الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
[3] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الآية:12 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٣ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 11112
مرات الإستماع: 14739

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المجادلة:12، 13].

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ﷺ أي: يسارّه فيما بينه وبينه- أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ.

ثم قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا أي: إلا من عجز عن ذلك لفقره فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فما أمر بها إلا من قدر عليها.

ثم قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول؟ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فنسخ وجوب ذلك عنهم.

وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك صبر كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا: أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فوسع الله عليهم ولم يضيق.

وقال عكرمة والحسن البصري في قوله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً نسختها الآية التي بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ إلى آخرها.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله ﷺ حتى أحْفَوْه بالمسألة، فَفَطَمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله ﷺ فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وقال مَعْمَر عن قتادة: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً إنها منسوخة، ما كانت إلا ساعة من نهار، وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً، هذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، أدب من الآداب التي أدبهم بها بين يدي نجواهم للنبي ﷺ، كما سبق في الآيات التي مضت من هذه السورة مما يتصل بآداب المجالس، وما يتعلق بالنجوى، فهذا شروع في الكلام أيضاً على أدب من آداب مجالسه ﷺ.

وقد مضى قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [سورة المجادلة:11]، وقول من قال بأن المراد بذلك مجالس النبي ﷺ، وهكذا في قوله: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا، إذا قيل لكم: قوموا عن مجلسه -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن لا تثقلوا عليه، كما هو أحد الأقوال الداخلة في معنى الآية، وأن الآية أعم من ذلك، فهذا أيضاً من جملة الآداب.

وسبب ذلك ما جاء في سبب النزول هنا عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- من طريق ابن أبي طلحة، أكثروا على النبي ﷺ في النجوى، هذا الإكثار قد يكون الباعث له الحاجة لدى البعض إلى المناجاة في أمور لا يصلح إفشاؤها وذكرها في الملأ، وهذا لا إشكال فيه، فهو يحتاج إلى هذه النجوى، ولكن لربما لا يكون التقدير صحيحاً فقد يطلب آخرون مناجاة النبي ﷺ والأمر لا يستحق ذلك، ولربما طلب مناجاة النبي ﷺ من يريد بذلك التلذذ بمناجاته -عليه الصلاة والسلام- والقرب منه، فكثر ذلك عليه وشق، يعني تكون الأوقات مصروفة في حديث خاص مع هذا، وحديث خاص مع هذا، وموضوع خاص مع هذا، ومجلس خاص مع هذا، وتتفرق الأوقات، وهذا يحتاج إلى تقطيع وتشتيت لوقته -عليه الصلاة والسلام، فأدبهم الله بهذا الأدب، أن يقدموا صدقة بين يدي النجوى.

وهذا فيه فوائد منها: أن العلة الأصلية  أنه يخفف عن رسول الله ﷺ، وهذا قد تحقق، التخفيف عنه -عليه الصلاة والسلام- في أمر النجوى، فصارت النجوى بصدقة، والمال عزيز على النفوس؛ ولهذا بعض السلف جعل على نفسه أنه إذا اغتاب أحداً صام يوماً، ويسهل عليه الصوم، فلم يقطعه ذلك عن الغيبة، فجعل على نفسه أنه إذا اغتاب أحداً تصدق بشيء معين، فشق ذلك عليه فترك الغيبة، فهذه طريقة في المعالجة، يعني مثل الغرامة المالية، وإن كانت هنا ليست غرامة، هذه صدقة، لكن من باب أن الشيء بالشيء يذكر -التقريب.

فالناس مثلاً إذا قيل لهم: من فعل كذا فعليه أن يدفع كذا، فتجد الناس ينكفون، هنا هذا الأمر بينهم وبين الله ، يتصدق بصدقة، هل هو مستطيع أو غير مستطيع؟ هذا بينهم وبين الله، من جملة الأمانات؛ ولهذا قال الله : فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، لا يستطيع، ما عنده شيء فيستطيع أن يناجي دون أن يقدم صدقة، ولا يحتاج أن يأتي للنبي ﷺ إذا أراد أن يناجيه فيقول: لقد تصدقت وأريد أن أناجيك، هذا حكم شرعي من جملة الأحكام.

فالشاهد أن هذا تحقق فيه هذا المعنى، وفيه مصلحة ونفع للفقراء، وفيه أمر ثالث يرجع إلى المناجي، فإن ذلك يطهره، ويؤهله لمناجاة النبي ﷺ، فهو يريد الاختصاص به والقرب منه.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً، هنا لم يحدد ذلك بقدر معين، فيصْدُق على أي صدقة كانت؛ لأن صدقة هنا نكرة في سياق الإثبات فيصدُق على القليل والكثير، وظاهره أنه لو تصدق بتمرة فإنه يكون قد حقق ما أمر به.

قال الله بعدها: أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ، هذه الصدقات جمعت ربما باعتبار العدد، عدد الناس، يعني باعتبار الكثرة، كثرة الناس، صَدَقَاتٍ، فهذا يناجي وهذا يناجي وهذا يريد المناجاة، وهذا يتصدق، فذكر الجمع باعتبار المجموع، مجموع الناس، ويمكن للواحد أن يقدم صدقات متعددة بين يدي مناجاة النبي ﷺ، فهذا الأمر متروك إليهم، قال: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني: رجع عليكم بالتخفيف، فإن التوبة تعني الرجوع، تاب عليكم، رجع عليكم، وخفف عنكم هذا الحكم فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، بمعنى أنه أسقط عنهم هذا الفرض.

وهذا مثال من أشهر الأمثلة عند الأصوليين على النسخ إلى غير بدل، ومسألة النسخ إلى غير بدل فيها خلاف معروف عندهم بناءً على قوله -تبارك وتعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، فالقائلون: لابد من البدل قالوا: هذا وعد من الله أنه ما ينسخ من آية إلا ويأتي ببدل منها، قد يكون هذا البدل خيراً منها، وقد يكون مماثلاً لها، قالوا: فهذا وعد لا يتخلف، فكيف يكون النسخ إلى غير بدل؟

وإلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: لابد من البدل، وهذا المثال البدل موجود، الصدقة كانت واجبة، فبقيت على الاستحباب، ولم ترفع بالكلية، الصدقة مستحبة بين يدي النبي ﷺ إلا أن ذلك لم يعد فرضاً على المكلفين.

والذين قالوا: يصح النسخ إلى غير بدل قالوا جواباً عن قوله -تبارك وتعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا قالوا: البدل هو التخفيف والتوسعة على المكلفين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الله لم يترك المكلف بلا حكم، واضح، لم يترك المكلف بلا حكم، فذلك دائر بين الأحكام الخمسة، يعني هذه الأشياء إما أن تكون مباحة أو مستحبة أو واجبة أو غير ذلك، فقالوا: المكلف حكم الشارع متوجه إليه في كل حال، والإباحة إما إباحة أصلية أو إباحة شرعية، فقالوا: البدل هو التخفيف. 

وقد مضى الكلام على وجه الجمع كثيراً في القرآن بين الصلاة والزكاة، فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، ثم عطف العام عليه، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فيدخل فيه جميع ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، أو أمرهم به رسوله ﷺ، فإن النبي ﷺ قد يأمر بأشياء ليست في القرآن كما هو معلوم في أحوال السنة مع القرآن، كتحريم الحمر الأهلية، وكذلك تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، هذا ليس في القرآن، وإنما هي من الأحكام الزائدة في السنة، السنة مع القرآن إما أن تأتي مؤكدة وموافقة له، أو مبينة وشارحة ومفسرة، وقد تأتي -على الراجح- ناسخة، ولكن هل يوجد مثال صحيح سالم عن المعارضة القوية في هذا أو لا؟

هذه مسألة أخرى، لكن من حيث النظر يمكن أن تأتي ناسخة، والقسم الآخر وهو أنها تأتي بأحكام زائدة، فتعقيب الآية بهذا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، كما سبق أن هذا متروك للمكلفين، فهو بينهم وبين الله -تبارك وتعالى، لا يحتاج إلى إشهاد أو إعلان بهذه الصدقة، وإنما هي من جملة التكاليف التي هي في ضمن الأمانات التي قال الله فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ [سورة الأحزاب:72]، فهذه الأمانات يدخل فيها سائر التكاليف.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ۝ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المجادلة:14-19].

يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [سورة النساء:143].

وقال هاهنا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى: مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي: هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود.

هنا الله -تبارك وتعالى- يُعجّب نبيه ﷺ من حال هؤلاء المنافقين، ومن قبيح فعالهم: أَلَمْ تَرَ إلى حال هؤلاء؟! أَلَمْ تَرَ إلى هؤلاء من أهل النفاق الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟! فإن هذا الفعل لا شك أنه يبعث على التعجب، وذلك أن هؤلاء المنافقين تولوا اليهود، وقلنا: اليهود باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- وصف هؤلاء المتوليْن بالغضب، وإذا ذكر الغضب فمباشرة يتوجه أول ما يتوجه إلى اليهود، غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] وهم اليهود، فاليهود أهل الغضب، وذلك أن المنافقين تولوا اليهود، والتولي يأتي بمعنى النصرة والركون إليهم، وما إلى ذلك من المعاني في ممالأتهم ومودتهم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، هنا ما قال: تولوا اليهود، قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، بمعنى أن غضب الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء القوم مؤذن بمباعدتهم، ومجافاتهم ومعاداتهم؛ لئلا يلحق الغضب من قرب منهم وتولاهم، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- غضب على هؤلاء اليهود فإن من كان قريباً منهم محتفاً بهم متولياً لهم فإن هذا الغضب قد يتنزل عليه، فيلحقه حكمهم، ويصير إلى مثل حالهم، فهذه جراءة على الله -تبارك وتعالى، هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود الذين كانوا في المدينة، يقول: كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن.

وجه العجب الآخر غير أن هؤلاء من أهل الغضب وماذا يريدون من أهل الغضب، ومن القرب منهم، ومن توليهم، الأمر العجيب أن هؤلاء أيضاً الذين تولاهم هؤلاء من أهل النفاق قال الله عنهم: مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ، فهذا يرجع إلى اليهود أو يرجع إلى المنافقين؟ ابن كثير -رحمه الله- مشى هنا على أنه يرجع إلى المنافقين، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، أن هذا من صفة المنافقين، فهو كالشاة العوراء كما جاء وصفهم في الحديث: العائرة بين الغنمين[1]، مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء [سورة النساء:143]، فهؤلاء ليسوا من المؤمنين وليسوا من اليهود.

وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، كأن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ومن وافقه نظروا إلى أن الجمل الثلاث هي في صفة المنافقين، تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، الذي فعل هذا أهل النفاق، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، فأهل النفاق هم من يفعلون هذا، والجملة التي في الوسط مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، فهذا اعتبره الحافظ ابن كثير من جملة أوصاف المنافقين؛ لأن الله يعدد أوصافهم القبيحة.

ومن أهل العلم من قال: إن هذا الوصف يرجع إلى اليهود، مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هم الذين غضب الله عليهم، القوم الذين غضب الله عليهم، وصفة هؤلاء القوم المغضوب عليهم ما هم منكم ولا منهم، وهذا في التعجيب؛ لأن هذا مقام تعجيب أبلغ وأشد، من أي جهة؟

من جهة أن هؤلاء من المنافقين الذين ينتسبون إليكم في الظاهر تولوا قوماً غضب الله عليهم، لو كان هؤلاء المتوليْن من اليهود لو كانوا من المنافقين لقيل: الطيور على أشكالها تقع، لا غرابة، يتولى المنافق منافقاً، ولو كانوا من المسلمين لقيل: هم ينتسبون إلى المسلمين في الظاهر، فمالوا إليهم وناصروهم بهذا الاعتبار، لكن هؤلاء اليهود ليسوا من المنافقين، وليسوا أيضاً من المسلمين الذين ينتسب إليهم أهل النفاق ظاهراً، فما وجه هذه الموالاة؟!

يعني هذا الوجه وهذا المعنى أبلغ وأوضح، والمقام مقام تعجيب من حال المنافقين، تولوا أناساً لا يمتون إليهم بصلة، ولا يمتون إليكم بصلة، لو كانوا يمتون إليهم بصلة لفهمنا وجه الارتباط، ولو كانوا يمتون إليكم بصلة لفهمنا وجه الارتباط، لكن هذا قسم ثالث بعيد، فهذا -والله أعلم- كأنه أقرب.

فالأول له ما يؤيده باعتبار أن الجمل الثلاث تكون على نسق واحد في صفة المنافقين، والثاني أقرب ويؤيده أمران: عود الضمير إلى أقرب مذكور، وأن هذا أبلغ في التعجيب، فكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، فالذي ذكره ابن كثير له وجه ويؤيده ما ذكر، والعلم عند الله ، مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ.

فالجامع المشترك أمران: الأول الكفر في الباطن، والأمر الثاني: العداوة للمسلمين، فهؤلاء من المنافقين، يمكن أن يتولى جميع الطوائف إذا كان العدو المشترك هم أهل الإسلام، فتارة مع النصراني، وتارة مع اليهود، وتارة مع الملاحدة، وتارة مع الرافضة، يمكن أن يتولى جميع الطوائف.

كما ترون الآن فيمن يسمون أنفسهم بالليبراليين مثلاً، هم مع كل عدو للإسلام، يثنون على الرافضة، ويمالئونهم، ويدافعون عنهم، كما أنهم مع النصارى، وهم أربابهم، كما هو معلوم، وإنما هم صنيعة من صنائعهم، تجدهم أيضاً مع اليهود حمائم لا يذكرونهم إلا بكل خير، وإن تهيأ لهم إعطاء وعود إن كان المقام يقتضي ذلك كما في بعض البلاد كما في مصر مثلاً.

فهم يعلنون أن اليهود سيكونون لهم، ولهم عندهم من الحظوة والقرب والمكانة، فهذا حال المنافقين في زمن النبي ﷺ، لا يتمالئون على حزب أو على طائفة أو على مجموعة من الناس، يقولون: نحن نعيب أخلاقهم أو أوصافهم أو عندهم فهمٌ للإسلام خطأ، وعندهم تشدد، وهنا النبي ﷺ لا يمكن أن يقال: النبي ﷺ لم يكن يفهم الإسلام، فيأتي هذا الليبرالي الكبير عبد الله بن أُبي بن أبي سلول، يأتي ويقول: أنا أفهم الإسلام، وأنا أفسر القرآن، أقرؤه بطريقة بحسب ما أفهم. 

فهؤلاء -نسأل الله العافية- يتولون هؤلاء الذين ليسوا منهم ولا منكم، كل ذلك في سبب أنهم يوافقونهم في الباطن من جهة، ومن جهة أخرى شدة العداوة للمسلمين، العدو المشترك، ولهذا قال الله في توليهم لليهود قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14]

فالراجح أن الآية في المنافقين واليهود، أو في المنافقين؛ لأن السياق كان في المنافقين حينما تولوا بني النضير، وقالوا لهم ووعدوهم: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [سورة الحشر:11]، وكان فيما قالوا لهم: وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [سورة الحشر:11] يعني: كائناً من كان، يعني ولا النبي ﷺ، يقولون لهم هذا، يعدونهم، فهذا من أعظم التولي، فقال الله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، يتولون اليهود، وتحسبهم جميعاً، هم في خندق واحد، كأنهم على قلب رجل واحد، والواقع أنهم تعصف بهم الأهواء، وهم في غاية التفرق والاختلاف والشر فيما بينهم، ولهذا قال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، فهذا حالهم.

لكن الجامع المشترك هو هذه العداوة، العدو المشترك، فإذا كان الأشرار وحزب الشيطان يجتمعون ويتمالئون في سبيل حرب الإسلام وأهله، فحري بأهل الإيمان أن يجتمعوا، وأن يتجاوزوا ما بينهم من حظوظ النفس والخلافات والشر، وأن لا يشمت بهم عدوهم، فيتفرقون هذا التفرق الذي نشاهده -فالله المستعان، فهذا من قلة العقل.

ثم قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين -عياذًا بالله منه- فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.

كثرة الحلف لم تذكر في القرآن إلا في حق المنافقين، اقرأ سورة التوبة، بل السورة التي خصهم الله بها وسميت باسمهم سورة المنافقون أولها: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ [سورة المنافقون:1]، فهنا معلق على شرط يتكرر بتكرره، كلما جاءوا، كلما دخلوا، قَالُوا نَشْهَدُ يشهدون بأنه رسول الله -عليه الصلاة  والسلام، ولفظ الشهادة هنا هو بمعنى اليمين والحلف، والدليل دخول لام القسم، بل جاء معه التوكيد بـ"إنّ"، إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، فهذه لام القسم، فالمقام مقام قسم، إذا جاءوا حلفوا، والله، نشهد، بل جاءوا بلفظ الشهادة، والمقام مقام قسم في موضع ذكر الله هنا لام القسم الداخلة على الجواب، جواب القسم لَرَسُولُ اللَّهِ، كلما دخلوا حلفوا.

فرد الله عليهم: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ، رد عليهم بنفس الصيغة، يشهد، وجاء بـ"إنّ" المؤكد بمنزلة تكرار الجملة مرتين، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، قسم، لكاذبون في قولهم هذا بأنه رسول الله، لكن لئلا يتوهم أن النبي ﷺ ليس برسول الله وأن ما قالوه في ذلك لا يصح جاء بالجملة المعترضة، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ.

فالمحترزات في القرآن تأتي في كل موضع بحسبه، بحسب الحاجة إليه، وجاء بهذه الجملة المعترضة؛ لئلا يتوهم المعنى الباطل، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، فهم يحلفون كلما دخلوا عليه، وما كان يفعل ذلك أبو بكر ولا عمر -رضي الله عنهما، فهذه الأيمان الكثيرة اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً هي بسبب أنه مهزوز من الداخل، هو يعلم أن أصابع الاتهام موجهة إليه أنه كذاب، وأن الناس لا يصدقونه، والعرب تأتي بالمؤكدات في الكلام بحسب الحاجة إلى ذلك كما هو معروف.

فإذا كان المخاطب واثقاً لم يُؤتَ باليمين والحلف، تقول: جاء زيد، فإذا كان عنده نوع تردد جيء بمؤكد، فقيل: إن زيداً مسافر، فإذا كان التردد عنده أكثر جيء بمؤكد آخر، إن زيداً لمسافر، إن زيداً قد سافر، فإذا احتيج إلى أكثر جيء باليمين، والله إن زيداً لمسافر، فهؤلاء يشعرون أن الذين يواجهونهم سواء النبي ﷺ أو غيره أنهم لا يثقون بهم ولا يصدقونهم؛ لأن الكذاب يظهر الكذب من عينيه، ويظهر من ملامح وجهه، "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".

اللسان ليس فقط أنه ينسى الكذب ثم يأتي بما يفضحه، وإنما أكثر من هذا، فلتات اللسان، طريقة حركة اللسان يعرف منها الكذاب من أول كلمة ينطق بها، لو قام يخطب ويتكلم يقول: إن الحمد لله، أهل الفراسة يعرفون الكذاب من أول ما يقول، أول ما يبدأ في أول جملة في الخطبة أن هذا اللسان كذاب، فهذا لا يخفى، يعرف حال الكاذب، يعني كيف كان القضاة يعرفون الكذابين.

فالقاضي إياس المعروف بذكائه وحذقه تداعى رجلان في مال، فقال أحدهما: إنه دفع إليه هذا المال، قال: أين دفعت إليه؟ قال: دفعت إليه في المكان الفلاني عند شجرة، الثاني قال: ما أخذت منه شيئاً، فقال للمدعى عليه: اجلس، اجلس، وقال للثاني: اذهب إلى الشجرة لعلك تتذكر، لعلك أعطيته رجلاً آخر إذا أتيت ذلك المكان، فذهب، والقاضي غفل عن المدعى عليه وتركه، واشتغل بأمور أخرى، وكان يرمقه حيناً بعد حين دون أن يشعر، فلما طال جلوسه فاجأه وقال له: أتراه قد بلغ الشجرة؟ قال: لا، يقول: ما وصل إلى الآن، قبلُ كان يقول: أنا ما أعرفه، طيب كيف عرفت أنه ما وصل إلى الشجرة، وأن الشجرة تبعد عن المكان هذا بقدر كذا، وأن الرجل لم يصل إليها بعد؟ إذاً تعرف الشجرة، فقال له: يا خائن، الكاذب يظهر كذبه بأمور.

قال: وقوله: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني: أنهم يحلفون على الكذب، الكذب قد يحلف عليه الإنسان ولا يعلم، فالكذب يأتي لمعنيين، معنى مذموم شرعاً، ومعنى لا يذم، يفسر الكذب بمعنى خاص، ويفسر أيضاً أو يعرف بمعنى أعم، الكذب بالمعنى الخاص الذي ورد فيه الذم شرعاً هو المخالفة بين اللسان وما في القلب، سواء وافق الواقع أو خالفه، هذا الكذب المذموم شرعاً.

ويلحق به التخالف بين الظاهر والباطن مطلقاً، يعني مثل حال المنافق أو من يظهر شيئاً معيناً وليس في باطنه، يعني الكذب في الفعل والعمل والحال، فهذا تخالف بين ما يجري على لسان الإنسان ما يقوله وما يقر في قلبه، هذا هو الكذب المذموم، فإذا قال: زيد مسافر، وهو يعلم أنه موجود، والواقع أنه موجود، فهذا كذب أصلع، لا مرية فيه، وهنا صورة أخرى، قال: زيد مسافر، ويعتقد أنه موجود، وتبين في الحال أنه فعلاً مسافر، لكن هذا القائل لم يكن يعلم، فقال: مسافر، وفي اعتقاده أنه موجود، والواقع أنه فعلاً مسافر، فهذا ماذا يعتبر؟ هذا موافق للواقع، هذا يسمى كذباً، وهو كذب ومذموم، هذه الصورة التي ورد فيها الذم شرعاً بفرعيها.

هناك إطلاق أوسع في الكذب جاء في بعض الأحاديث، وجاء على لسان الصحابة ، منها قول النبي ﷺ: صدق الله وكذب بطن أخيك[2]، لم يوافقه العسل، وكذلك تجد في كلام الصحابة: كذب فلان، يعني: أخطأ، فالتخالف بين القول وما في الخارج يسمونه كذباً وإن لم يُقصد، يعني لو جاء أحد وسئل: عشرة ضرب عشرة، فقال وهو يعتقد هذا: ألف، يقال: كذَبَ، هو لم يقصد الكذب، وإنما بمعنى أخطأ.

لو قيل مثلاً: ما حكم الصلاة إذا خرج وقتها بسبب عذر؟ فقال: لا تقضى؛ لأن ذلك واقع في غير محل، يعني في غير الوقت إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103]، الله وقَّتَ وقت الصلاة وهذا لم يوقعها في الوقت الذي شرعه الله، فلا يقضي، فيقال: كذَبَ، بمعنى أخطأ، وهو لم يتعمد هذا، فالكذب يقال لكل ما يخالف الواقع وإن لم يُقصد، ويقال لكل ما يخالف الباطن وافق الواقع أو خالفه، وهذا هو الذي ورد فيه الذم، فهنا وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ لا خطأً منهم، وإنما وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كذب، فيجترئون على الله .

فإذا كان كثرة الحلف مع الصدق يدل على ضعف في تعظيم المعبود ، فكيف باليمين الغموس، الحلف على الكذب وهو يعلم؟! هذا استخفاف عظيم وجراءة على الله -تبارك وتعالى، اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار، الحلف وصاحبه صادق إذا كثر مذموم، تعرفون باب ما جاء في كثرة الحلف في كتاب التوحيد، لماذا جعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب التوحيد؟ باعتبار أن هذا الذي يكثر الحلف لو كان معظماً لله لأمسك، فلا يحلف إلا على أمور تستحق، فهذا المنافق يدخل ويخرج والحلف على طرف لسانه.

ثم قال تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم.

يعني كلمة أعد هنا يقول: أي أرصد الله لهم، كلمة أعد هي أخص من كلمة جعل الله لهم عذاباً مثلاً؛ لأنها تدل على عناية بالمُعَد، عناية، تقول: أعددت لك كذا، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [سورة يوسف:31].

ولهذا قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي: في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.

قوله: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ، الاتخاذ أيضاً يدل على مزيد عناية بهذا الشيء المُتخَذ، تقول: اتخذت زيداً صديقاً جليساً، اتخذت الكتاب جليساً فهذا يدل على عناية خاصة بهذا الشيء المتخذ، اتخذوا أيمانهم جنة، يعني الحلف، واليمين والحلف بمعنى واحد، إلا أن أصل ذلك أن الرجل كان إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توكيداً للقول بالفعل، ثم تُنوسي هذا فصار يقال اليمين لكل حلف.

جُنَّةً والجُنة هي الوقاية والستر، وأصل هذه المادة يرجع إلى معنى الستر، ولهذا يقال: الجِن، لاستتارهم، ويقال: الجَنّة؛ لأنها تستر من دخلها، لكثرة أشجارها، ويقال كذلك أيضاً لكل أنواع الاستعمال في هذا، الجُنّة الترس؛ لأنه يستر حامله من النبال وضرب السلاح وما إلى ذلك، فهؤلاء اتخذوا الأيمان جُنة، مثل الترس، فإذا وجهت إليهم التهمة سارعوا بالحلف وأن هذا ما حصل، وما قلنا هذا الكلام، ولم يصدر منا شيء من ذلك، فهذا -نسأل الله العافية- أدى بهم إلى النتيجة التي بعدها فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

فالفاء تدل على التعليل، وهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا يسميه الأصوليون دلالة الإيماء والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان معيباً عند العقلاء، ما الذي جعلهم يصدون عن سبيل الله؟ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يعني: استمرءوا هذا الأمر أنه كلما وجه إليهم تهمة حلفوا، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لا، هو ينكر ويحلف أنه ما قال، يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [سورة التوبة:74]، فهؤلاء -نسأل الله العافية- الحلف عندهم شيء معتاد وسهل، ولا يتوقفون دونه.

فَصَدُّوا كلمة "صد" هذه تأتي لازمة، وتأتي متعدية، تأتي لازمة بمعنى أنها لا تحتاج إلى مفعول، يعني صدوا أنفسهم، بقوا على الكفر منطوين، بقوا على النفاق، بقوا على الضلال، تقول: فلان صادٌّ، فقد تقصد بها أنه منطوٍ على نفسه، وصد في نفسه، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بقوا على الكفر، ارتضوا هذه الحال، وإذا وجه إليهم تهمة حلفوا، هذا معناها، وتأتى متعدية "صد"، صد زيداً عن الإسلام، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم حملوها على هذا المعنى، أنها متعدية، وإن اختلفت عباراتهم في تفسيرها.

يعني بعضهم يقول: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى أنهم حينما يحلفون لا يقام حكم الله فيهم، يعني مثلاً الذي يستهزئ بالنبي ﷺ يسخر منه، هذا الذي يقول كعبد الله بن أبي: سَمِّنْ كلبَك يأكلْك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، هذا حكمه القتل، فيحلف كما حلف في بني المصطلق أنه ما حلف وما قال، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

بعض العلماء يقول: المعنى صدوا المسلمين عن إقامة حكم الله فيهم بسبب هذه الأيمان، وبعضهم يقول: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، صدوا عن الإسلام، إذا جاء أحد يسلم صدوه ومنعوه، وخوفوه، ونفروه، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحج:25]، فهنا أيضاً تحتمل المعنيين.

وبعض أهل العلم يقول: إنه بمعنى أنهم صدوا أهل الإيمان، الذي قبله صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، أنهم صدوا عن طاعة الرسول ﷺ ومتابعته والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله، وبعضهم يخصه بالجهاد باعتبار أن سبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

وهذا المعنى يدل عليه مواضع من كتاب الله كقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب:18، 19] يعني: لا ينفقون ولا يتصدقون في سبيل الله، فهؤلاء صدوا عن سبيل الله، يعوقون ويثبطون، يقول: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، يثيرون بينكم الأراجيف.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [سورة آل عمران:168]، لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [سورة آل عمران:156]، فهم يصدون ويثبطون الناس، وهم الذين قالوا أيضاً: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني: حتى يتفرقوا عنكم، يذهبون يطلبون بلداً آخر غير المدينة إذا مُنعوا من الصدقة، فهذا كله من هذا الصد، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ، هذا كله باعتبار أنها متعدية.

ولو حمل ذلك على الجميع لكان أحسن -والله أعلم، فهم صدوا في أنفسهم، استمرءوا البقاء على النفاق والكفر، وصدوا أيضاً غيرهم، صدوا عن الإسلام، وصدوا عن الجهاد، وصدوا عن النفقة في سبيل الله، وطاعة الرسول ومتابعته، هذا حال المنافقين.

قوله -تبارك وتعالى: فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ، وقبلها شديد، فجمع لهم بين الإيلام والإهانة، فلهم عذاب الله بالنار التي تحرقهم ويحصل بها الإيلام، ومع ذلك يحصل لهم الهوان، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فهذا في صفة هذا العذاب، يحصل به إيلام الأجساد ويحصل به الإهانة، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48]، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49]، قَالَ اخْسَئُُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108]، وما أشبه ذلك، فيحصل إهانات شديدة لهم مع العذاب، فهذا عذاب آخر.

ثم قال تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم، أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

ثم قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا أي: يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أي: يحلفون بالله ، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة.

قوله -تبارك وتعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وجه الارتباط مع ما قبلها أن الذي أوقعهم في النفاق هو من أجل دنياهم، من أجل إحراز الأموال، وحفظ وحقن الدماء، أن يحقنوا دماءهم وما تحت أيديهم من الأولاد والأهل، هذا مرادهم، هذا غايتهم، هي الدنيا، ولهذا قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم [سورة الأحزاب:14] يعني: المدينة، مِّنْ أَقْطَارِهَا يعني: من نواحيها المختلفة، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا، وفي القراءة الأخرى لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا،

يعني بمعنى أنه لو دُخلت المدينة من أقطارها من نواحيها المختلفة، دخلها العدو يوم الأحزاب، ثم سئلوا الكفر فهم مباشرة يبادرون، ولا ينتظرون، وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا، لا يحتاج أن يتروى، ولا يحتاج أن يتأنى، ولا يحتاج أن يفكر، مباشرة مع من غلب؛ ولذلك ترونهم لما دخل الصليبيون العراق كانوا معهم، ولما دخلوا في أفغانستان كانوا معهم، هم مع من غلب.

وكتب بعضهم في بعض صحفنا إبان دخول الغزاة إلى العراق وكان يستبشر بمجيء هؤلاء وبنزولهم في ساحة المسلمين في العراق بأنهم قد اقتربوا، وأن هؤلاء سيعمرون العراق، وسيقيمون فيها الديمقراطية، وسيكون لها مستقبل، وللمنطقة مستقبل مشرق وواعد بسبب ما عرف عن هؤلاء من رعاية الديمقراطية والحرية، وكما ترون، ويتفلسف يقول: الأمريكان ليسوا كالإنجليز، يعني أنهم إذا جاءوا أشاعوا الحريات والديمقراطية، وعمروا البلاد، هذا كاتب كتَبَ يمدح هؤلاء ويظهر الفرح والسرور والاستبشار للمنطقة بأسرها أنها ستتغير وتتحول إلى تلك النظم من الديمقراطية والحرية وغيرها، فالمنافق ليس له مبدأ ودين إطلاقاً، مرة مع اليهودي ومرة مع النصراني ومرة مع كذا.

وهنا قال: لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا، هذا وجه الارتباط والمناسبة، قال: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وإذا ذكر أصحاب النار دائماً فالمقصود بهم هم أهل الخلود فيها، يعني أن أهل الإيمان الذين يدخلون ويعذبون في النار ثم يخرجون منها لا يقال لهم أصحاب النار، قال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، هذا يحتمل معنيين كما سبق في بعض المناسبات، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، قلنا: يحتمل معنى أنه يبعث هؤلاء جميعاً، فإن الله يبعث الأولين والآخرين، فيجمع هؤلاء لا يغادر منهم أحداً.

ويحتمل معنى آخر يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا يعني: ما تفرق من أجسادهم لا يفوته منهم شيء؛ لأن البعث الثاني يكون مما تفرق من الأجسام الأجساد وتحلل في قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [سورة ق:4] فالبعث لما تفرق من الأجسام، والنشأة الأولى: آدم من تراب، والذرية من ماء مهين، ثم من علقة، ثم من مضغة، حتى يتكون هذا الخلق وتنفخ فيه الروح، هذا المخلوق ثم يكون الولادة إلى آخره، هكذا النشأة الأولى.

والنشأة الثانية ليست من تراب وإنما نشأة جديدة مستقلة، وليست من نطفة، وإنما هي من حطام هذا الجسد، مما حصل له البلاء وتحلل، وهذا هو الذي يحصل به البعث حقيقة، والله -تبارك وتعالى- يعيد هذه الأجسام ولا يخلق خلقاً جديداً آخر، إنما نفس هذه الأجسام يعيدها؛ ولهذا قال: يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104][3]، فيعيدهم كما هم، حتى الأجزاء التي فقدوها في الدنيا ترجع إليهم، قال الله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94].

الرجل الذي قال: إذا مت فأحرقوني ثم أذروني.. إلى آخره، فجمع الله ما تفرق منه، فهنا قال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، فبعض المفسرين قال: جَمِيعًا يعني: يجمع ما تفرق من أبعاضهم وأجسامهم، والمعنى الأول هو الذي عليه الجمهور، وهو المشهور أن الله يبعثهم جميعاً يعني لا يغادر منهم أحداً.

فيحلفون له أيضاً، يعني هو يظن أنه لما راج ذلك في الدنيا، ودفع عنه العقوبات والحدود بهذا الحلف، يظن أن الأمر في الآخرة مثل الدنيا، فمباشرة الفاء تدل على التعقيب المباشر، هذا يطلع من القبر، ينفض التراب عنه، وأيمان متتابعة، حتى في يوم القيامة يحلف، إذا رأيت أحداً يحلف يوم القيامة -نسأل الله العافية، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ.

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ يعني: يظن أن هذه الأيمان تروج وتنفع وتدفع عنه عذاب الله -تبارك وتعالى، يظن أن الحكم هناك البينة على المدعي واليمين على من أنكر، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، ومثل هذا مضى في مناسبات شتى، هنا جاء بالتأكيد بـ"إنّ" أَلَا إِنَّهُمْ، وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام هُمُ الْكَاذِبُونَ يعني هذا فيه تقوية النسبة بين المبتدأ والخبر مثلاً، بين طرفي الجملة، هُمُ الْكَاذِبُونَ، ودخول "ال" يدل على أنهم استحقوا الوصف الكامل من الكذب، يعني يشبه الحصر، يعني كأنه لا كاذب إلا هؤلاء، هؤلاء هم الكاذبون المستحقون لهذا الوصف، المستحقون من الكذب أكمله، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ.

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أي: حلفهم ذلك لربهم .

ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ فأكد الخبر عنهم بالكذب.

ثم قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ ولهذا روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية[4]، قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة.

ثم قال تعالى: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ يعني: الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ثم قال تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

هنا قوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، استحوذ يعني استعلى وغلب، تقول: فلان استحوذ على التركة، استحوذ على المال، بمعنى أنه غلب عليه، وهكذا قول من قال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ يعني: غلب عليهم وضمهم إليه، فصاروا من جنده وحزبه، وهكذا قول من قال: أحاط بهم، وقول من قال: قوِيَ عليهم، فكل هذا يرجع إلى معنى واحد، بمعنى غلب عليهم وضمهم إليه حتى صاروا من جملة جنده وحزبه وأوليائه، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ.

وكانت النتيجة فأنساهم ذكر الله، و"الفاء" تدل على ما سبق من التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها، وأن هذا ما يسمى بدلالة الإيماء والتنبيه، فكانت النتيجة: مَن استحوذ عليه الشيطان أنساه، والنسيان هنا ليس بمعنى الذهول عن المعلوم كما تقول: نسيت الكتاب، وإنما بمعنى الترك، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] يعني: تركوا طاعته وتوحيده والإيمان به، فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ.

هنا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، هنا الذكر مصدر، ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول، فيكون المعنى: أنساهم ذكر الله يعني القرآن مثلاً، القرآن وما فيه من دلائل الإيمان والتوحيد والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ ونحو ذلك.

والمعنى الثاني هو المشهور فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ يعني: أن يذكروا الله -تبارك وتعالى، وهذا الذكر يشمل الذكر بالقلب والإيمان، وتعظيم الله ، ومراقبته، كما يشمل ذكر اللسان، فكما قال الله عنهم: وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، وكذلك يشمل ذكره بالجوارح، كما قال الله عنهم أيضاً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ [سورة النساء:142]، فجوارحهم معطلة من ذكره وطاعته، وألسنتهم معطلة من ذكره أيضاً، كما أن قلوبهم مظلمة، ليس فيها تعظيم ولا مراقبة ولا خوف، ولا رجاء، ولا توكل، ولا إنابة، لو كانوا يعرفون هذه المعاني ما صاروا من المنافقين أصلاً -نسأل الله العافية.

ولهذا فإن الله ذكر أهل الإيمان ووصفهم فقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35]، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [سورة الأحزاب:41]، أمرهم بهذا، فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103]، فهكذا يكون المؤمن.

أما المنافق فقلة الذكر بالقلب واللسان والجوارح من صفات المنافقين، وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، والمشكلة أن ذلك يورث قضايا متتابعة، يعني ينبني عليه أشياء، الجفاف، تصحر القلب، يعني قضايا تدور، هي صفة من صفات المنافقين يحصل من جراء ذلك جفاف وتصحر، فتموت الأوراق الخضراء أو الفروع الخضراء التي في القلب، فيتلاشى، فقد تراه في حال في ظاهره يدل على الاستقامة، ولكنك إذا عاشرته أو عاملته ترى حالاً أخرى تماماً، إذا نام فهو جيفة، لا يصلي ولا يقوم للصلاة، لا تسمع منه ذكر الله ، إذا عامل الناس بالأموال فالحلال ما حل باليد، وإذا حدثهم لم يصدقهم، وإذا وعدهم لم يفِ، وأحوال تنبئ عن بُعد وجفاف، هذه حال المنافق، فهنا: فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، على المؤمن أن يكون في حال مغايرة لهؤلاء المنافقين، وكيف يعيش الإنسان بلا ذكر، والقلب مع الذكر كالسمك في الماء، فإذا أخرج منه مات، فالنسيان هنا بمعنى الترك وليس بمعنى الذهول عن المعلوم.

وقوله: أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ هنا ما فسر الحزب، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، ومعنى حزب الشيطان: الحزب في الأصل في اللغة جماعة فيها غِلَظ، يعني ليس كل جماعة، مثلاً موسى ﷺ لما ذهب إلى مدين ووجد هناك على ماء مدين، وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23]، أمة: جماعة، فهؤلاء الجماعة من الرعاة لا يقال لهم حزب، إذ ليس كل جماعة يقال لها حزب، إنما الحزب جماعة فيها غِلَظ، يعني قوة وشدة، وهذا يحصل بسبب لحمة بينهم واجتماع مقصود على أمر من الأمور، هذا أصل الحزب في لغة العرب، وفي العرف المعاصر حينما يقال: حزب معناها أنه طائفة لها رأس وقاعدة، أي أتباع، رأس وأتباع، هذا يقال له حزب، هذا في العرف المعاصر.

فهؤلاء حزب الشيطان، فرئيس الحزب رسمياً هو إبليس، وهم على رتب في هذا الحزب، فبعضهم رتبه عالية، وبعضهم رتبه أدنى، وبعضهم قيادات، وبعضهم من الصحفيين، وبعضهم من المثقفين، وبعضهم لربما يتحول الشيطان إلى أنه جندي من جنده كما ذكر بعض أهل العلم، يعني صار من الأساتيذ في فنون الشيطنة، صار أستاذاً كبيراً، يعني أنه مدرب كبير في الصد عن سبيل الله وإضلال الناس، حتى صار الشيطان لربما من جملة تلامذته ومن جنوده، وهذا الحزب كما ذكر الله شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112].

فهذا الحزب مكون من كتلتين الجن والإنس، ونفس ما سبق وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وهنا أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ، ويأتي أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ يعني كأنه لا خاسر إلا هم، هؤلاء أصحاب الخسارة الكبرى، كما قال الله : قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [سورة الزمر:15]، هذه الخسارة الحقيقية لا الخسارة في تجارة ومال ونحو هذا.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ۝ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة:20-22].

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، يعني: الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ، أي: مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية.

أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة.

أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ يعني في جملة الأذلين، فإن المحادين لله ورسوله هكذا حكم الله عليهم، كل محادٍّ، وكما سبق أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فبقدر المحادة يكون للإنسان من الذل، فأهل المحادة الكاملة هم أذل الناس، أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام في تفسير سورة التوبة في قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:63]، من قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [سورة التوبة:61]، وما ذكر الله بعدها، ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الأذل أبلغ من الذليل، يعني يفرق يقارن بين الأذل والذليل، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [سورة آل عمران:112]، أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ، هذه أبلغ. 

يقول ابن القيم: إن الأذل أبلغ من الذليل، يقول: إنه لا يكون كذلك -يعني أذل- إلا إذا خاف على نفسه وماله، والمنافقون يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4]، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، في حال من الهلع والفزع، فيقول ابن القيم: لا يكون أذل إلا إذا كان يخاف على نفسه وماله؛ لأن من كان دمه وماله معصوماً لا يستباح فليس بأذل، يقول: يدل عليه قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ [سورة آل عمران:112]، هذا باعتبار أن الاستثناء من قبيل المتصل، وليس بمعنى بل.

الذين يقولون: إنه منقطع يقولون: إن الذل لا يفارقهم، يعني: ولكن بحبل من الله وحبل من الناس يأمنون على أنفسهم مثلاً، بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ العهد الذي يعطيه أهل الإيمان؛ لأن ذلك عن أمر الله وموافق لحكمه وشرعه، والحبل من الناس: الذي يعطيهم الكفار، إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ، يقول: فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة، إلا مع العهد، فعلم أن من معه عهد وحبل يأمن به على نفسه وماله لا ذلة عليه وإن كانت عليه المسكنة، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل سبحانه الحادين في الأذلين، فلا يكون لهم عهد، إذ العهد ينافي الذلة، كما دلت عليه الآية، وهذا ظاهر، فإن الأذل ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء، فإذا كان من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل، فثبت أن المحاد لله ورسوله لا يكون له عهد يعصمه، أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ.

كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل... عبارات السلف متقاربة، كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، بعضهم يقول: قضى، حكم، كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال الله: لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، عبارة ابن كثير هنا واضحة حكم وكتب في كتابه الأول، جمع بين بعض هذه الألفاظ التي ذكرها السلف.

أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ۝ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر:51، 52]، وقال هاهنا: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

قوله: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أن الغلبة له ولرسله، والمواضع التي ذكر الله فيها الغلبة من أهل العلم من حمل ذلك على الغلبة بالحجة والبيان، ومنهم من حمله على الغلبة بالسيف والسنان، وهؤلاء الذين حملوه على الحجة كأنهم نظروا إلى بعض المواضع أو بعض المقامات التي لم يحصل فيها نصر بالسيف، فيحيى -عليه الصلاة والسلام- قُتل، والله يقول: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ [سورة آل عمران:146] على هذه القراءة إذا وقفت هنا؛ لأن أنبياء كثيرين قتلوا، وعيسى ﷺ أراد اليهود قتله فرفعه الله ولم يحصل غلبة بالسيف وميدان المعركة.

فبعض أهل العلم قال: المقصود بالحجة والبيان، الحجة والبيان لا شك أنها داخلة في الغلبة، ولكن هذا الاستعمال كما يقول الشنقيطي -رحمه الله- في بعض المناسبات، هذا اللفظ –الغلبة- يأتي غالباً في القرآن مراداً به الغلبة في ميدان المعركة، مثل: وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74] يعني: ينتصر، وأيضاً فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ [سورة الأعراف:119].

وقوله -تبارك وتعالى: ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب، الشنقيطي -رحمه الله- تكلم على هذه الآية قال: إنه قابل القتل بالغلبة، فدل على أن المقتول مغلوب؛ لأن الذي يقابله غالب، يعني هذا مستند للذين يقولون: إن الغلبة بالحجة، قالوا: إن بعض الأنبياء قُتل، والمقتول مغلوب، فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]، وأجاب عن هذا.

وحاصل ذلك أن الغلبة قد لا تكون على يده هو، وإنما تكون باعتبار العاقبة، وأن العبرة ليست بنقص البدايات وإنما بكمال النهايات، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- دعوتهم واحدة، والظهور الذي وعد الله به المسيح -عليه الصلاة والسلام- ودينه وأتباعه، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14]، فإن هذا التأييد لعيسى -عليه الصلاة والسلام، وأتباعه من أهل التوحيد من النصارى كانوا مستضعفين مقهورين من قِبل اليهود، ثم بعد ذلك لما جاء قسطنطين وأظهر الدخول في النصرانية وأقر عقيدة التثليث صاروا يستضعفون أهل التوحيد وهم قلة، فأين كان هذا الظهور، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ؟ ببعث محمد ﷺ، هذا على الأقرب -والله أعلم.

وفيها قول آخر وهو الذي مال إليه ابن القيم -رحمه الله- من أن المراد لما كان لهم شائبة من اتباع المسيح كانوا أقرب إليه من اليهود وإن كانوا على انحراف، فصار النصارى ومن ينتسبون للمسيح قاهرين لليهود، وينادون عليهم في ممالكهم حيناً بعد حين بالقتل، كما هو معروف في التاريخ.

وهذا التعقيب: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ لأنه مقام غلبة، وهذا يؤيد أن تكون هذه الغلبة أيضاً في ميدان المعركة.

ثم قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي: لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] الآية.

وقال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة التوبة:24].

وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتَل أباه يوم بدر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة : "ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته".

وقيل في قوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ: نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر أَوْ أَبْنَاءَهُمْ في الصديق هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، أَوْ إِخْوَانَهُمْ في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضًا، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، فالله أعلم.

قلت: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله ﷺ المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم، وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليًا من عقيل، وتمكن فلانًا من فلان؟ ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين... القصة بكاملها.

قوله -تبارك وتعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مثل هذا الأسلوب يدل على التحريم، كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في بدائع الفوائد في صيغ الإيجاب، وصيغ التحريم، والصيغ الدالة على الإباحة، مثل هذا لا يكون لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ إلى آخره، فهنا وجه الارتباط بين هذه الآية وما قبلها: لما تجلى مما سبق وظهر جلياً أن حزب الله هم الغالبون، وهم الفائزون، وهم المفلحون، وأن من عداه كان خاسراً كان نتيجة ذلك التحذير من موالاة أعداء الله، وجاء ذلك في سياق النفي لَا تَجِدُ قَوْمًا مبالغة في النهي عنه.

يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يوادون الود والمودة هي أخذ من مطلق المحبة، يعني: محبة خاصة فيها ميل إلى هذا المحبوب، فيها إيثار له على غيره، فيها تقديم له على غيره، يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كما قال الله في سورة الممتحنة: تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة:1]، فالود خالص المحبة، هو من المحبة بمنزلة الرأفة من الرحمة، الرأفة رحمة رقيقة، والود خالص المحبة، وخالص المحبة هذا لا يعطى للكافرين.

لكن يبقى هل للكفار من مطلق المحبة من غير مودة؟ هل يسوغ هذا أو لا يسوغ؟ محبة وليست مودة، بعض أهل العلم يمنع من هذا مطلقاً، وقيل: إن المودة هي الموالاة وهي المحرمة، وأما مطلق المحبة -وليست المحبة المطلقة- فهذا لا إشكال فيه، باعتبار أن المحبة تكون طبيعية بين الأب والولد، المحبة العادية، المحبة الطبيعية، يعني الآن يجوز أن يتزوج الإنسان بالكتابية أليس كذلك؟ وهذه التي يتزوجها يحبها أو ما يحبها؟ نقول له: تزوْجها ولا تحبها، انتبه، ما يجوز، يمكن هذا؟!

لكن إن كان يؤثرها على غيرها، يطلعها على أسرار المسلمين، يؤثرها عليهم، يحب لها الظهور، والتقدم وما إلى ذلك، هذه مودة، هذا لا يجوز، هنا قال: وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ إلى آخره، فهنا ابتدأ بالآباء الأصول ثم هم سبب وجودهم، ثم الأبناء الذين هم امتداد لهم، وفرع عنهم، وهم أعلق بالقلب، محبة الآباء فيها شيء من الإجلال والتعظيم، محبة الأبناء شفقة، فهم يعلقون بالقلب، ثم ثلّثَ بالإخوان؛ لأنهم بمنزلة العضد والناصر، ثم بعد ذلك ربّعَ بالعشيرة؛ لأنه جرت العادة أنه يستغاث بهم ويستنصر بهم، ولاحظ هذا الترتيب بهذه الطريقة.

لكن في اليوم الآخر يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [سورة عبس:34، 35]، فذكر الأخ قبل الأب والأم في سورة عبس، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: إنه ذكر الأخ قبل الأم والأب بأي باعتبار؟ باعتبار أنه لو ذكر الأم والأب قبل "يوم يفر المرء من أخيه" عرف أنه سيفر من البقية، من الإخوان وأبناء العم والعشيرة من باب أولى، فهنا وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، لكن مثل هذه الملاحظ أو النكات البلاغية لماذا قدمّ هذا على هذا هي احتمالات، ولا يقطع بها، وإلا لو تأملتها من موضع لآخر لربما يطرأ بعض الإشكال على ما يذكر أو ما قد يذكر من التعليل والتوجيه، والله تعالى أعلم، هكذا يقول بعض أهل العلم، ما ظهر وجهه من هذا قُبل، وما لم يظهر لم يقبل.

العشيرة أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، العشيرة هم جماعة الرجل وأهله الذين يتكثر بهم، يعني كأنهم يصيرون بالنسبة إليه كالعدد الكامل، فالعشرة عدد كامل، فتقال العشيرة لكل قرابة الرجل الذين يتكثر بهم، وأصل هذه المادة تدل على معاشرة ومخالطة، فالقبيلة أوسع من العشيرة، القبيلة ما يخالطهم، لكن العشيرة أدنى وأقرب إليه من القبيلة، هم جزء من القبيلة، فهؤلاء الذين يحصل بينهم مخالطة ومعاشرة، يعاشر بعضهم بعضاً، يقال لهم ذلك، يعني عندنا التقسيم مثلاً: شعب وقبيلة وعمارة، العمائر، والبطن، الفخذ، وبعد ذلك تجيء العشيرة، فهي بهذا الترتيب، لمداخلة ومعاشرة، وقد تقال العشيرة لمن أمرهم واحد، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.

وقوله تعالى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي: من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي: كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته.

وقال السدي: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ جعل في قلوبهم الإيمان.

هنا أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ لما كان لا يَحمل على هذا أي مقاطعة الأهل والعشيرة والقرابات والأب والأم إلى آخره لله وفي الله إذا كانوا على غير دينه، لا يحمل على هذا إلا الإيمان الثابت القوي، قال: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ، بعضهم يقول: أثبت الإيمان في قلوبهم ، وبعضهم يقول: جعله، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:53] يعني: اجعلنا، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأعراف:159] يعني: سأجعلها مثلاً، وبعضهم يقول: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [سورة المجادلة:22] يعني: جمع في قلوبهم الإيمان باعتبار أن أصل مادة "كتب" تدل على جمع، أنهم كتيبة في الجيش، مجموعة من الجند ينضم بعضهم إلى بعض، والكُتبَة التي يربط بها في السقاء، يعني رأس القربة يقال لها: كُتبَة.

مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ كَأَنَّهُ مِنَ كُلى مَفْرِيَّة سَرِبُ

يعني الآن لأنها تضم أطراف السقاء، ولهذا يقال في الخياطين لغز:

وكاتِبينَ وما خطّتْ أنامِلُهُمْ حرْفاً ولا قرَءوا ما خُطّ في الكُتُبِ

يعني مَن هم؟

يعني الخياطين يجمعون أطراف الثوب يخيطونه، وهم ما يعرفون القراءة والكتابة مثلاً، من هو الكاتب الذي ما يعرف يقرأ ولا يكتب وما خط حرفاً ويقال له كاتب؟ الخياط، فبعضهم يقول: ضَمّ، كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ جمعه في قلوبهم، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- فسرها بآية الحجرات وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [سورة الحجرات:7]، كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ يعني: حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.

وقال ابن عباس: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي: قواهم.

وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قواهم بروح منه، وبعضهم فسره بالنصر كما يقول الحسن البصري، وبعضهم قال بالقرآن وحجج القرآن كما يقول الربيع بن أنس، وبعضهم يقول: بنور وإيمان وبرهان وهدى كما يقول ابن جرير، وبعضهم يقول: برحمة، وبعضهم يقول: بِرُوحٍ مِنْهُ الذي هو جبريل، هو روح الله، روح القدس، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قواهم بنصره وتأييده وأنزل عليهم ألطافه مما يحصل به الثبات واليقين، فربط على قلوبهم وثبت إيمانهم.

وقوله تعالى: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.

إي نعم، يعني وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ لما أخبر ما لهم في الدنيا كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ هذا في الدنيا، ذكر ما لهم في الآخرة: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ، وذكر الخلود، خَالِدِينَ فِيهَا، فلما كان النعيم لا يكتمل إلا بالبقاء الدائم بحيث إنه لا يفارقه كان ذلك مذكوراً هنا خَالِدِينَ فِيهَا؛ لأن الإنسان إذا تذكر أنه يفارق النعيم تبددت سعادته وراحته، ولم يهنأ بهذا النعيم، فهذا ينغص على أهل النعيم نعيمهم، كما قال الشاعر:

لا أرى الموتَ يَسبقُ الموتَ شيءٌ نغّص الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

فإذا تذكر الغني وهو يعيش في القصور والنعيم والملاذ أنه سيفارقه وأن الموت سيأتي تنغص، وإذا كان الناس يهنئون بالاجتماع، اجتماع شمل الأسرة من كل مكان جاءوا فاجتمعوا، فإذا تذكروا اللحظة التي سيفارقون فيها ويتفرقون، ويذهب هذا ويسافر هذا يحزنون، وتذهب وتتبدد هذه السعادة والراحة واللذة، ولهذا كان بعض الشعراء يذكر أنه يحب أيام الفراق علّ الله أن يأذن بعدها بالاجتماع وبالتلاقي، ويكره أيام الاجتماع واللقاء لما يعقبها من الافتراق، فهنا الخلود، ولما كان هذا لا يكتمل إلا بالرضا قال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.

فهذا النعيم لا يكتمل لهم حقيقة إلا برضا مالكها، الإنسان قد يقيم في أحسن الأماكن، وأعظم النعيم، ولكن إذا لم يكن ذلك برضا واضح من مالكها يبقى قلقاً، الآن لو أن الإنسان ذهب وجلس في مكان، جلس في استراحة، في شاليه، في كذا، ولم يؤذن له فيه، وجد الباب مفتوحاً ودخل، فارغة، خاوية، ودخل فيها، يجلس وهو قلق أو يجلس وهو قرير العين؟ قلق، يشعر أنه كل لحظة سيأتيه من يقول له: هذا المكان ليس لك، ولو أنه دخل في مزرعة وفرش البسط وجلس ووضع المراكي، والمزرعة ليست له، وجد الباب مفتوحاً ودخل ورأى هذا الخَضار، وهذه الأماكن الجميلة وجلس فيها في يوم غائم، يجلس قلقاً؛ لأن هذا المكان ليس له إذن فيه، ولا رضا من مالكه، فيقلق، فهنا كذلك، ثم أيضاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، لاحظ كلام ابن كثير قال: فيه سر بديع.

وفي قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.

إبراهيم ﷺ لما هجر قومه وما يعبدون من دون الله، لما هجر الأهل والوطن والعشيرة عوضه الله بالذرية الطيبة الصالحة الذين ينسونه ما ترك لله من أهل ووطن وعشيرة، وهذا له نظائر، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في القواعد الحسان عقد بهذا العنوان ترجمة: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وذكر شواهد من هذا القرآن، يحسن مراجعته، هو معنى لطيف جيد.

وقوله تعالى: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: هؤلاء حزبُ الله، أي: عباد الله وأهل كرامته.

وقوله تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم في الدنيا والآخرة، في مقابلة ما أخبر عن أولائك بأنهم حزب الشيطان، ثم قال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

آخر تفسير سورة المجادلة، ولله الحمد والمنة.

والفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ أولئك خاسرون، وهؤلاء مفلحون، ونفس التركيب أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، جاء بـ"هم" وأدخل "ال" يعني كأنه لا مفلح إلا هم، أو أن هؤلاء حصّلوا الوصف الكامل، هم المستحقون للفلاح الحقيقي الكامل وهم حزب الله تعالى، وهم أهل طاعته والإيمان به.

  1. رواه مسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2784).
  2. رواه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم (5684)، ومسلم، كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم (2217).
  3. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859)، والترمذي واللفظ له، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في شأن الحشر، برقم (2423).
  4. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة، برقم (547)، والنسائي، كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم (847)، والإمام أحمد في المسند، برقم (27514)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل السائب بن حبيش"، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1486)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5701).

مواد ذات صلة