بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [سورة ق:35]
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وذلك أنه -تبارك وتعالى- وعدها أنه سيملؤها من الجِّنة والناس أجمعين، فهو يأمر بمن يأمر به إليها ويُلقَى وهي تقول: هل من مزيد أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر في سياق الآية وعليه تدل الأحاديث، روى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضلٌ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة[1]، رواه مسلم.
حديث آخر: روى البخاري عن أبي هريرة رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: (يقال لجهنم هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب -تبارك وتعالى- قدمه عليها فتقول: قط قط)[2].
طريق آخرى روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، قال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً آخر[3].
فقوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من أن المقصود أنها لا تزال تطلب الزيادة حتى يضع فيها رب العزة قدمه، فتقول: قط قط، يعني كفاني كفاني، هذه الأحاديث تدل على هذا المعنى، وإن كانت الآية تحتمل غيره من جهة ظاهر اللفظ.
ولذلك فإن القول الآخر الذي قال به طائفة من السلف فمن بعدهم أن المقصود أن ذلك هو استفهام المقصود به: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ هل بقي فيَّ مكان يحتمل الزيادة؟ يعني هي امتلأت، الله -تبارك وتعالى- وعدها بملئها، فمَلأها، لا تزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ يعني هل بقي فيَّ متسع، يعني أنه لم يبق فيها متسع، حينما تسأل: هل امتلأتِ تقول: هل بقي فيَّ متسع؟ يعني لم يبق فيَّ متسع، فهذا قول آخر معروف في الآية، وقال به جماعة كعطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان.
لكن المعنى الأول هو الذي تدل عليه الأحاديث، وهو الذي اختاره المحققون من المفسرين كابن جرير وابن كثير والحافظ ابن القيم -رحم الله الجميع- فيكون هذا باعتبار أنها تطلب الزيادة لا تزال تطلب المزيد حتى يضع فيها رب العزة قدمه فتقول: قط قط كفاني كفاني.
وقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍقال قتادة وأبو مالك والسدي وَأُزْلِفَتِ: أدنيت وقربت من المتقين غَيْرَ بَعِيدٍ وذلك يوم القيامة، وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي: راجع تائب مقلع حَفِيظٍ أي: يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ أي: من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله كقوله ﷺ: ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه[4].
وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ أي: ولقي الله يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه ادْخُلُوهَا أي: الجنة، بِسَلَامٍ قال قتادة: سلِمُوا من عذاب الله وسلّم عليهم ملائكة الله.
وقوله : ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي: يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً، ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً، وقوله -جلت عظمته: لَهُم مَّا يَشَاءُُونَ فِيهَا أي: مهما اختاروا وَجدوا، من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم، وقوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ، كقوله : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26] في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم.
قوله -تبارك وتعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هنا نقل عن هؤلاء من السلف أن أزلفت بمعنى أدنيت، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [سورة التكوير:13] يعني: قربت من المتقين، غَيْرَ بَعِيدٍ هنا فسره بيوم القيامة، باعتبار أنه ليس ببعيد، وإنما هو قريب وكل ما هو آت قريب إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج:6-7] فهذا معنى.
وبعضهم فسره بما هو أعم من ذلك بعبارة لا تخصص يوم القيامة -مثلاً- في المعنى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ يعني تقريباً غير بعيد، أزلفت: قربت تقريباً غير بعيد، أو بحيث صارت في مكان غير بعيد منهم بحيث يشاهدونها في الموقف، يعني أن الجنة تقرب لهم وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، فهنا وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ يعني هل المقصود بغير البعيد أي يوم القيامة كما يقول الحافظ ابن كثير هنا؟
أو أنها تقرب لهم يوم القيامة قبل دخولها وهم في أرض المحشر تقريباً غير بعيد بحيث يشاهدونها كما أن النار تقرب أيضاً ويؤتى بها يقول: لها سبعون ألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك[5]، كما قال الله : إذا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12] فالجنة تقرب فيرونها قبل دخولها فتتشوف نفوسهم إليها وإلى دخولها -جعلنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منهم، فهنا يكون المعنى: يعني وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ من المتقين مكاناً، غَيْرَ بَعِيدٍ قربت لهم وهم في أرض المحشر وإذا الْجَنَّةُ أزلفت هذا المقصود وَأُزْلِفَتِ يعني أنها صارت في يوم القيامة هم لا يدخلونها إلا يوم القيامة، -والله تعالى أعلم.
قال: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ هنا فسر الأوّاب أي الراجع التائب المقلع، الأوبة: بمعنى التوبة والأواب فعَّال يعني كثير الأوبة كثير الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- يرجع بالتوبة من المعاصي والذنوب والتقصير في حق الله -تبارك وتعالى- أيًّا كان، والتوبة تكون حتى من عموم التقصير وإن لم يكن في الواجبات أو فعل المحرمات، يعني تكون التوبة من خلاف الأولى، ومن ترك السنن والمستحبات، وتكون من فعل المكروه.
ومن أمثلة ذلك أن عمران بن حصين لما مرض وطال ذلك حتى بلغ أربعين سنة -يعني مدة المرض- أصابه شيء من المرض، استسقى فاكتوى وكان يُسلَّم عليه -يعني تسلم عليه الملائكة، ثم تاب، وقبل أن يتوب الكي ليس بمحرم وإنما هو مكروه؛ لأنه تعذيب بالنار، فلما اكتوى ما عاد ذلك التسليم يقع، كأنه انتقل من مرتبة إلى مرتبة أدنى بسبب الكي، فتاب فرجع ذلك إليه -يعني صار يُسلَّم عليه- فدل على أن فعل المكروهات يُتاب منه وهذا من هذا الأثر، والأواب الرجاع إلى الله -تبارك وتعالى- بالتوبة عن المعاصي، وعن التقصير.
وبعضهم يفسر الأواب بالمسبح، أو بالذاكر لله -تبارك وتعالى- في الخلوات كما يقول بعض السلف، أو الذي يذكر ذنوبه في السر وفي الخلوة إذا خلا فيستغفر، أو الذي لا يجلس مجلساً حتى يستغفر، هذه عبارات للسلف، ولكن الأوبة معناها التوبة وهي أحد معانيها، وقد مضى الكلام على هذا مفصلاً في الأعمال القلبية في الكلام على التوبة، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ، قوله: لِكُلِّ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ هذا التركيب "لكل"، بعضهم يقول: إن قوله: "لكل" هو بدل من المتقين وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ.
لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ مَن هؤلاء المتقون؟ هم كل أواب حفيظ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أزلفت الجنة لكل أواب، البدل يقوم مقام المبدل منه، لكنه هنا جيء به مع إعادته الخافض "اللام"، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ كلِّ أواب حفيظ، هذا يكون بدلاً من المتقين فأعيد الخافض لكل أواب حفيظ.
وبعضهم يقول: إن قوله:لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ متعلق بمحذوف وليس ذلك من قبيل البدل من المتقين، وإنما هو متعلق بمحذوف وحال، أي مقولاً لهم: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ مقولاً لهم لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ، قال: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ الحفيظ ما معناه؟
قال: أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه يعني يحفظ العهد مطلقاً، وأول ذلك وأعظمه العهد مع الله -تبارك وتعالى، بعضهم يقول -وهو لا ينافي ما ذكره الحافظ ابن كثير فعبارة ابن كثير مجملة وعامة: إن الحفيظ هو الذي يحفظ ذنوبه فيتوب منها، يعني كأنه يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب.
وبعضهم يقول: هو حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه، ذلك يقول: حفيظ للذنوب، وهذا يقول: حفيظ لفرائض الله، ابن جرير -رحمه الله- حمله على المعنيين، يقول: ليس عندنا ما يدل على تخصيص أحد المعنيين دون الآخر ومن ثَمّ فإنها تحتمل هذا وهذا، فهذا حفيظ، وعبارة ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه، إذا حفظ العهد مع الله فعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه.
فهذان معنيان جمع بينهما الحافظ ابن كثير في هذه العبارة، ولذلك تجد عبارات السلف كقول بعضهم -كقتادة: الحافظ لحدود الله تعالى، أو الحافظ لما استودعه الله -تبارك وتعالى- من حقه ونعمته عليه، إلى غير ذلك من العبارات، كقول مجاهد: هو الحافظ لأمر الله، فهذا مثل ما سبق، أو الحافظ لوصية الله كما يقوله الضحاك فيعمل بما أُمر به ويترك ما نهاه الله عنه، فهذا هو الحفيظ لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ فهو حفيظ على وزن فعيل وهذه صيغة مبالغة أي أنه عظيم الحفظ، كثير الحفظ يحفظ ما يجب عليه حفظه، أن يحفظ حدود الله -تبارك وتعالى- وأن يراعي حقوقه فيما أمره به وأن يجتنب ما نهاه عنه، فهذا هو الحفيظ.
يعني بخلاف من كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28] مضيع مفرط، ينتهك حدود الله ولا يبالي، ويضيع أمره ونهيه غير مكترث: لِكُلِّ أواب حَفِيظٍ قال: أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ لاحظ هنا قال: أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله لقوله ﷺ: ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، هذا المعنى قال به جماعة من السلف كالضحاك والسدي والحسن وغير هؤلاء، وهذا هو المتبادر مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وهو أحد المعنيين اللذين يحتملهما قوله -تبارك وتعالى- في أول البقرة: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:1-3]، يعني بما يجب الإيمان به من الغيب، الإيمان بالله وبالملائكة وكل الغيوب، بالنسبة لنا الكتب السابقة من قبيل الغيب، والرسل من قبيل الغيب، وما إلى ذلك، فهذا كله من الغيب، هذا هو المشهور.
المعنى الثاني في آية البقرة يوافق هذا وهو الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني ليس كالمنافق يؤمن علانيةً وأمام الناس، وفي سره هو غير مؤمن، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ يعني إيماناً حقيقياً بالغيب والشهادة، وإذا غابوا عن الناس فهم على الإيمان ومن ثم فهم مراعون لحقوق الله وحدوده، فالآية تحتمل هذين المعنيين، لكن هنا الآية واضحة أن المقصود مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ يعني حينما يغيب عن الأنظار، يعني في سره يراعي حدود الله وحقوقه ويراقبه في حال خلوته.
هذا المعنى المشهور، وإن كان ابن جرير -رحمه الله- فسرها بغير هذا فحمل ذلك يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ على الإيمان في الدنيا باعتبار أنه لم يعاين الحقائق، فالآخرة بالنسبة إليه غيب فالذي يؤمن بالدنيا آمنَ بالغيب، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ يعني في حال الدنيا، وهو في الدنيا، فالنار غائبة عنه والجنة غائبة عنه، والله تعالى غيب، فكل هذه غيوب.
ولكن المعنى الأول هو الذي عليه الأكثر وهو الظاهر المتبادر، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ليس المقصود أنه خشي في الدنيا وإنما يخاف ربه -تبارك وتعالى- في خلوته فيراقبه، فهذه من أدله المراقبة، ومن أسماء الله -تبارك وتعالى: الرَّقِيبَ [سورة المائدة:117]، قال: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ خافه في سره.
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ يقول: ولقي الله يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه، المنيب هو الراجع، من الإنابة وهي الرجوع، وهذا بمعنى التوبة، راجع إلى الله -تبارك وتعالى، وعبارات السلف متقاربة في هذا: راجع إليه، مخلص إليه، مقبل على الطاعة، منيب بالطاعة، وبعضهم يقول: السليم.
وعبارة ابن كثير -رحمه الله- هنا جمعت بعض هذه المعاني التي ذكرها السلف، وهذا من مزايا هذا التفسير التي أشير إليها كثيراً، لاحظ: لقي الله يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه، قال: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ يقول: قال قتادة: سلِموا من عذاب الله وسلّم عليهم ملائكة الله بِسَلَامٍ: يعني في حال سلامة، هذا المعنى الأول: سلِموا من عذاب الله -تبارك وتعالى.
وابن جرير ذكر عبارة أهم من هذا وأوسع منه ادْخُلُوهَا بسلام يعني بأمان من كل المخاوف، من الهم والغضب، غضب الله والعذاب، وما كنتم تلقونه في الدنيا من المكاره، الجنة ليس فيها هم ولا حزن ولا مرض ولا قلق ولا أذى من حر أو برد أو غبار إلى غير ذلك مما يتأذى منه الناس فيسلمون فيها من كل الآفات، والمعنى الثاني الذي ذكره هنا وهو أنهم يدخلونها بسلام: أي أن الله يسلم عليهم، هكذا كما قال : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [سورة يس:58]، وقال:وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة الرعد:23، 24]، وهكذا في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [سورة الأحزاب:44]، وأنها تحتمل أن يكون المُحيِّي لهم الله -تبارك وتعالى- كما قاله بعض السلف.
ويحتمل معنى آخر وهو: أنها التحية التي تكون بينهم، وهما معنيان صحيحان، الله -تبارك وتعالى- يسلم عليهم كما دلت عليه الآية سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، وكذلك يسلم بعضهم على بعض فهذه تحية أهل الجنة، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يعني يُحيي بعضهم بعضاً، هذا بالإضافة إلى أن الملائكة تحييهم، وهذه كلها معانٍ صحيحة.
وهكذا قول من قال: بسلامة من زوال النعم، فهذا يدخل في السلامة من كل الآفات، يعني أنهم في أمان تام من كل وجه ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ فهم يدخلونها بأمان وهم سالمون من كل آفة، ومن كل المخاوف والمكاره ومن ذلك عذاب الله -تبارك وتعالى.
ويحتمل أن يدخل معه المعنى الآخر ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ أي: أنه يسلَّم عليهم من قبل الله وتسلم عليهم الملائكة، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الأبدي السرمدي، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ فسر المزيد بالنظر إلى وجه الله الكريم، وهذا الذي يدل عليه الحديث، وكذلك في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26].
وإن كان بعض المفسرين حمله على معنى عام وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ أي: من النعم وألوان النعيم، والعطاء وما إلى ذلك، فعلى هذا التفسير العام لا شك أنه من أعظم هذا العطاء والنعيم الذي يعطيهم الله النظر إلى وجهه الكريم، وهو داخل في ذلك وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ.
والتنكير في قوله:ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ للتعظيم، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ فإذا فسر هذا بالسلامة من الآفات والمخاوف وما إلى ذلك فهذا سلام مطلق، وإذا فسر أو أُدخل معه المعنى الآخر أنه يسلم عليهم فهذا أيضاً سلام مطلق فيدخل فيه تسليم الله وتسليم الملائكة وأنه يسلم بعضهم على بعض، لا إشكال لا يخص بأحد هذه المعاني، كلها ثابتة.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [سورة ق:36-40]
يقول تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قبل هؤلاء المكذبين مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا أي: كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، ولهذا قال تعالى هاهنا: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أثروا فيها، وقال قتادة: فساروا في البلاد، أي: ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم بها.
قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا هذه تدل على التكثير وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، والمقصود بالقرن هنا الأمة، هم أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًاأشد من هؤلاء المكذبين لك يا محمد -عليه الصلاة والسلام، أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ نقّبوا في البلاد، وفي قراءة أبي عمرو فَنَقَبُوا فِي الْبِلادِ والنقب هو الخرق، ويقال للطريق بين جبلين فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هنا للتكثير، زيادة المبنى لزيادة المعنى نَقَّبوا ونَقَبوا، فمن نظر إلى معنى الخرق فسره بهذا.
قال ابن عباس: أثروا فيها نقبوا في البلاد يعني بما يعملون فيها من حفر الآبار وبناء البنايات وما إلى ذلك، فكانت لهم من الآثار في الأرض ما هو مشاهد بقيته وآثاره، وهذه الأشياء عجيبة، يعني الأهرام -مثلاً- ولا زالت بقايا ودفائن وأشياء تخرج من القصور العجيبة الهائلة التي هي في غاية التزيين والنحت على هذه المدد والآماد الطويلة لم يتغير بعضها، فهذا يدل على أن أولائك أوتوا من القوى والقُدر والإمكانات ما قد يعجز عنه الناس في عصرنا هذا، والله -تبارك وتعالى- يذكر هذا في مواضع من كتابه.
والناس لا يرون إلا عصرهم فقد يوجد عند بعض الأمم المهلكة من القوى والإمكانات والقُدر ما هو أعظم من الإمكانات الموجودة اليوم، والشواهد قد تدل على هذا، آبار تنحت في الصخر كأنها قد نحتت بالآلات في غاية الدقة، هذا لا يمكن أن يكون بمعاول عادية، والصخور حينما ينحت منها البيوت ويوضع عليها الزخارف، وباقية إلى اليوم فهذا في غاية العجب، ما فعله الناس اليوم، وهذه الأهرامات العجيبة وما في داخلها أيًّا كان أولائك الذين بنوها هذه في غاية العجب ولا زال الناس يعجبون من هذا، وما عندهم من الوسائل في حفظ هؤلاء الأموات والجثث إلى غير هذا من الأمور المعروفة التي لربما عُدت من عجائب الدنيا، فهذا المعنى الذي ذكره ابن عباس أثروا فيها.
المعنى الثاني الذي قاله قتادة: فساروا في البلاد أي فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يعني كما يقول مجاهد: بمعنى طافوا، ساروا في البلاد، ضربوا فيها، فالمشي في الأرض والتقلب فيها فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يقال له ذلك، يعبر عنه بالتنقيب فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، وبعضهم يعبر عن هذا يقول: دوَّروا في البلاد، فهي معانٍ متقاربة.
وهكذا قول من قال: تباعدوا يعني وصلوا إلى أقاصي الدنيا، أماكن البلاد البعيدة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يحتمل أن يكون المراد أنهم ساروا طولاً وعرضاً، أو أثروا فيها كما -قال ابن عباس- ولكن هل أغني هذا عنهم من الموت ومن المصير المحتوم مع هذه القُدر والإمكانات والانتقال، أو التأثير في الأرض بتشييد البنايات وغير ذلك مما شيدوا هل أغنى هذا؟ هل دفع عنهم الموت وما أنزله الله -تبارك وتعالى- بهم؟
لم يغن ذلك عنهم شيئاً، هذا معنى، والمعنى الثاني هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يعني فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أنهم طلبوا البقاء فراراً من الموت ولكنهم لم يرجعوا من ذلك بشيء، يعني أن التنقيب تطلّب البقاء فنقبوا في البلاد هل من محيص.
هل من محيص من ماذا؟ الحافظ ابن كثير يقول: من عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل، وبعضهم يقول: من الموت، وذكر هذا بعض أصحاب المعاني كالزجاج، إذاً الآية تحتمل معنيين، طبعاً مَحِيصٍ هو المفر فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ بمعنى أنهم ساروا فيها طولاً وعرضاً، أو أنهم أقاموا فيها من الأعمال التي اعتملوها وغير ذلك مما شيدوه، فهل أغنى ذلك عنهم وأورثهم الخلود والبقاء في هذه الحياة الدنيا ونجوا معه من الموت مع هذه القُدر والإمكانات؟ أو من عذاب الله هل أغنى عنهم من عذابه على قول ابن كثير؟
المعنى الثاني: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أنهم ذهبوا وساروا طولاً وعرضاً طلباً للبقاء فواجهوا القدر المحتوم فنزل بهم أمر الله -تبارك وتعالى، وإذا قلنا بأن المقصود العذاب أيضاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ طلبوا الخلاص ولكن نزل بهم أمر الله ، الله -تبارك وتعالى- يذكر هذه الأمم المهلكة أنها كانت أقوى وأقدر وأكثر آثاراً في الأرض فما أغني ذلك عنهم، فنزل بهم ما قضاه الله تعالى عليهم، ولم يدفع عنهم ذلك تلك القوى والقدر والإمكانات من أمر الله قليلاً ولا كثيراً، فأنتم إلى أي شيء تفرون؟
فلا ملجأ من الله إلا إليه، يعني أن الله إذا قضى على عباده أمراً فهو كائن لا محالة مهما كان عندهم من الإمكانات والقُدر والقوى لا يستطيعون الخلاص من هذا، والله يرينا من الآيات ما فيه العبرة لمن هدى الله قلبه، فانظر الآن ما يقع من الكوارث التي صار الناس يشاهدونها في كل مكان يقع زلزال، يقع طوفان -كتسونامي- وترى الناس تتحول ديارهم وهذه العواصم أو المدن الواسعة الشاسعة إلى حطام، فتكون كالقش أمام أمر الله -تبارك وتعالى- وعذابه إذا نزل بهم، هؤلاء لا يستطيعون الفرار، ليس عندهم قدرة على رد أمر الله لا يمكن أن تغني عنهم هذه العلوم والدفاعات والتكنولوجيا وغير ذلك.
وإذا نظرت إلى هذه السفن الضخمة والبواخر يحملها هذا الماء الذي هو أرق الأشياء ويلقيها بعنف، وإذا بها في وسط المدينة فوق بناياتهم، ويأتي هذا الهواء الرقيق اللطيف فيشتد إذا أراد الله أن يعذب به قوماً فتجده يحمل السيارات، ويحمل كل ما في طريقه ويلقيه حتى تصير هذه كالهشيم، أو كالحطام المتجمع -نسأل الله العافية، هذا مُشاهد، نشاهد السيول إذا جاءت الأمطار -عندنا- ترون السيارات فوق بعضها تتحول إلى سكراب كما يقال، أو تشليح تجد السيارات فوق بعضها تعوم فوق الماء في مشاهد عجيبة، فإذا جاء أمر الله فلا مرد له، وذلك يحمل العباد على الأوبة والتوبة، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- وألا يغتر الناس بقوتهم، وإمكاناتهم وعلومهم.
قوله -تبارك وتعالى: إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى "ذلك" الإشارة ترجع إلى البعيد إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن فِي ذَلِكَ يعني: في إهلاك القرون التي عذبها الله واستأصلها، هؤلاء الذين ذكرهم الله -تبارك وتعالى- الذين نَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ هل من مفر؟ أن في إهلاك هؤلاء لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
ولهذا ذكرت في الكلام عن الأمثال في القرآن أن القصص التي يذكرها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الأمم وما جرى لهم وما إلى ذلك أنها جميعاً عند شيخ الإسلام ابن تيمية من قبيل الأمثال في القرآن باعتبار أنها ذُكرت للعبرة والعظة، فيذكر الله خبر هؤلاء ليتعظ غيرهم، ولذلك يعقب الله في بعض المواضع على ذكر القصص فيقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [سورة الحشر:21]، وما أشبه ذلك مما يُذكر فيه المثل بعد ذكر خبرهم وقصصهم.
إن فِي ذَلِكَ يعني في إهلاك هؤلاء عبرة وعظة، لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ القلب هنا ما المقصود به؟ يقول هنا: قال مجاهد: عقل، قال: هنا: أي لُب يعي به، عبارات السلف متقاربة.
بعضهم يقول: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني القلب المعروف، قلب حي وقَّاد، وبعضهم يقول: عقل، ولا إشكال إذا عرفنا أن موطن وموضع العقل في القلب كما دل عليه القرآن، فالإنسان إنما يعقل بقلبه، وقد مضى الكلام على هذا في أول الأعمال القلبية، وإن كان له نوع اتصال بالدماغ، ولكن مستقر العقل هو في القلب.
إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ بعض أهل العلم يقول: التنكير هنا في القلب، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أي: قلب حي وقّاد كامل الحياة، فهذا الذي يعتبر وينتفع الانتفاع الكامل.
وبعضهم يعكس المعنى، يقول: إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يصدق على أدنى ما يمكن أن يقال له ذلك، يعني ولو كان فيه أدنى حياة، ولو كان فيه أدنى عقل فإنه يتذكر بهذه العقوبات والمَثُلات التي أوقعها الله بهؤلاء المجرمين إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ إذا عرفنا أن التذكر والاعتبار والاتعاظ يحصل بقدر ما يكون عند الإنسان من الحياة في قلبه فهو يزيد وينقص، فمن كان قلبه حياً الحياة الكاملة وقاداً فإنه ينتفع بالعبر والعظات الانتفاع الكامل، ومن نقص فيه من هذا الوصف نقص فيه من الاعتبار ومن الاتعاظ بقدره حتى يصير القلب إلى حال من الموت لا يعقل معه شيئاً.
ولهذا الله -تبارك وتعالى- يقول: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7]، ووصفهم بأنهم: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18]، فهؤلاء لا يعقلون ولا يصل إلى قلوبهم شيء، وقالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] مغلفة، وقالوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [سورة فصلت:5]، يعني لا يصل إلى هذه القلوب شيء فلا تنتفع الأدوات التي يحصل فيها اقتباس العلم والمعرفة، وما يصل إلى القلب مما يحصل به العظة والعبرة عن طريق السمع والبصر، لا يصل من هذا شيء لأنهم عمي وصم، فهذا إذا كان القلب في حال من الموت الكامل وصار عليه الرَّان فأطبقت عليه الغفلة فهذا لا ينتفع، إنما الذي ينتفع من كان له قلب.
وهنا قال: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يقول: أي: استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال مجاهد: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني لا يحدث نفسه في هذا بغيره، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ شاهد القلب، يعني هو فسر أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ بشاهد القلب يعني إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني لا يحدث نفسه بغيره، أي قلب حاضر، هذا قول مجاهد، إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أي حي، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني لا يحدث نفسه بغيره، وَهُوَ شَهِيدٌ شاهد القلب، هذا كلام مجاهد.
هنا قوله -تبارك وتعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ الإلقاء هنا يدل على الإصغاء التام، ألقى سمعه بمعنى أنه كان في غاية الإنصات، أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ولهذا يقال في تدبر القرآن، والانتفاع بالقرآن، وعند قراءة القرآن أمر الله فقال: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأعراف:204] ما قال اسمعوا بل قال: استمعوا أمر بالاستماع والإنصات، وما معنى الإنصات؛ لابد يشتغل عنه بغيره بمعنى ممكن الآن وأنا أستمع المذياع، أستمع المسجل أستمع القارئ يقرأ ممكن في نفس الوقت أشتغل بالكتابة، أو المرأة تطبخ، أو تغسل الأواني، أو أنه يشتغل بكتابة رسائل بالجوال، أو يقرأ رسائل بالجوال، أو يقرأ في تويتر، أو غير ذلك، هل هذا منصت، هل هذا محقق لأمر الله؟
الجواب لا، يدل على هذا: الخطيب يوم الجمعة بماذا أمر النبي ﷺ، أو ما الذي ذكره، من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب، ثم دنا..[6]، والحديث الذي ذكر فيه الإنصات ماذا قال النبيﷺ: من مس الحصى فقد لغا[7]، وأنه: إذا قال لصاحبه: أنصت فقد لغا[8]، فمس الحصى وهو جالس يستمع إلى الخطيب فقط مس الحصى، لو أنه قاعد يلمس الكيس أو أنه بجواله يضعه على الصامت أو على غيره، أو يقرأ رسالة ماذا يعتبر هذا أنصتَ أو لغا؟
يعتبر لغا مع أنه يستمع، لكن يده مشغولة بشيء آخر، فهنا فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ليس معنى أنصتوا استمعوا؛ لأنه قال: استمعوا فليس من قبيل التأكيد، هو معنى آخر تفهمه على ضوء هذه الأحاديث والنصوص الأخرى: من مس الحصى فقد لغا؛ لأنه غير منصت، منشغل بهذا الذي ينشغل فيه، ذلك لو أردت أن تعرف هذا وتدرك هذا المعنى استمع لشريط وأنت بالسيارة لا تحصل في الغالب، أكثر من ثلاثين بالمائة من المعاني، استمع إليه مرة ثانية تشك أحياناً هل أنت سمعته، أو لا، ليس بعد شهر لا، إعادة مباشرة، ستجد أن كثيراً من المعاني فاتت؛ لأن التركيز غير موجود إلا جزءاً قليلاً منه ؛ لأن الإنسان مشغول بشيء آخر فهو غير منصت.
الآن لو واحد في الدرس وجالس طول الوقت أثناء الدرس ومعه الجوال ويقول: أنا معك أستمع هل يستمع؟ فهذا معنى في غاية الأهمية إذا أردنا أن ننتفع بالقرآن حال الاستماع فعلينا أن نستمع بالإضافة إلى الإنصات، أن ننصت. إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يعني هو في غاية الإنصات.
قال الضحاك: العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه، وهو شاهد بقلب غير غائب، وهكذا قال الثوري وغير واحد هنا هل يعني هذه في حالين، أو هي حال واحدة اجتمع فيها الوصفان، يعني مجيء، "أو" هنا هل تدل على حالتين، أو أنها حالة واحدة جمعت بين وصفين؟
قولان لأهل العلم وإن تفرقت أقوالهم وتعددت وتنوعت عباراتهم، بعضهم يقول: إن قوله إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ هذا المؤمن، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا في أهل الكتاب، إذا استمعوا وأنصتوا كانت قلوبهم حاضرة عند الاستماع؛ لأنهم ليس لهم قلوب حية، كفار، فإنهم يحصل لهم التذكر في ذلك.
وهذا قال به جماعة من السلف قتادة ومجاهد والحسن، أنها في أهل الكتاب، وابن القيم -رحمه الله- رد هذا المعنى، ولذلك قال بعض السلف كمحمد بن كعب القرظي وأبي صالح: إنها في أهل القرآن، وهذا هو الصحيح.
يبقى السؤال إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، إن قلنا في أهل القرآن هل هي لحالين، أو لحال واحدة؟
بعض العلماء يقول: هي لحالتين إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، بعضهم كابن القيم -رحمه الله- يقول: الإنسان على حالين إما أن يكون حي القلب -الحياة الكاملة- فهذا يحصل له التذكر بأدنى تنبيه، ومن كان دونه -الحالة الثانية- هذا يحصل له التذكر إذا ألقى السمع، أنصت وأحضر قلبه حال الاستماع.
يعني الأول يحتاج لأدنى تنبيه ويحصل له التذكر، الثاني يحتاج جهداً أكبر؛ لأن القلب هذا ضعيف، فيحتاج إلى جهد مضاعف من أجل أن يحصل التذكر، مثل الذين عندهم صعوبات تعلم يحتاجون جهوداً أكبر في التعليم، فابن القيم جعله على هاتين الحالتين، أنه إما أن يكون قلباً وقاداً كامل الحياة، وإما أن يكون دون ذلك.
وبعضهم يقول: إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ إن الأشياء يعني إما أن يكون الإنسان شاهدها فيعتبر بقلبه، وإما أن تكون أشياء بلغته، تقص عليه يُخبر عنها فهذا يحتاج إلى أن ينصت ويحضر قلبه فينتفع، ولو قيل بأن ذلك المقصود به -والله أعلم- إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حي وقاد كامل الحياة، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يعني قد لا يكون له هذه الحياة الكاملة لكنه إن أحضر قلبه حال السماع وأنصت فإنه ينتفع، فهذا المعنى قريب باعتبار أن الكفار إذا استمعوا القرآن- من أراد الله هدايته.
وأخبار المشركين في مكة -مثلاً- لما كانوا يستمعون القرآن، جبير بن مطعم لما سمع النبي ﷺ يقرأ في المغرب سورة الطور وبلغ قوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [سورة الطور:35] قال: "كاد قلبي أن يطير"[9]، وغير ذلك من أخبارهم وهم كفار، لكنه أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، أحضر قلبه حال الاستماع، لكن لا يقال: هذا قلبه كامل الحياة في حال الشرك، فالذي ينتفع ويتذكر من كان له قلب حي، أو يحضر قلبه حال السماع وينصت ولا يشتغل عنه بغيره فينتفع ويتأثر، ولذلك قال الله : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة:6]، فسماعهم للقرآن يكون له أثر إذا حصل معه الإنصات وإحضار القلب.
وبعض العلماء يجعل ذلك في حالة واحدة ويجعل "أو" بمعنى الواو إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قد يكون له قلب حي ولكنه غير مهيأ تلك الساعة حال الاستماع، أو أنه مشغول بشيء آخر غير منصت، فهنا لا يحصل له الانتفاع، بحيث إن الاستماع لا يكفي في حياة القلب، فإن القلب قد يكون في مكان آخر تلك اللحظة، مشغول بشيء آخر، فيقرأ عليه القرآن إذا كان متهيئاً، أو يسمع القرآن، أو يقرأ القرآن من أجل أن يحصل له التدبر والتفكر والاعتبار، وهذا معنى قريب.
ولا شك أن هذه الأمور الثلاثة مطلوبة بحيث إن الإنسان يكون له قلب حي وفي الوقت نفسه يحضر هذا القلب عند الاستماع، أو القراءة، وإلا فإذا كان قلبه حياً لكنه مسافر، مشغول، غائب، في مكان آخر فإنه لا يحصل له الاعتبار والاتعاظ، أو التفكر، أو التدبر فلابد من الأمور الثلاثة: حياة القلب، وحضور القلب، والإنصات والاستماع.
فإذا وجد هذا حصل الانتفاع الكامل، فإذا نقص شيء من هذه الأمور، نقص من هذا الاعتبار، نقص واحد من هذه الأمور الثلاثة نقص الانتفاع بقدره، وكلام أهل العلم على هذا كثير وطويل، شيخ الإسلام له كلام كثير، وابن القيم له كلام كثير في مثل: مفتاح دار السعادة، والوابل الصيب وغير ذلك من الكتب، تكلم عليها طويلاً، وكذلك شيخ الإسلام في مواضع من كتبه، وكلام المفسرين على هذا كثير ويطول.
هنا في هذه الآية يبين الله كمال قدرته، خلق السماوات والأرض في ستة أيام قال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ يعني من تعب، وهذه الآية تتضمن معنى آخر بالإضافة إلى ما سبق، وهو أن ذلك دليل على قدرته على البعث، إذا كان خلقَ السماوات والأرض هذه الأجرام العظيمة في ستة أيام، خلقهما وما بينهما في ستة أيام وما مسه من تعب -لغوب- فقدرته -تبارك وتعالى- على إحياء الناس لا شك فيها، وأنه على ذلك قدير.
ولهذا قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ نفس المعنى استدل به على قدرته على إحياء الموتى، بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ الْمَوْتَى فهذه الآية مصرحة بهذا المعنى، والآية التي في سورة ق غير مصرحة، ولكن الآيات عموما في سورة ق تتحدث عن اليوم الآخر والبعث والنشور، وقدرة الله على ذلك.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ التسبيح يأتي بمعنى التنزيه أن يقول الإنسان -مثلا- سبحان الله، ويأتي بمعنى الصلاة، كما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصلاة الراتبة بعد الفريضة، لو كنتُ مسبِّحا لأتممت[11]، ولذلك الصلاة يقال لها: تسبيح، فهنا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [سورة الحجر:98] سبح متلبسا بحمده، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
فابن جرير -رحمه الله- حمله على صلاتي العصر والفجر، قبل غروب الشمس، والفجر قبل طلوعها، ويدل على هذا، الحديث: فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هذا من قبيل التفسير النبوي الذي ذكرت فيه الآية، وهذا النوع من التفسير لا يدخله الاجتهاد -كما هو معلوم، فإذا صح سنده فبعد ذلك لا كلام.
لكن النبي ﷺ أحياناً يذكر بعض المعنى -بعض ما دلت عليه الآية، وأحياناً يذكر النبي ﷺ بعض المعاني الداخلة تحت العموم وإن كان السياق في غيره فهو لا ينفي المعنى الذي فيه السياق، وهذا مضى له أمثلة، لكن تفسير ذلك بصلاتي العصر والفجر يدل عليه هذا الحديث، مع أن من أهل العلم من قال: هما وقت العصر والفجر وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ لا شك أن الوقتين هما العصر والفجر، هل المقصود الذكر، أو المقصود الصلاة؟
ابن جرير يقول: الصلاة، وبعضهم زاد على هذا قال: الصلوات الخمس وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ وقالوا: الليل يدخل فيه المغرب والعشاء، والذي قبل طلوع الشمس هو الفجر، وقبل الغروب يدخل فيه صلاتي العشي -الظهر والعصر، وبعض الآيات أوضح في دخول الصلوات الخمس.
وابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين حمل ذلك على الأذكار التي تقال في الصباح والمساء، واستدل على هذا بما جاء من الذكر بالغدو والآصال وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الأعراف:205] يعني أوقات الذكر -العصر والفجر- بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر.
فهذا معنى تحتمله الآية، ولكن التفسير النبوي هنا دل على أنها صلاة العصر وصلاة الصبح، لكن لو قال قائل: إن التسبيح هنا يدخل فيه ما ذكره النبي ﷺ دخولاً أولياً صلاة الصبح والعصر، ولفظ التسبيح أعم من هذا وأوسع فيدخل فيه الذكر أذكار الصباح وأذكار المساء فإنها مشروعة في هذين الوقتين.
وقد يقول قائل: إنه ذكر الطرفين كما في قوله: بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ لاستغراق الأوقات، فإن العرب تذكر الطرفين وتريد ما بينهما، لكن تفسير النبي ﷺ هنا بصلاتي الصبح والعصر يدل على خلاف ذلك، ولكنه قد يكون هكذا في مواضع أخرى غير هذا الموضع، وذكرنا هذا في مناسبات رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [سورة المزمل:9] يعني وما بينهما، إذن قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ الصبح والعصر، ودخول الأذكار عندئذ يؤخذ من عموم اللفظ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ولا أقصد بالعموم هنا المعروف عند الأصوليين، وإنما أن التسبيح لفظ يصدق على هذا وهذا، فإن المشترك هو نوع ملحق بالعام، أقصد لا تبحث عن صيغة من صيغ العموم المعروفة عند الأصوليين.
ابن جرير -رحمه الله- يقول: ليس عندنا دليل على تحديد شيء معين، هذه الصلاة وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، يقول: الصلاة في أي وقت كان من الليل، ويرد ابن جرير على من خص ذلك بصلاة المغرب، يقول: ليست المغرب فقط من صلاة الليل بل العشاء، فهما داخلان في ذلك، يقول هذا ردًّا على من خصه بصلاة المغرب، ثم قرر أن المعنى أعم، وأن الله لم يخص معنى دون معنى، فالصلاة بالليل في أي وقت كان، كثير من المفسرين يحملون ذلك على صلاة الليل -الذي هو القيام- وكان مفروضاً على النبي ﷺ، وبعضهم قال: المراد بذلك الركعتان قبل الفجر -سنة الفجر الراتبة، وبعضهم يقول: هي صلاة العشاء، لكن كلام ابن جرير أوضح وأقرب، والله تعالى أعلم.
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما: هو التسبيح بعد الصلاة، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي ﷺ: وما ذاك؟، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم،ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال ﷺ: أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؛ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، قال: فقالوا يا رسول الله: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[12].
والقول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: وَأَدْبَارَ السُّجُودِ، هما الركعتان بعد المغرب، وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة ، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم.
ذكر هنا معنيين: أنها الأذكار بعد الصلوات، والثاني: أنها الركعتان بعد المغرب، ونقله عن هؤلاء من السلف -وهم كثير، ولهذا ابن جرير -رحمه الله- لمّا ذكر المعنى السابق من أن المراد الأذكار ثم حمله على هذا المعنى الثاني أنهما الركعتان بعد المغرب، مع أنه يرى أن اللفظ أشمل وأوسع من هذا، وأنه لم يدل دليل على تخصيص الآية بالركعتين- قال: إلا أنا لا نستجيز مخالفة إجماع الحجة، وإجماع الحجة عند ابن جرير -رحمه الله- يعني قول الجمهور -قول الأكثر، والآية ليس فيها إجماع، فيها خلاف، فابن جرير حملها على الركعتين وهو يرى أن اللفظ أعم من هذا قال: لإجماع الحجة، وهذه الطريقة عند ابن جرير في الترجيح معروفة ويقصد بإجماع الحجة قول الجمهور.
وبعض السلف كابن زيد قال: هي النوافل التي بعد الفرائض، لم يخصها بالركعتين بعد المغرب وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ إذا كان هذا القول ليس بمحل إجماع بمعنى الاتفاق فمعنى ذلك أنه يجوز مخالفة قول الجمهور، فقول من قال: إن ذلك في الأذكار نقل عن ابن عباس قال: التسبيح بعد الصلاة واحتج له ابن كثير بالحديث.
يعني كأن ابن كثير يؤيد هذا، في قراءة لنافع وابن كثير: وَإدْبَارَ السُّجُودِ يعني بعد الصلوات، الذين خصوه بصلاة المغرب لماذا خصوا الركعتين باللتين بعد المغرب؛ كأنه -والله أعلم- باعتبار أن صلاة المغرب هي وتر النهار فهذا آخِر هذه الصلاة -توترها- وليس بعد الوتر شيء، بمعنى أن صلاة المغرب هي الأخيرة بعد صلوات النهار، وَإدْبَارَ السُّجُودِ إذاً ما يكون بعدما يوترها، كأنه بهذا الاعتبار -والله تعالى أعلم- في الآية الأخرى وَإِدْبَارَ النُّجُومِ، هنا وَإِدْبَارَ النُّجُومِ فسرت بالركعتين بعد الفجر باعتبار آخر الليل، وَإدْبَارَ السُّجُودِ فسرت بالركعتين بعد المغرب بعد ختم صلاة النهار بالوتر.
وَإِدْبَارَ النُّجُومِ النجوم معروف أنه يكون إدبارها في النهار، فإذا جاء الفجر فذلك مؤذن بزوال النجوم، تغيب النجوم ففسر بالركعتين قبل الفجر، قراءة نافع وابن كثير وحمزة في قوله –تعالى: وَإدْبَارَ السُّجُودِ فهذه فيها قراءتان وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ووَإدْبَارَ السُّجُودِ أما وَإِدْبَارَ النُّجُومِ فليس فيها إلا قراءة واحدة وَإِدْبَارَ النُّجُومِ، والله أعلم.
قوله -تبارك وتعالى: وَاسْتَمِعْ بعضهم يقول: استمع ما يوحى إليك من أحوال القيامة، ثم بدأ يسردها يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، وبعضهم يقول: استمع النداء يُنَادِ الْمُنَادِ، وبعضهم يعبر يقول: الصيحة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- استمع الصيحة يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ استمع الصوت، يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ المقصود بهذا النداء هو النفخ في الصور، وسيأتي هذا إن شاء الله.
وهنا وَاسْتَمِعْ يعني استمع -مثلا- الملك ينفخ في الصور وجبريل ينادي في الناس للحساب؛ هذه أقوال يذكرها السلف، وبعضهم يقول: الذي ينادي هو الملك الذي ينفخ، ينادي الناس للحساب والحشر، فتكون هذه النفخة نفخة البعث وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وهذا يدل على أنها النفخة الثانية، وعند ابن كثير الثالثة، نفخة فزع وصعق وبعث.
قوله: يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ يقول: النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون، وهذا الحق قال بعضهم: البعث، يعني هنا تأتي بالحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم:34] هذا الحق هو البعث، يقولون: لن نبعث ولن يكون هناك حشر ولا نشور، وينفون قدرة الله على ذلك، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، وبعضهم يقول: المقصود بالحق يعني أنها كائنة وواقعة بالحق، هذه عبارات للسلف، وابن جرير -رحمه الله- يقول: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
هنا المختصر جعل ذلك من كلام ابن كثير، وابن كثير في الأصل ذكره على أنه رواية، أو على أنه أثر، أو على أنه حديث، إن لم أكن مخطئاً فقد ذكره على أنه رواية، وهذا لا يقال من جهة الرأي أصلاً.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا يعني يخرجون مسرعين، وهنا: مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مهطعين: يعني مسرعين قد مدوا أعناقهم -هذا المُهطع- يستجيبون للداعي، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43] فهذا كله يدل على هذا المعنى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [سورة يس:51] والنسلان هو مشي سريع مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [سورة الأنبياء:96] معنى النسلان الإسراع، كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ أي: يأجوج ومأجوج، مثل مشي السباع، فالنسلان مشي سريع بطريقة معينة مثل الجنود إذا دخلوا أرضاً أو بلداً يمشون بطريقة فيها سرعة وربما حذر، من كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ.
هذا كله تطمين للنبي ﷺ وتسكين له وتصبير، ولهذا قال الله في الآيات السابقة: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ هذا وغيره من الآيات التي في هذا المعنى كما في سورة الدهر من قول الله -تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أو كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [سورة الإنسان:26]
هذه الآيات كلها يؤخذ منها معنى كبير، وهو أن الصبر على أعباء الدعوة وتحمل المشاق والأذى الذي يلقاه الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك مما يعانيه الإنسان، فإن الطريق إلى تحمل هذه الأعباء هو الصبر الذي يعين عليه هذه الأمور المذكورة هنا في قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ فقيام الليل، المحافظة على الصلوات لاسيما العصر والفجر، بالإضافة إلى التسبيح والإكثار من الذكر لله -تبارك وتعالى.
ولهذا ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في هذا المعنى أن من أعظم ما يستعان به على تحمل الأذى هو المحافظة على هذه الصلوات بالإضافة إلى التسبيح والذكر في طرفي النهار، فلا يصح أن يكون الداعية متلاشياً خاوياً ضعيفاً هشاً ومفرطاً في الصلوات لا يأتي إلا في أواخر الصفوف وهو قليل الذكر لله -تبارك وتعالى- غافل، ثم يكون بعد ذلك داعية فإذا أصابه الأذى حصل له تراجع وانكسر وصدر عنه ما لا يليق من الكلام، أو الفعال التي توقعه في حرج أمام الناس، وقبل ذلك أمام الله وينسى المبادئ التي كان يدعو الناس إليها، وحينما كان يصبرهم ويثبتهم، فيكون أول من ينكسر ويضعف وينهزم إذا ابتلي، فلابد من هذه الأمور.
والذين يتحملون أعباء أكبر من الجهاد في سبيل الله بقتال الكفار وما إلى ذلك هم أحوج إلى هذه المعاني، والجميع بحاجة إليها، ولهذا قال الله : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45]، فهذه الصلاة من أعظم ما يقوي القلب ويثبت الجنان ويجعل العبد في حالٍ من الصلة بالله -تبارك وتعالى- تتلاشى معها المخاوف، لكن بقدر إقامته لها وحضور قلبه يحصل له من الصبر والثبات، ولهذا كان النبي ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
هذا معنى نحتاج إليه، وقوله -تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45] يدخل فيه الاستعانة بها على طاعة الله إقامة العبودية لله -تبارك وتعالى، والنهوض بالتكاليف الشرعية، وترك المحرمات، والصبر على أقدار الله المؤلمة وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ الاستعانة بها على المشاق في هذه الحياة الدنيا، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] الذين يقيمون الصلاة كما أمر الله -تبارك وتعالى- هم أكثر الناس ثباتاً وتماسكاً.
ولذلك في الإحصاءات التي تقرؤها هنا وهناك في دراسات تقام فيما يتعلق بالكآبة والانتحار ونسب الانتحار واستبانات توزع وأشياء تخرج من حين لآخر في مواقع وأماكن وبلدان مختلفة، حتى المخدرات، فنجد أن الذين يحافظون على الصلوات الخمس أبعد ما يكونون عن هذه الرزايا والبلايا بأنواعها؛ لأنه يحصل لهم من الثبات والصبر والطمأنينة والراحة مالا يحصل لغيرهم، ولكن بقدر إقامة الإنسان لها يجد من هذه الآثار، فهذا المعنى نحتاج دائماً أن نتأمله، أولائك الذين ينهزمون وينكسرون -نسأل الله العافية للجميع- الذين يضيقون ذرعاً بالمصائب والآلام فتتعاظم في نفوسهم الهموم والمخاوف، هؤلاء يحتاجون إلى مراجعة لهذا المعنى، وكلنا نحتاج إلى ذلك.
وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي: ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، ثم قال : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ أي: بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده، كقوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، وقوله : فَذَكِّرْ إنما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [سورة الغاشية:22]، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272]، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة القصص:56]، ولهذا قال تعالى هاهنا: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يارحيم.
آخر تفسير سورة "ق"، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هنا خص الله -تبارك وتعالى- بالتذكير بالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ باعتبار أن هذا هو الذي ينتفع، وإلا فإنه يذكر بالقرآن الجميع، ولكنه خص المنتفعين بذلك كما قال الله : هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] فهؤلاء هم الذين ينتفعون به ويهتدون، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [سورة فاطر:18]، فإقامة الصلاة هنا وأثرها في الانتفاع بالموعظة والنذارة هذه معانٍ تتكرر في القرآن، لو قرأناه بتدبر وتفكر وتمعن لحصل في ذلك من الانتفاع ومعالجة جميع الجوانب التي نحتاج إليها مما لا نحتاج معه إلى فلسفات وتنظير وكلام كثير ننشئه من عند أنفسنا، أو نستمده من غيرنا، كتب مترجمة ونحو ذلك، والله المستعان.
تنبيه على ما مضى من كلام ابن كثير -رحمه الله- في العبارة التي ذكرها عند قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًاقال: وذلك أن الله ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض فيقول الله: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها إلى آخر ما ذكر.
هذا الكلام الحديث فيه عن أمور غيبية، وابن كثير -رحمه الله- ذكره على أنه رواية في موضع آخر، فهاهي المواضع التي ذكر الحافظ ابن كثير فيها هذا الكلام: في سورة الأنعام قال عنه: "هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وفي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ، تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاصُّ أهل الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أنه يَكْتُبُ حَدِيثَهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ".
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أيضاً: "وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَمَّا سِيَاقُهُ فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَيُقَالُ: إنه جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ: إنه رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَ فِيهِ كُلَّ الشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ".
رواه الطبراني في الطوال، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في البعث والنشور، والحديث بهذا السياق لا يصح ولبعضه شواهد، ما سبق نجده في سورة الأنعام عند قوله -تبارك وتعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... الآية [سورة الأنعام:70].
وفي سورة النمل عند قوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [سورة النمل:89] ، قال -رحمه الله: "وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح" إلى آخر ما ذكر.
وهنا في سورة "ق" لم يذكره على أنه حديث، وصرح برفعه في المواضع السابقة.
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2848)، وأحمد في المسند، برقم (13457)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد قوي على شرط مسلم".
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وتقول هل من مزيد [سورة ق:30]، برقم (4849)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2848).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وتقول هل من مزيد [سورة ق:30]، برقم (4850)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2846).
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (660)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2842).
- رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم (345)، والنسائي، كتاب الجمعة، باب فضل المشي إلى الجمعة، برقم (1384)، وأحمد في المسند، برقم (16173)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير أن صحابيه لم يخرج له إلا أصحاب السنن"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1388).
- رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857).
- رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، برقم (934)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، برقم (851).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [سورة ق:39]، برقم (4854).
- رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554)، وأبو داود، كتاب السنة، باب في الرؤية، برقم (4729)، والإمام أحمد في المسند، برقم (19205)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (595).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في التخيير بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، برقم (4673)، وأحمد في المسند، برقم (10972)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"، ومسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق، برقم (2278)، بلفظ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر....