بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين يا كريم.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:6-10].
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، قرئ بالإضافة وبالبدل، وكلاهما بمعنى واحد، فالكواكب السيارة والثوابت في السماء تضيء لأهل الأرض، كما قال تعالى وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [سورة الحجر:16-18].
وقوله هاهنا: وَحِفْظًا تقديره: وحفظناها حفظًا، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ يعني: المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى أي: لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله مما يقوله من شرعه وقدره، كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة سبأ:23]، ولهذا قال: وَيُقْذَفُون أي: يرمون مِنْ كُلِّ جَانِبٍ أي: من كل جهة يقصدون السماء منها، دُحُورًا أي: رجما يدحرون به ويزجرون، ويمنعون من الوصول إلى ذلك، وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ أي: في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر، كما قال: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [سورة الملك:5].
وقوله: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما تقدم في الحديث، ولهذا قال: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ أي: مستنير.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء فكانوا يستمعون الوحي، قال: وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا تُرْمى قال: فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعًا، قال: فلما بُعث رسول الله ﷺ جَعل الشيطان إذا قصد مقعده جاء شهاب فلم يُخْطئه حتى يُحرقَه، قال: فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هو إلا من أمْر حدث، قال: فَبَثّ جنوده، فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي بين جبلي نخلة -قال وكيع: يعني بطن نخلة- قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ فتكون الكواكب بدل الزينة، وهذه الزينة التي يزين الله بها السماء الدنيا هي الكواكب، بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ كأنه قال هنا: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بالكواكب، وعلى الإضافة بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ من غير تنوين زينة، بزينةِ الكوكب، زينها بزينة الكواكب، هذا هو المراد من كلام الحافظ -رحمه الله.
وقوله -تبارك وتعالى: لَا يَسَّمَّعُونَ، بمعنى أنه يحصل الاستماع لمن خطف الخطفة، وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ، وأما قوله -تبارك وتعالى: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فبمعنى أنه لا يصيبه الشهاب، فالأول يدل على أنه لا يحصل لهم الاستماع مطلقاً لَا يَسَّمَّعُونَ لا يتسمعون؛ لأن أصل قوله: لَا يَسَّمَّعُونَ أي: لا يتسمعون كما في القراءة الأخرى المتواترة، نفي للسماع من أصله، ومن ثَمّ فهم لا يحصل لهم سماع ولا استماع.
الثانية: لا يتسمعون حصل لها الإدغام إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [سورة الشعراء:212]، وهذا فيه نظر -والله تعالى أعلم، فهم معزلون عن السمع بهذه الشهب، وكما في هذه الرواية التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله: كان للشياطين مقاعد في السماء فكانوا يتسمعون الوحي، وكانت النجوم تجري وكانت الشياطين لا تُرمى، فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض … إلى آخره ثم مُنعوا من هذا فعُزلوا عن السمع فكانوا كما قال الله : إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ، وكما قال الله عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [سورة الجن:8، 9] يعني مرصداً.
وقد يقول قائل: إنه وُجد ما يدل على أن الرجم لهم بهذه الشهب كان موجوداً في الجاهلية، ويدل عليه حديث: ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟، قالوا: "يموت عظيم أو يولد عظيم"[1]، فالسؤال الذي يرد أنهم إذا كانوا بالجاهلية يُرجمون فما الجديد بعد بعث النبي ﷺ؟ قد أجاب بعض السلف بأن الجديد أن ذلك صار مضاعفاً فوجدوا السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً أكثر وأعظم مما كان، يعني كانوا يرجمون قبل بعث النبي ﷺ إلا أن ذلك بعد بعثه -عليه الصلاة والسلام- صار أشد، وتضاعف.
وبعض أهل العلم يقول: الاستثناء في قوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ منقطع لا يرجع إلى شيء مما سبق ليس بمتصل، بمعنى لكن إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ، والحديث صور استراق هؤلاء الشياطين للسمع وأنهم يرقى بعضهم على بعض وكل واحد منهم يلقيها للذي يليه حتى يصل إلى الكاهن، فيكذب معها مائة كذبة.
وقوله: شِهَابٌ ثَاقِبٌ أي: مضيء، يعني إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [سورة الحجر:18] هنا بمعنى الثاقب وهو ما نراه ونشاهده يكون معه في الإضاءة، كأنها جذوة من نار تلقى على هذا الشيطان فهذه الشهب التي نراها ترمى بها الشياطين، وصدر سورة الصافات هذا له أثر عجيب في القراءة على الشياطين يعني المصروع الذي يتخبطه الشيطان، ومن به شيطان "مس" ونحو ذلك إذا قرئ عليه صدر هذه السورة فإنه لا يتمالك، فإذا قرأتَ عليه الآية: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ فإن ذلك يكون في غاية الإيلام والإيجاع له، لا يتمالك يصيح بأعلى صوته، ويطلب الخلاص والخروج من هذا المصروع، فإذا كررت ذلك عليه فكأنما تنخسه برمح، هو من أقوى ما يؤثر في هؤلاء الذين يصرعون الناس ويؤذونهم من هؤلاء الشياطين.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [سورة الصافات:11-19].
يقول تعالى: فَسَلْ هؤلاء المنكرين للبعث: أيّما أشد خلقًا هم أم السماوات والأرض، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ -وقرأ ابن مسعود: "أم مَن عَددنا"- فإنهم يُقرّون أن هذه المخلوقات أشد خلقًا منهم.
كثير من السلف يفسرون هذا الموضع، أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا بما سبق، يعني الأشياء التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- قبله، هذه الأشياء التي عدها من ذكر السماوات والأرض والشياطين.
هذا كله هل يرجع إلى معنى واحد؟، هذا الذي يقال له: اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، وعامة عبارات السلف مما ذكر والذي لم يذكر يرجع إلى هذا المعنى، يعني أنه يلزق باليد، وكذلك أيضاً اللازب كل ذلك بمعنى واحد، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنه خلق الإنسان من تراب، خلق آدم ﷺ من تراب، وأخبر أنه خلقه من طين، أنه خلقه مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ [سورة الحجر:26]، مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [سورة الرحمن:14] فكل هذا أطوار خلق الإنسان، والله خلقه من تراب، وهذا التراب بُل بالماء فصار طيناً، فتُرك حتى صار حمأً وصار بهذه المثابة يلزق باليد، طين متلاصق يلصق ويعلق باليد ثم تُرك حتى جف فصار كالفخار، فإذا عبر عن حالة من هذه المراحل في صفة الخلق فإن ذلك يصدق عليه في طورٍ من أطواره، طوره الأول التراب، ثم صار طيناً، ثم صار بعد ذلك حمأً، ثم جف وصار كالفخار.
وقوله: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي: بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدق بما أخبر الله به من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف أمرك، من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك.
قال قتادة: عجب محمد ﷺ، وسَخِر ضُلّال بني آدم.
قوله: بَلْ عَجِبْتَ به قراءتان متواترتان الأولى بالضم وهي قراءة حمزة والكسائي، بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ ويكون ذلك يرجع إلى الله -تبارك وتعالى، فيُستدل بهذه الآية -على هذه القراءة- على إثبات صفة التعجب لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذه الصفة ثابتة لله تعالى بالسنة كما هو معلوم عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم[2]، وحديث: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل[3]، وغير ذلك مما يدل على هذه الصفة، فيدل عليها من القرآن هذه القراءة وهي مروية عن علي وابن مسعود وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم أجمعين، واختار هذه القراءة أبو عبيد والفراء، وقراءة الجمهور على ما نقرأ به بَلْ عَجِبْتَ بالفتح يرجع إلى النبي ﷺ.
والقاعدة أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، وصارت القراءة التي بالضم تدل على صفة الله ، بَلْ عَجِبْتُ يكون التعجب صادراً من الله، وعلى القراءة الأخرى يكون التعجب صادراً من النبي ﷺ، وعليه فالمعنى إن كان ذلك مِن قِبل النبي ﷺ قال: بَلْ عَجِبْتَ يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين.
وبعضهم يقول: عجبتَ من قدرة الله ويسخرون منك ومن تعجبك، يعني باعتبار ما ذكر قبله من صفة الخلق وقدرة الله -تبارك وتعالى- على خلق هذه المخلوقات العظيمة، وبعضهم يقول: يسخرون من إثباتك للبعث بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ يقول: قال قتادة: عجب محمد ﷺ وسخر ضُلّال بني آدم، وما حدد شيئاً.
يَسْتَسْخِرُونَ يعني يبالغون في السخرية يسخر ويستسخر زيادة المبنى لزيادة المعنى، فكُبكبوا أبلغ من فكُبوا، وهكذا يستسخرون أي يبالغون بالسخرية.
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ يستبعدون ذلك ويكذبون به، قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ أي: قل لهم يا محمد: نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون ترابا وعظاما، وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ أي: حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [سورة النمل:87]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60].
ثم قال جلّت عظمته: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ أي: إِنما هو أمر واحد من الله -عز وجل، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، والله تعالى أعلم.
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:20-26].
يخبر تعالى عن قِيلِ الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة نَدمُوا كلَّ الندم حيث لا ينفعهم الندم، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، فتقول لهم الملائكة والمؤمنون: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ.
قوله: وقالوا: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لا شك أن هذا من متكلم آخر، ولا يقال بحال من الأحوال: إن هذا من الموصول لفظاً المفصول معنى؛ لأن الخطاب وجه به إليهم هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، لكن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا جمع بين القولين؛ لأنه لا دليل على أن هذا القائل هم الملائكة أو أنهم المؤمنون، فبعضهم يقول هذا.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: فتقول لهم الملائكة والمؤمنون يعني الذين يقرون بأن هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من كان يؤمن بذلك يقول لهم: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ بمعنى أن الاقتصار على القول بواحد منهما فيه تحكم من غير دليل.
وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهو قول الجمهور لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ [سورة الحجر:88] أي أصنافاً منهم، وليس المقصود الزوجات، وقد يأتي بهذا المعنى غالباً، وتفسير القرآن بالغالب هو المتعين إلا بدليل.
يعني هذا الذي ذكره عن النعمان قال: سمعت عمر هذا من قبيل تفسير الصحابي الذي ينقله عن صحابي آخر، صحابي عن صحابي آخر وهو أحد الأنواع الستة التي يفسر بها الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، القرآن وغالبُ ما تجدون في الكتب التي تتحدث عن هذا في كتب أصول التفسير أنهم لا يذكرون هذا النوع، وهو موجود وله أمثلة هذا واحد منها، هذا النعمان ينقل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عن الجميع- قال: يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا … إلى آخره، ويحشرون مع نظرائهم فاليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، ومن يعبد صنماً مع عابديه.
وهكذا قال: عن ابن عباس أَزْوَاجَهُمْ قرناءهم، ومقصوده بذلك: الأزواج: القرناء، ويحتمل أنه قصد بذلك: القرناء من الشياطين، وقد جاء مصرحاً بذلك حينما نجمع الروايات عن السلف -رضي الله تعالى عنهم- عن جماعة من السلف كالضحاك قال: قرناءهم من الشياطين يحشر كل كافر مع شيطانه، وبهذا أيضاً قال مقاتل، وهذا احتمال.
ولكن عامة أهل العلم على الأول، وهناك من قال -كما جاء عن الحسن ومجاهد- احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ: أي: الزوجات، ولكنهم قيدوه بالمشركين الذين تكون زوجاتهم مشركات، وإلا ففرعون كما هو معلوم كانت زوجته مؤمنة، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ولا يقول قائل: إنه ذكر ذلك مذكراً وَأَزْوَاجَهُمْ، فإن هذه اللغة الأشهر والأفصح يقول: الرجل هذه زوجي، وهذه اللغة هي التي وردت في القرآن، أما زوجة فبعضهم قال: إنه لحن، والصحيح أنه ليس بلحن لكنها ليست الأفصح، ولم تستعمل بالقرآن، ويدل على أنها ليست بلحن قول الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليُفسد زوجتي | كساعٍ إلى أُسد الشرى يستبيلها |
"زوجتي"، ومعلوم أن الفرزدق بعصر الاحتجاج، يحتج بشعره والشاهد:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي |
فهي لغة صحيحة، ولكن الأفصح زوجي، وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [سورة الأنبياء:90]، هذا القول لهؤلاء من السلف عن الحسن ومجاهد أن المقصود الزوجات إلا أنه بعيد، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم قال: إن المقصود وأزواجهم: أنه يزوج بين الأرواح والأبدان، بين النفوس والأبدان، ترجع النفوس والأرواح بلا أبدان، قالوا: هذا هو المراد بقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [سورة التكوير:7].
والأقرب أن قوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أنه كهذا الموضع هنا وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ بمعنى أنه يلحق بنظرائه يوم القيامة الأشرار مع الأشرار، والأخيار مع الأخيار، وبعضهم يقول: إن ذلك بمعنى أنه يحصل جمعٌ بين العمل وعامله، وهذا أيضاً بعيد، وبعضهم يقول: بين الشياطين ومن أضلوهم، ولكن الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يكون بضم النظراء مع بعضهم.
روى مجاهد وسعيد بن جبير، عنه: أَزْوَاجَهُمْ: قُرَناءهم.
"وما كانوا يعبدون من دون الله" أي: من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم.
هذا دل عليه القرآن إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98]، وفي قوله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة التحريم:6]، والسبب الأصنام التي كانوا يعبدونها مع قول من قال: إن ذلك حجارة الكبريت؛ لأنها تتوقد عليهم، وهو لا ينافي ما ذكر من أنها الأصنام أيضاً، فلماذا تحشر معهم الأصنام؟ يكون ذلك تبكيتاً لهم لزيادة حسرتهم، والله المستعان.
قوله -تبارك وتعالى: أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ [سورة الحج:4] يعني الشيطان، كتب عليه أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، كقوله هنا: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ يعني أنه يدله عليه، يدله إلى عذاب النار بما يقارفه من الضلالات الشرك بالله والأهواء والجرائم والمعاصي، وهذا معنى كون الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
وقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ أي: قفوهم حتى يُسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك، عن ابن عباس: يعني احبسوهم إنهم محاسبون.
وقال عبد الله بن المبارك: سمعت عثمان بن زائدَةَ يقول: إن أول ما يُسأل عنه الرجل جلساؤه، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ أي: كما زعمتم أنكم جميع منتصر، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي: منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، والله أعلم.
قوله: لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ وفي بعض المواقف يحصل السؤال.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:27-37].
يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عَرَصات القيامة، كما يتخاصمون في دَرَكات النار، فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [سورة غافر:47، 48].
وقال: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة سبأ:31-33].
هذه الآيات تصور ما يقع في ذلك اليوم بجلاء كأنك تشاهده، ولكنها الغفلة الغالبة بهذه الدار الدنيا، فهؤلاء حينما يرون العذاب، وتتقطع بهم الأسباب، ويكونون في حال من الحسرة والندامة يتوجه بعضهم إلى بعض بالملامة، فيقول الأتباع للأئمة المضلين الذين أضلوهم من شياطين الإنس وشياطين الجن يقولون لهم: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101].
فهناك لا يتساءلون بمعنى أنهم لا يتفقد بعضهم بعضاً، ولا يسأله عن حاله كل أحد مشغول بنفسه، وهنا يتساءلون على وجه التلاوم، وذلك أشد في الحسرة كما هو معلوم، فالناس إذا وقعوا في ورطة أو مصيبة ليسوا بحاجة إلى أن يرجع بعضهم إلى بعض بالملامة فإن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً ولا ينفعهم، ولا يرجعون منه بشيء، إنما هو مزيد من التحسر والتبكيت والألم كما هو معلوم، فهؤلاء في القيامة -نسأل الله العافية- إذا تقطعت بهم الأسباب وعاينوا الهلكة ويئسوا من النجاة صار بعضهم يلوم بعضاً.
إِنَّكُم كُنتُم هؤلاء الأتباع إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ، قَالُواْ بَل لَّم تَكُونُواْ مُؤمِنِينَ قالوا: نحن وجدنا أناساً فيهم خفة لقبول الكفر بالله -تبارك وتعالى- ولم يكن عندهم من اليقين الذي يحجزهم عن ذلك فسارعوا وبادروا إلى تلقيه عنا وتقبّله، فأصبحنا مشتركين بهذا الكفر والضلال.
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ هؤلاء الكبار من أئمة الضلال من شياطين الإنس ومن شياطين الجن هذه هي النهاية، يقولون لهم مثل هذا الكلام بعدما كانوا في الدنيا يتبنونهم ويدافعون عنهم، ويعملون ليل نهار في إضلالهم، وإغوائهم كما قال الله : وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سورة سبأ:33]، بمعنى أنه مكر واقع في الليل والنهار لا يفتئون ولا يفترون من هذا المكر والتحيل والتخطيط والعمل الدائب؛ من أجل إضلال الناس وإغوائهم وإفسادهم ثم تكون هذه هي النهاية، في نهاية المطاف هذه الصورة النهائية لهؤلاء المضلين، ومن تابعهم، وهذه عبرة عظيمة لمن كان له قلب ولكنها الغفلة -والله المستعان.
ويحتاج المؤمن أن يعرض هذا على قلبه، وأن يعرض قلبه على هذا دائماً ليكون ذلك له واعظاً، وكثير من الأشياء يسمعها الإنسان ولكنها قد تمر على أذنيه كأنه لم يسمعها، لكن إذا سمعها وقت الشدة التي تتحدث عنها الآيات فكأنما يسمعها لأول مرة، كل ما يجري في القيامة الله قصه وأخبر عنه ومع ذلك قلما نعتبر، والله المستعان.
وهكذا قالوا لهم ههنا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قال الضحاك، عن ابن عباس: يقولون: كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء.
وقال قتادة: قالت الإنس للجن: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قال: مِن قِبَل الخير، فتنهوْننا عنه وتبطئوننا عنه.
وقال السدي: تأتوننا مِن قِبَل الحق، تزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن الحق.
وقال ابن زيد: معناه تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به.
وقال يزيد الرشْك: مِن قِبَل لا إله إلا الله.
من قِبل لا إله إلا الله، من قبل الإيمان والتوحيد يعني يوقعونهم في الشرك، و هنا هذا التساؤل الذي أخبر الله عنهم: فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ [سورة غافر:47]، وبعض السلف حمل ذلك هنا مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:29] هذا هو الحق الذي ندعوكم إليه ونختاره لكم.
وبعضهم يقول: إن اليمين المقصود بها الكناية عما يتفاءل به كما هي عادة العرب، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- هو أن المقصود باليمين الخير والإيمان والحق، ولهذا يقول ابن جرير -رحمه الله: إن ذلك واقع بين الإنس والشياطين من الجن الذين يضلونهم، يقول: إن الإنس تقول للجن: إنكم كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق فتخدعوننا بأقوى الوجوه، ويذكر أن اليمين في كلام العرب تأتي بمعنى القدرة، والقوة، فحاول أن يجمع بين المعنيين كما سبق أن من أهل العلم من قال: اليمين بمعنى القوة، ومن قال: إن اليمين يعني الخير والحق وما إلى ذلك يقال له: يمين، فابن جرير -رحمه الله- جمع بين المعنيين.
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ يعني تصرفوننا عن الحق والهدى والإيمان بأقوى الطرق والأساليب، فهذا من الأشياء التي تميز بها تفسير ابن جرير -رحمه الله- وكذا تفسير ابن كثير: الجمع بين المعاني الراجحة، أو القريبة التي تحتملها الآية كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ فجمع بين معنى القوة والمعنى الآخر المشهور الذي هو الخير.
وهذه المجاوبة -والله تعالى أعلم- هي واقعة بين الأتباع والمتبوعين بين الشياطين من الإنس والجن والذين تبعوهم فضلوا بسببهم، يقول: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ فتصرفوننا عن الحق والهدى الذي جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ويقول أولائك: أنتم ما فيكم خير، أنتم قابلون لهذا متهيئون له لم نلزمكم ولم يكن لنا عليكم سلطان بل كنتم أهل غواية وضلال.
وقوله: قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تقول القادة من الجن، والإنس للأتباع: ما الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ أي: من حجة على صحة ما دعوناكم إليه، بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ أي: بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به، فخالفتموهم.
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ، يقول الكبراء للمستضعفين: حقت علينا كلمة الله: إنا من الأشقياء الذائقين العذاب يوم القيامة، فَأَغْوَيْنَاكُمْ أي: دعوناكم إلى الضلالة.
هنا قوله -تبارك وتعالى- عن قيلهم: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص:85]، يقولون: قصدوا هذا المعنى، وهذا قال به بعض أهل العلم ومنهم من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وعبارة ابن جرير قريبة أيضاً مما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: وجب علينا عذاب ربنا، وقول الله -تبارك وتعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ يعني إبليس وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ هذا غير مخالف لما ذكر فهذا بمعنى أنه حقت عليهم كلمة العذاب أنهم أهل الشقاء فوجب عليهم عذاب الله -تبارك وتعالى- فكانوا من الأشقياء.
إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ أي: فدعوناكم إلى ما نحن فيه، فاستجبتم لنا، قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أي: الجميع في النار، كل بحسبه، إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا أي: في الدار الدنيا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي: يستكبرون أن يقولوها، كما يقولها المؤمنون.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله، وأنزل الله في كتابه -وذكر قوما استكبروا- فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ[4].
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ أي: أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون، يعنون رسول الله ﷺ؟! قال الله تعالى تكذيبا لهم، وردا عليهم: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ يعني رسول الله ﷺ جاء بالحق في جميع شرْعة الله له من الإخبار والطلب، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي: صدّقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله في شرعه وأمره كما أخبروا، مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَالآية [سورة فصلت:43].
عبارة الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والضمير في عنه يرجع إلى النبي ﷺ، يعني كما أخبر الأنبياءُ قبله عن صفته -عليه الصلاة والسلام- فكان واقعه مصدقاً بخبره وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ قال: وأخبر عن الله تعالى بشرعه وأمره كما أخبروا يعني أنه ﷺ صدقهم فيما قالوا وأقر بذلك ودعا إليه، ومن ثم فهذه العبارة لابن كثير الواقع أنها تتضمن معنيين تحتمله الآية، لكن الذي يقرؤها لأول وهلة لا يتفطن لهذه الدقة بهذه العبارة كما هو في كثير من المواضع من هذا التفسير، وذلك أنه يجمع بين المعاني المحتملة التي لا يوجد ما يرجح بعضها على بعض، والقاعدة أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين فإنه يمكن حملها على ذلك ما لم يوجد مانع.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- فسرها بهذين، ولكنه صرح بهذا فذكر المعنيين صراحة وحملها عليهما، يعني من كونه ﷺ كان مصدقاً لهم بخبرهم عنه هذا المعنى الأول، أخبروا أنه يأتي وأخبروا عن صفته فجاء كما أخبروا، فمجيئه ﷺ وبعثه كان تصديقاً لهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين أخبروا أنه سيبعث، وأن من صفته كذا وكذا، والمعنى الثاني: أنه شهد هو ﷺ بصدقهم وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ.
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [سورة الصافات:38-49].
يقول تعالى مخاطبًا للناس: إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، كما قال تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة العصر:1-3].
وقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:4-6]، وقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [سورة مريم:71، 72]، وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38، 39]، ولهذا قال هاهنا: إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يُتجاوز عن سيئاتهم، إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.
قوله -تبارك وتعالى- إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ هذه قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ الجمهور بكسر اللام إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ والمخلِصين هذا بمعنى الإخلاص، فإن الله -تبارك وتعالى- يخلصهم لإخلاصهم، فالأول إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الذين أخلصهم الله -تبارك وتعالى- لطاعته وعبادته وتوحيده والإيمان به، وعلى القراءة الثانية إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ هذا يدل على أن الإخلاص من ثمراته العظيمة أن يكون سبباً للنجاة من عذاب الله -تبارك وتعالى- وهذا أمر مقرر بأدلة كثيرة لا يحتاج إلى توضيح.
والاستثناء هنا إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يحتمل أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً، وهنا قال: إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إذا كان منقطعاً فهو بمعنى لكن، لكن عباد الله المخلصين أولائك لهم رزق معلوم، وإذا كان متصلاً فيكون العذاب للجميع قال هنا: إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ما تجزون إلا ما كنتم تعملون، إن "ما" هذه للعموم ثم بعد ذلك استثنى إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَوَاكِهُ أي: متنوعة، قول من قال: إنه الجنة، فَوَاكِهُ أي فواكه متنوعة، وخصت الفواكه في قوله: فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ مع أن نعم الجنة كثيرة بعضهم يقول: إنها خصت لأنها من أطيب ما يلتذ به الإنسان من المطعومات، وبعضهم يقول: لأن ما بعدها هو تبع لها، يعني أنها من المكمَّلات، وما يحصل بعد ذلك أو قبله فهي من التوابع والمكمِّلات، فإذا كانت هذه التوابع والمكمِّلات فما بال المطعومات الأخرى التي تكون قبلها وبعدها؟!
وبعضهم يقول: طعام أهل الجنة فَوَاكِهُ ولذلك قال هنا: فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ وهذا فيه نظر، وذَكر نوعاً من ألوان المطعومات في الجنة ولا شك أنه من أحسنها وأعظمها لذة كما هو الحال في الدنيا فإن ذلك يكون زيادة على المطعومات الأساسية، يعني تقول: فلان يتفكه، فالتفكه إنما يكون فيما زاد على ما كان أصلياً من المطعومات فهؤلاء يتفكهون بهذه الفواكه ويتمتعون ويلتذون بها فذكر مثل هذه الأشياء التي يحصل بها التنعم والالتذاذ وهو زائد على ما يكون أساسياً في المطعومات -والله تعالى أعلم.
قال هنا: فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي يُخدمون ويرفهون وينعمون، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ قال مجاهد: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وبعضهم يقول: تدور بهم هذه السرر حيث شاءوا فلا يحتاج الواحد منهم إلى أن يستدير بظهره إلى ناحية أخرى فهم متقابلون، ولا شك أن التقابل في المجالس مما يحصل به التنعم، ويكون ذلك من طيب هذه المجالس، ومن دواعي الاسترواح فيها أن الناس يتقابلون، يتقابلون فيها.
قبل هذا قوله -تبارك وتعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الكأس في اللغة: كل إناء فيه شراب، وبعضهم يقول: إن المقصود بالكأس هنا الخمر، وإن العرب تطلقها وتريد بها ذلك، وهذا الإطلاق موجود في كلام العرب معروف، وإن كانت الكأس تقال فيما هو أعم من ذلك، وإلا فقد جاء عن بعض السلف كالضحاك أن كل كأس في القرآن فهو خمر، يعني كلما ذكرت الكأس في القرآن فالمقصود بذلك الخمر وبهذا قال السدي.
هنا قال: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ولا شك أن المقصود بالكأس هنا في هذا الموضع أنه الخمر، لكن تخصيص هذا بأن يقال في اللغة إذا قيل الكأس فهو الخمر -وإلا فإنهم يقولون: لقدح غير الخمر إذا كان فيه لبن مثلاً أو ماء أو نحو هذا- فهذا وإن قال به بعض أهل اللغة إلا أن ذلك ليس مطرداً، والمقصود بالكأس هنا الخمر قال: مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ فهي تجري، معين يعني جارية على وجه الأرض، أنهار من الخمر تجري على وجه الأرض وليست غائرة فيها، ولا تحتاج إلى أخاديد كما هو الحال بالنسبة لأنهار الدنيا، فهي بادية للأعيان.
المقصود بقوله: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أنها صافية بصفائها، شدة الصفاء، بخلاف خمر الدنيا، فيقال لها: بَيْضَاءَ أو المقصود البياض الذي هو البياض المعروف يحتمل، وجاء عن بعض السلف كالحسن البصري أن خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن؛ لأنها شديدة البياض، لونها مشرق، ومشرق بمعنى أنها بغاية الصفاء، ولا يلزم من ذلك أن تكون بيضاء البياض الذي يتبادر إلى الأذهان كبياض اللبن.
نزه الله خمر الآخرة عن الآفات التي في خمر الدنيا، من صداع الرأس ووجع البطن -وهو الغول- وذهابها بالعقل جملة، فقال تعالى هاهنا: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي: بخمر من أنهار جارية، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها.
قال مالك، عن زيد بن أسلم: خمر جارية بيضاء، أي: لونها مشرق حسن بهى لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء، من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كُدورة، إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.
وقوله -عز وجل: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي طعمها طيب كلونها، وطِيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك.
يعني أنها كريهة المنظر، كريهة الرائحة، كريهة الأثر.
القُولنج وجع البطن، دائماً يصيب البطن يعني يصيبه بالوجع والمغص، ويكون في هذا الجزء من الأمعاء الذي يسمى اليوم بالقولون، وقديماً كان يقال له: القولون أيضاً، فيحصل بسبب ذلك أوجاع وإمساك شديد وهو من الأمراض المشهورة المعروفة قديماً وحديثاً، وأوجاع القولون كثيرة لكن الذي يقصدونه هنا نوع من هذه الأوجاع المشهورة التي يصيب الإنسانَ معها الألمُ الشديد الذي لا يطاق، وقد يحصل معه الوفاة، يذكرونه في كتب الطب القديم في مواضع كثيرة؛ لأنه من الأمراض المشهورة جداً، ويذكرون في كتب الأعشاب والأدوية، يذكرون الأشياء التي تفيد معه كثيراً يقولون: الشيء الفلاني، الطعام الفلاني، العشبة الفلانية نافعة يتكرر هذا كثيراً، والقولنج عندهم أنواع منها ما هو رطب بارد، وهنا قالوا: لكثرة مائيتها.
إذن قوله -تبارك وتعالى: لا فِيهَا غَوْلٌ الغول فُسر بوجع البطن الذي يصيبه بسبب الخمر، لذلك تجدون -أعزكم الله- هؤلاء يستفرغون غالباً بعدها، ولذلك تجدون في بلاد الغرب وما شابهها من البلاد التي تبيح الخمر يعاني أصحاب الحانات والأماكن التي تبيع الخمور معاناة شديدة من أمور كثيرة منها ما يحصل من السكارى، ومنها ما يحصل أيضاً من الأذى والقذر بأن هؤلاء يبدءون يستفرغون بهذا المحل، ففسر بوجع البطن، وفسر أيضاً بالصداع، وفسر أيضاً بذهاب العقل إذا سكر الإنسان.
فبعض أهل العلم جمع هذه المعاني في تفسيرها وقال: إن نفي الغول عنها بمعنى أنها لا تغتال عقول شاربيها، ولا يصيبهم منها الصداع وأوجاع البطن، فجمعوا بين هذه المعاني، وبعضهم اقتصر على ذهاب العقل، قال: الغول هو ذهاب العقول تغتال العقول، هذا قال به أبو عبيدة من أهل اللغة وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، لا فِيهَا غَوْلٌ لا تذهب عقولهم بسبب شربها، وأصل الغول -فيما يذكره بعض المفسرين كالواحدي- هو الإهلاك، الغول يأتي بمعنى الهلاك، أصله قالوا: بمعنى الهلاك، لا فِيهَا غَوْلٌ أي إهلاك، كل ما اغتالك فهو يقال له: غول.
وحاول بعضهم أن يجمع المعاني التي قيلت بطريقة أخرى فقال: كل ما يحصل به الإهلاك بطريق خفي أو كل ما يحصل به الفساد بطريقٍ خفي فهو غول، فساد العقل وفساد مزاج البدن بالصداع والمغص والوجع الذي يكون في البطن، لا فِيهَا غَوْلٌ يعني مثلاً الحسن البصري اقتصر على الصداع، وابن كيسان اقتصر على المغص، والسلف يفسرون الآية بجزء المعنى، فإذا كان هؤلاء أهل اللغة، وفسر بعضهم بهذا وبعضهم بهذا ونحن نعلم أنه يفسره ببعض المعنى، ومن ثم إذا كان ذلك فيصدق على هذه جميعاً أنها غَوْلٌ فلا يكون فيها غَوْلٌ فلا تذهب بالعقول، ولا يفسد معها مزاج البدن بصداع أو مغص أو وجع البطن، والله أعلم.
وقوله: وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ قال مجاهد: لا تذهب عقولهم، وكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، والحسن، وعطاء بن أبي مسلم الخرساني، والسدي، وغيرهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال، كما ذكر في سورة الصافات.
قوله: يُنزَفُونَ وفي قراءة حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي يُنزِفُونَ وهاتان القراءتان كل قراءة لها معنى، فقراءة حمزة والكسائي يُنزِفُونَ تحتمل معنيين: بمعنى أن المراد أنزف الرجل إذا فنيت خمره يعني تفنى وتنقضي وتنفد، والمعنى الثاني الذي هو الذهاب، أنزف الرجل ذهب عقله.
أما يُنزَفُونَ فيكون بمعنى ذهاب العقول ولهذا تجدون من فسر الأول يُنزَفُونَ وهذا ملحظ لا إشكال فيه في التفسير، ولو أن قائلاً أيضاً قال: إن الأول عام يُنزِفُونَ تحتمل المعنيين أنها تنفد، أو تذهب بالعقول، بعض أهل العلم فسرها بالأول قال: إن هذه القراءة يُنزِفُونَ بمعنى أنها لا تفنى، أنزف الرجل إذا فنيت خمره.
وهذا المعنى اختاره ورجحه الفراء وابن جرير من أجل أن كل قراءة يكون لها معنى، فتكون يُنزَفُونَ بمعنى تذهب عقولهم ويُنزِفُونَ بمعنى تفنى خمرهم، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فدلت إحدى القراءتين على أنها لا تذهب بالعقول، ودلت القراءة الثانية على أن هذه الخمر لا تنفد، فهي أنهار من الخمر، والله تعالى أعلم.
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة سبأ، برقم (3224)، وأحمد في المسند، برقم (1882)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وابن حبان في صحيحه برقم (6129)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (4601).
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يشري نفسه، برقم (2536)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3981).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8013)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد -وهو ابن سلمة- فمن رجال مسلم. محمد بن زياد: هو القرشي الجمحي مولاهم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3982).
- رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3210)، برقم (18171)، وأصله في الصحيحين بدون الزيادة الأخيرة، البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1335)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام واهتمام الإمام بشعائر الإسلام، برقم (32).