السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
سورة الملك كاملة
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 9885
مرات الإستماع: 12322

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[1].

ورواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".

وقد روى الطبراني، والحافظ الضياء المقدسي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[2].

قال تعالى: 

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ۝ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ۝ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [سورة الملك:1-5].

يمجد تعالى نفسه الكريمة ويخبر أنه بيده الملك أي: هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 فهذه السورة -سورة الملك- من السور النازلة بمكة واشتهرت بهذا الاسم، وأيضا تسمى سورة تبارك، وسماها بعضهم بالواقية، والمنجية، والمانعة، هذه الأسماء الثلاثة هي أوصاف أخذت من بعض الروايات الواردة في السورة، سواء كانت هذه الروايات صحيحة أو غير ذلك، لكنها بالصفات أشبه.

 وقوله -تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تبارك: كما مضى في بعض المناسبات تفاعل من البركة، وعرفنا أن البركة تأتي بمعني: النماء، والزيادة، وتأتي بكثرة الخير، ودوامه، وهذه تكررت في القرآن نحو تسع مرات، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم عن هذا المعني، وابن جرير -رحمه الله- يقول: تبارك يعني: تعاظم وتعالى.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في قولة تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ: "البركة نوعان:

أحدهما: بركةٌ هي فعله سبحانه، والفعل فيها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على"، وبأداة "في" تارة، والمفعول منها مبارَك.

والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها: تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له ، فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [سورة مريم:31] فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك، وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلق على نفسه بقوله: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54] ومن هنا قيل معناه: تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس، والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي: باسمه يبارك في كل شيء، وحقيقة اللفظة أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلًا منه -تبارك وتعالى"[3].

يعني يقال: بارك الله، هذا الفعل للتعدية، بارك المتعدية، حينما يكون ذلك في المخلوق يقال: بارك الله فيه وله وعليه، ونحو ذلك.

 أما تبارك فهذا يختص بالله ، عظمتْ بركته، عظمت خيراته وكثرت، وما إلى ذلك، هذا هو المراد، ولهذا لا يقال للمخلوق: تباركتَ، أو تباركتَ علينا، أو نحو ذلك مما قد يقوله بعضهم: تباركتَ علينا يا فلان، هذا لا يصح، وأما ما قد يقال من إضافة البركة إلى مجيء فلان أو نحو ذلك كأن يقال: حلت البركة بمجيئك، أو نحو ذلك فمثل هذا لا يخلو من تزكية، وإخبار عما لا علم للقائل به، وأن البركة من الله -تبارك وتعالى، وهو لا يعلم أن هذا المجيء هو بركة، مع أنه قد يكون كذلك في واقع الأمر.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا قال بعض السلف يعني: معلمًا للخير، وهذا من معاني البركة، فقد يكون مجيء بعض الذوات -بعض الأشخاص- سببًا لتعلم الخير، وتفقيه الناس في دينهم، أو نحو ذلك، فيكثر الخير في البلد أو في تلك الناحية، فيكون ذلك سببًا للبركة.

فيقال: مجيء فلان بركة أو نحو هذا، وقد تكون أيضًا مقاربة بعض الذوات التي جعل الله فيها بركة سببًا لكثير من الخير، فقد يتزوج رجل امرأة وتكثّر ماله وولده وتلائمهم، ونحو ذلك، فتكون سببًا لبركات على هذا الإنسان، هذا قد يحصل، لكن استعمال الناس بتوسع لهذه الفظة إذا زارهم أحد، وكذا: حلت البركة وجاءتنا البركة، هذه -كما ترون- تزكية، وإخبار عما لا علم للإنسان به.

ثم قال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ واستدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم، ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة:28] فسمى الحال الأول -وهو العدم- موتًا، وسمى هذه النشأة حياة، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة البقرة:28].

قال: فسمى الحال الأول: وهو العدم موتًا يعني: هنا أيضا هذه الجملة هي متضمنة لمعنى وجواب على سؤال مقدر، وهو ما وجه تقديم الموت على الحياة؟ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قد يقول قائل: إن المتبادر أن الموت يكون بعد الحياة فلماذا لم يقل مثلا: هو الذي خلق الحياة والموت؟ لماذا قدم الموت على الحياة؟ كلام الحافظ ابن كثير هنا: فسمى الحال الأول -وهو العدم- موتًا يعني: حينما كان الإنسان في عالم العدم هذا موت، هذا على أحد الأقوال.

وكذلك أيضا يقرب منه قول من قال: إنه حينما كان في عالم النطفة، أو نحو ذلك قبل نفخ الروح كان كذلك، يعني: أنه من الموتى، أنه كان ميتًا، والعرب تطلق ذلك -يعني الموت- على ما خلا عن الروح، فلا يقال: إن الحيوان المنوي يبقى نشطًا وحيًّا إلى آخره، يلقح البويضة.

ثم بعد ذلك هذا كله عندهم لا يعطي حكم الحياة الشرعية، الحياة شرعًا تكون بنفخ الروح، فما قبل الحياة من مضغة ونحو هذا يقال له: مضغة ميتة، نطفة ميتة، ونحو ذلك، فهذا كله موت قبل الحياة، فبعض أهل العلم يجيب بهذا الجواب: إنه قدم الموت على الحياة بهذا الاعتبار.

قريب من هذا قول من قال: إنه باعتبار أن الأصل عدم الحياة، وأن الحياة عارضة وطارئة، يعني: إذا نُفخ فيه الروح صار حيًّا، قبل ذلك ليس بهذه المثابة، وبعضهم يقول: قدّمه باعتبار أن الموت أقرب إلى القهر، وهنا يبين دلائل القدرة، وهذه السورة مشتملة على دلائل القدرة، وإحاطة الله -تبارك وتعالى- بالخلق، وما يكون لهم من الجزاء المُحسن منهم والمسيء.

آيات السورة تدور حول هذا المعني، وبعضهم كمقاتل يقول: إن خلْق الموت يعني: النطفة، والعلقة، والمضغة، خَلَقَ الْمَوْتَ، وهذا قريب مما ذكرت أيضًا، فذلك عندهم بحكم الموت خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، فكل هؤلاء عدا القول قبل الأخير الذي يقول: إن ذلك أقرب إلى القهر ما عدا ذلك هم يقولون: قدم الموت باعتبار أنه هو حال الإنسان قبل نفخ الروح، فتكون الروح طارئة بعد ذلك فينفخ في هذا المخلوق بهذا الجسد، تنفخ فيه الروح فتكون الحياة، خلق الموت والحياة بهذا الاعتبار، فيكون ذلك جوابًا لهذا السؤال في وجه التقديم خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: خيرٌ عملا كما قال محمد بن عجلان، ولم يقل أكثر عملا.

يعني خلقكم خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم فإن الابتلاء هو الاختبار "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" يعني: أن الله -تبارك وتعالى- خلق الموت والحياة من أجل أن يختبر الخلق كيف يعملون، فإذا أوجدهم ونُفخت فيهم الأرواح وصاروا إلى حال من التمييز والإدراك بعد ذلك يتجرون برءوس الأموال هذه التي هي الأنفاس -الأعمار- فيبتليهم الله أيهم أحسن عملا، فيتفاضلون في ذلك ويتفاوتون غاية التفاوت، سواء منهم من يعمل الطاعات بإقباله على ربه وجده في العمل الصالح، أو فيما يقابل ذلك ممن يجد ويجتهد في المنكرات، والذنوب، والمعاصي، والكفر.

 فالله خلق الموت والحياة يعني: أوجدهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وهذا كقوله -تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56]، فإن إحسان العمل كل ذلك يرجع إلى عبادته -تبارك وتعالى، ولكنه في هذا الآية ذكر ما هو أخص من ذلك.

ذكر "الأحسن" أفعل تفضيل فالعبرة بإحسان العمل، وليس بكثرته، ليس بكثرته سواء كان ذلك بما يتقرب به الناس من أعمال العبادات القاصرة، أو من العبادات المتعدية، وهذا يدخل فيه أشياء وصور كثيرة جدًّا، يدخل فيه ما يتعلق بالإنتاج العلمي، والتأليف، وما إلى ذلك.

ليس العبرة بكثرة الكتب، وكثرة المؤلفات، وكثرة الدروس، أو المحاضرات، أو البرامج التي يقوم عليها الإنسان، وإنما العبرة بالإتقان، وإحسان العمل، وإرادة ما عند الله -تبارك وتعالى، وأن يأتي بذلك على الوجه الصحيح، وهكذا في عبادته، ليست العبرة بكثرة صلاته، وسجوده، ونحو ذلك، وإنما العبرة بما يكون مع ذلك من استحضار النية، والخشوع، والإتيان بالعمل على الوجه المشروع، ليست العبرة بكثرة الحج، وكثرة العمرة، وكثرة الجهاد، وإما ينظر إلى تصحيح الأعمال، والنيات، والإتيان بذلك على وجه يرضاه الله .

ثم قال تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي: هو العزيز العظيم المنيع الجناب، وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب بعدما عصاه وخالف أمره، وإن كان تعالى عزيزًا هو مع ذلك يغفر، ويرحم، ويصفح، ويتجاوز.

يعني: الجمع بين هذين الاسمين: العزة، والمغفرة يفيد معنى إضافيًّا، وهو أنه مع عزته كثير الغفر، فإنه قد يفهم من ذكر العزة القهر، وما إلى ذلك من الأخذ بالعقوبة؛ لأنه عزيز فإذ ذكر معه "الغفور" عُرف أنه قد اتصف بهذا وهذا، فهو غفور مع عزته، كما أنه عزيز مع اتصافه بكثرة الغفر، الغفور قد يكون مع عزة، وقد لا يكون بالنسبة للمخلوقين، فقد يكون ذلك ضعفًا عن المؤاخذة، لكن حينما يكون ذلك في صفة الله فهو عزيز ومع هذه العزة غفور يعني: أنه حينما يغفر لا يكون ذلك عن عجز عن المؤاخذة، وبهذا الجمع بين هذين الاسمين يحصل الكمال الثالث من مجموعهما وأنه -تبارك وتعالى- لا يقنط العبد من رحمته ولا ييأس من فضله، وإن تعاظمت ذنوبه، ومع عزته فهو كثير الغفر.

ثم قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا أي: طبقة بعد طبقة، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض، أو متفاصلات بينهن خلاء؟ فيه قولان، أصحهما الثاني، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.

هذا بالنسبة للسموات هذا ظاهر، كل سماء لها عمّار، وقوله -تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا طبقة بعد طبقة، وعبارات المفسرين في هذا متقاربة كقول ابن جرير: طبقًا فوق طبق يعني: متطابقة يعني: أن بعضها فوق بعض.

وقوله تعالى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ أي: بل هو مصطَحب مستوٍ، ليس فيه اختلاف، ولا تنافر، ولا مخالفة، ولا نقص، ولا عيب، ولا خلل؛ ولهذا قال تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أي: انظر إلى السماء فتأملها، هل ترى فيها عيبًا، أو نقصًا، أو خللا، أو فطورا؟

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والثوري، وغيرهم في قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أي: شقوق.

وقال السدي: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أي: من خروق، وقال ابن عباس في رواية: مِنْ فُطُورٍ أي: من وُهِيّ، وقال قتادة: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أي: هل ترى خللا يا ابن آدم؟

كل هذا بمعنى متقارب يرجع إلى شيء واحد هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ.

وقوله: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ هذه قراءة الجمهور، وفي قراءة حمزة والكسائي مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَوُّت، تفوّت وتفاوت بمعنى واحد، هما لغتان.

وقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ قال قتادة: مرتين.

هنا "ثم ارجع البصر كرتين"، قال قتادة: مرتين هل المقصود أنه ينظر المرة الأولى ثم الثانية؟ أو المقصود التثكير؟ المقصود التكثير، والعرب تعبر بمثل هذا وتريد به الكثرة، يعني: انظر مرة بعد مرة، وقد مضى في بعض المناسبات نظائر لهذا، تذكرون شيئًا من هذا؟ لبيك وسعديك، لبيك اللهم لبيك أيضا، وهذا الذي يأتي بمعنى: التثنية لبيك يعني: إجابة لك بعد إجابة مثلًا على أحد التفسيرات، ليس المقصود أن الإجابة محصورة بمرتين، وذكرنا هناك من شواهده، ونظائره ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ هذا يدل على التكثير يعنى: كرة بعد كره، يعني كرات هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ؟ ليكون ذلك أدعى لمزيد من النظر والتأمل.

فإنك مهما نظرت فإنك لن تجد خللًا في بناء هذه السماء على سعتها، وقيامها هكذا من دون أعمدة، وعبر هذه المدة الطويلة جدًّا، أما بناء الإنسان فمهما كانت قوته فإنه ما يلبث حتى يتفطر، ويتشقق ثم يئول إلى السقوط، ثم بعد ذلك يتهاوى، أين الأبنية عبر القرون؟ تذهب.

إذا سألت أهل الاختصاص عن الأبنية على قوتها، وحداثتها وما استحدث من المواد التي تركب منها، يقول أحسنهم حالًا: إن العمر الافتراضي لها لا يتجاوز ثلاثمائة سنة، قد يزيد بحسب المواصفات، لكن إلى متى؟ أما هذه السماء فمنذ متى خلقها الله وهي على حالها؟

يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا قال ابن عباس: ذليلا، وقال مجاهد، وقتادة: صاغرًا.

يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وذليلًا وصاغرًا كل ذلك بمعنى متقارب، يرجع إلى شيء واحد؛ ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: أي: صاغرًا مبعدًا، باعتبار أن لفظ الخاسئ وهذه المادة الخاء، والسين، والهمزة تدل على إبعاد أيضًا، ولهذا يقول الشاعر وهو ينسب للشافعي -رحمه الله:

أمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وهْي صَامِتةٌ والْكَلْبُ يُخْسَى لَعَمْري وهْوَ نَبّاحُ

 يُخسى فسر بأنه يطرد ويبعد، وفيها معنى الطرد والإبعاد، هذا بالإضافة إلى الصغار.

وَهُوَ حَسِيرٌ قال ابن عباس: يعني: وهو كليل، وقال مجاهد، وقتادة، والسدي: الحسير: المنقطع من الإعياء.

كل هذا يرجع إلى شيء واحد، يعني: أصل هذه المادة قد مضى الكلام عليه وهو الانقطاع، ولهذا يقال: حسرت الدابة يعني: انقطعت من طول السير والكلالة فيه، يعني: من طول السفر، وذكرنا شواهد من هذا كقول الشاعر يصف فلاةً:

بها جِيفُ الحَسرى فأما عظامُها فبيضٌ وأمّا جلدُها فصليبُ

جيف الحسرى يعني: الإبل الرواحل التي انقطعت مع طول السفر فكلت، وحرنت، وخلأت، ثم بعد ذلك تركها أصحابها حتى هلكت، وماتت بهذه الصحراء، فتفسخت أبعاضها وأجسامها فصارت عظامها تلوح، وجلدها جافًّا يابسًا.

بها جِيفُ الحَسرى فأما عظامُها فبيضٌ وأمّا جلدُها فصليبُ

فهنا الحسير قال: الكليل، وكذلك المنقطع من الإعياء كل هذا بمعنى واحد، يقال: دابة حسرت يعني: انقطعت، كلّت من الإعياء.

ومعنى الآية: إنك لو كررت البصر، مهما كررت، لانقلب إليك، أي: لرجع إليك البصر، خَاسِئًا عن أن يرى عيبًا أو خللا، وَهُوَ حَسِيرٌ أي: كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا.

ولما نفى عنها في خلقها النقص بيّن كمالها وزينتها فقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.

وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ عاد الضمير في قوله: وَجَعَلْنَاهَا على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، والله أعلم.

ولهذا فإن بعضهم فسر الرجوم هنا: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا قالوا: جمع رجْم، وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به، وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ أو على تقدير محذوف: ذات رجوم، يعني: ليست هذه المصابيح هي التي يرجم بها، وإنما ما يكون منها -ما ينفصل منها- من شهب تُرجم بها الشياطين، ترسل هذه الشهب على هؤلاء الشياطين، فتكون منفصلة من هذه النجوم.

وقوله: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ أي: جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى، كما قال تعالى في أول الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ۝ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:6-10].

قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

قوله هنا: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال، هذا باعتبار الاستقراء من القرآن، فالقرآن دل على هذه الأمور الثلاثة، لكن ما ذكر في القرآن من هذه الأمور الثلاثة ليس حاصرًا لمنافع النجوم، قد يكون هناك منافع أخرى لم يذكرها الله لنا، ولكنه قصد ما ظهر لنا، وما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عنه.

فمن طلب غير ذلك، طلب غير ذلك يعني: الاستدلال مثلًا بهذه النجوم على أحوال أرضية يعني: ادعاء علم الغيب أو ما يتعلق بذلك مما يفعله المنجمون، أو السحرة، أو نحو هذا.

فمثل هذا كله باطل، هذا هو المقصود، وإلا فهو لا يقصد نفي أن تكون لها منافع، وفوائد يعلمها الله -تبارك وتعالى، ولم يخبرنا عن ذلك، لكن الذي علمناه هي هذه الأمور الثلاثة، فمن ادعى غير هذا مما يدعيه أهل التنجيم، ونحو ذلك فهذا لا أساس له.

قال تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ۝ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ۝ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۝ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:6-11].

يقول تعالى: وأعتدنا للذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير أي: بئس المآل والمنقلب.

إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا قال ابن جرير: يعني الصياح.

هنا لاحظ وجه الارتباط فيما يتعلق بموضوع السورة، وهذا الذي يقال له: حُسن التخلص، يعني: لاحظ أن هذه الآيات آخذٌ بعضها بحُجز بعض، لما ذكر الله -تبارك وتعالى- دلائل القدرة، وما زين به السماء من هذه المصابيح، أخبر أنه جعلها رجومًا للشياطين، هذا في الدنيا، ثم ذكر ما يكون لهؤلاء الشياطين في الآخرة فقال: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ يعذب هؤلاء الشياطين بعذاب السعير.

فلما ذكر جزاء الشياطين في الآخرة ذكر جزاء الكفار كذلك في الآخرة قال: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إلى آخر ما قال، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير فهؤلاء الشياطين من الجن لهم عذاب السعير، وهؤلاء الكفار أيضا لهم عذاب السعير، فانتقل من هذا إلى هذا، ثم بعد ذلك جاء جزاء أهل الإيمان بعده.

وهذا كله يرجع إلى ما ذكر في صدر هذه السورة: أنه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، ثم بعد ذلك يحصل التفاضل والتمايز بينهم، والاختلاف، والافتراق في جزاء الأعمال في الدنيا والآخرة، فهؤلاء إلى السعير، وهؤلاء إلى النعيم والجنة.

وهنا قوله -تبارك وتعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا هنا فسره بالصياح، هذا التفسير هو تفسير على المعنى كما يقال وليس على اللفظ؛ لأن الشهيق في أصل معناه لا يفسر بالصياح، وإنما أصل الشهيق هو مثل -أكرمكم الله- صوت نهيق الحمار، الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة يقال له: الشهيق.

كما يقول ابن جرير -رحمه الله: الذي يخرج من الجوف بشدة، وفسر بهذا، وقد مضى الكلام على ذلك في قوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [سورة هود:106] وذكرنا هناك الفرق بين الزفير، والشهيق، ففسر بهذا، الزفير: النفس الداخل، والخارج بقوة يقال له: الشهيق، هكذا فسروه، هكذا قال ابن جرير، وغيره، بخلاف ما هو شائع في الاستعمال عندنا أن الشهيق: هو أخذ النفس مع صوت بقوة.

وَهِيَ تَفُورُ قال الثوري: تغلي بهم كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير.

هو يقول: الحب القليل في الماء الكثير؛ لأنه يكثر اضطرابه، وحركته بخلاف ما إذا كان -يعني: الحب هذا كالبُر، أو الأرز، أو نحو ذلك- كثيرًا في الإناء مع ماء قليل، فيبقى في حالة من الاستقرار، لكن إذا كان الحب قليلا، والماء كثيرًا فإن هذا الماء إذا غلا هذا الحب يدور، ويعلو ويسفل بشدة، فهنا هذا الفوران، فهي تفور يعني: النار لها زفير وشهيق -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها، وتفور وأيضا تتغيض على هؤلاء، فهي تعرفهم.

سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12] فهي حانقة على هؤلاء الكفار، وليست مجرد آلة للعذاب، أو موضعٍ للعذاب لا إدراك لها، ولا تشعر بهؤلاء الكفار، وكما هو معلوم لما اختصمت الجنة والنار فهذه تقول: فيّ الكبراء، وما إلى ذلك، وكذلك تقول: هل من مزيد؟! هل من مزيد؟! إلى أن تقول: قط، قط.

هذا كله أخبر الله به عن حالة هذه النار فهي تطلب المزيد ممن يلقون فيها.

وقوله تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم.

كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [سورة الملك:8، 9]، يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء:15].

وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الزمر:71].

وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم.

قال الله تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ.

روى الإمام أحمد عن أبي البختري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله ﷺ أنه قال: لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم[4].

هنا في قوله -تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا هذا وما قبله وما بعده لا شك أن من عقِلَه فإنه يهون عليه كل ما يلقى في هذه الدنيا من الأذى، والبلاء، والعلل، والأوصاب، والأمراض، والفقر، وما إلى ذلك.

فالعذاب الحقيقي، والألم الحقيقي هناك في هذه الأفواج، حينما تقاد فوجًا بعد فوج إلى النار، وهي تتغيض، ولها هذا الصوت المفزع تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ثم بعد ذلك يلقون فيها بعد أن يعترفوا بذنوبهم، هذا هو المقام الذي ينبغي أن يخشاه العبد، وأن يفكر فيه طويلًا، فهو حري بأن يزهده بحطام الدنيا، وعرضها الزائل، وأن تتقاصر همته، ونفسه عن طلب الشهوات المحرمة، وأن يكون هذا اليوم نصب عينيه يحسب له حسابه، ويستعد له غاية الاستعداد؛ لأن ذلك هو المصير النهائي المحتوم الذي لا طعم للسعادة بعده إذا كان الإنسان من أهل الشقاء -نسأل الله العافية.

وقوله هنا: روى الإمام أحمد: عن أبي البختري الطائي -اسمه سعيد بن فيروز: لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم، كما قال الله : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، فالله -تبارك وتعالى- أخذ على الخلق -على العباد- ميثاقًا -كما هو معلوم- وهم في أصلاب أبيهم آدم وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [سورة الأعراف:172].

ولم يكن ذلك فحسب يعني: لم يؤاخذهم بالميثاق الأول، بل جعل فيهم الفطرة، وخلقهم على الفطرة، خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين[5]، ولم يؤاخذهم بهذا حتى جعل لهم عقولًا يدركون بها، ويميزون، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فاجتمعت هذه جميعًا.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۝ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۝ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [سورة الملك:12-15].

يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: تكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه[6].

هنا قوله -تبارك وتعالى: إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ الخشية عرفنا أنها أخص من مطلق الخوف، فهي خوف مع علم بالمخوف منه، أما الخوف هكذا بإطلاق فإنه قد لا يكون كذلك، وقوله -تبارك وتعالى: بِالْغَيْبِ هذا يحتمل معنيين، يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ما المراد بذلك؟

 يحتمل أن يكون قوله بالغيب أن يكون حالا من الفاعل، أو أن يكون حالا من المفعول، أن يكون حالا من الفاعل، أو من المفعول كيف يكون المعنى؟ يتغير تمامًا.

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ حال من الفاعل يعني: حال كونهم غائبين عنه، يعني: حينما يكون الواحد منهم غائبًا عن الناس يعني: في حال خلوته.

فهذا يدل على مراقبته لله ، فإذا خلا بمحارم الله لم يجرؤ عليها، ولم ينتهكها، فهذا حال المؤمن، بخلاف المنافق فإنه يكون على حالة من مراعاة الناس في حال الجلوة، فإذا خلا لا يبالي، فالله -تبارك وتعالى- يقول: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [سورة ق:33] من خشي الرحمن بالغيب ما المعنى؟

على هذا التفسير يعني: إذا غاب عن الناس، فهذا المعنى يتصل بمراقبة الله في حال الخلوة وهو المعنى المشهور، وهو المتبادر.

إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ إذا غابوا، حال كونهم غائبين، هذا حال من الفاعل؛ لأنهم يخشون، مَن الفاعل؟ هم، أليس كذلك؟ فالواو هنا فاعل، يخشون حال كونهم غائبين، بالغيب يكون حالًا من الفاعل يعني: إذا غابوا، أو أن يكون حالا من المفعول "يخشون ربهم"، فـ"رب" هنا في الإعراب يكون مفعولًا، يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ حال كونه غائبًا عنهم يعني: لا يرونه، ومع ذلك يخشونه، فهذا يدل على عظم إيمانهم، آمنوا به، وخافوه مع أنهم لم يروه، فهذا يحتمل، يعني: كما يقول ابن جرير، وغيره: يخشون عذابه ولم يروه، يعني: ابن جرير فسرها بالثاني أنه حال من المفعول، حال كونه غائبًا عنهم فهم يخشون عذابه، ولم يروه.

هكذا قال، يخشون عذابه، أو يخشون الله ، ولم يروه، هذه عبارات متقاربة للمفسرين، يخشون عذابه ولم يروه، أو يخشون ربهم -تبارك وتعالى، وهذا يكون حالا من المفعول يعني "بالغيب"، إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ إذا غاب عن الناس، ويحتمل المعنى الآخر.

ثم قال منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما يخطر في القلوب.

ذات الصدور هنا هذه كلمة تدل على ما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات، والإرادات، والخواطر، والنيات، والحب، والبغض، والخوف، والرجاء، وما إلى ذلك مما ينطوي عليه القلب، وما يقوم به، فهي نُسبت إلى الصدور "ذات الصدور" نسبة الصحبة، والملازمة.

ذات الصدور، فهي ملازمة لها تختص بها، وتنطوي هذه الصدور عليها، لا يطلع عليها إلا الله -تبارك وتعالى، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بدواخلها، وما يعتلج فيها، وما تنطوي عليه من أعمال قلبية، ونيات، وإرادات، وخواطر، وعقائد، وما إلى ذلك، كل ذلك يعلمه الله -تبارك وتعالى.

فمثل هذا يجعل العبد يتعامل مع ربه تعاملًا آخر غير ما يتعامل به مع المخلوقين، الله مطلع على خواطره، فيكون ظاهره، وباطنه على حال سواء، إذا كان الظاهر أحسن من الباطن فهذا يدل على وجود خلل في إيمان العبد، وعلاجُه من جهات متعددة هذا من أعظمها، وما يقال فإنه عند التأمل، والنظر يرجع إليه.

يعني: حينما نقول: النظر في معاني الأسماء الحسنى: العليم، والخبير، واللطيف، ونحو ذلك مما ينمي المراقبة في قلب العبد، هذا يرجع إلى هذا المعنى في الواقع: أن يعلم أن الله عليم بذات الصدور، والعليم هنا: صيغة مبالغة يعني: أنه عظيم العلم، بالغ العلم بدواخل النفوس، وما يتحرك فيها لا يكون له أدنى إرادة تكون مخالفة لمراد الله -تبارك وتعالى.

فإذا تكلم يصحح نيته بهذا الكلام، وقد يخطر له أثناء الكلام مقاصد فاسدة من حب الثناء، والرياء، والسمعة، وما إلى ذلك، وإذا كتب يحتاج أن يصحح نيته في الكتابة، وإذا رأى أن النية ليست كما ينبغي لا ينشر، سواء كانت مقالة، أو كتابًا، أو كان ذلك بهذه التغريدات التي يكتبها، ماذا يريد بذلك؟ فإن رأى أن النية فيها خلل، وأن القصد ليس كما ينبغي فلا داعي للكتابة؛ لأن الإنسان سيحاسب على هذا، والله عليم بذات الصدور.

وهكذا في كل عمل يزاوله ما الذي ينبعث في داخله؟ حتى حينما يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر الله يعلم ما يدور في نفسه، حينما ينصح الآخرين ماذا يقصد؟ حينما يفتيهم، أو يجيب على سؤالاتهم ما الذي يدور في نفسه؟ هل يدور في نفسه مراقبة الله ، وإرادة ما عنده؟

فهذا لا يمكن أن يجيب عن شيء يكون عنده فيه أدنى تردد، فيتوقف، ويقول: أنظر، أراجع، نبحث، وأما إذا ضعف هذا الجانب فقد يكون بالتزين بالكلام، والجواب، وما إلى ذلك هو المقدم فيقول على الله بلا علم، فيكون الوزر عليه من الجهتين: سوء القصد، وأيضا هذه الجرأة، والقول على الله بلا علم.

إذا لاحظ العبد هذا دائمًا بحركاته، وسكناته، وألفاظه، وأحواله كلها تصلح أحواله تمامًا من أولها إلى آخرها، ومن ثم يتلاشى عنه الرياء والمقاصد السيئة، فلا يكون للخلق أدنى التفات في قبله حينما يقول أو يعمل، هو يريد ما عند الله  فيستوي المادح، والذام عنده، فيكون همه طلب مرضات الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

هذه التربية القرآنية، حينما نقول: إن علاج المشكلات، والجوانب النفسية، والاجتماعية، وما إلى ذلك بأمور وقضايا نقررها، ونرتبها، ونتكلم فيها كثيرًا، ونطيل، حينما نقول: هذا المعين الذي لا ينضب، أو بهذه الطريقة التي تُعجز الخلق عن أن يأتوا بمثلها، حينما يذكر دلائل القدرة، ويذكر جزاء هؤلاء.

ثم بعد ذلك ينقّل النفس بين هذه المعاني الكبار، فإن النفس تكون في حال من الاعتدال، والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى، راجية، خائفة، مراقبة له -تبارك وتعالى، محبة لهذا المنعم المتفضل العظيم الأعظم، الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة.

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ أي: ألا يعلم الخالق؟! وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ هنا أيضا يحتمل معنيين، يقول: ألا يعلم الخالق؟! ألا يعلم من خلق؟! يعني: من خلق الخلق ألا يكون عالما؟! هو الذي خلق ينبغي أن يكون عالمًا أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟! فمن هنا تكون مفسرة بهذا يعني: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟! ألا يكون الذي خلق متصفًا بالعلم حريًّا به؟ واضح المعنى هذا؟

المعنى الثاني: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟! يعني: ألا يعلم الله حال خلقه؟ يعني: كيف يخفى عليه حال الخلق، وهو الذي خلقهم؟! الفرق بين المعنيين واضح، المعنى الأول: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟! هذا الذي مشى عليه ابن كثير يعني: الذي خلق ألا يكون متصفًا بالعلم؟! لابد، هذا من لوازم الخلق، وقلنا في الكلام عن الأسماء الحسنى: الخالق يدل بالمطابقة، يدل بالتضمن، ويدل بالالتزام.

فمما يدل عليه بالالتزام العلم، لابد للذي خلق أن يكون متصفًا بالعلم، والإحاطة بأحوال هؤلاء الخلق، فهنا أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم الخالق ؟! ألا يكون الخالق متصفًا بالعلم حريًّا به؟ هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير.

المعنى الذي رجحه ابن جرير أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم الله أحوال خلقه؟! ألا يعلم ربنا -تبارك وتعالى- حال المخلوقين؟! فيكون على الأول أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ "مَن" في محل رفع فاعل، ألا يعلم الخالق أحوال خلقه؟ ألا يعلم كل شيء؟!

المعنى الثاني: "مَن" هذه في محل نصب مفعول به، والفاعل مستتر، ألا يعلم يعني: الله مَن خلق أي حال هؤلاء الخلق؟ واضح؟ فهذا المعنى الثاني رجحه ابن جرير، ولو قال قائل: إن الآية يمكن أن تحمل على المعنيين: الخالق يعلم وهذا دلائله كثيرة في القرآن، وهو يعلم أحوال الخلق، ما يسرون، وما يعلنون، عليم بذات الصدور إلى آخره.

المختصِر ذكر المعنيين وقال: الأول أولى، لا بأس في الاختصار، وأن يقتصر على ما رجحه.

ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: إنه سمع رسول الله ﷺ يقول: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا[7].

رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

فأثبت لها رواحًا وغدوًّا لطلب الرزق، مع توكلها على الله ، وهو المسخر المسير المسبب. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: المرجع يوم القيامة.

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: مَنَاكِبِهَا أطرافها، وفجاجها، ونواحيها.

هي معانٍ متقاربة، في قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا يعني: مذللة، والذلول يقال للمنقاد السهل بحيث تتقلبون فيها لا تميد بكم، ولا تضطرب فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا فالمناكب فسرت بهذه المعاني من قولهم مثلًا: أطراف الأرض، والنواحي، والفجاج، وفسرت بالجبال، وفسرت بالجوانب، منكب الشيء، منكب الإنسان، ونحو ذلك، وهي معانٍ متقاربة فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا في نواحيها وفجاجها، وجوانبها، وأطرافها.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى فقال -رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقها والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها، وأخبر سبحانه أنه جعلها مهادًا، وفراشًا، وبساطًا، وقرارًا، وكفاتًا، وأخبر أنه دحاها، وطحاها، وأخرج منها ماءها، ومرعاها، وثبتها بالجبال، ونهج فيها الفجاج، والطرق، وأجرى فيها الأنهار، والعيون، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها.

ومن بركتها أن الحيوانات، وأرزاقها، وأقواتها تخرج منها، ومن بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرج لك أضعاف أضعاف ما كان، ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها، وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها، فتواري منه كل قبيح، وتخرج له كل مليح، ومن بركتها أن تستر قبائح العبد، وفضلات بدنه، وتواريها، وتضمه، وتؤويه، وتخرج له طعامه، وشرابه فهي أحمل شيء للأذى، وأعوده بالنفع عليه، والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول كيفما يقاد ينقاد، وحسُن التعبير بمناكبها عن طرقها، وفجاجها لما تقدم من وصفها بكونها ذولولا.

فالماشي عليها يطأ على مناكبها، وهو أعلى شيء فيها، ولهذا فسرت المناكب بالجبال كمناكب الإنسان، وهي أعاليه قالوا: وذلك تنبيه على أن المشي في سهولها أيسر، وقالت طائفة: بل المناكب الجوانب، والنواحي، ومنه مناكب الإنسان لجوانبه"[8].

يعني: إذا كانت مناكبها المرتفِعات مذللة فسهولها من باب أولى، يعني: هذا يشير إلى وجه التعبير هنا، المرتفعات أصعب فإذا كانت مذللة فالسهول أكثر تذليلا.

وقال -رحمه الله: "والذي يظهر أن المراد بالمناكب الأعالي، وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له، فإن سطح الكرة أعلاها، والمشي إنما يقع في سطحها، وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدم من وصفها بأنها ذلول، ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها فذللها لهم، ووطّأها، وفتق فيها السبل، والطرق التي يمشون فيها، وأودعها رزقهم، فذكر تهيئة المسكن للانتفاع، والتقلب فيه بالذهاب، والمجيء والأكل مما أودع فيه للساكن.

ثم نبه بقوله: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ على أنا في هذا المسكن غير مستوطنين، ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل، فلا يحسن أن نتخذه وطنًا، ومستقرًّا، وإنما دخلنا لنتزود منه إلى دار القرار، فهو منزل عبور لا مستقر حبور، ومعبر وممر لا وطن، فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته، ووحدانيته، وقدرته، وحكمته، ولطفه، والتذكير بنعمه وإحسانه، والتحذير من الركون إلى الدنيا، واتخاذها وطنًا، ومستقرًّا.

بل نسرع فيها السير إلى داره وجنته، فلله ما في ضِمن هذه الآية من معرفته، وتوحيده، والتذكير بنعمه، والحث على السير إليه، والاستعداد للقائه، والقدوم عليه، والإعلان بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأن لم تكن، وأنه يحيي أهلها بعدما أماتهم وإليه النشور"[9].

مثل هذا لا تجد نحوه في كتب التفسير، هذا الربط، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ لكن لا يكون ذلك على سبيل الإغراق والتعلق بها فليس ذلك على سبيل الدوام فيذكرهم بالانتقال منها وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.

قال تعالى: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ۝ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۝ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [سورة الملك:16-19].

وهذا أيضا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به، وعبادتهم معه غيره، وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [سورة فاطر:45].

وقال هاهنا: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أي: تذهب وتجيء وتضطرب.

أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا أي: ريحًا فيها حصباء تدمغكم، كما قال تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [سورة الإسراء:68]، وهكذا توعدهم هاهنا بقوله: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَإِذَا هِيَ تَمُورُ المور حركة مع اضطراب، وقوله -تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ابن كثير -رحمه الله- هنا قال: أي: ريحًا فيها حصباء تدمغكم، وبعضهم يقول: المقصود أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا أي: حجارة من السماء، كما أرسل على قوم لوط، وكذلك أيضا على أصحاب الفيل يعني: من غير ريح، فالحاصب تارة يكون محمولا بالريح، تحمل الحصباء حجارة صغيرة، وقد يكون ذلك منزلا من السماء، ومن أهل العلم من فسره بهذا، وابن جرير -رحمه الله- فسر الحاصب بالتراب الذي فيه حصباء، حجارة صغيرة.

والآية تحتمل أن يكون المقصود بذلك حجارة من السماء، وتحتمل أن يكون ذلك بريح فيها الحصباء.

أما قوله -تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ فالمقصود أن "في" هنا بمعنى "على"، "من في السماء" أي على السماء، لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71] ليس المقصود: أن يدخلهم وسط الجذع، وإنما المقصود على جذوع النخل، حروف الجر تتناوب، فـ"في" تأتي بمعنى "على"، فالله ، ليس في داخل السموات.

فالله فوق العالم، فوق عرشه، فوق سماواته، فـ"في" هنا بمعنى "على"، فرعون يقول: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني: على جذوع النخل، وهناك معنى بلاغي ذكره بعض المفسرين قالوا: لشدة الربط على الجذع كأنه يدخله فيه، هذا معنى زائد، لكن قطعًا ليس المقصود أن يكون داخل الجذع قالوا: لأن جذع النخل هو أكثر إيلامًا ليس كجذع الشجرة، فإذا ربط فيه بقوة، فإن ذلك يؤذيه، ويؤلمه غاية الإيلام، فلذلك اختار لهم جذوع النخل يعني: طريقة في التعذيب.

قال هنا: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ قال: أي: كيف يكون إنذاري، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ كيف إنذاري يكون، وما يقع بسببه لكم من العذاب وما إلى ذلك، هذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله.

مع أن بعضهم فسره بغير هذا، يعني بعضهم قال: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ المقصود: الرسول الذي أرسل إليهم والنذارة التي جاء بها، يعني "كيف نذير": نذيري الرسول الذي أرسلته إليكم، وقابلتم ذلك بالتكذيب، لكن هذا الذي مشى عليه ابن جرير، وابن كثير قال: "كيف نذير" كيف يكون إنذاري.

ثم قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي: من الأمم السالفة والقرون الخالية، فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ أي: عظيمًا شديدًا أليمًا.

هنا قوله: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ يمكن أن يكون قرينة ترجح ما قاله ابن جرير، وابن كثير، كيف يكون إنكاري على من كذب، وهكذا الذي من قبله كيف يكون إنذاري للمكذبين.

ثم قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ أي: تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا.

هنا قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للاستفهام، والواو للعطف يقولون: عطفٌ هنا على مقدر يعني: أغَفلوا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟ قال: تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا.

يعني: هنا تجمع جناحًا وتنشر جناحًا، تفسير يقبض قد لا يكون ظاهرًا -والله أعلم، وأوضح من هذا، وأبين، والعلم عند الله قول من قال: يعني يضممن أجنحتهن فهي بين البسط حينما تبسط هذه الأجنحة، أو حينما تقبضها، فهي تبسط تارة وتقبض تارة، كما يقول ابن جرير: تصفّها أحيانًا وتقبض أحيانًا، فهذا حال هذه الطير يكون بين قبض للأجنحة وبسط، وطيرانها أيضا يكون بهذا الاعتبار، فتكون في حالتيها كل ذلك يدل على قدرة الله -تبارك وتعالى- أن جعلها في هذا الهواء لا تسقط لا تقع، فكل ذلك من دلائل قدرته .

مَا يُمْسِكُهُنَّ أي: في الجو، إِلَّا الرَّحْمَنُ أي: بما سخر لهن من الهواء، من رحمته ولطفه.

يمسكهن ليس المقصود القبض، وإنما المقصود يمسكها في الهواء، يعني كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ [سورة فاطر:41] ما معنى ذلك؟ يعني: تبقى على حالها في الارتفاع لا تسقط، فهنا كذلك أيضا "ما يمسكهن" يعني: ما يبقيها هكذا في الهواء محلقة لا تسقط إلا الله.

إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أي: بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، وهذه كقوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة النحل:79].

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ۝ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ۝ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۝ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ [سورة الملك:20-27].

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا، منكرًا عليهم فيما اعتقدوه، ومخبرًا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه، فقال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ أي: ليس لكم من دونه من ولي ولا واقٍ، ولا ناصر لكم غيره.

قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ الآية: "جمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب له منافعه برزقه، فلابد له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق فهو الرزاق ذو القوة المتين، ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه"[10].

يعني: هذا في وجه ذكر النصر، والرزق أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ حاجة العبد إلى هذا وهذا.

ولهذا قال تعالى: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ.

ثم قال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ أي: من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده؟! أي: لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق، وينصر إلا الله ، وحده لا شريك له، أي: وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره؛ ولهذا قال تعالى: بَلْ لَجُّوا أي: استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي: في معاندة، واستكبار، ونفور على إدبارهم عن الحق، أي لا يسمعون له ولا يتبعونه.

ثم قال تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبًّا على وجهه، أي: يمشي منحنيًا لا مستويًا، على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا أي: منتصب القامة، عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة، هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة.

فالمؤمن يحشر يمشي سويًّا على صراط مستقيم مفضٍ به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:22، 23] الآيات.

هنا ابن كثير -رحمه الله- جمع بين قولين في تفسير هذا الموضع بهذه الطريقة التي سمعتم، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ المُكِب والمُنكَب هو الساقط على وجهه، "قُل أكَبَّ باكيًا"، ويقول قتادة: والكافر يكون مُكبًا على معاصي الله -تبارك وتعالى- في الدنيا فيحشره الله على وجهه، أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا فسره قتادة هنا بالانكباب على المعاصي، ويكون عاقبة ذلك أن يحشر على وجهه.

وابن جرير -رحمه الله- فسره بكونه لا يبصر يعني: يسير في هذه الحياة الدنيا على غير اهتداء فهو لا يبصر ما عن يمينه وشماله، فهو كالذي قد حنى رأسه كما يقول ابن كثير -رحمه الله- هنا: كمثل من يمشي مكبًّا على وجهه أي: يمشي منحنيًا لا مستويًا على وجهه، يعني: يمشي ولا يرى طريقه، يمشي مكبًّا على وجهه يسقط ويقع؛ لأنه لا يرى الطريق، وفي الآخرة يحشر هؤلاء على وجوههم.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:22، 23] الآيات، أزواجهم: أشباههم.

روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم[11] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين.

وقوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي: العقول والإدراك، قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أي: قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره.

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم.

ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه، وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ وإنما عليّ البلاغ، وقد أديته إليكم.

قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبًا؛ لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۝ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة الزمر:47، 48]، ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي: تستعجلون.

قوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أصل هذه المادة يدل على القرب، وهنا: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً زلفة هنا: مصدر يحتمل أن يكون بمعنى: الفاعل أي: مزدلفًا، رأوا العذاب قريبًا منهم وعرفوا أنه واقع بهم لا محاله، أو أنه حال من المفعول مفعول رأوا، رَأَوْهُ زُلْفَةً رأوه، الهاء هنا: مفعول لرأوا، فيكون حالًا من مفعول رأوا من "الهاء" رَأَوْهُ زُلْفَةً بتقدير مضاف.

رأوه الهاء ترجع إلى العذاب، ذا زلفة، فيكون زلفة عائدًا إلى المفعول، وهو حال منه، أو ظرف، يعني: رأوه في مكان ذي زلفة، لكن كأن الأول أقرب، والله أعلم.

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يعني: مزدلفًا قريبًا، عرفوا أنه حالٌّ وواقع بهم لا محالة، وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ قال: أي تستعجلون.

والفراء يقول: إنه من الدعاء، يعني: هذا الذي كنتم تطلبون، وهو قريب مما قاله ابن كثير -رحمه الله، فهم كانوا يستعجلون، يقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ فهم كانوا يطلبونه ويتعجلونه عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16] فكانوا يطلبون ذلك ففسر بهذا المعنى: كنتم تتمنون وتسألون، هذا هو، جاء.

هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ من الدعاء وهذا قول الأكثر من المفسرين، هذا الذي كنتم تطلبونه وتستعجلونه، وتطالبون بوقوعه وتسألون عنه متى يقع.

وبعضهم كالزجاج يقول: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ من الدعوى، وليس من الدعاء الطلب، لا، تدّعون تقولون فيه الدعوى الكثيرة، أن هذا كذب، ولا حقيقة له أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3] فتدعون فيه الأباطيل، وكذلك قول من قال: إن تدّعون بمعنى: تكذبون، هذا كله يرجع إلى الدعوى، فيصدر عنهم من دعاوى باطلة، بما يتصل بيوم القيامة.

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۝ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ [سورة الملك:28-30].

يقول تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أي: خلصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.

ثم قال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا أي: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا، كما قال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123]، ولهذا قال تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أي: منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى إظهارًا للرحمة في خلقه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا أي: ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا يُنال بالفئوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر: عكس النابع؛ ولهذا قال تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ أي: نابع سائح جارٍ على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فلله الحمد والمنة.

آخر تفسير سورة "الملك" ولله الحمد.

فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ الماء المعين قال هنا: الجاري على وجه الأرض، ولهذا فُسر بما تراه العيون، الماء المعين يعنى: الذي تراه العيون، وإنما تراه إذا كان جاريًا على الأرض، فهذا يرجع إلى معنى واحد، بِمَاءٍ مَّعِينٍ تراه العيون يعني: أنه جارٍ على وجه الأرض، وكل ذلك كما قال قتادة، والضحاك يعني: الماء المعين هو: الجاري فكذلك أيضا إذا كان جاريًا فإن العيون تراه.

سؤال يقول: إن قوله -تبارك وتعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ إن هذا مما يكون به رقية المصاب بالعين، فهل هذا له أصل؟ وهل هذا من باب التحدي؟

أما الأصل فلا أعلم له أصلًا في كلام الله، ولا كلام رسوله ﷺ من جهة أن ذلك يرقى به من العين، لكن الرُّقى هي من باب الطب، والأصل بالطب الإباحة مالم تشتمل على محرم، فإذا دلت التجربة على أن بعض الآيات يكون لها الأثر البالغ في علاج بعض العلل فلا إشكال في جمعها، واستعمالها في هذا.

كما يذكر الحافظ ابن القيم مثلا في آيات السكينة مثلًا، وهكذا كما يقال في الآيات التي يرقى بها من به مس، أو الآيات التي يقال لها: آيات الإحياء مثلا لمن كان في غيبوبة، أو نحو هذا، فهذا لا إشكال فيه.

وإذا كان الإنسان يرقِي فرأى الأثر على هذا المرقِي عند المرور في بعض الآيات فيمكن أن يرددها هذا لا إشكال فيه؛ لأن مبناه على الإباحة، فإذا ثبت أن هذا يفيد فلا إشكال في ذلك.

أما هل هذا من باب التحدي؟ فأنا لا أعلم، لكن للمناسبة، فَارْجِعِ الْبَصَرَ تتعلق بالبصر وكونه يرجع بهذه المثابة وهو خاسئ وهو حسير، فهذا يناسب في رد العين بهذا الاعتبار، كما يقال في من به مس مثلا: يُقرأ عليه صدر سورة الصافات وفيها قوله -تبارك وتعالى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:8-10] فهذا مناسب، ولذلك من به مس إذا قُرئت عليه مثل هذه الآيات في صدر السورة، إذا بلغ القارئ هذه صاح، وولول وطلب الخلاص؛ لأن ذلك يؤذيه، وقد يتأذى بعضهم بغير هذا.

وأحيانا سماع بعض الآيات لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [سورة النور:27] بعضهم يتأثر بهذا جدًّا، مع أن هؤلاء قد يتلاعبون بالراقي، وقد لا يكون به مس أصلًا، وإنما هو شيء يتوهمه، قد يكون في بعض الحالات، وقد يكون هذا الجني الذي تلبس به يتلاعب بالراقي فيُظهر له شيئًا ولا يكون كذلك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  1. رواه أبو داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في عدد الآي، برقم (1400)، والترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل سورة الملك، برقم (2891)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب ثواب القرآن، برقم (3786)، وأحمد في المسند، برقم (7975)، وقال محققوه: "حسن لغيره"، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1265)، وفي صحيح الجامع، برقم (2091).
  2. رواه الطبراني في المعجم الصغير، برقم (490)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3644).
  3. بدائع الفوائد (2/ 185)، بتصرف يسير.
  4. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4347)، وأحمد في المسند، برقم (18289)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه، وإبهامه لا يضر"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5231).
  5. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  6. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (660)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031).
  7. رواه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في التوكل على الله، برقم (2344)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين، برقم (4164)، وأحمد في المسند، برقم (205)، وقال محققوه: "إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن هبيرة، فمن رجال مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5254).
  8. الفوائد لابن القيم (ص:17، 18).
  9. المصدر السابق (ص: 18).
  10. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 34).
  11. رواه الترمذي عن أبي هريرة ، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة بني إسرائيل، برقم (3142)، وأحمد في المسند، واللفظ له، برقم (12708)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (6417).

مواد ذات صلة