بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله:
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [سورة الصافات:71-74].
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى، وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين، ينذرون بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته، ممن كفر به وعبد غيره، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم، فأهلك المكذبين ودمرهم، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفّرهم، ولهذا قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [سورة الصافات:75-82].
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا ، وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه عليهم؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فلنعم المجيبون له، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو التكذيب والأذى، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لم تبق إلا ذرية نوح .
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: الناس كلهم من ذرية نوح .
وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سمرة، عن النبي ﷺ في قوله: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: سام، وحام ويافث[1].
وروى الإمام أحمد عن سمرة؛ أن نبي الله ﷺ قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم[2].
ورواه الترمذي.
والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأُوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح، .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- هنا قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة هود:48] هؤلاء يأتون بعد ذلك، أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ فيكون بهذا الاعتبار بناء على هذه المرويات، ولا يمكن أن يعتمد على المرويات الإسرائيلية أن الناس تناسلوا من نوح ﷺ بهذا الاعتبار، باعتبار الذين ركبوا معه هم أبناؤه وأزواج بناته، ومعلوم أن أولاد البنات من جملة الذرية كما قال النبي ﷺ في الحسن : إن ابني هذا سيد[3]، وهو ولد بنت، و لا عبرة بقول الشاعر:
بنُونا بنو أبنائِنا وبناتُنا | بنوهنّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ |
لا عبرة بهذا، والصحيح أن أولاد البنات من الذرية، وبعض أهل العلم يقول غير ذلك، يعني منهم من يقول في قول الله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، ولهذا يقال لنوح ﷺ: إنه آدم الصغير؛ لأنه أبو البشر فكل الناس الذين على ظاهر الأرض هم من ذرية نوح ﷺ كما أنهم من ذرية آدم -عليه الصلاة والسلام.
أما هذه الروايات هنا قال: وقد رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عن سمرة عن النبي ﷺ قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: سام وحام ويافث، فإنها لا تصح من رواية الحسن عن سمرة، وهي معنعنة لا تصح، وكذلك التي بعدها، روي الإمام أحمد عن سمرة أن النبي ﷺ قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم رواه الترمذي لا تصح، وتقسيم الأمم وإرجاع ذلك إلى أولاد نوح تفصيلاً ليس ذلك محل اتفاق، وتجد في الروايات اختلافات، لكن لا يصح في ذلك شيء عن النبي ﷺ، فتجد أن بعضهم نسب البعض إلى أحد أولاد نوح، وبعضهم يرجعه إلى آخر.
وجاء عن سعيد بن المسيب -رحمه الله- أن سام أب للعرب والفرس والروم واليهود والنصارى، وهذا غير منضبط، والنصارى حينما يقال: نصارى فإن ذلك لا يعني قوماً لهم عرق معين، فمعلوم أن عيسى ﷺ أرسل إلى بني إسرائيل، والنصارى واليهود شيء واحد، فاليهود هم بنو إسرائيل وعيسى ﷺ أرسل إليهم، فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ [سورة الصف:14] كما أنه أرسل -عليه الصلاة والسلام- للكفار من اليونان، وهؤلاء غير بني إسرائيل، وقد آمن به أقوام غير هؤلاء منذ قديم الدهر، ونحن نعرف أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة، وكان فيها النصارى وهم أفارقة ليسوا من عرق اليونان ولا من بني إسرائيل، وهذا معروف، كما وُجد النصارى في نواحٍ مختلفة في بلاد العرب وغيرها، كان بنو تغلب في الجاهلية على دين النصارى في الغالب إلى غير هؤلاء، فهذه الرواية عن سعيد بن المسيب تعزو هؤلاء إلى سام.
وأن حام هو أبو السودان من المشرق إلى المغرب السند والهند، وأهل النوبة والزنوج والحبشة والقبط والبربر وغير هؤلاء كل هؤلاء يرجعون إلى حام، ولكن الهند لا علاقة لها بهذا، فالهند كما يقول من زارها من الرحالة مثل ابن بطوطة لما وصف حال الهند وما رأى فيها وشاهد من الناس وصف الناس فذكر أنه وجد قوماً يعني في صفتهم كالسودان في لون البشرة، وذكر من ذكائهم وفطنتهم ونباهتهم، فهم يشبهون الحبشة من جهة اللون.
وأما يافث فيقولون: الصقالبة والترك والخَزَر ويأجوج ومأجوج وغير هؤلاء -والله أعلم، ولا يثبت في هذا شيء.
يعني الذكر الجميل، والثناء عليه بالخير.
هذا لا يختص بنوح ﷺ وإنما لجميع الأنبياء جعل الله لهم لسان صدق، ويُذكرون كلهم بخير.
وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين، قال الضحاك: السلام والثناء الحسن.
وقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يُسلَّم عليه في جميع الطوائف والأمم.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ الآن تَرَكَ عليه سَلامٌ لكنها جاءت مرفوعة ففهم منها بعضهم أنها جملة جديدة وليست مفسرة لما قبلها وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ الذكر الجميل والثناء الحسن، ثم قال سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ أي: من الله، وهذه جملة جديدة.
ولكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أطال في الرد على هذا وأن ذلك لا يصح، وأن قوله -تبارك وتعالى- وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يكون مبهماً، فلابد أن يكون ثمّة ما يفسره ويوضحه، وأن الكلام لا معنى له وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ إذا لم يكن ذلك تفسيراً له سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ والأقوال التي ذكروها هنا نقلت عن السلف من أنه الذكر الجميل والثناء الحسن وإلى آخره، قال: كل هذه المعاني متلازمة ولا حاجة للترجيح بينها، فحينما يكون ذلك تفسيراً سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ هو تفسير لما قبله -والله تعالى أعلم، وجاء مرفوعاً يمكن أن يكون ذلك على سبيل الحكاية، أنه محكي سَلامٌ عَلَى نُوحٍ متعلقة بما قبلها وتفسير لها هذا هو الأقرب، -والله أعلم، يعني تَركَ عليه ذلك أن الأمم تسلم عليه، وتثني عليه.
قوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك.
ثم قال: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين الموحدين الموقنين.
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ هذا عام، بعدما ذكر نوحاً ﷺ عم بالحكم بعده إن كان من أهل الإحسان فإنه يعامله بهذا فمما ذكر بعده سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، فيكون له من الذكر الحكيم والمحبة في قلوب الخلق وما أشبه ذلك جزاء على إحسانه إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
ثم قال: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين الموحدين الموقنين، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ أي: أهلكناهم، فلم تبْق منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:83-87].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ يقول: من أهل دينه، وقال مجاهد: على منهاجه وسنته.
الضمير في قوله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ يرجع إلى نوح ﷺ، لأنه هو المحدَّث عنه، مع أن بعضهم يقول: يرجع إلى محمد ﷺ، وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من شيعته: من شيعة النبي ﷺ.
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال ابن عباس: يعني شهادة أن لا إله إلا الله.
وروى ابن أبي حاتم عن عَوْف: قلت لمحمد بن سِيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعاناً.
هذه الأقوال الآن هل بينها اختلاف: لا يكون لعاناً، سليم من الشرك، سليم من كل ما يضاد ذلك، يعلم أن الله حق إلى آخر ما قيل، هل هذه الأقوال بينها اختلاف؟ هل نحتاج أن نرجح؟ الجواب: لا يحتاج هذا إلى ترجيح، سليم: ليس بلعان، والسلف يفسرون بعبارة تدل على المراد تارة بالمثال، وتارة بجزء المعنى، وتارة بعبارة مقاربة وما إلى ذلك، فهنا كيف نستطيع أن نفهم هذه الأقوال؟
نفهمها كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكما يذكر ابن القيم في معنى القلب السليم، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحشر:10] والقلب المشوش في هذه الأمور ليس بقلب سليم، إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سليم من كل آفة، وما عدا ذلك فهو قلب مريض إما بالشرك، فالكافر قلبه ميت، والمشرك قلبه ميت، وإما بالنفاق فالمنافق النفاق الأكبر قلبه ميت، والمنافق الذي نفاقه دون ذلك في قلبه من المرض بحسب ما في قلبه من النفاق، وهكذا سائر الأدواء.
قال الله -تبارك وتعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32]، فالقلب يمرض، والمريض لا يكون سليماً، فهذا الذي فيه ميل محرم للنساء، وتعلقٌ بالصور ليس بقلب سليم، وهكذا القلب المريض بالأحقاد وما إلى ذلك ليس بقلب سليم، تقول: فلان قلبه سليم على إخوانه المسلمين يعني أن قلبه نقي أبيض لا يحمل على أحد، ولا يحقد على أحد، فكل هذا داخلٌ فيه.
هنا إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَقوله: أَئِفْكًا بعضهم يعربه أنه مفعول لأجله وأن آلِهَةً مفعول لتريدون، يعني تريدون آلِهَةً من دون الله للإفك، يكون "إفكاً" مفعولاً لأجله مقدماً، وبعضهم يقول: إن إفكاً مفعول لتريدون، وآلهة بدل أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ يعني تريدون إفكاً ما وهذا الإفك آلهة فيكون بدلاً منه فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم، وبعضهم يقول: المعنى فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أيّ شيء توهمتموه بالله حتى عبدتم معه غيره يعني من النقص؟ توهمتم أنه بحاجة إلى أعوان بحاجة إلى وسطاء وما أشبه ذلك ما هذا الظن السيئ الذي أوقعكم بهذا الإشراك والكفر بالله -تبارك وتعالى؟
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- إذا تتبعت كلامه في أكثر من موضع في هذه القضية في كتبه تجد أنه في هذا الكلام جمع بين القولين، وإن لم يذكر الأقوال، إنما يُعرف ذلك بمعرفة الأقوال في كتب التفسير، فمن قرأ كلام الحافظ ابن القيم لا يتفطن لهذا لأول وهلة، وإذا كان يعرف الأقوال وجد أنه عبر عن ذلك بعبارة -بجميع المواضع- تجمع بين هذه الأقوال.
فابن القيم -رحمه الله- هنا يقول: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إذا لاقيتموه وقد أشركتم به أنه فاعل بكم؟ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ حيث أشركتم به غيره هل كان ذلك باعتبار أنكم تتوهمون العجز والضعف فيه فهو بحاجة إلى شركاء أو أنه لا تبلغه حاجاتكم فيحتاج إلى من يبلغه ذلك، أو أنه مثل المخلوقين يحتاج إلى وسطاء فعبدتم هؤلاء ليقربوكم إلى الله زلفى ما ظنكم برب العالمين، ما هذه الظنون؟ كل من أشرك بالله -تبارك وتعالى- فقد أساء الظن به، فالحافظ ابن القيم يجمع هذه جميعاً، ما ظنكم أنه فاعلٌ بكم؟ وما هذه الظنون الكاذبة السيئة التي أوقعتكم في هذا الإشراك؟
لكن عامة المفسرين على الأول فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أنه فاعلٌ بكم؟ مع أن ظاهر الآية يحتمل هذا وهذا، وإنما جرى ابن القيم -رحمه الله- على ما سبق باعتبار أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني فلا إشكال من حملها على الجميع.
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ [سورة الصافات:88-98].
إنما قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه.
بعضهم يقول: سقيم من هذه الحالة التي أنتم فيها من الإشراك والكفر بالله وعبادة غيره، فذهب وهمهم إلى المرض، أي معتل، يعني اختل مزاج بدنه، هذا هو المرض.
قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ كثير من المفسرين كما نقله الواحدي يقولون: إن هؤلاء كانوا يتعاطون النظر في النجوم، يعتقدون في النجوم، ويستدلون بأحوالها على الأحوال الأرضية كما هو معروف في حال هؤلاء، فيقولون: إنه عاملهم بذلك مجاراة لما كانوا عليه ظاهراً ليتوصل إلى مطلوبه، ليتخلف من مطلوبهم يتخلف عن حضور عيدهم، وهذا العيد عيد مكاني من الأعياد الزمنية، والأعياد المكانية، فقد يكون الزمانُ حدثٌ له كما هو ظاهر، ويكون له مكان محدد، كعرفة مثلاً عيد زماني مكاني، أما عيد الفطر فإنه عيد زماني، عرفة عيد مكاني يجتمع الناس فيه في يوم محدد، فهؤلاء يخرجون إلى عيد لهم، هذا العيد يجتمعون فيه.
الشاهد أنه أراد أن يتخلف عن هذا العيد وأن لا يحضر فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ لما نظر قال: إِنِّي سَقِيمٌ يعني في مستقبل كل إنسان سيجدّ عليه المرض إِنِّي سَقِيمٌ أي إنه سيمرض مستقبلاً وإنه لا يسلم أحد من مرض واعتلال وما أشبه ذلك، وبعضهم كالحسن يقول: لما دعوه إلى الخروج فكر ماذا يفعل، وهذا التفكر يعبر عنه بهذا فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ بمعنى أن العرب تقوله لمن تفكر، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيما يعمل، يقصدون أنه نظر وتأمل فيما ينجم له من الرأي، ما ينجم له من الرأي: يعني ما يخرج له، ويتوصل إليه من الرأي فعلم أن كل شيء يصيبه المرض ويسقم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فيكون من قبيل التعبير عن الأمر المستقبل ببالك، إِنِّي سَقِيمٌ يعني مستقبلاً أن ذلك سيصيبه كما قال الله : إِنَّكَ مَيِّتٌ [سورة الزمر:30] هذا باعتبار ما سيكون وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ فيكون هذا محملاً.
وبعضهم يقول: إن الرجل إذا تفكر نظر في النجوم، فصار ذلك يعبر به عن التفكير، يعني لا يقيد هذا القول بقول: ينظر فيما نجم له، هذا الفرق مع الذي قبله، أن الذي يفكر ينظر في النجوم فقيل عن التفكير مثل هذا التعبير نظر في النجوم إذا كان الرجل يفكر في أمر يدبره ونحو ذلك، وهذا قال به بعض أصحاب المعاني كالمبرد وقال به غيره كالخليل بن أحمد.
وبعضهم يقول: إنه كان مريضاً في الساعة التي دعوه فيها فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فاعترض لهم بعذر واقع صحيح، كان تعتاده الحمى، وكان الوقت الذي طلبوا منه الخروج هو الوقت الذي تأتي فيه الحمى هكذا قال بعضهم: يعني سواء في اللحظة كان مريضاً جداً أو في التوقيت الذي دعوه يعني في اليوم الآخر مثلاً أن يخرج معهم هو عرف أنه يمرض في هذا الوقت، وهذا فيه تكلف لا دليل عليه -والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول كالضحاك فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ وهذه الأقوال هي محاولة لتفسير ذلك فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، و يكون ذلك من قبيل التورية حتى إن بعضهم قال: إنه أشار لهم إلى مرض يعني يُعدِي بإذن الله، فعصب رأسه وأوهمهم أن به الطاعون فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ذهبوا إلى شأنهم وتركوه.
وقوله: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ يمكن أن يكون باعتبار المستقبل، ويمكن باعتبار الحال إما أن يكون سقيماً معنوياً بسبب ما يرى من عبادة غير الله وإصرار هؤلاء على الشرك والكفر، ويمكن أن يكون في حينها كان معتلاً، ولكن في الحدث الذي يأتي ذكر النبي ﷺ في الكذبات التي كذبها إبراهيم ﷺ أنه قال: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ.
فالظاهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك من باب التورية، وأنه حينما نظر في النجوم هو لا يعتقد في النجوم، ولكنه فعل ذلك من أجل أن -يعني كما يقال- يكتمل المشهد، يعني ليقبلوا ذلك ويعذروه فيعرضوا عنه وهم أهل نظر في النجوم، فنظر في النجوم وقال: إِنِّي سَقِيمٌ إما باعتبار الحال أو باعتبار المستقبل أنني سأمرض، يعني يقول لهم: سأمرض، باعتبار أن النظر في النجوم كانوا يستدلون به على أحوال الأرضية يعني نَظْرَةً فِي النُّجُومِ قال: إنه سيصيبني في هذا الوقت المرض مثلاً يحتمل هذا.
فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا من قبيل التورية، كما يدل عليه الحديث، ولا يظهر أنه كان مريضاً حينها -والله أعلم، لكن كل إنسان سيمرض إذا قال الإنسان باعتبار أنه مستقبل فلا إشكال، تقول: أنا مسافر يعني باعتبار المستقبل، يعني الآن لو أن أحداً قال لك: اذهب معي، تقول: أنا مسافر وتقصد أنك مسافر إلى الله، أو تقصد أنك في المستقبل ستسافر، هذه التورية، هل هذا يكون من قبيل الكذب؟
الجواب: لا، لكن لا يتوسع الإنسان في مثل هذه الأمور كما هو معلوم بعد ذلك لا يعرف له حق من باطل كل كلامه تورية لكن إذا ضاق الأمر ففي المعاريض مندوحة عن الكذب.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا عن أبي هريرة؛ أن رسول الله ﷺ قال: "لم يكذب إبراهيم، -عليه الصلاة والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [سورة الأنبياء:62]، وقوله في سارة: هي أختي" فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني.
وقيل: أراد أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله .
وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره وقال: إِنِّي سَقِيمٌ، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها، رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي: إلى عيدهم، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء.
سرعة واختفاء من قوله: فراغ، مع أن أكثر المفسرين في هذا الموضع لا يفسرونه بالذهاب بسرعة وخفاء، وإنما يقولون: مال إليه، راغ أي مال، هذا عامة المفسرين، لكن مضى الكلام على هذا المعنى في بعض المناسبات فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [سورة الذاريات:26] راغ من الروغان وهو الذهاب بسرعة وخفاء
يعطيك من طرفِ اللسانِ حلاوةً | ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ |
يروغ الثعلب: يميل يذهب بسرعة وخفاء.
ولهذا قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَأي: إلى عيدهم، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء، فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتُبرّك لهم فيه.
فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟!
الآن على قول ابن كثير هذا الطعام فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ كانوا يضعون عندها طعاماً لا لتأكل وإنما للتبرك، يعني يضعون عندها طعامهم، طعاماً لهم ليتبركوا بهذه الآلهة، لينالوا بركتها لتبارك لهم هذا الطعام، وبعضهم يقول: كانوا يصنعونه لها لتأكل، وهل يعقل هذا؟
الجواب: نعم كل شيء يتصور من هؤلاء الوثنيين، ولا يزال يوجد إلى اليوم في بعض النواحي كما في بلاد الهند من يضعون أطيب الطعام وأفضل الطعام في بلد يوجد فيها ملايين من الفقراء الذين لا يجدون ما يقيمون أصلابهم يضعونه لأصنامهم، ويعتقدون أن هذا الصنم إذا كان راضياً عنهم فإنه راضٍ عنهم من هذا الطعام، وهكذا في كل يوم يجددون ذلك، فيُتصور هذا من هؤلاء الوثنيين فإن العقل يصير على حال من المسخ فيصل الأمر إلى هذا الحد.
وبعضهم يقول: هذا الطعام يوضع لسدنة الأصنام، فكان موضوعاً فقال إبراهيم ﷺ: أَلا تَأْكُلُونَ وهو موضوع للسدنة، وبعضهم يقول: إن إبراهيم ﷺ لربما هو الذي قربه إليهم إلى هذه الأصنام أعطاهم مستهزءًا فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ دفع إليهم طعاماً، فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ يسخر من هذه الأصنام، وممكن أن يكون هناك طعام تركوه لأنفسهم يتبركون أو السدنة أو كانوا يضعونه لها، ليس عندنا دليل على شيء من هذا، لكن دل على وجود طعام قوله: أَلا تَأْكُلُونَ.
وقوله: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ: قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين.
وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
وبعضهم يقول: اليمين يعني القوة، والعرب تعبر عن القوة باليمين، وذلك يرجع إلى أن اليمين أقوى من الشمال فصار يعبر بها عن القوة فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ يعني بالقوة يُضربون، يضربهم ضرباً قوياً، وبعضهم يقول: بِالْيَمِينِ يعني بالعدل فإن العدل يقال له: يمين، بخلاف الظلم والكفر والشرك وما إلى ذلك فإنه يعزى إلى الشمال، واضح؟ وبعضهم يقول غير هذا.
بعضهم يقول: إنه حلف وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [سورة الأنبياء:57] فهذه يمين فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ إلى حلفها، يعني وفّى بالحلف ضَرْبًا بِالْيَمِينِ حلف أن يكيد الأوثان فوفى بذلك فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، فهنا يقول: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ إنما ضربهم باليمين؛ لأنها أشد وإن كان على ظاهره ضربه بيمينه فهذا يقتضي أن يكون ضرباً قوياً، عبر باليمين؛ لأنها تدل على القوة.
يعني هذا الآن هم عبدة الأوثان قوم إبراهيم ﷺ وليست الأصنام أقبلت عليه بعدما ضربها؛ لأنها تكسرت وتهاوت، وإنما المقصود أن هؤلاء العبدة لهذه الأصنام أقبلوا إليه يزفون، قال: أي يسرعون، وبعضهم فسرها يقول: يمشون، وبعضهم يقول: يرعدون من الغضب والحنق، جاءوا في حال من الهيجان والتوتر، وبعضهم كمجاهد يقول: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ يختالون إليه، وبعضهم يقول: بين العدْو والمشي، يسرعون في المشي وهذا هو المشهور أن قوله: يَزِفُّونَ بمعنى يسرعون، جاءوا إليه في حال من الإسراع بما حل بمعبوداتهم، يعني جاءوا يتدافعون ويتعادون إليه بسرعة لهول ما شاهدوه.
يعني هم هناك كما قال الله -تبارك وتعالى- عن قيل بعضهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [سورة الأنبياء:60]، لما قالوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْيعني يذكر هذه الآلهة بسوء، مَن الذي سيجترئ عليها وهي آلهة في اعتقادهم؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ يذكر هذه الآلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، وأنها ليست بآلهة حقيقية إذاً من الذي سيفعل هذا؟
والقرينة عندهم الأخرى غير ذكر إبراهيم ﷺ لهذه الآلهة بالذم والعيب أنه تخلف عن عيدهم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ إذاً هو كان ينوي أمراً قد بيته لهذه الآلهة فجاءوا فشاهدوا ذلك فعرفوا أنه إبراهيم ﷺ ولهذا سألوه: أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ [سورة الأنبياء:62] هم يسألون ويستوضحون؛ ليتحققوا من هذا الظن الذي ظنوه والأمارات والقرائن التي عرفوها أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟
النحت هو نجر الشيء ونقره حتى يصير على هيئة معينة، فينحت الخشب، وينحت الصخر وما إلى ذلك حتى يصير على الهيئة المطلوبة صورة صنم أو غير هذا.
قوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إذا كانت "ما" مصدرية فإنها تنسبك مع ما بعدها بمصدر فيكون الكلام هكذا والله خلقكم وعملكم، فهذه يحتج بها أهل السنة، أو من يحتج من أهل السنة، ومن وافقهم على أن أفعال العباد مخلوقة، وعلى هذا طوائف من المتكلمين، يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن العبد مخلوق فعله، فالأشاعرة في ظاهر الأمر يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لله ولكنها كسب لهم، مسألة كسب الأشعري التي تعرفون، وهو قول مشهور عنه ذلك الكسب لا غناء فيه، ولا يمكن أن يفسر بمعنى يظهر كل الظهور.
فالشاهد أن الأشاعرة يردون على المعتزلة في قولهم: إن أفعال العباد هي خلق لهم، ولهذا تجد مثل صاحب الكشاف في مثل هذه الآية يشتط في تقرير أن "ما" هذه ليست مصدرية، وأنها موصولة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني الأصنام، ولو قال: والله خلقكم وما تعملون، يعني وعملكم فهذا يكون رداً على عقيدتهم.
وهم -كما ذكر شيخ الإسلام في طريقة أهل البدع والضلال- تجاه النصوص تارة يفسرون القرآن بناء على ما يعتقدونه يحملونه يعني على معانٍ يعتقدونها فإن عجزوا عن هذا لجئوا إلى الأمر الآخر سلبوا القرآن ما دل عليه فصرفوه إلى معنى آخر لا يدل على خلاف اعتقادهم، فهنا السهيلي وغيره لهم ردود، والسهيلي محسوب على عقيدة الأشاعرة مع علمه وإمامته في العلم -رحم الله الجميع.
فالشاهد أن السهيلي يرد على الزمخشري، والزمخشري يقول: هذا لا يصح من جهة النحو والإعراب واللغة أن تقول "ما" مصدرية هنا، ويقول: حتى من جهة المعنى لا يصح، فالسهيلي يرد عليه رداً مفصلاً، وهو رد وجيه، وله حظ قوي من النظر، وابن القيم -رحمه الله- في بعض كتبه نقل شيئاً عن السهيلي تارة يناقشه بها، وتارة يقرر ما ذكره السهيلي، فالشاهد أن ابن القيم نقل كلام السهيلي في بعض المواضع ثم ناقشه أيضاً فابن القيم يرد على الزمخشري ويرد على السهيلي.
وحاصل ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- أن "ما" هذه ليست مصدرية، ويقول: إنها موصولة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني وعملكم هم سيقولون: إن عبادتنا هذه للأصنام إذاً الله هو الذي خلقها، في مقام هم يعبدون الأصنام فينكر عليهم، ويقول لهم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وعملَكم، يقولون: عملنا هذا هو عبادة الأصنام إن كان الله الذي خلقه كيف تحتج علينا إذاً، كأنه لقنهم الحجة.
فالشاهد أن ابن القيم -رحمه الله- يرد علي السهيلي ويرد على المعتزلة أيضاً يقول: هذه الآية لا حجة فيها، ويوافقه ابن قتيبة، والسهيلي يرد على ابن قتيبة ويرى أن هذا من الأخطاء، وإن كان ابن قتيبة لا يوافق المعتزلة في عقيدتهم هذه لكن في تفسير الآية يقول: إن "ما" هذه موصولة والله خلقكم والذي تعملون، لاحظ عبارة ابن كثير دقيقة جداً يقول: وكلا القولين متلازم، أي متلازمان.
ثم إن ابن القيم -رحمه الله- يقول: نفس الآية هي رد أيضاً على المعتزلة على قولهم: إن "ما" موصولة، يقول: حتى على هذا القول هي رد على المعتزلة فما يفرحون بهذا التفسير من أي وجه، يقول: إذا كان الآن وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني والذي تعملونه –صنع الأصنام- الله خلقها فهي مخلوقة من حيث المادة التي وجدت منها حجر، طين، خشب….. إلى آخره وهي مخلوقة من جهة التصوير والصورة والهيئة التي صارت عليها، وهذا التصوير والتشكيل نتيجة النحت الذي عمله المخلوق، فإذا كان الله قد خلق هذه الأصنام التي يعبدونها فهي خلق له في مادتها وخلق له في هيئتها وصورتها أصلاً، يعني أن الله هو الخالق، بمعنى أنها خلق لله يصح أن يطلق عليها هكذا أنها خلق لله، مع أنهم هم الذين صوروها وشكلوها فذلك يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- خالق أفعال العباد، فالأيدي التي صنعتها مخلوقة، إذاً هي أثر للمخلوق، لعمل مخلوق خلقه الله : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ صارت أفعالهم التي هي واسطة صار بها هذا التصوير والتشكيل لهذه المعبودات، صارت أفعالهم بهذا الاعتبار مخلوقة، هذا يذكره ابن القيم في الرد عليهم.
هنا لاحظ ابن كثير يقول: وكلا القولين متلازم والأول أظهر، يعني كيف يكون كلا القولين متلازماً؟ الله خلقكم والذي تعملونه، خلقكم وعملكم، فعملهم هذا نتج عنه هذه المنحوتات والمعبودات والأشكال والصور التي صوروها، لا من الأصنام فإذا كانت هذه مخلوقة فإن الأيدي التي صنعتها مخلوقة والأفعال التي وجدت بها والجهود مخلوقة فصار بين القولين بهذا الاعتبار ملازمة، ويمكن أن يراجع كلام ابن القيم -رحمه الله- مفصلاً في هذا، يراجع مثلاً بدائع التفسير.
الصنعة تقال: للمصنوع، صنعة، وابن القيم -رحمه الله- يحتج على قوله، على ما ذكر من أنها موصولة، وهي كانت بأفعال المخلوقين نتيجة لأعمالهم ونجْرهم ونقرهم ونحتهم وما إلى ذلك، ويذكر ابن القيم -رحمه الله- على هذا آيات من القرآن مثلاً قوله تعالى عن سفينة نوح ﷺ: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [سورة يس:41، 42] مع أن من الذي صنع الفلك التي يركبون فيها؟ -السفن، وابن القيم استبعد قول من قال: إن المقصود الإبل كما سبق أنها سفن البر إلى آخره وإنما مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ من المراكب سواء كانت البحرية على قول من حدده بذلك أو المراكب الأخرى التي يركبونها منها الطائرات اليوم والسيارات ونحو هذا، فعلى كل حال هذه السفن وسائر المراكب وأنواعها من الذي صنعها؟ الناس أليس كذلك؟ والله قال: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ مع أنها مخلوقة ومصنوعة بأيدي الصناع الناس، وذكر آيات غير هذه فأضاف ذلك إلى نفسه.
الجحيم: كل نار بعضها فوق بعض يقال لها: جحيم، والجمر المتراكم بعضه فوق بعض يقال له: جحيم، فلذا قال أصحاب اللغة والمفسرون كابن جرير وغيره: نار متراكمة.
وهنا عبرة وآية عظيمة يعني هؤلاء الناس لما ألقوه في هذه النار العظيمة، وإذا نظرتم ما يذكر فيها -هي من قبيل الروايات الإسرائيلية- لكن لا شك أنها نار عظيمة: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ والتعبير بالجحيم يدل على هذا، مع ذلك لما وجدوه من غير بأس وما مسته النار، هل تحولوا إلى الإيمان؟ آمن هؤلاء وبقي إبراهيم ﷺ فيهم؟ أبداً ما تغير في الأمر شيء قال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26] خرج وتركهم، فإذا طُمس على القلوب فمهما رأوا من الآيات فإن ذلك لا يؤثر فيهم -نسأل الله العافية، فأي آية أعظم من هذا شاهدوها عرفوها عرفوا حقيقة ما جاء به -عليه الصلاة والسلام؟ ومع ذلك بقوا على لسانهم ورجزهم وضلالهم، والله المستعان.
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [سورة الصافات:99-113].
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم : إنه بعدما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: أولادا مطيعين عوضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم.
هكذا الإنسان إذا دعا ربه وسأل الذرية يقيد ذلك بالصلاح قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [سورة آل عمران:38]، فذلك يكون نعمة على الإنسان لكن قد يأتي أولاد بخلاف ذلك فيكونون نقمة.
لما هاجر إلى بلاد الشام قال: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الآن ليس عنده أولاد فسأل الولد فعوضه الله بالذرية الطيبة، الذين يُنسونه قومه وعشيرته وأهله ووطنه الذين فارقهم لله وفي الله، فهنا إذا كان إسماعيل ﷺ أكبر فإن المبشَّر به إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- بهذا الاعتبار، هذا دليل أول أنه إسماعيل ﷺ، والدليل الثاني من كتبهم قال: وعندهم أن الله -تبارك وتعالى- أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ووحيده هذا في نص كتابهم، وفي نسخة أخرى بِكْره، والبكر في كتبهم هو إسماعيل هم يوافقون أنه هو الأكبر، أكبر من إسحاق.
وهذا من تناقضهم وتحريفهم حينما يوافقون على أن إسماعيل ﷺ هو الأكبر ثم يقولون: أن يذبح بِكره إسحاق فهذا كذب يلوح كيف يكون البكر إسحاق؟ فهذا مما يحتج عليهم به من باب المناظرة للنصارى أنهم حرفوا كتبهم مما يحتج عليهم به في هذا الموطن قال كيف تتناقضون؟ أنتم تقولون: إنه هو الوحيد إسماعيل، إنه هو الأكبر فكيف يكون البكر هو إسحاق؟.
هذا دليل آخر من النظر أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد يعني إذا أُمر بذبحه فهذا يكون أشد في البلاء.
هذا الوجه الثالث الذي ذكره ابن كثير للاحتجاج على أن إسماعيل ﷺ هو الذبيح، والمسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، فيها قولان مشهوران بكل واحد منهما قال جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وليس في المسألة دليل صريح يقطع الخلاف ويرفعه، ولعل أوضح ما فيها ما صح عن النبي ﷺ فيما يتصل بقرني الكبش في جوف الكعبة، فذلك مما توارثوه وعُرف وأقر النبي ﷺ بذلك، فهذا أوضح دليل أن الذبيح كان إسماعيل ﷺ.
وأما الدلائل من القرآن فإنك إذا نظرت إلى استدلال كل طائفة ظننت أن هذا الاستدلال الأوجه والأقوى والأصح، فإذا نظرت إلى استدلال الطائفة الثانية وجدت أنهم يحتجون بأدلة أو بطرائق لا تقل عن الأولين من حيث الوجاهة والقوة، لكن الآن لو سألناكم لأول وهلة الآن لو جاء واحد منكم وقال: الذبيح هو إسحاق ما رد الفعل عندكم؟ ماذا تقولون عن هذا القول؟ ماذا تقولون؟ ضعيف فقط، أو خطأ فقط، أو هاوٍ، أو في غاية الضعف والسقوط في نظركم ما تقولون؟ الآن أنا في هذا الدرس لو قلت لكم: إن الذبيح هو إسحاق لسارت به الركبان أو لا؟ أرأيتم أن هذا من الشناعة أليس كذلك؟
ولولا خشية الوقت لقرأنا من تفسير ابن جرير؛ لأنه يقول: الذبيح إسحاق والحجج التي يوردها ابن جرير بحيث لو قرأت عليكم بمجردها أظن أنكم إما أن تقولوا: إن الذبيح إسحاق أو تتوقفوا في المسألة وتتحيروا، يعني لا نقول: إن الذبيح إسحاق، والذبيح هو إسماعيل ، لكن أقصد من المسائل ما يظن الإنسان أحياناً لأول وهلة أن هذا القول ساقط ولا وجه له، فلو نظر في حجج أصحابه لغير رأيه فلا يستعجل الإنسان في رأي أقوال أهل العلم وردها قبل أن ينظر في حججهم وأدلتهم.
وأكثر أهل العلم كما يقول القرطبي: إن الذبيح هو إسحاق وأنا لم أتتبع هذا بدقة لكن هذا كلام القرطبي، يقول: الأكثر يقولون: هو إسحاق، مع أن الحاكم النيسابوري يقول في المستدرك: إن الذين أدركهم من الشيوخ شيوخ الحديث في البلدان يقولون: إن الذبيح هو إسماعيل ﷺ لا يختلفون في ذلك، أهل الحديث، ثم يذكر عن قومٍ وُجدوا أنهم يقولون، لا يقصد أنهم غير موجودين من قبل، هذا قول معروف لبعض الصحابة لكن وقف عمن يقول في زمانه بأن الذبيح هو إسحاق، هذا كلام الحاكم النيسابوري.
والقرطبي يعزو ذلك إلى أكثر أهل العلم: الذبيح هو إسحاق، وهذا يروى عن العباس عم النبي ﷺ، ويروى عن ابن عباس، وصح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه، وجابر يروى عنه ذلك أيضاً، وعلي بن أبي طالب وابن عمر، وعمر بن الخطاب يروى عنه هذا إن صح، فهؤلاء سبعة من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يروى عنهم القول: إن الذبيح هو إسحاق.
وأما الذين قالوا هذا من التابعين فمن بعدهم واختلاف الطبقات فهؤلاء كثير فهو مروي عن علقمة وأصحاب ابن مسعود، والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير، وكعب الأحبار، وقتادة ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابق، والسدي وعبد الله بن هذيل، ومالك بن أنس هؤلاء كلهم يقولون: إسحاق، واليهود والنصارى يقولون: الذبيح هو إسحاق، ومن أهل العلم من المفسرين وأصحاب المعاني كابن جرير يقول: الذبيح إسحاق، والنحاس صاحب معاني القرآن يقول ذلك.
وأما الذين قالوا: إنه إسماعيل ﷺ فهذا مروي عن أبي هريرة والطفيل عامر بن أبي واثلة، وهو أيضاً مروي عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن عباس -رضي الله عن الجميع، وممن جاء بعد الصحابة: الذين روي عنهم من الصحابة سبعة في السابق قالوا: إنه إسحاق، وهنا عن ابن عمر روايتان، وعن ابن عباس روايتان فبقي عندنا أبو هريرة وأبو الطفيل، والتابعون قال بهذا سعيد بن المسيب، وهو مروي عن الشعبي أيضا،ً ويوسف بن مهران، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة فهؤلاء أقل من الأولين، لهذا قال القرطبي: إنه قول الأكثرين يعني أن إسحاق هو الذبيح.
والأصمعي سأل أبا عمر بن العلاء عن الذبيح من هو؟ فقال له: يا أصمعي! أين عزب عنك عقلك ومتى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة، وقد يقول قائل من أصحاب القول الآخر: من قال لكم إن الذبح كان في مكة، إنه أُمر بذبحه في بلاد الشام، يعني هذا قول، فهم يقولون: لا نسلم أصلاً أنه بمكة، فيستطيعون الجواب عن هذا الذي ذكره أبو عمر بن العلاء -رحمه الله.
فهذا فيه عبرة أن الإنسان لا يستعجل برد بعض أقوال أهل العلم حتى ينظر في أدلتهم وما شابه ذلك، وهي مسألة دقيقة؛ لأن من الناس من يستعمل مثل هذا في ضرب الثوابت عند الناس، لكن فرق بين هذا وهذا، نحن نتكلم عن أقوال معتبرة عند أهل العلم، ومشهورة ولربما قال فيها أكثر أهل العلم، لكن أولائك يستعملون هذا في هز الثوابت عند الناس يقولون: انظر في كلام الآخرين ولا تأخذ الكلام لتسمعه على أنه مسلَّم، وهذه مشكلة كبيرة، والعوام لا يطالبون بهذا، إنما مذهبهم مذهب من أفتاهم من علمائهم علماء بلدهم، أنا مع البلد الذي يعني يستفتي فيه هؤلاء، وإذا نظرت في حجج هؤلاء، وحجج هؤلاء ابن كثير -رحمه الله- أورد ثلاثة مثلاً وليس المقصود الاستقصاء إنما مزيد من الإيضاح بعض الشيء.
فمثلاً الذين قالوا: إنه إسحاق قالوا: إن الله قد أخبرهم عن إبراهيم حينما فارق قومه فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فقال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا، وقال هنا: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ وذلك قبل أن يعرف هاجر، قبل أن يذهب إلى بلاد مصر، وقبل أن يولد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- لكن هذا يقتضي أن إسحاق أكبر من إسماعيل مع أن أهل الكتاب يوافقون -كما ذكر ابن كثير- على إن إسماعيل هو الأكبر، وقضية الغيرة التي حصلت سببها أن سارة لم يكن يولد لها فلما أهديت إليه هاجر فولد لها غلام تحركت دواعي الغيرة عند سارة فذهب بها إبراهيم ﷺ وكما في الحديث إن أول من اتخذ النطاق هي هاجر، كانت تمحو أثرها عن سارة، كانت تتبع آثارها فكان لها نطاق، عملت نطاقاً لتمحو الأثر إذا مشت حتى لا تتعرف تلك على الأماكن التي ذهبت إليها وأين جاءت وأين ذهبت، وهل لقيت إبراهيم ﷺ؟
فهذا يدل على أنها غارت، وذهب بهاجر إلى أرض الحجاز إلى مكان الحرم مع ولدها، وهذا ظاهر، ثم بعد ذلك وُجد له إسحاق لكن مثل هذا النوع من الاستدلال له وجاهة لكن إذا نظرت إلى غيره من الأدلة كأنه لا يتفق معها وهي أمور مسلمة واضحة، فهذا الاحتجاج له وجه وله قوة، ويقابل أموراً مسلّمة ينقضها أو يصادرها، فالذين قالوا: إنه إسماعيل قالوا: أولاً الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبياً، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا هو يكون نبياً بعدما يكبر، فكيف يأمره بذبحه؟ إذاً لن يتحقق هذا الذبح، سيكون نبياً في المستقبل! والاستدلال واضح، كيف يبشره به -بإسحاق بولد- وأنه سيكون نبياً ثم يأمره بذبحه؟ هذا الذبح لن يتحقق، لابد أن تتحقق هذه البشارة أنه سيكون نبياً.
وهكذا أيضاً قال: ما بعث نبي إلا بعد الأربعين عاما[5]، لا نبي إلا بعد الأربعين إلا عيسى ﷺ، فقال بعضهم: فكان قبل الأربعين، لكن لا أعلم أحداً يقول: إن أحداً من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كان نبياً في صغره أبداً، لا عيسى ﷺ، ولا إسحاق، ولا يوسف -عليه الصلاة والسلام، وموسى ﷺ حينما ذهب إلى مدين كان ذلك قبل النبوة، وإنما نُبئ لما رجع في الطريق عند الطور، ويوسف ﷺ حينما قال الله -تبارك وتعالى- له: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15]، جاء ذلك وحياً من الله -تبارك وتعالى- وتطميناً أنه سيأتي اليوم الذي يخبر إخوته بفعلتهم وهم لا يشعرون أنه يوسف، وتحقق هذا لما قالوا له: أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ [سورة يوسف:90] فقال: أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا ....
فالشاهد أنه أشعرهم بهذا، وهو خاطبهم بهذا وهم لا يشعرون، كان هذا قبل النبوة حينما قال الله له: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وهذا يُحتج به على أن الوحي قد يأتي لأحد من الناس ولا يكون نبياً كما أوحى الله إلى أم موسى وإلى الحواريين، وقد يأتي الوحي لبعض الأنبياء قبل النبوة كما في يوسف ﷺ.
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الصافات، برقم (3230)، وابن جرير الطبري في تفسيره (19/ 560).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (20100)، وقال محققوه: إسناده ضعيف.
- رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين -رضي الله عنهما، برقم (3536).
- رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص73)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1637).
- ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة، وقال: قال ابن الجوزي: إنه موضوع، المقاصد الحسنة (587)، برقم (985).