الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[6] من قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} الآية:74 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٢ / جمادى الأولى / ١٤٣٣
التحميل: 5000
مرات الإستماع: 4473

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.

اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ۝ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ۝ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة يس:74-76]: يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.

قال الله تعالى: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.

وقوله: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ: قال مجاهد: يعني: عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة، محضرة عند حساب عابديها؛ ليكون ذلك أبلغ في خِزْيهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم.

وقال قتادة: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْيعني: الآلهة، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم سوءاً، إنما هي أصنام.

وهكذا قال الحسن البصري، وهذا القول حسن، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ قال الحافظ: والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيراً، ولا تدفع عنهم سوءاً إنما هي أصنام إلى آخر ما قال، والمعنى أن الكفار جند للأصنام محضرون، وكما يقول الحسن يعبر عن عبارات السلف، مفيد ليتبين المراد، يعني هذا القول الذي هذه الأصنام والآلهة يدفعون عنها في الدنيا.

وهكذا قول الزجاج بمعنى أنهم ينتصرون لهذه الأصنام في الدنيا وهي لا تستطيع نصرهم، وعلى هذا الاعتبار يكون الضمير في قوله: وَهُمْ يرجع إلى المشركين، لا يستطيعون أي الآلهة نصرهم، نصر المشركين، عبدوها من أجل أن تنصرهم وهي لا تستطيع نصرهم وَهُمْ يعني المشركين لَهُمْ الضمير الثاني يرجع إلى الآلهة، فالمشركون لآلهتهم أصنام لهذه المعبودات.

جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ينتصرون لها ويذبون عنها، ويستميتون في سبيلها ويوالون فيها، ويعادون، فهم جند لهذه الآلهة الباطلة في الدنيا رجاء النصر منها، والمدد وما إلى ذلك، وهي لا تستطيع من ذلك قليلاً ولا كثيراً، فالضمير الأول يرجع إلى المشركين على هذا القول، والضمير الثاني يرجع إلى الآلهة وهم: أي المشركون، لهم: للأصنام جند، المشركون جنود مجندة لهذه الأصنام يبذلون في سبيلها الغالي والرخيص.

وبعض السلف كمجاهد عكس ذلك فقال: وَهُمْ أي الأصنام الآلهة، لهم أي للمشركين جند محضرون يعني في الآخرة وهذا رده كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- باعتبار أن هذه الآلهة تكون عدواً لهؤلاء العابدين لها من دون الله -تبارك وتعالى- كما أخبر الله -تبارك وتعالى- في غير ما موضع من القرآن، جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فتكون جنداً محضرة لهؤلاء العابدين لها من دون الله ، فهي في الواقع لا تنصرهم ولا تنفعهم لا قليلاً ولا كثيراً، فهم يعادونهم، وهذا القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير ورجحه قبله ابن جرير ونقله جماعة من هنا من السلف هو الأقرب، -والله تعالى أعلم.

وَهُمْ يعني المشركين وَهُمْ يعني الآلهة جُنْدٌ فإذاً لم تستطع نصرهم وهم مع ذلك يبذلون كل مستطاع في الذود عنها، والمحاماة، لكن كما قلت: هذا مثال على جمع أقوال السلف في التفسير التي يتضح بها المراد، يعني لو بقينا مع قوله مثلاً: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ إذا نظرنا إلى بعض الأقوال فقط عن السلف قد لا يتبين المراد قال قتادة: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُم [سورة الأنبياء:43] يعني الآلهة، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تدفع عنهم سوءاً، هكذا قال الحسن البصري.

وقوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْأي: تكذيبهم لك وكفرهم بالله، إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أي: نحن نعلم جميع ما هم عليه، وسنجزيهم وصْفَهم ونعاملهم على ذلك، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا ولا حقيرًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديمًا وحديثًا.

وهذا كقوله -تبارك وتعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8]، فهنا الوقف لازم على قوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:35، 36]، فالهداية بيده -تبارك وتعالى، وأيضاً هذا الحزن لا يورث نفعاً، وإنما يعود بالضرر فحسب.

وكما ذكرت في بعض المناسبات كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الحزن إذا تتابع على القلب أضعفه وعطل قواه فصار صاحبه لا ينتفع بأموره الدنيوية ولا أموره الدينية والأخروية إذا كثر الحزن على القلب وتتابع، ولذلك لا يحسن بالإنسان أن يجتر الأحزان سواء كان ذلك بسبب عدم هداية هؤلاء الناس فإن كان ذلك يغلبه فينبغي أن يدفع أسبابه؛ وذلك بالنظر فيما ذكرت وبيّنه الله في كتابه من أن الهدى بيده وأنه لو شاء لجمعهم على الهدى.

ثم إن هذا الكيد الكبير وما يقولونه وما يأتمرون به الله يقول: إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فكل هذا التدبير، والمكر وما يبيتون كل ذلك قد أحصاه الله وعلمه، وسيجازيهم عليه، ليس عليك حساب هؤلاء، وليس عليك أيضاً هداهم، فلا حاجة لمثل هذه الأحزان التي تورث ضرراً من غير جدوى.

هذا يقال لأتباع الرسول ﷺ في كل زمان لاسيما في هذه الأوقات التي أصبح كيد الأعداء من المنافقين وغيرهم يصل إلى الأفق بالوسائل التي تعرفون، فيتعمد بعض الخيرين ليتابع كل ما يصدر عن هؤلاء فيقرأ لهم تلك السموم التي يكتبها الواحد منهم بنابٍ -نسأل الله العافية- يقطر سماً، فمثل هؤلاء إنما كتبوا هذا ليُقرَأ، فهؤلاء شياطين الإنس، وصار كثير من شياطين الجن من بعض تلامذتهم، فحينما يكتبون مثل هذه ويقرأ الواحد ثم بعد ذلك ينفطر فؤاده وتتشقق كبده غيضاً وكمداً وحنقاً وغيرة على دين الله  أنا أقول: إن مثل هذا لا يجدي بل هو طريق إلى الهم والأمراض المستعصية، فلا حاجة إلى مثل هذا، يكفي أن يطلع الإنسان إطلاعاً مجملاً ويعرف هؤلاء، وبعض هؤلاء يكفي أن تنظر إلى العنوان وتنظر إلى وجهه، نسأل الله العافية.

أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [سورة يس:77-80].

قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وعروة بن الزبير، والسُّدِّي، وقتادة: جاء أُبي بن خلف -لعنه الله- إلى رسول الله ﷺ وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار، ونزلت هذه الآيات من آخر "يس": أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، إلى آخرهن[1].

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله ﷺ: أيحيي الله هذا بعد ما أَرى؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم، قال: ونزلت الآيات من آخر "يس"، ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير[2].

وهذه الآيات سواء قد نزلت في أُبي بن خلف، أو في العاص بن وائل، أو فيهما، ولكنها عامة في كل مَنْ أنكر البعث.

يعني من حيث المعنى فإذا صحت الروايات كانت أكثر من رواية، نزلت في فلان، ونزلت في فلان فإن كان ذلك في الزمان قد تقارب فإنه يقال حصل من هذا، وهذا القول حصل من الآخر مثله، فنزلت الآية بعدهما فكلاهما سبب للنزول، فقد يتعدد السبب والنازل واحد والعكس، ولا إشكال في هذا وإن تباعد النزول فإنه يحكم بتكرر النزول -والله تعالى أعلم.

وإن لم يعلم ذلك فيبقى الاحتمال فيقال: إن كان نزولاً متقارباً نزلت بعدهما، وإن كان متباعداً فقد نزلت الآية مرتين، المقصود أن هذا جميعاً يدور على أن ذلك سبب نزولها، بمعني لا نحتاج إلى الترجيح وإن قال بعض أهل العلم: إنه يرجح في مثل هذا المقام يعني إذا لم يعلم أن الآية نزلت بعدهما، وأن ذلك في وقت متقارب، يعني لا يقولون بتكرر النزول، يرجحون -والله أعلم.

والأقرب أنه لا حاجة إلى هذا؛ لأن الترجيح فيه إهدار لإحدى الروايتين، وكل ذلك إذا صح وكان صريحاً، أما إذا كان أحدهما ضعيفاً فتترك الروايات الضعيفة، وإذا كانت أيضاً غير صريحة فإنها تترك وهي قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، فيكون ذلك من قبيل التفسير، والصريح هو أن يقول: أسباب نزول هذه الآية كذا، أو يذكر واقعة أو سؤالاً ثم يقول: فنزلت الآية.

والألف واللام في قوله: أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ للجنس، يعم كل منكر للبعث.

أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي: أولم يستدل مَنْ أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ۝ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ۝ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة المرسلات:20-22]، وقال إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [سورة الإنسان:2] أي: من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟

هذه إحدى الطرق التي يُستدل بها على البعث، فأصل خلق الإنسان من هذه النطفة الضعيفة كيف جعل الله منها هذا المخلوق الذي فيه هذه الصورة التي كرمه الله بها، وركبه هذا التركيب وجعله في أحسن تقويم، وصار من الناحية الباطنة يعقل ويفكر وينظر ويتعرف على الأشياء وما إلى ذلك، وهو من نطفة، فهذا استدلال بأصل الخلقة، وطرق الاستدلال على البعث في القرآن كثيرة، وقد مضى منها في سورة البقرة جملة، فذكر الله فيها أحياء، أناس قد ماتوا إلى غير ذلك.

ومضى الكلام على نحو خمسة أدلة في سورة البقرة كل ذلك يدل على البعث، مثل: قتيل بني إسرائيل لما أحياه الله ، ومثل: أصحاب موسى لما جاءوا إلى الطور وحصل لهم الصعق فماتوا -على الراجح أنها موتة ولم تكن إغماءة- فأحياهم الله ثانية، وكذلك أيضاً الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وما قص الله من خبره فأحياه بعد مائة عام، وكذلك أيضاً الطير التي أمر الله إبراهيم ﷺ لما سأله كيف يحيي الموتى في القصة التي قصها الله في سورة البقرة إلى غير هذا، هذا كله من إحياء الموتى، دليل واحد نوعً واحد ناس ماتوا فأحياهم الله

وهذا دليل آخر: أصل خلق الإنسان، وهذا غير الدليل الذي يتكرر في القرآن أيضاً، وهو الاحتجاج بالنشأة الأولى أن الذي خلق أول مرة -بصرف النظر عن الأصل حتى هذا من تراب- قادر على الإعادة، فإن ذلك في معهود المخاليق يكون أصعب، فالذي كان قادراً على الخلق ابتداء هو على الإعادة أقدر مع أن ذلك يستوي في حق الله -تبارك وتعالى.

كما قال الإمام أحمد في مسنده عن بُسْر بن جَحَّاش: إن رسول الله ﷺ بَصق يوما في كفِّه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: قال الله تعالى: ابن آدم، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت: أتصدّقُ وأنَّى أوان الصدقة؟[3]، ورواه ابن ماجه.

هذا صححه الحافظ ابن حجر، والبوصيري والألباني وحسنه الأرنؤوط، ولا حاجة لذكر هذا؛ لأن الأصل أن هذا الكتاب اختار الروايات الصحيحة فإن كان ثمّت شيء ينبه عليه في موضعه.

ولهذا قال: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ أي: استبعد إعادة الله تعالى -ذي القدرة العظيمة التي خلقت السماوات والأرض- للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله خلقه من العدم، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت، وأين تفرقت وتمزقت.

هنا في قوله تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ [سورة الرعد:35]، قالوا: يعني الصفة العجيبة، مع أن بعض أهل العلم أنكر هذا، وقال: إن المثل لا يأتي بهذا المعنى، وحمله على المعنى الذي طرده في سائر المواضع، لكن أحياناً على وجه من التكلف فيما يبدو -والله تعالى أعلم.

والذين قالوا: إن المثل يرجع إلى معنى الشبه وطردوا هذا في سائر المواضع -ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وكبير المفسرين ابن جرير- يقولون في مثل هذا الموضع: إن المراد به أيضاً الشبه، ووجه الشبه يقولون: من جهة أن هذا زعم أنه لا أحد يقدر على إعادة هذه العظام التي صارت رميماً، لا يقدر أحد على إعادتها ثانية، وجعل الله -تبارك وتعالى- كمن لا يقدر، لاحظْ الكاف هنا جعله كمن لا يقدر، هذه الكاف كاف التشبيه يقولون: جعل الله كغيره مَّثَلُ الْجَنَّةِ القول: إنه من صفة الجنة، هناك ليس فيه تكلف وبه فسر صاحب الكشاف.

والذين قالوا: إنه يرجع إلى الشبه مطلقاً يقولون هناك: إن جئت إلى قصص القرآن التي يجعلها شيخ الإسلام من جملة الأمثال يقولون: لأنه يوجد قدر مشابهة فهؤلاء كفروا، وأولائك آمنوا، أولائك استجابوا لرسولهم فالله يذكر هذا لمن بعدهم من أجل ألا يقعوا فيما وقعوا فيه، فيقولون: هذا الشبه يحصل به الاعتبار، فإن هذه الأمثلة إنما ضربت من أجل الاعتبار والاتعاظ باعتبار الانتقال، مثل العبارة المعبرة تنتقل من العين إلى الخد، أو العكس ففيها معنى العبور، فينتقل من حال أولائك، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فينتقل من هذا إلى هذا، والله أعلم.

روى الإمام أحمد عن رِبْعيّ قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة: ألا تحدثُنا ما سمعتَ من رسول الله ﷺ؟ فقال: سمعته يقول: إن رجلا حضره الموت، فلما أيس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا متّ فاجمعوا لي حَطَبا كثيرًا جزَلا ثم أوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي وخلَصت إلى عظمي فامتَحَشَتْ، فخذوها فدقوها فَذَروها في اليم. ففعلوا، فجمعه الله إليه فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له، فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نبَّاشا[4].

هذا الرجل الذي خاف من ذنوبه العظام كان نباشاً، ينبش القبور ويأخذ الأكفان ويبيعها، قديماً كان هناك من يشتغل بنوع من السرقات، سرقة الأكفان لما فيه الناس من فقر وحاجة وكذا، وتعلمون أن مِن قطاع الطرق مَن كانوا يسلبون ثياب الناس فيتركونهم عراة، وهذا حصل كثيراً في الحج، وطريق الحج وعلماء أصابهم، وقع لهم هذا في طريقهم للحج، فيسرقون الثياب، وإلى عهد قريب ربما اشترط المغسل للميت والمغسلة أن تأخذ عباءتها أو نحو ذلك، يعني أن تُعطى مقابلاً، أما اليوم فصار الناس يستوحشون حتى من ثياب الميت ويريدون التخلص منها في أسرع وقت وألا تبقى في البيت، وألا ينظر إليها وألا يمسوها، والشجاع في هذه الدار هو الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمة بأسرع وقت، والباقي لا يستطيعون أن يمسوها بأيديهم كأن شيئاً قد حل بها.

وقد أخرجاه في الصحيحين بألفاظ كثيرة منها: أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يَذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، في يوم رائح -أي كثير الهواء- ففعلوا ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا هو رجل قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له"[5].

هذا الحديث فيه كلام معروف لأهل العلم في توجيهه هل هذا الرجل كان يشك في قدرة الله ؟ أو أنها حال عارضة بسبب غلبة الخوف من الله ؟

فمن أهل العلم من يقول: إنه كان يشك في قدرة الله على الإعادة في مثل هذه الحال لجهله؛ لأنه جاهل، والشك بقدرة الله كفر مخرج من الملة، والإنسان يشك في قدرة الله على بعثه إذا حُرق ثم ذُري بهذه الطريقة في يوم رائح، والله لا يتعاظمه شي ولا يعجز شيء، فهذا الرجل هل جهله في هذا يغني عنه إذا قلنا: إن السبب هو الجهل؟

هذا قال به جمع من أهل العلم، وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: هذا بسبب الجهل كان يشك في القدرة، والذي يشك في القدرة كافر، وشيخ الإسلام يقول في مثل هذا: عذر بجهله، فالعذر بالجهل يكون حتى في مثل هذه الأمور العظام، وأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإلا ما آتاها، وأن المكلف إذا بذل وسعه في طلب الحق ثم بعد ذلك عجز عن إدراك بعضه في قواه وإمكاناته وقُدره العقلية أو في إمكاناته العملية إذا كان ذلك من الأمور العملية فإن الله يغفر له؛ لأن الله قال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [سورة الطلاق:7]، هذا قول شيخ الإسلام: العذر بالجهل حتى في مثل هذه القضايا.

والذين استشكلوا هذا وقالوا: هذا شك في القدرة لا يمكن أن يكون معه مؤمناً حملوا ذلك على معنى آخر وهو أن الإنسان لربما في حالات الخوف الشديد يصيبه شيء من الذهول فيقع منه بعض الشيء، لا لأنه يشك في القدرة مثلاً، وإنما لغلبة الخوف في هذا الحال أصابه ذهول ففعل أو قال في هذه الحالة الخاصة فإنه لا يؤاخذ؛ لأن الإنسان يختل مزاجه وتفكيره في حالات الفرح الشديد، كالرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[6]، لما رأى ناقته عند رأسه، وكذلك في حالات الخوف الشديد يمثلون بهذا.

وكذلك في حالات الشدة الواقعة على أهل الإيمان، أو على بعضهم، ويحمل عليه قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [سورة يوسف:110] على هذه القراءة، "كُذِبوا"، القراءة الأخرى متواترة "كُذِّبوا، هذه لا إشكال فيها يعني كذّبهم قومهم قالوا: أين الذي تقولون من النصر وما وعدتم به؟ القراءة الأولى التي نقرأ بها وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ما معناها؟ معناها أن وعد الله قد تخلف، وكيف يُظن هذا بالرسل؟ كيف الرسل يظنون هذا وهم أعلم الناس بربهم؟

الجواب أن هذا خاطر وعارض يعرض للنفوس في أوقات الشدائد العظيمة ولكنها ما تلبث أن تدفع ذلك، كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه "القواعد الحسان" إن هذا في حالات شدة الخوف، شدة البلاء الذي نزل بهم، فعلى هذا المَهْيَع يكون مثل هذا الرجل قال ما قال  لشدة الخوف لا أنه كان يشك في القدرة، قال: ولو كان يشك في القدرة كان كافراً، وشيخ الإسلام يقول: إنه كان يشك لجهله فغفر الله له؛ لأن هذا هو مبلغه في العلم.

وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي: الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خَضرًا نَضرًا ذا ثمر ويَنْع، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا، توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء.

يعني الآن هذا دليل ثانٍ من دلائل القدرة على البعث وحاصله إخراج الشيء من ضده، الشجر الأخضر طبيعته وتكوينه وتركيبه مقابل للنار تماماً، النار التي طبيعتها الإحراق، والحرارة يناسبها اليبوسة، الذي يكون بهذه المثابة وهو الشجر الأخضر طبيعته الرطوبة، فهي تخالف تماماً وتناقض طبيعة النار، فالنار لها خصائص، والشجر الأخضر له خصائص متناقضة، فإخراج الشيء من نقيضه دليل من دلائل قدرة الله يدل على البعث، يُخرج الشيء من معدنه مما يقاربه ويشاكله، لكن أن يُخرج الشيء من النقيض هذا دليل على القدرة، ومن شاء المزيد حول المسألة فليراجع كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فقد فصل في هذا، وذكر خصائص النار، وطبيعتها، وذكر خصائص الشجر الأخضر وطبيعته، وبه يتضح توجيه هذا الدليل.

قال قتادة في قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه.

وقيل: المراد بذلك شجر المَرْخ والعَفَار، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قَدْح نار وليس معه زناد فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء، روي هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وفي المثل: لكل شجر نار، واستَمجَدَ المَرْخُ والعَفَار.

واستنجدَ المَرخ والعَفار يعني أنه تميز بهذا، يعني كل شجر فيه نار، ولكن المرخ والعفار هذا مثلُ ذكرٍ وأنثى في الشجر يكون زنداً فيقدح فيه فيشتعل، فكانوا يوقدون فيه النار مثل الولاعة، يعني بهذين النوعين من الشجر، يقدح هذا بهذا، هذا العود بهذا العود ويشتعل، فتميز المرخ والعفار بهذه الخاصية.

وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا الغاب.

لا ليس الغاب، في كل شجر نار إلا العناب، فالعناب نوع من الشجر المعروف له ثمر.

الشجر الأخضر الذي أخرج الله منه النار على المعنى الأول أن ذلك يكون حطباً فيكون وقوداً للنار، والمعنى الثاني أنه في حال خضرته قبل أن يصير حطباً ويجف يخرج منه النار، وذلك في نوع مخصوص، وهو المرخ والعفار الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا، فعلى الأول أن مادة النار هي الشجر لكن بعد جفافه ويبوسته، والثاني لا، يقطع الغصن من هذه ويقطع الغصن من هذه ثم يقدح فتخرج منه النار، فخرجت النار من هذه الأغصان الرطبة، وهذا أوضح وأدل في القدرة، من إخراج الشيء من أضداده ولكن لا ينفي الأول، فمادة النار هي الحطب، والحطب من الشجر.

لكن هنا قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا هل المقصود به مباشرة هو شجر أخضر كالمرخ، والعفار؟ ذلك ليس بقاطع، -والله تعالى أعلم، فيمكن أن يكون أخرج من الشجر الأخضر ناراً بعدما يقطع ثم يجف ثم يكون وقوداً للنار، فالله أخرج من الشجر الأخضر ناراً وذلك بقطعه حتى يصير حطباً فيكون وقوداً للنار كما هو معروف، ومن صوره الجلية الواضحة وهي لربما أدل في القدرة -والله أعلم- قطع هذا النوع من الشجر وهو أخضر ثم بعد ذلك يقدح فيخرج منه النار.

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ۝ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۝ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس:81-83].

هذا هو الدليل الثالث وهو خلق السماوات والأرض لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر:57]، فالذي خلق هذه الأجرام العظام قادر على إعادة هؤلاء من جديد، فذلك سهل يسير.

يقول تعالى منبهًا على قدرته العظيمة في خلق السماوات السبع، بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال، وبحار وقفار، وما بين ذلك، ومرشدًا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة، كقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر:57]، وقال هاهنا: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي: مثل البشر، فيعيدهم كما بدأهم، قاله ابن جرير.

وهذه الآية كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الأحقاف:33]، وقال: بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: إنما يأمر بالشيء أمرًا واحدًا، لا يحتاج إلى تكرار أو تأكيد:

إذَا مَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ "كُنْ" قَوْلَة فَيَكُونُ

وروى الإمام أحمد عن أبي ذَر أن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقول: يا عبادي، كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئًا فإنما أقول له كن فيكون[7].

هذا الحديث بعض الجمل فيه لها ما يشهد من الأحاديث الصحيحة، لكنه بهذا السياق فيه كلام معروف، ضعفه بعض أهل العلم وصححه آخرون، وممن صححه الشيخ شعيب الأرنؤوط، وممن ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع.

 وقوله: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وله الخلق والأمر، وإليه ترجع العباد يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المتفضل.

ومعنى قوله: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ كقوله : قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة المؤمنون:88]، وكقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[سورة الملك:1]، فالملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورَحَمُوت، ورَهْبَة ورَهَبُوت، وجَبْر وجَبَرُوت، ومن الناس من زعم أن المُلْك هو عالَم الأجساد، والملكوت هو عالَم الأرواح، والأول هو الصحيح، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.

يعني أنه لفظ مبالغة في المُلك، ملك ملكوت، رحمة رحموت، جبر جبروت وهكذا.

معروف أن زيادة المبنى لزيادة المعنى فالملكوت أبلغ من الملك، والرحموت أبلغ من الرحمة وهكذا، ولهذا قالوا أيضاً فيما عدل به من الصيغ: الرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأن رحم يقال: رحم رحمة فهو راحم ورحيم فلما عدل به عن نظائره تقول: كرم فهو كريم، عظم فهو عظيم، فهنا رحم فهو رحمن فلما عدل به عن نظائره كما يقول ابن جرير -رحمه الله- كان ذلك أبلغ، فالرحمن أبلغ من الرحيم.

روى الإمام أحمد عن حذيفة -وهو ابن اليمان قال: قمت مع رسول الله ﷺ ذات ليلة، فقرأ السبع الطُّوَال في سبع ركعات، وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال: الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي[8].

ثبت عن حذيفة أنه صلى مع النبي ﷺ كما هو معلوم، لكن بهذا السياق الحديث فيه ضعف، والجملة الأخيرة أنه في ركوعه وسجوده ﷺ كان يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، هذا جاء أيضاً من غير حديث حذيفة -رضي الله تعالى عنه، حديث عوف بن مالك الأشجعي ثابت صحيح، وهنا الحديث بهذا السياق فيه ضعف، وهذا يحتج به من يقول بأن ترتيب السور توقيفي، ويحتج بنظائره، يعني هنا يقول: قرأ السبع الطوال، السبع الطوال معروفة، ومعنى ذلك أن السبع الطوال كانت مرتبة بهذا الترتيب في عهد النبي ﷺ، ومعلوم أن النبي ﷺ قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة فلم يكن بهذا الترتيب، لكن هذا الحديث لا يخلو من ضعف، أي الذي أورده الحافظ ابن كثير، حديث حذيفة في هذا السياق.

وروى أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمتُ مع رسول الله ﷺ ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة[9]، ورواه الترمذي في الشمائل، والنسائي.

آخر تفسير سورة "يس" ولله الحمد والمنة.

  1. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3606)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
  2. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، (10/ 3203)، برقم (18126).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (17842)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8144).
  4. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3479)، وأحمد في المسند، برقم (23353)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  5. رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (650)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  6. رواه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم (2747).
  7. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577)، وأحمد في المسند، برقم (21367)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، ليث بن أبي سليم وشهر بن حوشب ضعيفان".
  8. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (23300)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة ابن عم حذيفة".
  9. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (873)، والنسائي، كتاب التطبيق، باب الدعاء في السجود، برقم (1132)، وأحمد في المسند، برقم (23980)، وقال محققوه: "إسناده قوي"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (817).

مواد ذات صلة