بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
قوله تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الجاثية:24-26].
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [سورة الجاثية:24] أي: ما ثَمّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثَم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ست وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهي، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ [سورة الجاثية:24] أي: يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره[1] وفي رواية: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر[2].
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله -عليه الصلاة والسلام: لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنهم إنما سبوا الله ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نُهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم، وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذاً من هذا الحديث.
قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [سورة الجاثية: 24]، المقصود بذلك: هو أن هؤلاء ينكرون البعث، بصرف النظر عن تنزيل هذه الألفاظ، وذلك أن قولهم: نَمُوتُ {وَنَحْيَا، فذكر الموت أولاً، ثم ذكر الحياة بعده، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: نَمُوتُ أي: نحن، ويحيا آخرون، يعني: هكذا دواليك، حياة لا تنقضي، كما يقول بعضهم: أرحام تَدفع وأرض تَبلع، يعني: أن ذلك من غير تقدير العزيز العليم.
وأما قوله: وَنَحْيَا يعني: ويحيا أبناؤنا، باعتبار أنهم أضافوا الحياة إليهم، فابن جرير لاحظ هذه النسبة والإضافة، فقال: لما كان الأولاد منهم، وهم امتداد لهم، والعرب تقول: لم يمت من خلف مثل فلان.
يعني الرجل إذا خلف ولداً صالحاً فإن الناس يقولون: ما مات من خلف مثل هذا، يعني: أن الأولاد هم امتداد للآباء.
فقوله: نَمُوتُ وَنَحْيَا، يقول ابن كثير: نَمُوتُ نحن، ويحيا آخرون، وابن جرير يفسرها بمعنىً أخص نموت نحن ويحيا أبناؤنا، فحياة الأبناء حياة لهم.
وذكر احتمالاً آخر وهو مبني على قاعدة عند العرب في وجوه مخاطباتها، وذلك في الواو حينما تذكر العرب شيئين وتقرن بينهما بالواو، وتريد الإخبار عن الوقوع دون اعتبار في هذا الإخبار للمتقدم والمتأخر؛ لأن الواو لمطلق الجمع، وليست للترتيب.
فيقول: إن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا الإخبار عن وقوع شيئين من غير اعتبار للترتيب بينهما فإنهم يذكرون الآخِر منهما أولاً، والتقدير: نحيا ونموت.
وهناك قاعدة أخرى وهي: أن الأصل في الكلام الترتيب، يعني: مهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح من غير دعوى التقديم والتأخير فالأصل أنه على وجهه كما هو، لا يُدّعى فيه التقديم والتأخير، فالآن تَقابل قاعدتان، على قول ابن كثير وقريب منه قول ابن جرير الذي قبله الذي ذكره على أنه هو الاختيار يكون الكلام لا تقديم فيه ولا تأخير، وعلى القول الآخر الذي ذكره ابن جرير احتمالاً يكون فيه تقديم وتأخير، ويكون التقدير: نحيا ونموت.
ويبقى أن المعنى الأول هو الأصل، نَمُوتُ وَنَحْيَا، وأن نسبته إليهم باعتبار المجموع، ولا يلزم من ذلك أن يضيق المعنى فيقال: نموت ويحيا أولادنا، فلا يلزم أن يكون ذلك حياة لهم، والله تعالى أعلم.
ثم ما ذكره من طوائف الدهرية، وهم الذين يقولون: إن هذه الحياة أبدية سرمدية، لكنهم يختلفون في مذاهبهم وما يدخل تحت ذلك من التفاصيل، فهنا يقول: وتقوله الفلاسفةالإلهيون منهم، أي إن الحياة لا مبدأ لها ولا منتهى، أجيال تتعاقب منذ الأزل، ليس لها ابتداء ولا انتهاء، وأما طائفة الدهرية الدورية الذين يقولون: إن الدورة تكون ستاً وثلاثين ألف سنة، هذه دورة للحياة، ثم تبدأ دورة ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة، لكنهم يتفقون جميعاً على أنه لا معاد ولا انتهاء لهذه الحياة.
أما الحديث: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر فهو مفسر في نفس الحديث بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره، فهذا معنى أن الله -تبارك وتعالى- هو الدهر، وليس ذلك من أسمائه الحسنى، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، أن الدهر ليس من أسماء الله، وأن الحديث مفسر بآخره، ولكن لما كان الله هو الذي يجري هذه الوقائع والحوادث في الدهر كان سب الدهر عائداً إليه .
ومعنى الأذى معروف، وقد ذكرت في بعض المناسبات أنه يفرق بين الأذى والضرر، فالأذى يصل إلى الله ومنه قوله – تبارك وتعالى : إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني[3]، فالله أعظم شأناً من أن يُلحق المخلوق به ضرراً، والله يقول: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [سورة آل عمران:111]، باعتبار أن الاستثناء منقطع في الآية كما سبق، يعني: أن الأذى ليس من جملة الضرر، إنما هو كلام تسمعونه تكرهونه، تكذيب وكفر ورمي بأمور قبيحة ونحو ذلك، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [سورة الجاثية:25] أي: إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الجاثية:25] أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً.
قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ [سورة الجاثية:26] أي: كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود، كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة البقرة:28] أي: الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27]، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ [سورة الجاثية:26] أي: إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الجاثية:25]، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [سورة التغابن:9]، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [سورة المرسلات:12، 13]، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ [سورة هود:104].
وقال هاهنا: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة الجاثية:26] أي: لا شك فيه، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الجاثية:26] أي: فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج:6، 7] أي: يرون وقوعه بعيداً، والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:27-29].
قال: يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، الحاكم فيهما في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي: يوم القيامة يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
ثم قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً أي: على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، حتى إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام، ويقول: نفسي، نفسي، نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي، وحتى إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- ليقول: لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك مريم التي ولدتني.
قوله -تبارك وتعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً يقول: أي: على ركبها من الشدة والعظمة، يعني: في ذلك اليوم، الجاثي: هو المُستوفِز، وهو الذي لا يصيب الأرضَ منه إلا الركب وأطراف الأصابع ، فهذا هو المراد، وهذا هو المشهور، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم.
الجمهور فسروا الآية بهذا، يعني: من شدة الهول، وإن قال بعضهم خلاف ذلك، كقول الفراء: إن المراد مجتمعة، يعني: كل أمة تجتمع وحدها، وهكذا قول من قال -وهو قريب من هذا: يعني تتميز عن غيرها، كما يقوله عكرمة وهو بمعنى مجتمعة، يعني: كل أمة تحشر وحدها، وهكذا قول من قال: إن المراد كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً أي: كل أمة خاضعة، ففسر الجُثُوّ بأمر معنوي، والأصل أنه أمر حسي، هي صيغة وصورة وصفة لهيئة معينة يجلسها الإنسان، فإنما يجلس هذه الجلسة عادة من كان خاضعاً، جثا على ركبتيه يعني: إنسان وصل إلى حال من الإحباط، أو الاستسلام، فألقى سلاحه ونزل على ركبتيه، بمعنى: أنه خضع، لا حراك به، لا دفع.
قال: وقوله : كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا [سورة الجاثية:28]، يعني: كتاب أعمالها، كقوله : وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [سورة الزمر:69]؛ ولهذا قال : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:28]، أي: تجازون بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله : يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة:13 -15].
ولهذا قال -جلت عظمته: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [سورة الجاثية:29]، أي: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص، كقوله : وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف:49].
قوله -تبارك وتعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا [سورة الجاثية:28]، قد مضى الكلام على قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [سورة الإسراء:71]، فبعض المفسرين يقول: إن المراد بالإمام هو الكتاب، وقيل غير ذلك كما مضى.
لكن في قوله –تبارك وتعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، يوجد في الآية قرينة تدل على أن المراد بالكتاب كتاب الأعمال؛ لأنه قال بعده: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية: 29]، فالكتاب الذي ينطق عليهم بالحق هو كتاب الأعمال، وآية الكهف تفسر هذا، قال –تبارك وتعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف: 49]، فهذا هو المراد، والله تعالى أعلم.
قال: وقوله : إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:29] أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكةُ الذين في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، ثم قرأ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
هذه قرينة على أن المراد بالكتاب هو كتاب الأعمال، خلافاً لمن قال: إنه القرآن، وقد تحتمل الآية معنيين فأكثر، ويوجد في الآية قرينة ترجح أحد هذه المعاني، كما في هذا المثال.
قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:29]، ذكر هنا المعنى الأول وهو: كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم، فالمقصود به كتابة الملائكة لأعمال بني آدم بعد وقوعها.
ثم ذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكةُ الذين في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفا".
هذا القول المأثور عن ابن عباس -رضي الله عنهما- جمع فيه بين قولين، القول الأول: أن المراد بقوله: نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: الملائكة تكتب أعمال العباد.
المعنى الثاني: أن الملائكة تنقل من اللوح المحفوظ ما يتصل بأعمال العباد، يُنسخ ذلك من اللوح المحفوظ، ثم يقابل بما دُوِّنَ عليهم مما صدر عنهم، فيوجد متطابقاً.
وهذا القول الأخير هو الذي عزاه الواحدي لأكثر المفسرين، يُطابَق على ما ينقل من اللوح المحفوظ فيوجد كما هو بلا زيادة ولا نقصان، يعني أن الملائكة ينسخون من اللوح فيُقابَل على ما كُتب من أعمالهم التي صدرت بعد وقوعها منهم، فيوجد متطابقاً، هذا الذي عليه عامة المفسرين.
وبعضهم يقول: إن المراد أن الملائكة كل يوم تكتب كل ما يصدر عن ابن آدم من الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الجزاء، والتي لا يترتب عليها الجزاء، فتصعد بها، ثم بعد ذلك يمحى ما لا يترتب عليه الجزاء، ويبقى الذي يتصل بالثواب والعقاب، فينسخون من هذا الكتاب الذي كتب فيه كل شيء، ينسخون منه الحسنات والسيئات، فهذا معنى نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، يعني: الديوان يكتب فيه كل الأعمال.
وهذا مروي عن ابن عباس في كتابة كل شيء كما مضى، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، فابن عباس يقول: الملك يكتب كل شيء، أخذاً من العموم في قوله: "ما" فسواء قال: أكلت، أو شربت، ذهبت، مما لا يترتب عليه جزاء، أو غيره، ثم بعد ذلك يبقى ما يترتب عليه الجزاء ويمحى ما عداه، فهؤلاء أصحاب القول الأخير يقولون: معنى نَسْتَنسِخُ يعني: يُترك ما لا يترتب عليه الجزاء، ويُنسخ منه ما يترتب عليه الثواب والعقاب.
ابن القيم -رحمه الله- جمع بين المعنيين الأولين، قال: إن ذلك يكون بكتابة أعمال العباد، ويكون أيضاً بالنسخ من اللوح المحفوظ فيما يتصل بأعمالهم، والله تعالى أعلم.
قال: قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الجاثية:30-37].
قال -رحمه الله: يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة، فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، وهي الخالصة الموافقة للشرع، أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء[4].
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي: البين الواضح.
ثم قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخاً: أمَا قُرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عند سماعها، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ في أفعالكم، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا أي: إذا قال لكم المؤمنون ذلك، قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي: لا نعرفها، إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنّاً أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهماً، أي مرجوحاً؛ ولهذا قال: وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي: بمتحققين، قال الله تعالىوَحَاقَ بِهِمْ أي: أحاط بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: من العذاب والنكال، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ أي: نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أي: فلم تعملوا له؛ لأنكم لم تصدقوا به، وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أفظننت أنك مُلاقِيّ؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني[5].
مضى الكلام على نظائر هذه الجمل، وأن قوله -تبارك وتعالى:وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [سورة الزمر:47]، وقوله -تبارك وتعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا [سورة الجاثية:34]، مضى الكلام على النسيان في مثل هذا، وأن المقصود به الترك في قوله -تبارك وتعالى- في أواخر سورة الحشر: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19]، يعني: تركوا الإيمان والعمل بطاعته، فأنساهم أنفسهم بمعنى: أنهم تركوا العمل بما ينفعهم، واشتغلوا بما يضرهم.
والنسيان يأتي لمعنيين: بمعنى الذهول عن المعلوم، تقول: نسيت الآية، نسيت المسألة، وكنتَ قد حفظتَها، وكذلك يقال لمعنى آخر وهو الترك، وهو المراد فيما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- دائماً.
مضى الكلام على الاستعتاب، حينما يمكن الإنسان من الاعتذار يسأل عن العذر، من أجل أن يعتذر، فيقبل ذلك منه، هذا استعتاب، فهذا غير وارد في حق هؤلاء.
ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين قال: رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثم قال -جل وعلا: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ [سورة الجاثية:37] قال مجاهد: يعني السلطان، أي: هو العظيم الممجد، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه، وقد ورد في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري[6]. ورواه مسلم.
الكبرياء هنا فسره بالسلطان، وفسره جماعة من السلف بمعانٍ مقاربة، وليس ذلك بالمعنى المطابق، فإن الكبرياء إنما يكون لمن كان له السلطان الكامل، وكان له العظمة الكاملة من كل وجه، وكان له الكمال في جميع الصفات، الكمال في الذات، وفي الصفات والأفعال، فهذا الذي يكون له الكبرياء، ولهذا كان الكبر لا يصلح للمخلوق؛ لأن المخلوق ناقص، وضعيف، وعاجز، لا يصلح له الكبر، فالكبر صفة كمال بالنسبة لله ، وهو بالنسبة للمخلوقين نقص وشين، فالكبرياء هو بمعنى التعالي والترفع.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الجاثية:37] يعني: أنه الموصوف بذلك في السماوات وفي الأرض، كما مضى في قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [سورة الزخرف:84]، وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:3].
قال: وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: الذي لا يغالب ولا يمانع، الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، لا إله إلا هو.
آخر تفسير سورة الجاثية، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وما يهلكنا إلا الدهر، (6/ 133)، رقم: (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (4/ 1762)، رقم: (2246).
- أخرجه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (4/ 1763)، رقم: (2246).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1994)، رقم (2577).
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2186)، رقم (2846).
- أخرجه ابن حبان، كتاب السير، باب فضل النفقة في سبيل الله (10/ 499)، رقم: (4642).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر (4/ 2023)، رقم: (2620).