أو لا، هي الخطا، يمشي على قدميه أسرع أو لم يسرع، ولكنه يمكن أن يقال: إن الإسراع يكون فيه تباعد بالخطا، بخلاف الذي يمشي رويداً تتقارب خطاه، وليس معنى ذلك أنه إذا مشى إلى المسجد يمشي مشياً متماوتاً حتى يكتب له، يعني يلصق الخطوة بالخطوة، لا يتكلف هذا، إنما يمشي مشية مترسلة كما قال الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، مشية معتدلة بسكينة ووقار كما أمر النبي ﷺ.
أما قوله -تبارك وتعالى: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9]، فقد مضى الكلام عليه عند تفسير هذه الآية وهو أن المراد العمل على حضورها كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وغيره، وليس المقصود الإسراع بالمشي؛ لأن النبي ﷺ نهى عنه فأتوها وأنتم تمشون[10]، لا تعارض.
يعني الإمام المبين أم الكتاب اللوح المحفوظ وهذا اختيار ابن جرير، وابن القيم، والشنقيطي، وهذا هو الظاهر -والله تعالى أعلم- فالإمام المبين اللوح المحفوظ، وبعض أهل العلم يقول: المقصود به هنا صحائف الأعمال، أنها تكتب فيها أعمال العباد.
هذا غير الإمام المبين الذي في سورة يس هناك اللوح المحفوظ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، هنا نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فيها أقوال، ومنها أن المقصود كتاب الأعمال بقرينة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ.
هذه صحائف الأعمال، كُتب الأعمال وليس اللوح المحفوظ، والذي في الآية هنا هو اللوح المحفوظ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ فأعمال العباد مكتوبة في اللوح المحفوظ، كما أنها تكتب في الصحف التي بأيدي الملائكة، وهذا المراد بقوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وقال الله تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6].
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، برقم (8).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3225)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2106).
- رواه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
- رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، برقم (1017).
- رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، (8/ 224)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5704).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (665).
- رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب في الوقف، برقم (1376)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (2494)، وابن حبان في صحيحه، برقم (3016)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (793).
- رواه أحمد في المسند، برقم (14566)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (665).
- رواه النسائي، كتاب الزكاة، باب الموت بغير مولده، برقم (1832)، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات غريبا، برقم (1614)، وأحمد في المسند، برقم (6656)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1616).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).