الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ} الآية:9 إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الألْبَابِ} الآية:18
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٣٣
التحميل: 7901
مرات الإستماع: 20190

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:

أَمََّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الألْبَابِ [سورة الزمر:9].

يقول : أمَّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا؟ لا يستوون عند الله، كما قال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران:113]، وقال -تبارك وتعالى- هاهنا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا أي: في حال سجوده وفي حال قيامه.

وعن ابن مسعود أنه قال: القانت المطيع لله ولرسوله ﷺ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا، أمَّن قرأه نافع وابن كثير {أَمَن} بالتخفيف، يعني أن الميم غير مشددة، أمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ فتكون همزة الاستفهام دخلت على "مَن"، أمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يعني: كمن كفر؟ الجواب محذوف للعلم به، والعرب تحذف من الكلام استغناءً بما ذكرتْ ثقة بفهم السامع أو المخاطب.

وهذا كثير في القرآن وقد مضى له نظائر وسيأتي أشياء من هذا القبيل، يعني القرآن يختصر الأشياء التي هي مُدرَكة، كما في سورة يوسف لما قال إخوة يوسف لأبيهم: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۝ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ۝ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ۝ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ... [سورة يوسف:12-15]، قال: وَجَاءُُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ [سورة يوسف:16] يعني ترك الكلام عن أنهم أخذوه وألقوه في البئر.

قال: أمَّن، تكون "أم" و "من" أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ، فتكون "أم" استفهامية، وأمَّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ هذا تفسير الحافظ ابن كثير للقراءة التي نقرأ بها، لا يستوون عند الله، هذا الجواب ذكره، لا يستوون، والثانية: أمَن كمن كفر؟ يعني: أمَن كان بهذه الصفة كمن كفر، كمن لم يكن كذلك؟ لا يستوون، ليسوا كذلك، كما قال الله : لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران:113].

وقوله هنا: أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ فسر القانت بالخاشع، ونقل أيضاً عن ابن مسعود أنه مطيع لله ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعض أهل العلم يفسر القنوت بالخشوع، وبعضهم يفسره بطول العبادة، وبعضهم يفسره بغير ذلك، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي [سورة آل عمران:43]، وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:12].

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له رسالة في قنوت الأشياء لله تعالى، وجمع موارده ثم بعد ذلك خرج بنتيجة وهي: أن القنوت في كتاب الله يعني دوام الطاعة في كل الاستعمالات الواردة في القرآن، دوام الطاعة، فهنا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يعني: يطيل القيام والصلاة بسجوده وركوعه، وقد سئل النبي ﷺ عن أفضل الصلاة فقال: طول القنوت[1]، ومعنى طول القنوت يعني: طول القيام.

وهنا قول ابن كثير -رحمه الله- أو قول ابن مسعود : القانت المطيع لله، وهكذا وافقه عليه ابن جرير -رحمه الله، المطيع لله، المطيع: شيخ الإسلام يقيد هذا بقيد الدوام، دوام الطاعة، دوام العبادة، هكذا -والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ أي: قائم، فسره هنا في هذا الموضع بالقيام، لكن الله تعالى قال: سَاجِدًا وَقَائِمًا فكيف يفسر بالقيام؟

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا، فهذا تفسير لهذا القنوت، فلو فسر بالإطالة في هذه الصلاة في حال القيام وفي حال السجود، والسجود يطلق على الركوع وعلى السجود، ومن إطلاقه على الركوع وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58]، يعني: في حال الركوع، وليس المقصود أنه يسجد على الأرض ويدخل الباب، باب المدينة، أو البلدة التي أمرهم الله بدخولها، إنما يدخل في هيئة الراكع تذللاً وخضوعاً لله -تبارك وتعالى، فالركوع يقال له: سجود، وإن كان الإطلاق المتبادر له وضع الجبهة على الأرض، لكن هذا أبلغ صور السجود، وأظهرها، وضع الجبهة على الأرض.

وبعضهم يفسره بالدعاء، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ دعاء القنوت، فلان يقنت يعني: الدعاء، ففسره بعضهم بالدعاء، سَاجِدًا وَقَائِمًا يعني: يدعو، يمكن أن يفسره القائل ذلك بأن هذا الدعاء عبادة ودعاء، يعني هو متقلب بين دعاء عبادة ودعاء مسألة، دعاء عبادة: صلاته هذه هو يدعو بها يطلب الثواب من عند الله ، فهو سائل بفعله، كما نعرف أن الدعاء على نوعين، فدعاء العبادة هو نفس العبادة بحيث إن الإنسان يطلب بها ما عند الله، فهو داعٍ بهذا الفعل، حينما يقوم ويصلي.

ودعاء المسألة هو الدعاء المعروف يا رب، يسأل بلسان المقال، وذلك سائل بلسان الحال، يسأل بفعله، وكل هذا يقال، وبعضهم يجعل أصله غير ذلك، يعني مثل النحّاس صاحب كتاب الإعراب والمعاني يجعل أصله الطاعة، يقول: القنوت أصله الطاعة، القانت هو المطيع، وكما قلت إن شيخ الإسلام يقول: دوام الطاعة، وهذا أحسن -والله تعالى أعلم، فليس كل مطيع قانتاً، وإنما هو مطيع وزيادة، يعني حينما يصلي الإنسان ركعة، يتجوز بها، يعني يخفف، سريعة، لا يقال له: قنوت، ويفهم من قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا أنه يطيل الصلاة، لكن لو أنه صلى ركعة واحدة وتراً بدقيقة ونصف فهذا لا يقال له: قانت آناء الليل، ولا يفهم هذا من السياق، والله تعالى أعلم.

قال: وقال ابن عباس -رضي الله عنهما، والحسن، والسدي، وابن زيد: آنَاءَ اللَّيْلِ: جوف الليل.

جوف الليل، ساعات الليل كما يقول بعضهم: قائم آناء الليل، وساعات الليل لعله أوضح؛ لأن القيام يكون الليلُ من أوله إلى آخره ظرفاً له ووقتاً له، آنَاءَ اللَّيْلِ يعني ساعات الليل، هذه الأقوال متقاربة، جوف الليل، ساعات الليل، بخلاف من قال: إن آناء الليل يعني ما بين المغرب والعشاء، وكان بعض السلف يصلي ما بين المغرب والعشاء، ولا شك أنها صلاة في الليل؛ لأن الليل يبدأ من المغرب، ولكن ليس ذلك هو قيام الليل إلا لمن جمع المغرب والعشاء، فقيام الليل يكون بعد صلاة العشاء، لكنها نافلة في الليل، وأما قيام الليل فلا يكون إلا بعد صلاة العشاء.

وقوله تعالى: يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ أي: في حال عبادته خائف راجٍ، ولابد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال تعالى: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف، فقال رسول الله ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخافه[2]، ورواه الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة"، وابن ماجه، من حديث سَيَّار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان، به، وقال الترمذي: غريب.

قوله -تبارك وتعالى: يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قال: أي في حال عبادته خائف راجٍ، وهذا فيه معنى الإخلاص، إذا كان الإنسان يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فهو يريد ما عند الله لا يريد شيئاً من الدنيا، لا يريد ذكر الناس وثناء الناس.

وهناك أنواع خفية من طلب الدنيا بعمل الآخرة، كأن يصلي الإنسان الليل من أجل أن يشرق وجهه في النهار، هذا معنى قد يلتبس على بعض أهل العبادة، يصلي بالليل ليشرق وجهه بالنهار، معروف أن صلاة الليل تكون سبباً لإشراق الوجه واستنارته، فهذا معنى خفي، صار يطلب شيئاً من الدنيا بهذا العمل، وإن كان هذا ليس من قبيل الرياء والسمعة، هذا يختلف، لكن هذه أمور خفية لو أن العبد كان تجرده أكبر فإنه لا يلتفت إليها بصرف النظر عن هذه الأنواع وما يكون مبطلاً للعمل، وما لا يكون مبطلاً للعمل.

يعني مثل هذا إذا كان على سبيل التبع فهل يبطل العمل كالرياء والسمعة؟ أو يكون هذا من اللواحق والتوابع التي لا تبطله إن كانت على سبيل التبع، أما إن كانت بالقصد الأول فإنها تبطل، كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- فيمن يصلي ليثبت عدالته، يصلي بالمسجد مع الجماعة؛ لأن الذي لا يصلي مع الناس في الجماعة لا تثبت عدالته، فهذا الذي يصلي، الشاطبي يرى أن مثل هذا أنه مطلب شرعي إثبات العدالة، لكن لا تكون صلاته مع الناس في المسجد من أجل إثبات العدالة، فيكون طالباً لأمر من الدنيا، ولكن يكون على سبيل التبع، يعني كأن يكون الإنسان لا يرى وجوب صلاة الجماعة، لكنه يحافظ عليها طلباً لما عند الله، ولأمر تابع وهو أن يثبت عدالته، ليس للرياء والسمعة.

لاحظ الرياء والسمعة غير إثبات العدالة، فهذا ملحظ قد يراعيه بعض الناس، فالشاطبي يرى أن هذا من الأمور التي تصح على سبيل التبع، لا بالقصد الأول، مثل الذي يصوم ليصح بدنه، فإن كان بالقصد الأول فليس له نصيب من هذا العمل عند الله، لكن إن كان يريد ما عند الله وعلى سبيل التبع ليصح البدن أو طلباً للنحول أو ما أشبه ذلك -تخفيف الوزن- فمثل هذا يصح، وإن كان الأعلى من هذا أن لا يلتفت إلى شيء من ذلك، وإنما يريد فقط ما عند الله -تبارك وتعالى.

قوله: يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قال: أي في حال عبادته خائف راجٍ، لابد من الأمرين، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب، هنا هذا فيه رد على الصوفية أو بعض الصوفية، وعلى بعض ما يتداول في رسائل الجوال من أن العبد عليه أن يعبد الله طلباً لرضاه فقط، ويأتون بجمل وعبارات وللأسف يروج كثير منها، فيقولون: لا يكون العمل من أجل طلب الجنة أو الخوف من النار، هذا عند بعض الصوفية، وهذا ليس بصحيح.

فهنا بنص القرآن في مقام الثناء والمدح لهؤلاء يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، وهذه الرحمة يدخل فيها الجنة والثواب، وهذا هو الذي وصف الله به خلّص العباد، ومن اصطفاهم الله -تبارك وتعالى، وهنا فيما يتعلق بتقديم ما في حال الصحة والعافية، قال: أن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب. 

قال: ولهذا قال: يَحْذَرُ الآخِرَةَ، فقدم الحذر من الآخرة، ففهم منه الحافظ ابن كثير  -رحمه الله- أن هذا التقديم يدل على أن الخوف مقدم في حال العافية، فهذا يتعبد والخوف عليه غالب، يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو هذا وجه الاستدلال عند ابن كثير.

ومن أهل العلم من يقول: إنه يستوي الخوف والرجاء في كل الحالات، وإنهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما، وهذا قال به طائفة من السلف ولهم أدلة، وليس هذا موضعه، والذين قالوا: يقدم الخوف في حال العافية، ويغلب الرجاء في حال المرض أو مرض الموت أو حال الاحتضار يحتجون بأدلة من المنقول ومن النظر.

من النظر مثلاً يقولون: إن الإنسان في حال العافية هو بحاجة إلى وازع ورادع من أجل أن يجدّ ويجتهد ويشمر في طاعة الله ، ويجتنب مساخطه، وفي حال مرض الموت المخوف، أو في حال الاحتضار هو بحاجة إلى أن يحسن الظن بربه كما في الحديثلا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[3]، هذا يكون بتغليب الرجاء، وبما جاء عن ابن عباس لما دخل على عائشة -رضي الله عنها-وجعل يرجيها في مرض موتها، وعبد الله بن عمرو بن العاص لما دخل على أبيه وجعل يرجيه عند الاحتضار، يحتجون بمثل هذه الأشياء، لكن هذا الحديث الذي ذكره الحافظ ابن كثير لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الرجل قال: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف، فقال النبي ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه..، هذا قد يحتج به الفريقان، يحتج به من قال: يغلب جانب الرجاء، قالوا: لأنه قدم الرجاء كما قدم الخوف في الآية، فالذين يقولون: يستويان في كل حال أو على الأقل يستويان في حال الصحة ويغلب الرجاء في حال مرض الموت المخوف يقولون: الواو لمطلق الجمع والتقديم والتأخير لا يعني أن هذا قبل هذا أو أنه أولى منه، إنما هي لمطلق الجمع، والنبي ﷺ قال: لا يجتمعان.. فدل على أن الخوف والرجاء مطلوبان في حال الاحتضار.

لو قيل: إن الناس يتفاوتون، فمن الناس من يكون الأصل له أن يغلب جانب الخوف، وأن ما يذكر له ويورد عليه من النصوص والمعاني والتربية وما أشبه ذلك يغلب فيه جانب الخوف لغلبة التفريط عليه، ومن الناس من هو بحاجة إلى الرجاء لغلبة اليأس عليه، فهذا يحتاج إلى ترجية، فيكون المربي أو المعلم مثل الطبيب يعالج كل حالة بحسبها.

لكن إذا نظرنا إلى أحوالنا معاشر المقصرين فإننا لا شك بحاجة إلى جانب الخوف أكثر منا حاجة إلى جانب الرجاء، ولكن النفس يحدوها تارة هذا وتارة هذا، إذا ذكر لها ما عند الله من الثواب ونحو ذلك كان ذلك حافزاً لها على العمل الصالح، وإذا ذكر لها أيضاً الأمور التي تُخاف فإن ذلك يدعوها إلى الامتثال، ولذلك كانت الموعظة أمراً ونهياً مقروناً مع ما يحمل على الامتثال، إما ترغيب، وإما ترهيب -والله أعلم، لكن لا يخلو القلب من خوف ورجاء، فقد يزيد هذا وقد يزيد هذا بحسب حال العبد، ويُنظر فيما هو أصلح له، والله أعلم.

قال: وروى الإمام أحمد عن تميم الداري قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة[4]، وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة".

هذا يدل على أن القنوت لا يكون بمجرد قراءة آية، أو ركعة قصيرة يوتر بها في دقيقة ونصف، مائة آية كتب له قنوت ليلة، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده، يعني كأن هذا من باب التخفيف والتيسير أن يبلّغهم هذا بمثل هذا العمل اليسير الذي هو قراءة مائة آية، والله أعلم.

قال: وقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله؟!

يعني هل يستوي هذا والآخر البعيد، هذا معنى يحتمل، وبعض أهل العلم يقول: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ما أنزل الله على رسوله ﷺ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، والمقصود بالعلم الخشية، وليس المعلومات الكثيرة والثقافة والحفظ وما أشبه ذلك، فهذا وحده لا يكفي، ولهذا فسر ابن مسعود وغيره العلم بالخشية، قالوا: العلم هو الخشية، وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:28].

فهم العلماء بأمره ونهيه وصفات كماله والطريق الموصل إليه والدار التي يصير إليها الناس بعد هذه الدار، فهذه الأمور التي عرفوها، وهذه التفاصيل كل ذلك يحملهم على العمل والامتثال، وإلا فما فائدة العلم؟ فهذا يعمل بمقتضى العلم فهو قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

أما الذي يتعلم ولا يعمل فهذا حاله أسوأ من حال الجهال؛ لأن أولائك تركوا العمل؛ لأنهم لم يعلموا، وهذا علِمَ ولكنه لم يعمل ولم ينتفع بهذا العلم، وإنما كان له منه التعب والعناء، ولا يقولن قائل: إن العلم شريف وطلبه عبادة، وإن الاشتغال به أفضل من نوافل العبادات وما إلى ذلك.

يقال: لا يعرف هذا إلا عند أهل البدع والضلال، أولائك الذين يتعلمون للعلم فقط، أما علماء السلف جميعاً فإذا قرأت في تراجمهم وأحوالهم وأخبارهم وجدت أنهم على حال وقدر كبير من العمل، والنبي ﷺ هو إمام أهل العلم والعمل، وكان ﷺ يعبد الله ويجتهد في عبادته ويقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وهو قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

فمن الناس من يبرر ضعفه وعجزه فلا يقول: أنا مقصر، أنا أسأل الله أن يتوب عليّ، وإنما يقول: هذه العبادة وهذا الاجتهاد في الطاعة وما أشبه ذلك، وهو من سمات أهل البدع؛ لأن هناك من يقول هذا للأسف، وإذا سمع أخبار السلف في عبادتهم واجتهادهم قال: هذه مبالغات وهذا لا يكون، والاشتغال بالعلم أفضل، وهذا الكلام غير صحيح، والإنسان عليه أن يتقي الله وينصف من نفسه ويعترف بعجزه وتقصيره، أما إذا كان يكابر هذه المكابرة فمتى يرعوي ومتى يعمل.

يعني بعضهم يقول: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يعلمون أن البعث حق، والذين لا يعلمون ذلك؟ فهؤلاء يجتهدون في الطاعة من أجل أنهم يحاسبون على أعمالهم، يعني يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والنشور إلى آخره والقيامة حق وأنه واقع، ومن لا يعلم ذلك.

وبعضهم يقول: إن المفارقة هكذا، يقول: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: كما أنه لا يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي الذين يعملون ويطيعون والذين لا يعملون ويطيعون، يعني كأنه ذكر هذا لبيان الآخر، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ إلى آخره، يعني كما أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فكذلك لا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون، يقول: كأنه ذكر هذا للتنظير للآخر، يعني كأنه ذكر شيئاً معروفاً أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فهذا أمر مقرر ومعلوم ولا ينكره أحد، فكذلك من يعمل ومن لا يعمل، المطيع والعاصي، وهكذا عبارات المفسرين مقارب كثير منها لهذا.

يعني كما يقول ابن جرير: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، يعلمون ما لهم من الثواب، يعني في حال الطاعة، وما عليهم من الوزر في حال المعصية، وهذا قريب، يعني كون الله ذكر هذا في هذا المقام أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يعلمون ما لهم عند الله إذا أطاعوه وما عليهم من الوزر إذا هم عصوه وخالفوا أمره، فهؤلاء لا يستوون مع أولائك الذين يخبطون خبط عشواء، ويفرطون ويضيعون.

لكن هذا التعقيب في غاية الأهمية بعد هذه الآية، يعني بعد قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فهذا هو المراد من العلم، فالذين يعلمون يكونون بهذه المثابة، والذين لا يعلمون فكل من عصى الله فهو جاهل يعني لم يكن عندهم من العلم ما يحمل على الامتثال، فدل على أن المقصود من العلم العمل، فهذا فيه أعظم عبرة لنا، والله المستعان.

قال: أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله؟ وهذا قريب من الأقوال الأخرى، هذا حمله العلمُ على الطاعة وكذا والذي قبله هو في حال من الجهالة والعماية والتضييع.

قال: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ أي: إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل، والله أعلم.

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۝ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [سورة الزمر:10-12].

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ أي: لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم.

هنا قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، قوله: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا يحتمل أنه يتعلق بأحسنوا، ويكون المعنى هكذا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا يعني: بالعمل الصالح، حَسَنَةٌ في الآخرة وكذلك في الدنيا؛ لأن العمل الصالح يكون ثوابه عند الله -تبارك وتعالى- يجزي عليه في الدنيا وفي الآخرة، لكن حتى لا يلتبس نقول: حَسَنَةٌ عند الله في الآخرة وكذلك في الدنيا، فهذا احتمال.

ويحتمل أن يكون في هذه الدنيا يتعلق بحسنة، فيكون المعنى للذين أحسنوا حسنة في هذه الدنيا، يكون لهم ثواب في هذه الدنيا، معجل قبل الآخرة، فإذا قلنا: إن قوله: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا متعلق بـ أَحْسَنُوا يكون عملوا في الدنيا الأعمال الصالحة لهم حسنة عند الله، وإذا قلنا: إنه متعلق بحسنة يكون المعنى هكذا: للذين أحسنوا حسنة في هذه الدنيا، يكون لهم ثواب في هذه الحياة الدنيا من سعة الرزق، وانشراح الصدر، والسعادة، والبركة، ويدفع عنهم من الشرور والآفات، يكونون في جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97]، هذا في الدنيا، فهذان معنيان، قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.

فالآية تحتمل معنيين، والقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن من أحسن في هذه الحياة الدنيا بالعمل الصالح والإيمان فإنه يجزى على ذلك في الدنيا والآخرة، كما سبق في قوله: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم يعني: في الآخرة، وكذلك في الحديث: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة[5]، فدلت النصوص على أن الإنسان يعطى بالحسنة في الدنيا، يجازى عليها في الدنيا ويجازى عليها في الآخرة.

فإذاً يمكن أن يقال: إن كل واحد من المعنيين صحيح، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الدنيا، للذين أحسنوا وعملوا الصالحات في هذه الحياة الدنيا حسنة، وهذه الحسنة التي أطلقها الله تبقى على إطلاقها فتشمل الدنيا والآخرة، فيكون هذا القول متضمناً للقول الذي قبله الذي يقيدها بالدنيا، أو الاحتمال الذي قبله، يعني إذا قلنا: إنها مطلقة تشمل الدنيا والآخرة، حَسَنَةٌ ما قيدها بالآخرة، فتكون في الدنيا وفي الآخرة، فيكون هذا القول أوسع من القول أو الاحتمال الآخر أنها في الدنيا، وهذا نوع من الأنواع التي يمكن الجمع فيها بين الاحتمالات الواردة في الآية، يكون بين المعنيين ملازمة، يكون أحد المعنيين أوسع من الآخر، متضمناً له.

وعبارة ابن كثير: أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم، لكنه حمل قوله: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أنه متعلق بأحسنوا، وليس بحسنة، وهذا هو المتبادر.

قال وقوله: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ.

يعني هذا كأنه لما قال للذين آمنوا وحثهم على العمل الصالح وأثنى على هؤلاء الذين يعبدونه ويقنتون له إلى آخره، قال: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ يعني: من لم يتمكن، ضُيق عليه في مكان فأرض الله واسعة، فليطلب مكاناً يعبد الله فيه.

قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان.

وقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال لهم، إنما يغرف لهم غرفاً.

وقال السدي: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني: في الجنة.

مضى الكلام على مثل هذا الاستعمال يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ما يشبه هذا الموضع، وهو أن عادة الإحصاء والحساب والعد يكون للشيء المحدود المقدر، أعطه مائة، فتعد له عداً، وأما ما يكون حثواً بلا كيل ولا ميزان فهذا هو الشيء الكثير، والعرب تعبر بذلك عن الكثرة، يعني ليس بشيء معدود محدود فيحصى لهم وينقد بالعد والإحصاء، وإنما يعطون الجزاء جزافاً؛ لكثرة الثواب، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

ولهذا الصوم من الصبر، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به[6]، فلم يجعله من قبيل الحسنة بعشر أمثالها، وهذا لم يجعل في شيء من الأعمال إلا في الصبر؛ لأنه المعول الذي يرجع إليه خير الدنيا والآخرة، وتحصيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، وفعل الطاعات لا يكون إلا بالصبر وترك المعاصي لا يكون إلا بالصبر، والتحمل والتماسك في حال الأقدار المؤلمة لا يكون إلا بالصبر، وفي حال الأقدار التي يفيض فيها الإنعام ويحصل البطر لكثير من النفوس يُحتاج إلى الصبر.

فالعبد يدور مع الصبر في أحواله كلها، في حال النعمة والرخاء والشدة، وفي حال الطاعة وأمام المعصية، هو بحاجة إلى الصبر، فلا يصل إلا بالصبر، ولهذا الخلاصة أن الحياة كلها صبر ساعة.

منذ زمن طويل وأنا أتمنى أن يوجد شيء يختصر الحياة يصور ذلك للناس عياناً يرونه، يعني كنت أحب أن أصور لهم مثلاً حال شيء في سنة تسرع فيه الصورة في دقائق مزاولات وأعمال و...و... إلى آخره، سنة وقس عليها بقية العمر مثلاً، تسرع في دقائق، تختصر عن طريق التقنية، صورة حقيقية حتى رأيت قبل أيام صورة لمكان لعلكم رأيتم هذا، صورة لمكان مجدب، أشجار يكسو أرضها الجليد، وليس فيها ورقة واحدة، صورة حقيقية، ثم الصورة في دقائق أو أقل من دقائق أظن في دقيقتين لمدة سنة كاملة يبدأ بسرعةٍ الجليدُ يذوب ويتحرك ويسيل، ثم تبدأ الأوراق تخضر شيئاً فشيئاً حتى يخضر تماماً، ثم تكون المنطقة في حلة عجيبة جداً من الجمال والخضرة، ثم بعد ذلك تصفر شيئاً فشيئاً ثم تعود إلى الحالة السابقة، صورة حقيقية، في سنة، فهذا تصوير لحقيقة ما نحن فيه، فالحياة كلها صبر ساعة، والمصيبة تمضي والنعمة تمضي، والعبادة تحتاج إلى قليل من الصبر ثم يذهب التعب، ولذات المعاصي تمضي، فإذا صبر الإنسان بلغ ووصل، فالمعول عليه من الأعمال إنما هو الصبر، لا يكون عمل إلا بالصبر.

وقال السدي: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني: في الجنة.

وقوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ.

سبق في كلام ابن القيم -رحمه الله- أن هذه سورة الإخلاص الثانية، وإذا تتبعت الآيات فيها وجدت الأمر بالإخلاص وإعلان الإخلاص فيها في مواضع كثيرة إما صراحة وإما أن يكون ضمناً، ضمناً مثل قوله -تبارك وتعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ۝ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۝ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [سورة الزمر:13-16].

يقول تعالى: قل يا محمد وأنت رسول الله: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وهو يوم القيامة. وهذا شَرْط، ومعناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى.

شرط يعني في قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، يعني يقصد أن النبي ﷺ هو إمام المطيعين، لكن يقول تعريضاً بغيره: أنا وأنا رسول الله ﷺ أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، هذا الذي قصده ابن كثير -رحمه الله.

وبعضهم يعبر بعبارات أخرى كأن يقول بعضهم: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أن المقصود بذلك غير النبي ﷺ، لكن الخطاب متوجه لرسول الله ﷺ أن يقول هذا، فالنبي ﷺ يخاف ربه وإذا كان بهذه المثابة فغيره من باب أولى ينبغي أن يخاف، يعني إذا كان النبي ﷺ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغيره من باب أولى.

وبعضهم يقول: إن هذه الآية منسوخة، وإن الذي نسخها هو قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، هكذا قال بعض السلف، وهو منقول عن الحسن -رحمه الله، لكن على كلام ابن كثير لا يحتاج إلى مثل هذا، أو على قول الآخرين الذين قالوا: هذا تعريض بغيره، لكن كأنه نظر -أعني الحسن -رحمه الله- إلى أن النبي ﷺ يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم فكيف يتأتى هذا مع أن الله غفر له؟

لكن طبعاً هنا نلاحظ أمراً لا تكاد تجد من ينبه عليه: الذين يتكلمون عن موضوع الناسخ والمنسوخ يقولون: النسخ لا يدخل الأخبار وإنما هو في الإنشاء، يعني الأمر والنهي أو الخبر المضمن معنى الإنشاء، أي مضمن معنى الأمر أو النهي وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ [سورة البقرة:233] خبر، لكنه مضمن معنى الأمر يعني ليرضعن، يقولون: يدخل الخبر المضمن معنى الإنشاء، لكن الخبر المحض يقولون: هذا لا يدخله؛ لأنه تكذيب له، والواقع أن هذا ليس على إطلاقه، والمسألة فيها تفصيل.

فهذا الخبر المحض على نوعين، نوع هو إخبار عن أمر حصل وكان فنفيه أو نسخه تكذيب له، جاء زيد، ثم لم يأتِ زيد، هذا تكذيب، حصل كذا، وقع كذا، ثم لم يقع كذا، هذا تكذيب، وهو رفع خبر حصل ووقع في الزمن الماضي ثم يكون الرفع له مقتضياً لنفي وقوعه أصلاً، والنوع الثاني من الخبر ما ليس كذلك، كأن يكون مثلاً وعد بالعقاب على فعل معين، ثم بعد ذلك يرفع هذا العقاب، خبر.

فعلى القول بأن هذا ناسخ كما قال الحسن، بصرف النظر هل هذه منسوخة أو لا، أنا لا أتحدث الآن عن هذه الجزئية أنا أقول: كون بعض السلف يطلق النسخ في مثل هذا، هذا من قبيل الأخبار، أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، فهو رفع لخبر، الذي هو أنه ﷺ إن وقع منه ذلك عُذب، فرفعه يكون بأنه لا يعذب وإنما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذا نوع من الخبر، وليس هذا من قبيل الإنشاء الأمر والنهي، فهذا النوع من الخبر يدخله النسخ، فالخبر فيه تفصيل، ولكنك تجد عادة الذين يتحدثون عن النسخ لا يشيرون إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد، وإنما مباشرة يقولون: الأخبار لا يدخلها نسخ؛ لأنه تكذيب لها، وهذا ليس على إطلاقه.

فالوعد لا يتخلف؛ لأن الله لا يخلف وعده، وإنما الوعيد هو الذي قد يتخلف، وهذا على نوعين، نوع يبقى فيه الخطاب والوعيد على حاله، ولكنه بالنسبة للمعين يتخلف بمغفرة الله بحسنات ماحية، بمصائب مكفرة، بشفاعة، أو غير ذلك، هذا بالنسبة للمعين، النوع الثاني في تخلف الوعيد بأن يرتفع ذلك من أصله، أن يرتفع هذا من أصله، فمثل هذا لو قيل: إنه منسوخ، أنا لا أقصد هنا أن هذه الآية منسوخة أو ليست منسوخة، إن قلنا: هي تعريض بغيره كما يقول بعض العلماء أو ابن كثير يقول، فهذا لا يتطرق، ليس بمنسوخ، والأصل عدم النسخ، لكن أعني أن بعض السلف حينما يعبر في مثل هذا أنه منسوخ، هل هذا القول يقتضي أنه تكذيب بالقرآن، وبخبر الله أو تكذيب بالخبر؟ الجواب: لا، هم يفهمون هذا جيداً، والله أعلم.

قال: وقال تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وهذا أيضاً تهديد وتَبَرٍّ منهم.

قوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي، والآية التي قبلها قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ليس تكراراً، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، والعلماء ذكروا أجوبة عن هذا، والذي يظهر -والله أعلم- أن أوضح ما يمكن أن يقال في هذا -والله أعلم- هو أن الأولى إخبار عما أُمر به، عما أمره الله به، أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وهو يقول لهم: إن الله أمرني بعبادته وحده لا شريك له، والثانية هذه إخبار عن حاله، يقول: أنا أعبد الله وحده لا أشرك به شيئاً، هناك إخبار عما أمره الله به، أمره بالتوحيد والإخلاص، وهنا أمره بعبادته وحده لا شريك له.

وهذا مثل ما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون]، ليس بتكرار، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الآن، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في الحال، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ في المستقبل، لن أتحول إلى عبادتكم ودينكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في المستقبل لن تتحولوا إلى ديني وعبادتي، فالأولان في الحال، والآخران في المستقبل، فهنا ليس في الحال والمستقبل هنا إخبار عما أُمر به والثاني عن الحال الواقع.

قال: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ أي: إنما الخاسرون كل الخسران الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أُسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور.

هم خسروا أنفسهم، الذي دخل النار خسر كل شيء، خسر نفسه وخسر أهله، إن كانوا في الجنة فهذا نهاية العلاقة، وإذا كانوا في النار فهي نهاية العلاقة، كل أحد مشغول بنفسه، إذا كان في القيامة قبل دخول النار وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ۝ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:10، 11] إلى آخر ما ذكر الله فكيف بالنار؟ فهذه هي الخسارة الحقيقية، وليست خسارة مال أو خسارة امتحان أو خسارة عمل ووظيفة وصفقة.

قال: ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ أي: هذا هو الخسار البين الظاهر الواضح.

يعني هذا التركيب مضى الكلام عليه، فـ "ألا" للتنبيه، يعني: ألا ذَلِكَ كأنه ينادي على هذا، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، والإشارة هنا تعود إلى ما ذكر، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ دخول "هو" ضمير الفصل بين طرفي الكلام ذَلِكَ هُوَ يفيد تقويته، دخوله بين طرفي الكلام كالمبتدأ والخبر مثلاً يفيد تقوية النسبة، تقول: هذا هو الكريم، ممكن أن تقول: هذا الكريم، زيد كريم، فإذا أدخلت "هو" زيد هو الكريم، فهذا لتقوية النسبة، فدخول "هو" مع "ال" الْخُسْرَانُ كأن هذا هو الذي قد استحق أو حقق الوصف الكامل من الخسارة، هذا هو الخسران، هذه الخسارة الحقيقية، تقول: هذا هو النجاح، هذا هو الفلاح، هذا هو الكرم، هذا هو العلم، هذا هو الجهاد، يعني: كأنه الوصف الكامل من ذلك.

قال: ثم وصف حالهم في النار فقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ كما قال : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:41]، وقال تعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة العنكبوت:55].

الظلل من النار وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ فسره بالآيتين، وهذا من محاسن هذا التفسير أنه يفسر القرآن بالقرآن، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، الظلل -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من النار- هي أطباق النار، ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم، فهي كما قال الله : لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، فهذه التي من تحتهم كالمهاد للصبي الفراش له، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة العنكبوت:55]، فالنار من تحتهم ومن فوقهم.

وبعضهم يقول: إن الظلل التي تكون تحتهم هي فوق الذين أسفل منهم، يعني كأنهم نظروا إلى أن أصل هذه المادة الإظلال أنه يكون فوق الإنسان، فكيف قال الله : وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، يعني كأنهم نظروا على أصل المعنى "الإظلال"، قالوا: النار لما كانت دركات فهذه التي تكون من تحت هؤلاء تحرقهم من أسافلهم بالنسبة لمن هم تحتهم تكون فوقهم، يعني: يشتعلون في هذه الطبقات، فتحرقهم من جميع الجهات.

وهذا في الواقع يمكن أن يكتفي عنه، ويستغنى عنه عن هذا الكلام أنه بالنسبة لمن تحتهم، تحتهم ظلل، يعني هؤلاء كأنهم قالوا: إن تحتهم ظللاً كالتي فوقهم، فالتي فوقهم هي مهاد للذين فوقها، والذين تحتهم هي ظلل بالنسبة إليهم، فهي تحرق الذين في الأعلى والذين في الأسفل، هكذا نظروا إلى أصل هذه المادة.

لكن التعبير عن هذا بالمهاد، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، هل المهاد هو فقط الفراش الذي ينام عليه الصبي، أو ما يمهد به ويلف فهو يشتعل عليه من كل ناحية، من فوقه ومن تحته، فالنار مشتملة عليهم من كل الجهات، يعني ما جرت به العادة مثلاً حينما يُصلى الشيء على النار عادة فإنه تكون تحته ويحتاج أن يقلب على النار في الغالب، لكن هؤلاء لهم من فوقهم ومن تحتهم وهي محيطة بهم مشتملة عليهم كاشتمال المهاد على لابسه، ولهذا تجد في النصوص الأخرى سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ [سورة إبراهيم:50] يعني: اللباس نفسه يشتعل ويحترق عليهم، إضافة إلى إحراق هذه النار، المقصود أنه من تحتهم نار ومن فوقهم يعلوهم نار، كما في هذه الآيات، وبهذا فسرها ابن جرير -رحمه الله.

قال: وقوله : ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ أي: إنما يَقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم.

وقوله تعالى: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي.

يَا عِبَادِ من نظر إلى أن الغالب في القرآن أن العباد الذي يضيفهم الله لنفسه هم أهل العبودية الخاصة -عبودية الاختيار، يعني أهل الإيمان، قال: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ أن هذا خطاب موجه لأهل الإيمان؛ لأنهم الذين يتقون وينتفعون بذلك، ينتفعون بمواعظ القرآن هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2].

وبعضهم نظر إلى السياق وأن الآيات في النار وفي العذاب وكذا، قال: هذه الآية يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ العبودية العامة، فالخطاب للكفار والعصاة الذين خوفهم الله بهذا.

وبعض أهل العلم قال: هذه الآية عامة، يدخل فيها الجميع يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ فالله يحذر ويخوف عباده كما قال الله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، فهذا الخوف يكون لأهل الإيمان ويكون لغيرهم، وكأن هذا -والله أعلم- لو قال به قائل: أقرب، والله أعلم.

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ۝ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الألْبَابِ [سورة الزمر:17، 18].

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذر، وسلمان الفارسي -رضي الله عنهم، والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن، فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

كل الروايات الواردة في أسباب النزول أنها نزلت في معين لا تصح، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا فيصدق على كل من كان كذلك، وليس يختص بأحد، أو لم تنزل الآيات في أحد بعينه، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا، قد مضى الكلام على الطاغوت وأنه صيغة مبالغة من المصدر كالعظموت والرهبوت والجبروت، وما أشبه ذلك، فهو يدل على المبالغة.

وبعضهم يقول: إن الطاغوت هو الشيطان، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، بل جعل كل الاستعمالات الواردة في القرآن لهذه المادة "الطاغوت" قال: هو الشيطان.

وبعضهم يقول: الطاغوت الشيطان والأوثان، اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا.

الذين يقولون: هو الشيطان، يقولون: إن عبادة غير الله هي عبادة الشيطان، فإذا جاء النهي عن عبادة الشيطان، لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [سورة مريم:44]، فقد لا يتوجه إليه كما هو الحال بالنسبة لعبدة الشيطان الآن، ولكن الشيطان لا يصل إلى هذه المرتبة التي هي النهاية في الانحراف أن يُعبد مباشرة إلا في حال الانغماس الكامل، والخروج عن معنى الإنسانية.

لكن الغالب أن عبادة الشيطان تكون بعبادة غير الله كالذي يعبد الملائكة، يعبد الشجر، يعبد الحجر، يعبد الأصنام، هذه عبادة للشيطان في الواقع؛ لأن الشيطان هو الذي زينها وهو الذي أمر بها، بهذا الاعتبار، فالذين قالوا الشيطان كابن جرير لابد أنهم يلاحظون هذا المعنى، أنه في النهاية هي عبادة للشيطان.

ولا تفهم أن المقصود أنه يعبد الشيطان مباشرة كعبدة الشيطان، لا يقصدون هذا بالضرورة، لكن هذا يعني صورة فجة لعبادة الشيطان لا يصل إليها أكثر المنحرفين، أكثر المشركين ما يصلون إلى هذا المستوى، إنما يصل إليه من كان في منتهى الانحطاط، يعني ليس بعده انحطاط، إطلاقاً، تجرد عن جميع معاني الإنسانية، والنزول إلى درجة أقل من درجة الحيوان.

هؤلاء -نسأل الله العافية- لا يتنزهون عن شيء مطلقاً، من النجاسات والقذارات، وكل شيء، "كل" هذه بمعانيها تفيد العموم، وهي من أقوى صيغ العموم، لا يتنزهون عن أي شيء، لكن الذين يعبدون غير الله من أصنام وغيرها عندهم أشياء يتنزهون عنها، يترفعون عنها، عندهم مكارم، عندهم أخلاق، عندهم أنفة، عندهم عزة نفس، لربما يترفع الواحد عن الفواحش، لكن هؤلاء لا يوجد ممنوعات، ولا يوجد فضائل، إنما هو دنس في كل صوره وأشكاله ومعانيه -نسأل الله العافية.

فالطاغوت الشيطان، أو الأصنام، أو الأوثان والشيطان، أو من قال بأنها الأوثان، اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ، كل هذا يمكن أن يعبر عنه، كل ما عبد من دون الله ، وهو راضٍ فهو طاغوت، هذا لا يخرج عن هذا المعنى، فأصله من الطغيان وهو مجاوزة الحد، اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا من الأوثان والأصنام وسائر الأنداد من دون الله -تبارك وتعالى، والصنم مشكل على صورة إنسان أو حيوان مصور، والوثن يمكن أن يكون شجرة، وممكن أن يكون بيتاً –بناء، وممكن أن يكون حجراً، صخرة تعبد من دون الله ، فهذه كلها من قبيل الأوثان.

وبعض أهل العلم يقول: الطاغوت هو الكاهن، والواقع أن هذا تفسير له أشبه ما يكون بالتفسير بالمثال، ولا يراد به الحصر -والله أعلم، ولا يمكن أن يحصر بالكاهن، فالكاهن هو نوع من الطواغيت الذين يضلون الناس، فالكاهن طاغوت، والشيطان طاغوت، وما عبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت.

قال: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي: يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى لموسى -عليه الصلاة والسلام- حين آتاه التوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [سورة الأعراف:145].

قوله: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي: يفهمونه ويعملون بما فيه، ربما يكون قصد بذلك -والله أعلم- أن أَحْسَنَهُ أي: الحَسَن، يعني بمعنى أن أفعل التفضيل يراد به مطلق الاتصاف، يعني أحسن بمعنى حسن، أفعل التفضيل هو أصلاً في شيئين استويا في أمر في صفة وزاد أحدهما، تقول: زيد أعلم من عمرو، اشتركا في العلم، لكن لا تقول: زيد أعلم من السارية.

ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقُصُ قدرُهُ إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

فلا مقارنة بين السيف والعصا حتى يقال: هذا السيف أقطع من هذه العصا، إذا كان الإنسان يستهزئ ويسخر من هذا السيف، فإذا قيل: زيد أعلم من السارية، هذا ليس بمدح؛ لأنه لا مقارنة، هذه لا توصف بالعلم أصلاً، فهنا على كلام ابن كثير -رحمه الله- يحتمل أن يكون المراد فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: يتبعونه، كله حسن موصوف بالحسن، قال الشاعر:

تمنّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ فتلك طريقٌ لستُ فيها بأوحدِ

يعني: بواحد، وفي قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [سورة الليل:17]، يعني: التقي، ولا يحمل هذا على خصوص أبي بكر وإن كان من سادة المتقين -رضي الله عنه وأرضاه، فليس المقصود بها أفعل التفضيل، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، وإنما المقصود التقي، والله تعالى أعلم.

قال: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [سورة آل عمران:7]، فالكتاب فيه محكم ومتشابه، والسنة فيها محكم ومتشابه، والذين في قلوبهم مرض يتبعون المتشابه ويتركون المحكم. فهؤلاء الذين وصفهم الله وأثنى عليهم يتبعون المحكم، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فإذا رأيت الرجل يتتبع المتشابه، فكما قالت عائشة -رضي الله عنها: "فأولائك الذين سمى الله فاحذروهم"[7]، هذا الذي يبحث عن الأمور المشكلة المتشابهة، ويثيرها على الناس، ويشككهم بها فهذا من أهل الزيغ لا يُسمع له، ولا يجالس، حتى لا تتلوث قلوبٌ بمثل هذه الشبهات.

وبعضهم يقول: القرآن فيه أشياء، يعني فيه العفو، والمجازاة بالمثل، وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [سورة الحج:60]، وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ففيه المجازاة بالمثل، وهذا عدل، وفيه العفو، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34]، فهذا من اتباع الأحسن، وبهذا فسر قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم [سورة الزمر:55]، وهكذا قول من قال: إن المقصود أنهم يستمعون القرآن وغيره، ويتبعون القرآن، يعني هم يرِد على أسماعهم، أو يسمعون، يستمعون القول، والقول يشمل كلام الله وكلام الرسول ﷺ، وكلام الحكماء وكلام سائر الناس، فيتبعون أحسنه، يتبعون القرآن.

وبعضهم يقول: يتبعون أحسن القول الذي يسمعونه، ويتركون الباطل فلا يحكونه، ولا يذيعونه، ولا يشتغلون به، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [سورة الفرقان:72]، فليسوا بأهل باطل واشتغال بالباطل ولا يقفون عنده، وهكذا قول من قال: القرآن يشتمل على رخص وعزائم، فهم يأخذون بالعزائم دائماً، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم:12]، كما سبق في قوله تعالى: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [سورة ص:45]، قلنا: إن الأيدي تعني: القوة في طاعة الله وعبادته على قول جمهور من المفسرين.

وابن جرير يقول: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ من القائلين فيتبعون أرشده وأهداه، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- فسر ذلك بالقرآن، حمله على القرآن في مقام الرد على أصحاب الغناء والمعازف؛ لأن أحد هؤلاء الجهلة حمل ذلك على أنه الغناء، لا أدري كيف حملها!، لكن ابن القيم تهكم به ورد عليه بردود كثيرة، فذاك يقولك يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أحسن هذا الغناء وأكثره إطراباً للنفس وما أشبه ذلك، فالشاهد أن ابن القيم في مضامين الرد عليه قال... رد بردود كثيرة، قال: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فالذي يتبعون أحسنه، و الذي أمر الله باستماعه وتدبره وتعقله والاشتغال به هو القرآن، فحمل ذلك على القرآن، وليس كل كلام كما قال ابن جرير -رحمه الله.

وأحسن من تكلم على هذا الإمام الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان حيث قال -رحمه الله: "قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أظهر الأقوال في الآية الكريمة أن المراد بالقول ما جاء به النبي ﷺ من وحي الكتاب والسنة"[8].

الآن هو يخرج ما قاله ابن جرير، ابن جرير أوسع، قال: يستمعون القول، قول القائلين من الكتاب والسنة، وكلام الناس والحكماء، وكلام المتكلمين فيتبعون أحسنه، هنا يقول: الكتاب والسنة، الوحي، وابن القيم يقول: القرآن.

قال -رحمه الله: "ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [سورة المؤمنون:68]،وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [سورة الطارق:13]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي: يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسناً على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن، ويدل لهذا آيات من كتاب الله.

أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع ما أنزل عليه ﷺ من الوحي، فهو في آياتمنكتاب الله، كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم [سورة الزمر:55]، وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا [سورة الأعراف:145]"[9].

هذا يمشي على أن أفعل التفضيل على بابه، في شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر.

وقال -رحمه الله: "وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن فقد دلت عليه آيات من كتابه.

واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الحج:77]،قدموا فعل الخير الواجب على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير على مطلق الحسن الذي هو الجائز؛ ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة النحل:97]"[10].

هذا معنى كبير، وهو رد على دعاة التميع، الذين يسمون أنفسهم بدعاة التيسير، هذا خلاف المنهج القرآني في التربية، وفي الدعوة إلى طاعة الله وعبادته، الله يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِ ۝ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وأولائك يقولون: نحن دعاة تيسير، دعونا مع المحكمات فقط، والباقي كل ما فيه خلاف، وما فيه احتمال أو شبهة لا تشددوا على الناس، افعل ولا حرج، هؤلاء على خلاف هذا المنهج القرآني، هذا معنى كبير يحتاج أن نتبصر به ونقف عنده.

قال -رحمه الله: "وقال تعالى: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الزمر:35] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة النحل:97]، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي:

ما ربُّنا لم ينهَ عنه حسَن وغيرُه القبيحُ والمستهجن[11]

صاحب المراقي -رحمه الله- من المتكلمين أشعري، والأشاعرة في هذا الموضوع في باب التحسين والتقبيح، ودخلوها في الأصول، وهي من المسائل الكلامية، لا علاقة لها بالأصول، وهم يقولون: إن ما لم ينه عنه الشارع، أو أمر به فهو حسن، وما نهى عنه فهو قبيح، هذه العبارة تنطلي على من لا يعرف حقيقة مذهب المتكلمين أو الأشاعرة، هم يقولون: إن التحسين والتقبيح يتبع النقل، ولا دخل للعقل فيه، وهذا هو الانحراف عندهم في هذا الباب، وهو من أبواب القدر، وهم خالفوا فيه أصلهم الكبير في جعل النقل تابعاً للعقل، هنا قالوا: لا، العقل لا علاقة له في التحسين والتقبيح، وأنكروا أن يكون للأشياء حسن أو قبح ذاتي، وهذا مكابرة، يقولون: الكذب ليس له قبح ذاتي، الزنا ليس له قبح ذاتي، الظلم ليس له قبح ذاتي، لو أمر الله بالزنا والظلم والكذب لكان حسناً، إنما صار قبيحاً؛ لأن الله نهى عنه، صار حسناً؛ لأن الله أمر به، أو سكت لم ينه عنه، دل على أنه ليس بقبيح؛ لأنه إذا نهى عنه فهو قبيح، فيجعلون القضية مرتبطة بالأمر والنهي فقط، التحسين والتقبيح عند الأشاعرة عكس المعتزلة، وهذا من تناقضات الأشاعرة، فقول صاحب المراقي هنا:

ما ربُّنا لم ينهَ عنه حسَن وغيرُه القبيحُ والمستهجن

هو ماشٍ على هذا الأصل عندهم، فالعبارة لو قالها صاحب سنة سليمة، وإذا قالها إنسان عنده هذا الأصل البدعي فنقول: هذا بناء على مذهبه، مثل عبارات الزمخشري التي يوردها، وهو يخفى ما تحتها من انحراف، فليت الشنقيطي -رحمه الله- نبه على العبارة، فالعبارة هذه عندما يستعملها الشنقيطي لا إشكال فيها، لكن لما ينسبها لقائلها فهنا نحتاج أن نبين ماذا يقصد هؤلاء بكلامهم، فكثير من القضايا التي تذكر في الأصول، أصول الفقه، هي مسائل كلامية، تحتها قضايا عقدية مثل هذه، ما يُتنبه لما تحتها من انحراف، فلو أنه ما أورده لكان أفضل، لا أعني أن الشنقيطي -رحمه الله- عنده إشكال في هذا الباب، إطلاقاً، فعقيدته نقية -رحمه الله.

وقال -رحمه الله: "ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ [سورة النحل:126]، فالأمر في قوله: فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن، فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر خير منه وأحسن في قوله تعالى: وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ.

وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [سورة الشورى:41]، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله بعده: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [سورة النساء:148]، مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته -جل وعلا- مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:149]، وكقوله -جل وعلا- مثنياً على من تصدق، فأبدى صدقته: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ"[12].

بعض الناس يلح على بعض المحسنين المتصدقين أن يُظهروا هذه الصدقات، ويطالبهم بهذا، فلما قال له بعضهم: الله قال: وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ [سورة البقرة271]، وتصدق بصدقة فأخفاها»[13]، قال: لا، في كتاب الله إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ يحتج عليهم بهذا، فأين هذا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟ يعني هذه طريقة في النظر والاستدلال والعمل والفهم والاتباع.

وقال -رحمه الله: "وكقوله في نصف الصداق اللازم للزوجة بالطلاق قبل الدخول: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [سورة البقرة:237]، ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن؛ لأن الله شرعه في كتابه في قوله: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، مع أنه رغب كل واحد منهما أن يعفو للآخر عن نصفه، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده: وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وقد قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، ثم أرشد إلى الأحسن بقوله: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وقال تعالى: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ.

واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالاً غير الذي اخترنا.

منها ما روي عن ابن عباس، في معنى "فيتبعون أحسنه" قال: "هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به"[14].

هذا عام.

وقال رحمه الله: "وقيل يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن.

وقيل: إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله، وبعض من يقول بهذا يقول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول ﷺ، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، إلى غير ذلك من الأقوال"[15]. انتهى.

هذا لا يصح، و الروايات التي فيه لا تصح.

وكل ما رأيت في كتاب الله وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم [سورة الزمر:55]، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا [سورة الأعراف:145]، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فالمقصود أن في الكتاب ما هو حسن وفيه ما هو أحسن، فهذا إرشاد لهم إلى المراتب العالية في الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله ، والمسارعة بالخيرات، هذا المقصود باختصار، والله تعالى أعلم.

قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة، وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ أي: ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة.

وصفهم بهذين الوصفين العظيمين، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فهؤلاء وصفهم بالهداية، هداهم الله، وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ أصحاب العقول الراجحة، بخلاف هؤلاء الذين يزعمون أن عقولهم الراجحة تقتضي التغيير والتبديل لدين الله -تبارك وتعالى- تحت مسمى التسهيل والتيسير، فهذا خلاف ما وصف الله ، هؤلاء ليسوا بأهل هدى، وليسوا بأصحاب عقول راجحة، فالهدى في ما أمر الله به، واتباع ذلك بهذه الصفة، والعقل يقتضي أن يفعل العاقل ما يرفعه ويقربه، وأن نرفع الناس، لا أن نبرر لهم الانحراف، ونزين لهم التفريط والتضييع، فيفتن الناس كما هو حاصل الآن، ويبدأ حتى من كان فيه دين وخير وصلاح، يبدأ هذا الصلاح يتلاشى شيئاً فشيئاً.

فتبدأ اللحية يوماً بعد يوم، وفلان يقول وفلان يقول، وأفتى فلان، والمشايخ يقولون، وتبدأ هذه الأمور من التقيد بالسنة ظاهراً وباطناً، سواء كانت واجبة أو مستحبة، يبدأ التفريط والزهد فيها، ويكون إقبال الناس -بدلاً من الإقبال على كلام الله وقراءته والاشتغال به، وتفهمه وتدبره- على قراءة كتب فلاسفة غربيين، وكتب مترجمة، ويظنون أن ذلك من الحكمة، وأنه من العقل، ومن سعة الأفق والإدراك وحسن النظر، والثقافة، وما علموا أنها صنعة المفاليس، وأنهم لا يخرجون بهذا بكبير طائل، وأن الهدى في كلام الله ، وأنه لا يشتغل المشتغلون بأعظم مما فيه، وأن كل هذه الفلسفات ما كان منها صحيحاً يختصر بربع آية أو أقل من ذلك -والله تعالى أعلم، ولكن وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [سورة النور:40]، -نسأل الله العافية، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، نسأل الله الثبات.

  1. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم (756).
  2. رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء أن المؤمن يموت بعرق الجبين، برقم (983)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد، برقم (4261)، والحاكم في المستدرك، برقم (2394)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7620).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (14481)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (16958)، وقال محققوه: "حديث حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه، سليمان بن موسى-وهو الأشدق- لم يدرك كثير بن مُرَّة، فيما قاله أبو مُسْهِر، ونقله عنه المزي في "تهذيب الكمال"، وبقية رجاله ثقات، الهيثم بن حميد: هو الغساني"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (644)، وفي صحيح الجامع، برقم (6468).
  5. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، برقم (2808).
  6. رواه البخاري، كتاب اللباس، باب ما يذكر في المسك، برقم (5583)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران، برقم (4273)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن، برقم (2665).
  8. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 356).
  9. المصدر السابق.
  10. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 357).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 357).
  12. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 357).
  13. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، برقم (1357)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031).
  14. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 358).
  15. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 358).

مواد ذات صلة