الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
[5] من قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} الآية:55‏
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الآخر / ١٤٣٣
التحميل: 7509
مرات الإستماع: 47385

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:

اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ أي: في شغل عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.

قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: فِي شُغُلٍ عما فيه أهل النار من العذاب.

وقال مجاهد: فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ أي: في نعيم معجبون، أي: به، وكذا قال قتادة.

وقال ابن عباس: فَاكِهُونَ أي فرحون.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ أي: في نعيم معجبون، أي: به، وكذا قال قتادة، وهو قول مجاهد والضحاك، وجاء عن قتادة ومجاهد هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ، بعضهم يقول: الشغل بالسماع يعني المطرب -الأصوات المطربة، غناء الجنة، وبعضهم يقول: هم فِي شُغُلٍ بالتزاور فيما بينهم بعد أن انقطعوا هذه المدة الطويلة عن بعضهم فصاروا يتزاورون ويتساءلون، وهكذا قول من قال: إنهم في شغل يعني بكونهم في ضيافة الرحمن -تبارك وتعالى.

والأقرب -والله تعالى أعلم- كما قال كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله: يحمل ذلك على العموم، فهم فِي شُغُلٍ في شغل بهذا النعيم عن أهل النار وعذابهم، وهذا النعيم ينتظم الأمور المذكورة، ففي هذا النعيم يتزاورون، وفي هذا النعيم يفتضون الأبكار، وفي هذا النعيم يشتغلون بألوان الملذات التي في الجنة، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

وقوله: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ قال مجاهد: وحلائلهم فِي ظِلالٍ أي: في ظلال الأشجار عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ.

يعني فِي ظِلالٍ الأشجار المقصود أن الجنة ليس فيها شمس، فِي ظِلالٍ الأشجار أو ظلال الفرش والستور التي تكنّهم؛ لأن الأرائك كما سيأتي تكون عليها مثل الستور في أعلاها فيكونون في ظل هذه الستور، رأيتم بعض الأسرّة -غرف النوم- يكون عليها مثل السقيفة على السرير فهذه يقال لها: الأريكة، وإن كان إطلاق الأريكة اليوم على المواضع التي يُجلس عليها بطريقة معينة للاسترخاء، يقال لها: أريكة، لكن السلف أهل اللغة يفسرون الأرائك بما ذكرت: السرر في الحجال، فيكون عليها مثل السقيفة من الستور، فتلك الأرائك.

فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: فِي ظِلالٍ هذه الظلال يمكن أن تكون في ظلال القصور التي يسكنونها، أو في ظلال الأشجار، وليس ذلك يعني أن هناك شمساً، الجنة ليس فيها شمس وليس فيها حر، ولكن الله -تبارك وتعالى- يذكر ألوان النعيم كما قال : وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ [سورة الواقعة:29]، وقد مضى الكلام في بعض المناسبات أن الطلح فيه قولان مشهوران:

الأول: أنه شجر الشوك المعروف قد قطع شوكه وأن ذلك حينما يذكر للعرب -وهم في بلاد حارة- يكون قد خاطبهم الله بما يعقلون، فإن ذلك في غاية اللذة والنعيم؛ لأنهم بحاجة ماسة إلى الظل، إذا وجد مثل هذا الشجر الذي ليس له شوك قليل فهذه من الأماني عندهم؛ لأن الشجر في بلادهم الذي يستظلون به في أسفارهم وتنقلاتهم مليء بالشوك، والشوك صلب فإذا أردت أن تجلس تحت بعض ذلك الشجر فلابد من شيء من العمل والمعاناة في توقّيه أو إزالته كما هو معروف، فإذا ذُكر لهم شجر ظليل بلا شوك مما يعهدون –طلح- فإن هذا أمر لا عهد لهم به.

والقول الآخر معروف: وهو أنه شجر الموز، والشاهد هو الأول على ذلك القول، فذكر مثل هذا يحرك شيئاً في نفوسهم، والجنة دار النعيم فإذا ذكر الظل -الظلال- وهم في بلاد حارة يحتاجون فيها إلى الظل ويعانون من حر الشمس مثل هذا لا شك أنه يأسر النفوس، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت:64].

والشجرة في الجنة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام لا يقطعها؛ وهذا أمر يحتاج تصوره إلى شيء من المعاناة حتى يتصور طول هذه الشجرة، وكم يحتاج أن يقطعها وهو في الطائرة، يقطع ظل هذه الشجرة، وأن ظل هذه الشجرة أو أن الأرض برمتها حبة من خردل بالنسبة لهذه الشجرة، الأرض بكاملها، حينما يقال: ظلال الجنة وما أشبه ذلك كما قال الله : وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ۝ وَمَاء مَّسْكُوبٍ [سورة الواقعة:30، 31] هذا الظل لا انقطاع له، مائة عام تحت ظل شجرة واحدة لا يقطعها، لكن يأسرنا ما نشاهده في مألوفنا في هذه الحياة الدنيا فإذا ذكر نعيم الجنة بدأنا نتذكر شجرة ونحو ذلك بطول أربعة أمتار وعرض أربعة أمتار، أعني ظلها.

قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف: الأرَائِكِ هي السرر تحت الحجال.

السرر تحت الحجال ولهذا قال ثعلب -رحمه الله: لا تكون الأريكة إلا سريراً تحت قبة؛ ولهذا نقول: لا يصح حمل القرآن على اصطلاح حادث، الاصطلاح الحادث في الأريكة اليوم غير معنى الأريكة عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن فِي ظِلالٍ فهذا أبهى وأجمل وأكثر في النعيم، مع أن الناس حينما يضعون ذلك في بيوتهم اليوم إنما يفعلونه من أجل التجمل به والتزين، مع أن هذا الظل أو السقيفة لا يضعونها من أجل أن يستظلوا بها من الشمس أليس كذلك؟ ولكن هذا بزيادة التنعم والتوسع في الملاذ والزينة يفعلون ذلك، فكيف بحجال الجنة أو بسرر الجنة وأرائك الجنة؟!

وقوله: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ أي: من جميع أنواعها.

التنكير هنا يعني للتعظيم في الفاكهة لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ يعني عظيمة، كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [سورة البقرة:25]، فيها قولان:

القول الأول: أنهم أتوا به متشابها يعني يشبه ما عهدوا في الدنيا إلا أن الطعوم والحقائق تختلف، فهذا رمان وهذا عنب ونحو ذلك، لكنه هناك شيء آخر في طعمه وحقيقته وصفته.

والقول الثاني: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً يعني يشبه هذا الذي رزقوه قبله في الجنة، فإذا ذاقوا طعمه فإنهم يجدون لوناً من الطعوم آخرَ جديداً وما إلى ذلك وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً.

وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.

يعني ما يتمنون وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ما يتمنون، ما تمنوه وجدوه، وفي كثير من الأحيان إذا جاء الحديث عن نعيم الجنة سألت النساءُ خاصة النساء اللاتي لم يتزوجن: الرجال لهم الحور العين فماذا للنساء؟

الجواب: إن ذلك لم يرد فيه شيء لخصوصه، ولكنه ذكر نعيم أهل الجنة نعيم الرجال؛ لأن العادة جرت أن تذكر النساء في جملة ما يذكر في النعيم كما قال الله في ذكر اللذات والشهوات زُيِّنَ لِلنَّاسِ وهذا يشمل الرجال والنساء في الأصل، لفظ الناس حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة آل عمران:14]، من النساء، طيب والنساء هل زين لهن الرجال؟

لما كانت العادة أنه إذا ذكرت الشهوات واللذات فإن أول ما يتبادر للذهن النساء وهذا أمر معروف في كلام الناس في مخاطباتهم، فهنا ما يرِد أن تقول امرأة مثلاً: "زين للناس حب الشهوات من الرجال"، أُنسِى هذا على طريقة ومعهود العرب، فإن اللذات إذا ذُكرت ذُكر النساء؛ لأنها أعظم اللذات، وهكذا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- نعيم أهل الجنة يذكر الحور العين الأزواج المطهرة، وماذا للنساء؟ لم يذكر، لكن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

وهنا قال: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ في الموضع الآخر: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [سورة الزخرف:71] ما الذي تطلبه النفوس؟ فليس هناك نعيم منغص ولا نعيم ناقص في الجنة، فنعيمها كامل، وكل ما تطلبه النفوس تجده ويكفي هذا العموم والإجمال، فتجد المرأة في غاية النعيم، والرجال في غاية النعيم، فهي دار ليس فيها للحرمان معنى، ولا للتنغيص والكدر محل. 

ولذلك عفا الله عنهم فذكر الخلود ونفى عنهم سائر المنغصات رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [سورة المائدة:119]؛ لأن كمال التنعم بالشيء لا يحصل إلا مع حصول الرضى، فقد تكون في محل تتنعم فيه، في استراحة، في قصر، في كذا، ولكنّ بقاءك فيه ليس كما ينبغي بحيث إنه لا يكون مأذوناً فيه أو نحو ذلك، فيبقى الإنسان غير مستريح في تنعمه وبقائه رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ.

وكذلك ما أخبر عن نزع الغل عنهم كل هذا لكمال النعيم، فهو مقام كريم ليس فيه جار سوء، وليس فيه منغصات، ولا مزعجات، ولا لغو، ولا تأثيم، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:26]، فهنا لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وفسره بعضهم كالزجاج بأن ذلك من الدعاء، يعني ما يدعون ما يطلبون، وبعضهم يقول غير ذلك كقول من قال: المعنى وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ يعني من ادعى منهم شيئاً فهو له، من ادعى شيئاً في الجنة فهو له.

لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ يعني ما يتمنون، وتطلبه نفوسهم، ويمكن أن يكون القول الثاني -لهم ما يطلبون- مضمناً في القول الأول، فإذا كانوا يتمنون شيئاً فيحصل لهم فهذا التمني هو طلب للنفوس، فإن التمني من مطالبها فإذا كان الشيء بعيد المنال قيل له أمنية، وإذا كان قريب المنال قيل له رجاء.

وقوله: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ: فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة.

وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [سورة الأحزاب:44].

هنا وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ۝ سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يكون الوقف على قوله: يَدَّعُونَ تاماً، ثم قال: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيكون هذا مبتدأ، يعني لهم سلام مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يعني هذه جملة جديدة وليست متعلقة بما قبلها، يعني ليس المعنى كما يقول بعضهم: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ۝ سَلامٌ

وبعضهم يقول: إنه سلام يعني خبر ذو سلامة، يعني أنه خالص ذو سلامة سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، وبعضهم يقول: إنه بدل -سلام يعني- رفع على البدل من ما سَلامٌ ارتفع هنا على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي سلام لهم، يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ وأن الخبر محذوف، سلام لهم، أي سلام يقال لهم، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: إن الخبر قوله من رب رحيم، والآية فيها قراءات أخرى غير متواترة.

ولكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن قوله: سَلامٌ بمعنى أن الله يسلم عليهم، أن الله يسلم عليهم سلاماً كائناً لهم من الله -تبارك وتعالى- سَلامٌ قَوْلا فهذا منصوب على المصدرية بفعل محذوف، قال الله لهم ذلك: سَلامٌ قَوْلا، أو يقوله لهم قَوْلا، أو يقال لهم قولاً، سَلامٌ قَوْلا سلام لهم قولاً، أو يقال لهم قولاً من الله -تبارك وتعالى.

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ۝ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [سورة يس:59-62].

يقول تعالى مخبرًا عمّا يئول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [سورة الروم:14]، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [سورة الروم:43] أي: يصيرون صَدْعَيْن فرقتين، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:22، 23].

امتازوا يعني عن المؤمنين، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وبعض السلف كالضحاك يقول: يمتاز المجرمون عن بعضهم فتكون كل طائفة من طائفة الكفر بمفردها، يحشرون جميعاً مجتمعين مع نظرائهم كما قال الله : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ يعني مع نظرائهم، امتازوا يعني يتميز بعضهم عن بعض، فاليهود مع بعضهم، والنصارى مع بعضهم، كما دلت السنة على  ذلك وأن كل أمة تؤمر أن تتبع ما كانت تعبد.

فلو قال قائل -والله تعالى أعلم: إن قوله: وَامْتَازُوا يشمل هذا وهذا، فهم يمتازون عن أهل الإيمان، يفصلون عنهم، فالمؤمنون يحشرون مع بعضهم، والكفار يحشرون مع بعضهم، وكل طائفة من طوائف الكفار تتميز عن غيرها فاليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى، ومن يعبد الأصنام مع أشكاله ونظرائه.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ أزواجهم ليس المقصود الزوجات وإنما المقصود مع نظرائهم وإلا فقد تكون زوجته مؤمنة كما هو الحال بالنسبة لفرعون مثلاً، والعكس قد يكون الرجل مؤمناً وزوجته ليست كذلك كما في نوح ﷺ ولوط -عليه الصلاة والسلام، فتحشر كل طائفة مع بعضها.

وقوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا والمراد بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.

قوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ يعني على ألسن رسلي، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ يعني ألم أتقدم إليكم على ألسنة رسلي ألا تعبدوا الشيطان وتعبدوني؟ وبعضهم يقول: إن ذلك العهد المشار إليه هنا هو أخذ الميثاق حينما كانوا في صلب أبيهم آدم ﷺ فاستخرجهم الله -تبارك وتعالى- على هيئة الذر وذلك قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ [سورة الأعراف:172]، فبعضهم يقول: هذا هو المراد بهذا العهد الذي أخذه.

وبعضهم يقول: العهد هذا المشار إليه أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ بما نصبه من الدلائل على وحدانيته -تبارك وتعالى، والأقرب -والله أعلم- هو الأول أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ يعني ألم أتقدم لكم على ألسنة رسلي أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَأَنْ اعْبُدُونِي [سورة يس:60، 61]، والعهد يأتي بمعنى الوصية، يقول: عهد لي بالخلافة، عهد إليه بكذا وكذا، ألم أعهد إليك بكذا؟ يعني أوصيك بكذا.

وقوله: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا هذه القراءة التي نقرأ بها وهي قراءة نافع وعاصم (جِبِلًّا)، وفي قراءة أبي عمرو وابن عامر (جُبْلاً كثيراً)، وقرأ الباقون (جُبُلاً كثيرًا) وذلك يرجع -والله أعلم- إلى معنى واحد (جِبِلًّا كثيراً) يعني خلقاً كثيراً، أضل منكم خلقاً كثيراً.

وقوله: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟ أي: أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعُدُولكم إلى اتباع الشيطان؟!

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [سورة يس:64-67].

يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة -وقد برزَت الجحيم لهم- تقريعًا وتوبيخًا: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي: هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ۝ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:13-15].

قوله -تبارك وتعالى: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ هنا ما ذكر المعنى، وكثير من المفسرين يفسرون ذلك في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- بمعنى الدخول، وهذه اللفظة "صلَى" تأتي بمعنى الدخول، وبمعنى الاحتراق -مقاساة حر النار، ولهذا تقول: هذه شاة مصلية، يعني على النار، ومن قاس حرها واحترق بها فإن ذلك يقتضي أنه دخلها، قال الله تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15] يعني لا يقاسي حرها إلا الأشقى، وهذا يقتضي أن يكون قد دخلها.

فتارة يفسرونه بلازمه وهو الدخول، وتارة يفسرونه بمعناه المطابق أو ما يقرب من المطابق، ولهذا تجد بعض الحذاق من المفسرين يعبرون بعبارات دقيقة مثل هذه المقامات، تجد مثل ابن جرير يقول: اصْلَوْهَا يعني احترقِوا فيها وادخلوها، فيجمع بين المعنيين، احترقِوا بها اليوم ورِدوها، الورود في كلامه هنا بمعنى الدخول، فبين المعنيين ملازمة.

وقوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.

يعني قال الله تعالى: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ فجعل الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد فبعضهم يقول: هذا في وصف ما وقع في الأيدي أو الأرجل باعتبار أن الأيدي تباشر عادة، يعني غالباً تكون المباشرة باليد؛ ولهذا يعبر بها يقال: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مع أنهم قد يكسبون سيئات بغير الأيدي، بالعين أو بالفم أو بالمشي بالرجل أو غير ذلك، لكن لما كان ذلك هو الغالب عبر به قال: بما كسبت يداه، بما كسبت يداك، لما كانت الأيدي هي التي تباشر صارت هي التي تنطق، والأرجل لما كانت حاضرة كانت شاهدة.

هكذا قال بعض أهل العلم في وجه التفريق بين ما يصدر من الأيدي في الصفة وما يكون من الأرجل، والأيدي حينما تتكلم فتلك شهادة، والأرجل حينما تشهد فإن الله ينطقها فتكون شاهدة بذلك، فيكون أحد المعنيين، والله -تبارك وتعالى- قال عن الكفار الذين قالوا بأن الملائكة بنات الله قال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19] فهذه الدعوى من أن الملائكة بنات الله سماها الله شهادة، "ستكتب شهادتهم".

وابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى في بعض كتبه والكلام على الشهادة ونحو ذلك فيما نقله صاحب الطحاوية الواقع أنه كلام الحافظ ابن القيم في هذا المعني في الكلام على الشهادة، والأرجل تشهد وكلام الأيدي يعتبر شهادة، وهكذا حينما ينطق فخذه وسائر جوارحه فتلك شهادة عليه وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة فصلت:21]، لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَافهي نطقت، فهذا النطق شهادة أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ فالأرجل تنطق، وذلك شهادة.

روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي ﷺ، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليّ إلا شاهدًا من نفسي، فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيُختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل[1].

وقد رواه مسلم والنسائي.

وروى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري : يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرِضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت، قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها، قال: فما على الأرض خَليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرِضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد ويقول: أي رب، وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملَك ما لم أعمل، فيقول له الملَك: أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه، فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه، قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[2].

شهادة الألسن، الألسن تشهد عليهم فهل بين هذه وما ذكر هنا منافاة؟ في سورة النور ذكر الله شهادة الألسن أليس كذلك؟ القذفة، وذكر هنا أنه يختم على الأفواه فالحاصل هل بينهم منافاة؟ يمكن أن يكون هذا في موقف وهذا موقف، قاله بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: إنه حينما ينكر يختم على فيه فتنطق جوارحه فإذا أسقط في يده وشهدت جوارحه بناء على ما جاء في هذه الأحاديث أنه ينكر ثم يكون الشاهد عليه من نفسه فإذا أسقط في يده، وقال من قال: فعنكنَّ كنتُ أناضل فعند ذلك ينطق فوه.

وقوله: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مَرّة: أعميناهم.

وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عُميًا يترددون.

وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ يعني: الطريق.

وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وقد طمسنا على أعينهم؟

وقال العوفي، عن ابن عباس: فَأَنَّى يُبْصِرُونَ: لا يبصرون الحق.

هذا الكلام المنقول هنا يدور على معنيين الأول: لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ طمسنا على أعينهم بمعنى عمى البصيرة وليس عمى العين، أضللناهم فأنى لهم الهدى بعد هذا الإضلال؟ هذان معنيان يرجع إليهما جميع ما ذكر.

وهنا قال: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مَرّة: أعميناهم، يعني عمى العين، وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون، يعني الطريق الذي يريدون سلوكه، الطريق الحسي وليس طريق الهدى، وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ يعني: الطريق، طريق الصراط الطريق الذي يكون فيه استقامة أو يكون مستقيماً، ما يقال له صراط. 

وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ، قبلها وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا لو نشاء ليست في الآخرة، وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ هل المقصود الصراط الذي يكون على جسر جهنم؟

ليس هذا المقصود، وما رأيت قائلاً بذلك من السلف، ومعلوم أن الكفار لا نور لهم يوم القيامة أصلاً، وأن المنافقين يكون لهم شيء من هذا في أول الأمر ثم بعد ذلك ينطمس ويذهب نورهم، لكن هل الكفار أصلاً على الصراط أو أنهم يسحبون إلى النار مباشرة ويكبكبون فيها، الكفار هل يمرون على الصراط؟

قال الله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور:13]، فدلت ظواهر النصوص على أن الكفار يكبكبون فيها ويُدَعّون فيها ويسحبون مُقَرّنين، يربط بعضهم ببعض فيلقون فيها كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [سورة الملك:8] بخلاف الذين يمرون على الصراط فيتساقطون والكلابيب تخطف من تخطف، فأما الكفار فيُقرّنون ويبقون فيها مجموعات -نسأل الله العافية، فهما معنيان: طمس البصائر فلا تبصر الحق، أو طمس الأعين ومن ثَمَّ يبقى الإنسان لا يبصر الطريق الذي يريد أن يسلكه في الدنيا، فيذكر قدرته عليهم، وكلام ابن جرير له وجه: أن هؤلاء مطموسة بصائرهم فكيف يقول الله : وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ؟

وقوله: وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم قال العوفي عن ابن عباس: أهلكناهم.

وقال السدي: يعني: لَغَيَّرنا خَلْقَهم.

وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة.

وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم.

ولهذا قال تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا أي: إلى أمام، وَلا يَرْجِعُونَ أي: إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدًا، لا يتقدمون ولا يتأخرون.

كلام السلف أن ذلك في الدنيا كالذي قبله وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم يعني ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أهلكناهم، السدي: يعني لغيرنا خلقهم، أبو صالح: لجعلناهم حجارة، هذا يرجع إلى ما قبله، الحسن وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم، وهذا يرجع إلى ما قبله من تغيير خلقهم، وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم المكانة هي المكان، لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم يعني في أماكنهم، أي أن الله -تبارك وتعالى- يبدل خلقهم على المكان الذي هم فيه أو الذي فعلوا فيه المعصية كما يقول بعضهم، فهذا كله في الدنيا. 

لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم في موضعه الذي هو فيه غيّر الله -تبارك وتعالى- خلقه الأول، أنه يطمس على أبصارهم لو شاء فيذهب موضع العين فلا يبصر طريقاً يسلكه، كما أنه -تبارك وتعالى- لو شاء لغير خلقهم فهو عليهم قادر لا يفوتونه، مع أن بعض المفسرين وأعني بذلك يحيى بن سلام المتوفى سنة مائتين للهجرة له تفسير موجود بعض أجزائه إلى اليوم، وهو الذي اختصره ابن أبي زمنين في التفسير المطبوع في ثلاث مجلدات، هو اختصار لتفسير يحيى بن سلام، وهو الذي اختصره أيضاً الهواري من الخوارج وهو مطبوع أيضا في ثلاث مجلدات، هذه مختصرات، لكن الهواري لما كان من الخوارج حذف النصوص التي لا تخدم مذهبه، وأضاف بعض الإضافات.

وتفسير يحيى بن سلام تارة ذهب إلى أن ذلك جميعاً في الآخرة يعني حتى قوله: لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ أن ذلك في الآخرة وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا هم كما قلت: لا يذهبون إلى الصراط، فهذا قال به يحيى، والمناسبة أن يحيى بن سلام بتفسيره هذا مثل ابن جرير، يعني يذكر الآثار ويذكر من عنده تفسيراً وترجيحاً وإعراباً وما إلى ذلك، يعني خلاف الذي يتداوله الناس عادة الذين يكتبون في مناهج المفسرين، ويقولون: كان التأليف من كتب التفسير بذكر الآثار في التفاسير المعروفة من أبي حاتم وعبد الرزاق وابن المنذر وابن حميد وأمثال هؤلاء دون خلط ذلك بشيء آخر، وابن جرير هو الذي جاء بهذه الطريقة أولاً يذكر الآثار، ويذكر تفسيراً يوجه به، يعني غير الآثار يعلق ويناقش.

والواقع أن ابن جرير -رحمه الله- مسبوق لهذا، فابن جرير متوفى سنة ثلاثمائة وعشرة، ويحيى بن سلام متوفى سنة مائتين للهجرة، وتفسيره موجود لكن ناقص بعض الأجزاء، ومختصراته موجودة، وكثير من الأشياء هذه تجدونها تتكرر في مناهج المفسرين وأصول التفسير وعلوم القرآن تحتاج إلى شيء من التمحيص والتحرير، وينقل الناس بعضهم عن بعض غالباً.

لكن تفسير يحيى بن سلام يذكر الآثار، لكن لا يقارن بتفسير ابن جرير بوجه من الوجوه لا بكثرة الآثار، فيحيى بن سلام تارة يذكر آثاره مسندة وتارة من غير إسناد مخلوطة بكلامه، وابن جرير يذكر الأقوال ثم يقول: ِذكْر من قال بذلك ثم يسرد الآثار، ثم ذِكْر من قال بكذا، ثم يسرد الآثار ثم ذِكْر كل قول ويسرد الآثار ثم يقول: قال أبو جعفر فيبدأ يرجح ويناقش ويؤصل ويقعّد، فلا مقارنة من جهة الآثار من ناحية الكثرة ولا من ناحية الإسناد ولا من جهة المعاني التي يذكرها والترجيحات والتأصيل الذي في تفسير ابن جرير، فلا وجه للمقارنة بين التفسيرين.

وتفسير ابن جرير -رحمه الله- مليء بالعلم من الناحيتين ناحية الآثار التي يوردها، ومن ناحية المعاني التي يقررها هو، وطرائق الترجيح، والأصول التي يذكرها في ثنايا ذلك ويبني عليها هذه الترجيحات، ليس له نظير إطلاقاً، بل هذا الكتاب الذي بين أيدينا -تفسير ابن كثير- لا يقارن بينه وبين تفسير ابن سلام بوجه من الوجوه، هذا أنفع وأفضل بمراحل، ذكرت هذا لئلا يُظَن أن هناك ما يضاهي تفسير ابن جرير؛ لأنه يجمع بين هذا وهذا من المتقدمين، لكن المقصود واضح أن ابن جرير لم يكن ابتدأ هذه الطريقة، فقط.

وكلام الحسن وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم، قالوا: ولهذا قال تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا أي: إلى أمام، وَلا يَرْجِعُونَ أي: إلى وراء، يعني بدلاً من أن تكون الأرجل الآلة التي ينتقل عليها يذهب ويجيء تكون الأرجل هي محل القعود، أقعدهم على أرجلهم، طيب يمشي على ماذا؟ كيف ينتقل إلى الأمام ويرجع إلى الوراء إلى آخره إذا كانت الأرجل هي التي يجلس عليها؟! واضح؟ هي آلة القعود، واضح المعنى؟ هذا بمعنى قول من قال: غيّرنا خلقهم، كيف يكون التغيير؟

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ۝ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ۝ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة يس:68-70].

يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رُدّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط.

يعني في قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُننكسه هذه القراءة التي نقرأ بها قراءة عاصم وحمزة، وقراءة الجمهور {نُنْكِسه في الخلق} المعنى واحد ولكن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، يعني أن القراءة بالتشديد تدل على التكثير، وهنا قال: يخبر عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رُدّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط نُنَكِّسْهُ يعني على عكس ما خلقناه عليه من قبل، كيف كانت بدايته؟ من الضعف إلى القوة فيصل إلى مرحلة يكون منتهى القوة.

بعضهم يقول: إذا بلغ الأربعين هذا منتهى القوة، وهذا هو المشهور عند أهل العلم، ثم بعد ذلك يتماسك بعض الوقت ثم يبدأ يتدرج بالضعف إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [سورة مريم:4] نبي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هذا الذي يقولون له: هشاشة العظام، كبار السن يصيبهم هذا هشاشة العظام، وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فهذا طبيعي، فإذا ذكر الكبر ذكر الوهن وهن البدن، وهن العظام وما إلى ذلك من ضعف الحواس والإدراك، والله المستعان.

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم:54]، وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحج:5].

والمراد من هذا -والله أعلم- الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار.

كما يقول الشاعر:

المرءُ يأملُ أن يَعيشَ وطولُ عيشٍ قد يضرهْ
تفنى بشاشتهُ، ويبقى بعدَ حلوِ العيشِ مُرّهْ
وتَخونُهُ الأيّامُ حتَى لا يَرَى شيئاً يَسُرّهْ

لا شك كما قال ﷺ: خيركم من طال عمره وحسن عمله[3]، لكن المقصود هو ما استعاذ منه النبي ﷺ من أن يرد إلى أرذل العمر، فمثل هذا لا يتمناه أحد، وليس هو المقصود بقوله ﷺ: خيركم من طال عمره، أن يرد إلى أرذل العمر، النبي ﷺ استعاذ من هذا، فيتولى الناس منه كل شيء، يكون كالطفل تماماً بكل هذا، فيمنعونه من الخروج بأنه إذا خرج يضيع، قد يضر نفسه، قد يؤذي نفسه كالطفل تماماً، لكن الطفل يُستملح، يُستلطف ويُنتظر فيه الكمال ويُرجى النفع وراء ذلك، وأما هذا الكبير فيُرجى المفارقة لهذه الحياة وليس يرجى له كمالاً بعد ذلك، ينسى كل شيء لا يعرف، يسأل زوجته يقول: من هذه؟ من هذا الرجل؟ يعني ولده، ما يعرف أحداً، فيتولون كل شيء منه من إطعامه وما يقتضيه ذلك، ما أحد يتمنى هذا.

والمراد من هذا -والله أعلم- الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سن الشَّبيبة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.

هو هذا، كل شيء تتأمله يردك إلى هذا المعنى، يعني الهلال يبدأ صغيراً فما يلبث أن يزيد حتى يكتمل فيصير بدراً، ثم بعد ذلك يبدأ بالتلاشي والنقص حتى ينمحي، وهكذا إذا نظرت إلى العام حينما يبدأ تجد أنه يبدأ بهذه الطريقة ثم بعد ذلك يبدأ بالتلاشي، طول الليل والنهار، يقصر الليل إلى أقصر مدى ثم بعد ذلك يبدأ يطول حتى يصل إلى المنتهى، ثم بعد ذلك يبدأ يتقاصر ويطول النهار، فالحياة كلها بهذه الطريقة، تبدأ الأشجار صغيرة ثم بعد ذلك تكتمل، ثم بعد ذلك تبدأ بالتلاشي، البهائم، الدواب، الثمار تبدأ بداية ضعيفة يسيرة ثم بعد ذلك تبدأ تكتمل حتى تصير في حال من الازدهار والنضج، ثم بعد ذلك تبدأ بالضعف والذبول والتلاشي، كل شيء فلا يبقى إلا وجه الله -تبارك وتعالى، مثل هذا كله حري بالعاقل أن يزهد فيه وألا يغتر بشبابه وماله أو بنضارته أو نحو ذلك.

وقوله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ: يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد ﷺ: أنه ما علمه الشعر، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه -عليه الصلاة والسلام- كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إنْ أنشده زَحّفه أو لم يتمه.

يعني بمعنى أنه ﷺ يقوله بطريقة يحصل بها انكسار بحركةٍ بتنوين فينكسر البيت، أو يقدم ويؤخر في لفظه، وقد جاء في هذا روايات، وبصرف النظر فالنبي ﷺ لا يحسن الشعر كما قال الله -تبارك وتعالى، وذلك رداً على دعوى الكافرين بأن القرآن شعر وأن النبي ﷺ شاعر، والعلماء -رحمهم الله- في مثل هذا المقام بعض المفسرين وغير المفسرين ممن تكلموا عن شمائله ﷺ يذكرون أشياء من هذا القبيل، وأنه ﷺ لم يكن يحسن الشعر إطلاقاً، وكذلك ما ذكر وفيه شيء من الوزن مثل:

أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبد المطلبْ
هل أنتِ إلا أصبع دَميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ

أو نحو هذا فيقول: هذا وقع اتفاقاً وليس على أوزان الشعر، يقصد به الشعر الموزون.

وروى البيهقي في الدلائل أن رسول الله ﷺ قال: للعباس بن مرداس السلمي: "أنت القائل:

أتجعلُ نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة"

فقال: إنما هو: بين عيينة والأقرع، فقال: الكل سواء[4]، يعني: في المعنى -صلوات الله وسلامه عليه.

البيت الذي قاله العباس بن مرداس السلمي في غزوة هوازن أعطى النبي ﷺ الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن مائة من الإبل، ونقص من عطاء العباس بن مرداس السلمي فغار فقال:

أتجعلُ نهبي ونهب العُبيد بين عيينة والأقرع
وما كنتُ دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يُرفع

إلى آخر القصيدة التي قالها، فقال النبي ﷺ: اقطعوا عني لسانه[5]، فوفوا له مائة، فكان هو سيد قومه، لربما لا يقصد زيادة من الإبل أن ذلك يكون هو غاية طلبته، وإنما المقصود بذلك أنه لا يخفى العطاء عن عيينة والأقرع بن حابس بحيث إن الناس لا يرونه بعد ذلك، أو أن قومه أو أن العرب ترى أنه دونهم، فقال ما قال، يقول: أنا كنت مشغولاً، وما كنت دون امرئ منهما، كنت مشغولاً بمطاردة الأعداء، يعني لم يحضر هذه القسمة، جاء بعد ذلك؛ لأنه مشغول بمصاولة العدو ومطاردته، وهزيمة الفلول، فالشاهد أن النبي ﷺ في هذه الرواية قال:

أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين الأقرع وعيينة

انكسر البيت، صار البيت مكسوراً، الأصل بين عيينة والأقرع.

وذلك لأن الله تعالى علمه القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42]، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يُؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال وآراء الجُهال، وقد كانت سجيته ﷺ تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا.

إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي: ما هذا الذي علّمناه إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي: بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره.

ظاهر كلام ابن كثير هنا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ، يعني ما هذا الذي علمناه إلا ذكر وهو القرآن، ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ وابن جرير -رحمه الله- يقول: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ أي محمد ﷺ، إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ يعني أنه مُذكِّر، قد أنزل الله عليه القرآن فيكون "ذكر" من صفة محمد ﷺ، الذكر قد جاء عن طريقه، أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه، فإذا قيل: إن النبي ﷺ ذِكْر أي أنه مذكر بما أوحي إليه بما أوحاه الله إليه قد أوحى الله -تبارك وتعالى- له أوحى إليه القرآن إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ كما قال الله في الآية الأخرى: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا [سورة الطلاق:10، 11].

وبعضهم يقول: أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا هو القرآن، رَّسُولًا أي أرسل رسولاً، يكون منصوباً بفعل مقدر محذوف، أرسل رسولاً، وبعضهم يقول: إن الذكر هو الرسول هناك قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا فهو بدل من الذكر، وهذا هو اختيار ابن جرير في هذه الآية هنا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ فالنبي ﷺ ذِكْرٌ في هذا الموضع أيضاً عند ابن جرير.

ولهذا قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: لينذر هذا القرآن البيّن كلّ حي على وجه الأرض، كقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17]، وإنما يَنتفع بنذارته من هو حَيّ القلب، مستنير البصيرة، كما قال قتادة: حي القلب، حي البصر، وقال الضحاك: يعني عاقلا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: هو رحمة للمؤمن، وحجة على الكافر.

هنا في قوله -تبارك وتعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّاقال: لينذر هذا القرآن كل حي على وجه الأرض كقوله: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي حي القلب كما قال الله -تبارك وتعالى: مَن كَانَ حَيًّا أي عاقلاً يقصد بذلك من كان له قلب حي وقاد، فإنّ موضع القلب موضع العقل، هو القلب فمن كان له قلب حي فهو الذي يعقل عن الله -تبارك وتعالى- وينتفع بالقرآن كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، فخصهم بذلك؛ لأنهم المنتفعون به.

وهنا قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: حي القلب فهو الذي ينتفع مع أنه منذر للجميع لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ لكن خص هؤلاء أصحاب القلوب الحية لأنهم المنتفعون أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122]، هذه حياة القلب، الإيمان والهداية، وهكذا فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [سورة الروم:52]. 

بعض أهل العلم قال: هذا من قبيل ضرب المثل، لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى يعني موتى القلوب، الكفار الذين ختم الله على قلوبهم، لقد مضى الكلام على هذه الآيات وغيرها جميعاً في رمضان في الكلام على الأمثال، الآيات التي ذكر فيها حال الكافر أنه ميت أو وصف الكافر بأنه ميت، وأن المؤمن حي، وهكذا مضى الكلام على السميع والبصير وأن المقصود بذلك الذي يسمع سماع الانتفاع ويبصر الحق هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [سورة الرعد:16]، وكذا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أن هذا كله من قبيل المثل.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ۝ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس:71-73].

يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم، فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ: قال قتادة: مطيقون أي: جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه، وذاك ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطارُ مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير.

الآن هذا المعنى ظاهر هو الذي عليه عامة المفسرين سلفاً وخلفاً وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ يعني يتصرفون فيها وتنقاد لهم، سهلة لا تستعصي عليهم يعني ليست كالوحشية ذات نفور وجفول من الناس، وإنما هي تحت تصرفهم فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ يتصرفون فيها ويقودونها وينتفعون بها كيف شاءوا.

وقال بعضهم: فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ بمعنى أنها بجملة أملاكهم يعني أنهم يتملكون هذه في جملة ما يملكون من الزروع والدور وما إلى ذلك، فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ يملكونها، لكن القول المشهور هو الأول وهو أدل في الامتنان، امتنان الله على الخلق كيف ذللها لهم، ولهذا قال بعدها: فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ فهذه الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، لمّا جعلها مذللة لهم أمكنهم بعد ذلك ركوبها والانتفاع بها في الأكل وغيره.

وقوله: فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ أي: منها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار.

يعني مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: حلوب يعني محلوبة، ركوب يعني مركوبة فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ التي يركبونها.

وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ إذا شاءوا نحروا واجتزروا.

وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أي: من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ أي: أفلا يُوحِّدون خالق ذلك ومسخره، ولا يشركون به غيره؟

  1. رواه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11653)، والحاكم في المستدرك، برقم (8778)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
  2. تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3271)، برقم (18455)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، ط3، سنة النشر: 1419هـ.
  3. رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2329)، وأحمد في المسند، برقم (17680)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3296).
  4. رواه مسلم، في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، برقم (1060)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 179).
  5. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 273).

مواد ذات صلة