بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمستمعين أجمعين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة "سورة الصف" من السور النازلة في المدينة، وتدور مجمل آياتها على موضوع واحد، وهو الاستجابة لله ولرسوله ﷺ، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا عن عبد الله بن سلام، وأن النبي ﷺ جمعهم وقرأ عليهم هذه السورة ليس هذا بصريح في سبب النزول، قرأ عليهم السورة، يعني قد تكون السورة نزلت قبل ذلك.
وجاء في روايات متعددة منها روايات عن بعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، ومنها مراسيل في أنهم تمنوا لو عرفوا أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3] الآيات، هذه الروايات لا تخلو من ضعف، ولكنها كثيرة، فيمكن من مجموعها أن يتقوى هذا الحديث، ويكون بذلك من قبيل الصحيح أو المقبول، يعني أنه يكون من قبيل الحسن -والله تعالى أعلم، وإن كانت كل رواية على حدة لا تخلو من ضعف.
وظاهرٌ من الآيات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [سورة الصف:2-4]، أنهم قالوا شيئاً، وأن هذا الذي قالوه لربما يتصل بالجهاد، أو أحب الأعمال إلى الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [سورة الصف:4].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [سورة الصف:1-4].
قد تقدم الكلام على قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ غير مرة بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إنكار على مَن يعِدُ عِدةً أو يقول قولاً لا يفي به؛ ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا، واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان[2].
وفي الحديث الآخر في الصحيح: أربع من كان فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها[3].
فذكر منها إخلاف الوعد، وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ يقول: إنكار على مَن يعِدُ عِدةً أو يقول قولاً لا يفي به، فهذا يدخل فيه ما ذُكر في سبب النزول أنهم تمنوا لو عرفوا أحب الأعمال إلى الله؛ ليعملوا به، فهذا من قبيل العِدة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل فيه كل عِدة بين العبد وبين ربه، وكذلك كل عِدة بينه وبين الناس.
فمن العِدة التي تكون بينه وبين ربه كما قال الله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [سورة التوبة:75]، فهذا من قبيل العِدة وإن لم يكن من قبيل النذر، كما أن النذر من قبيل العِدة، فالعِدة أوسع من النذر، فقد تكون نذراً، وقد تكون مجرد عِدة.
وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا من أن السلف استدلوا بها على أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا، هذا صحيح، إذ يجب الوفاء به سواء كان كما ذُكر أو لم يكن، ترتب عليه غرم للموعود مثل لو أنه قال: تزوجْ وأُعطيك المهر، فتزوج فلم يعطه فصار غريماً، مثل لو أنه قال: اشترِ هذه السلعة وسأقرضك الثمن، فاشترى هذه السلعة ثم بعد ذلك جاء إليه، وقال: أقرضني الثمن، قال: ما عندي، مثل هذا أوقعه في حرج وضرر فيجب عليه الوفاء به.
كذلك لو لم يترتب عليه شيء من ذلك مثل لو أنه وعده أن يبيعه أرضه أو داره أو نحو هذا، وتواعد معه في الغد على أن يوقع العقد فجاءه آخر وأعطاه ثمناً أكثر من الأول، فهنا لا يترتب غُرم على الأول لكنه وعده أن يبيعه هذه الدار، أو هذه السيارة أو نحو ذلك، فليس له أن يعدل عن هذا، وإن لم يكن البيع قد وقع، إذا كان أعطاه وعده بذلك، وكذلك العِدة، وعده بأن يزوره فإنه يفي بهذا وإن لم يترتب عليه غُرم؛ لأن هذا من الخلف، يعد كذباً، وهذه صفات المنافقين المذكورة في الحديث، كل ذلك يرجع إلى الكذب، يعني لو حدث كذب، لو وعد أخلف، هذا كذب في مواعيده.
وقوله: إذا اؤتمن خان في الواقع يرجع إلى الكذب بمفهومه الواسع؛ ولذلك كان الصدق بمعنى الحق الثابت، فكل ما يلج فيه الإنسان فإن ذلك إما أن يكون صدقًا، أو يكون كذباً، فإذا خرج إلى شيء يحبه الله ورسوله هذا مخرج صدق إن كانت له فيه نية، وإن لم يكن له فيه نية فهذا مخرج كذب، يعني خرج مخرج رياء وسمعة مثلاً، أو خرج إلى باطل.
هذا الصبي أمه وعدته أن تعطيه، فالنبي ﷺ قال: لكتبت عليك كذبة، فهو ظاهر في هذا -والله تعالى أعلم، وهنا لا يترتب عليه غرم، وهذا مما يتساهل به الناس.
فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فبين لهم، فابتُلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي ﷺ مدبرين، فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[5]، وقال: أحبكم إليّ من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر، وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: قَتلنا، وضربنا، وطعنا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك.
هذه روايات مراسيل لا تصح، ولا يُبنى عليها القول بسبب النزول، وهذا نظيره في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الحشر: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14]، وقلنا: إن من الأقوال التي ذكرت في تفسيرها بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أنهم ينسبون إلى أنفسهم أعمالاً في القتال لا حقيقة لها، يقول: قتلت وفعلت وكذا، فإذا جلسوا فيما بينهم فيذكرون بأساً شديداً، وقوة وفتكاً في العدو من غير أن يكون لذلك حقيقة، لكن المعنى المشهور بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني: في العداوة الواقعة بينهم.
يعني بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، كانوا يقاتلون أوزاعاً من غير اصطفاف ولا تنظيم لهذه الصفوف، فعلمهم الله هذا الأدب.
قوله: كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ يحتمل معنيين:
المعنى المشهور هو الذي ذكره هنا واقتصر عليه، بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌيعني يشد بعضه بعضاً، وهو المعنى الذي عليه الجمهور.
المعنى الثاني: كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ يعني أنه قد أحكم بالرصاص، يعني أن الذي يكون بين اللبِن أو الحجارة هو الرصاص، المادة التي تمسكه ويبنى عليها هي الرصاص، لكن المعنى الأول هو الأشهر، وهو المتبادر، وهو الأكثر في الاستعمال، والمعنى الثاني وإن كان يحتمله اللفظ من جهة اللغة إلا أن المعنى المتبادر أولى، ولا زال الناس يقولون: بنيان مرصوص ويقصدون أنه يشد بعضه بعضاً، بالطريقة المعروفة في البناء.
الموضوع الذي تدور عليه مجمل آيات السورة هو الاستجابة لله، ولرسوله ﷺ، في الآية الأولى ظاهر، لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ في هاتين الآيتين الله -تبارك وتعالى- يُبين لهم حال اليهود والنصارى مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، فاليهود تلكئوا في طاعة موسى ﷺ، وآذوه، ولقي منهم عنتاً كثيراً، ولم يكن لهم تلك الاستجابة، وأما عيسى ﷺ فإن الحواريين بادروا إلى الاستجابة وقالوا: نحن أنصار الله، والله يخاطب أهل الإيمان ويأمرهم بالمبادرة والاستجابة وألا يكونوا كهؤلاء اليهود.
قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ما هذا الأذى الذي أذوه به؟ وهناك في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وصح عن النبي ﷺ من أنهم قالوا في موسى ﷺ: إنه آدر، أو أبرص، وأنهم كانوا يغتسلون عراة، وكان -عليه الصلاة والسلام- حييًّا، فكان يغتسل وحده، ووضع ثوبه على حجر فانطلق الحجر بالثوب[7]، الحديث.
فالحاصل أنهم رأوا موسى -عليه الصلاة والسلام- فعرفوا أنه ليس به بأس، يعني ليس بآدر، ولا أبرص، فبرأه الله مما قالوا، والحديث صحيح ثابت.
وبعضهم يقول: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا أي: أن بني إسرائيل كانوا يميلون إلى هارون -عليه الصلاة والسلام- لمَا فيه من اللين معهم، وأنه لما مات اتهموا موسى ﷺ بأنه قتله، أو دبر له غيرةً؛ بسبب محبة بني إسرائيل، وأن هذا من أذاهم لأنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، وكذبهم، وافترائهم، وأن الله أحيا هارون وأخبرهم بأنه قد مات، وأنه لم يقتل.
وقوله هنا: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ هذا لا يختص بنوع من الأذى، فإنهم آذوه كثيراً بألوان من الأذى، لمّا قال لهم: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21]، قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] إلى غير ذلك من صنوف الأذى الذي لقيه منهم، فكل ذلك داخل فيه، ويدخل في ذلك افتراء هؤلاء اليهود على أنبيائهم، كقولهم: إنه مثلا آدر، ونحو ذلك.
وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].
وقال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [سورة النساء:115]، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة الصف:5].
هذه الآيات يحتج بها أهل السنة في باب القدر، في مسألة الهدى والضلال، فإن الله -تبارك وتعالى- حكَمٌ عدلٌ، فهنا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وأولئك قلب أفئدتهم وأبصارهم عن الحق جزاء وفاقاً، كما في قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ باعتبار أن هذا من قبيل التعليل، يعني لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة حرمهم التوفيق والهدى، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24]، بمعنى أنه يحول بينه وبين الإيمان، ويحول بينه وبين التوبة.
وقوله: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الفسق هنا المقصود به المصر على فسقه، والفسق يقال للأكبر والأصغر، فالكافر فاسق، والمثال المعروف عند الأصوليين في إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [سورة الحجرات:6] في مفهوم الموافقة الأولوي، يقولون: يعني إن جاءكم كافر فمن باب أولى تثبتوا، وهذا فيه نظر، باعتبار أن الفاسق يدخل فيه الكافر، فهنا لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ السؤال الذي يرد في مثل هذا وهو أن كثيراً من الفاسقين والظالمين والكافرين هداهم الله ، والجواب: يعني المصرين على فسقهم وظلمهم.
وقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، يعني التوراة قد بشرتْ بي، وأنا مصداق ما أخبرتْ عنه، وأنا مبشِّر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد، فعيسى هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده و لا نبوة، وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي روى فيه عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب[8].
ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه، وروى محمد بن إسحاق عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بُصرى من أرض الشام[9]، وهذا إسناد جيد.
دعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [سورة البقرة:129] الآية.
ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فروى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله ﷺ: إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمُنجَدِل في طينته، وسأنبئك بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يريْنَ[10].
وروى أحمد أيضاً عن أبي أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بَدْء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام[11].
وروى أحمد -أيضاً- عن عبد الله بن مسعود قال: "بعثنا رسول الله ﷺ إلى النجاشي ونحن نحواً من ثمانين رجلاً منهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا، وعن ملتنا، قال: فأين هم؟ قالا: هم في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم.
فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله ، قال: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله ، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟
قال: نقول كما قال الله : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها ولد، قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا، مرحباً بكم، وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيت حتى أكون أنا أحمل نعليه وأُوَضِّئه، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً، وزعم أن النبي ﷺ استغفر له حين بلغه موته"[12].
"زعم" هنا ليس المقصود بها التوهين، وإنما بمعنى قال، أو ذكر، وتأتي في الاستعمال تارة لما يُوهَّن من الكلام، كقوله -تبارك وتعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [سورة التغابن:7]، وتارة بمعنى قال، ونحو ذلك.
هنا قوله: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عيسى ﷺ إذا ذكر في القرآن في عامة المواضع فإنه يأتي مضافاً إلى أمه، وهذا -والله تعالى أعلم- فيه تنويه بأمه التي رُميت بما هي منزهة عنه، فذكرت في أشرف كتاب، يعني الأنبياء يذكرون بأسمائهم من غير نسبة: إبراهيم، وموسى، وصالح، وهود، وشعيب، ومحمد -عليهم الصلاة والسلام، فالحاصل أن عيسى لا يكاد يذكر إلا منسوباً لأمه، هذا غالباً، فهذا فيه تشريف وتنويه لأمه حيث ذكرت في أشرف كتاب وهو القرآن، وكذلك أيضاً فيه تذكير بالمعجزة أنه خلق من غير أب.
وقوله -تبارك وتعالى- عن عيسى ﷺ أنه قال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قد يفهم منه أن رسالة عيسى ﷺ موجهة لبني إسرائيل خاصة، وفي كتابهم: "إني بعثت إلى هداية خراف بني إسرائيل الضالة"، فهذا ممكن أن يحتج به عليهم مالكم وللأفارقة تدعونهم إلى النصرانية؟ التنصير في إفريقية، التنصير في آسيا، في بلاد المسلمين، تنصير بين الوثنيين، فإنما جاء عيسى -عليه الصلاة والسلام- لهداية خراف بني إسرائيل الضالة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر أن عيسى ﷺ أُرسل إلى بني إسرائيل، وكذلك إلى الكفرة من اليونانيين ونحوهم، لكن لم تكن دعوة عيسى ﷺ دعوة عامة للثقلين كما هي دعوة محمد ﷺ، وهذا بناء على تعريف شيخ الإسلام -رحمه الله- والتفريق عنده بين النبي والرسول وقد مضى هذا في بعض المناسبات، فشيخ الإسلام يرى أن النبي هو من بُعث مقرراً لشريعة نبي قبله بعث في قومه، وأما الرسول فيكون قد بعث إلى قوم من الكفار يدعوهم إلى الإيمان، فعيسى -عليه الصلاة والسلام- قطعاً كان رسولاً، ويوسف -عليه الصلاة والسلام- كان رسولاً، والله قال عن يوسف كما في قول مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ [سورة غافر:34]، وكذلك أيضاً عيسى ﷺ باعتبار أنه بعث في بني إسرائيل ولليونانيين، وما أشبه ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ باعتبار أن عيسى ﷺ لم يكن كتابه ناسخاً للتوراة، وإنما التوراة هي كتاب الشريعة، فكان بنو إسرائيل مأمورين بالعمل بها، وإنما جاء مخففاً عنهم، وضعَ بعض الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، التكاليف الشاقة، قال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، و"أحمد" كما في الروايات المتقدمة من أسماء النبي ﷺ، والفرق بين أحمد ومحمد أن أحمد يدل على التفضيل، ومحمد يدل على التكثير في الكمية، هذا ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في (جلاء الأفهام).
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ من أراد أن ينظر فيما ينقل في كتبهم من المرويات في البشارة بالنبي ﷺ فيمكن أن يراجع في ذلك كتاب (التفسير الكبير) أورد جملة من هذه النقولات.
وكذلك تفسير صديق حسن خان اسمه (فتح البيان)، وهذه من الزيادات القليلة على تفسير الشوكاني؛ لأنه أخذ تفسير الشوكاني وكَتَبه، وزاد فيه زيادات يسيرة، وأخذ الآثار التي يذكرها الشوكاني عادة من كتاب (الدر المنثور)، وفرقها في مواضعها، وإلا فهو فتح القدير بعبارته، لكنه إذا قال الشوكاني: وقد حررنا هذا وبيناه غاية البيان في كتابنا (شرح المنتقى نيل الأوطار)، يقول: حرره الشوكاني في (نيل الأوطار) وإلا فهو هو، وفيه زيادات قليلة مفيدة منها هذه الأخبار والمرويات.
وكذلك في كتاب (إظهار الحق) وهو كتاب نافع جدًّا للعالم الهندي الكرواني في مجلدين مطبوع في الرد على النصارى، كتاب جيد في بابه، وكذلك في (تفسير القاسمي)، هنا ينقل عن الرازي يقول: في إنجيل يوحنا في الباب الرابع عشر: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد"، يعني يعطيكم عهداً كتابًا أو نبيًّا، وذكر أرقام الصفحات والطبعة، ويقول: "الفارقليط كلمة يونانية، ولفظها الأصلي بيركلوط"، ومعناه محمد أو أحمد كما بينه صاحب (إظهار الحق).
ثم نقل هنا كلامًا منشورًا في (صحيفة المؤيد) قال مسيو مرسيه -من مدرسة اللغات الشرقية: "إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي، واسم محمد جاء من مادة حَمِدَ، ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد، وهو أحمد، لتسمية البراكلية به، ومعنى أحمد صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد ﷺ، وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ".
وهذا آخر اسمه "سبرانجيه" يقول: "إن هذه الآيات تشير إشارة خاصة إلى عبارة إنجيل يوحنا حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم"، ويقول: "أما إنجيل برنابا ففيه العبارات الصحيحة المتكررة، بل الفصول الضافية الذيول التي يذكر فيها اسم محمد ذكرًا صريحاً ويقول: "إنه رسول"، يقول: وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخًا من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيري قبل بعثة النبي ﷺ وفيها يقول المسيح: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، وذلك موافق لنص القرآن الكريم بالحرف، وقد بدل الرهبان نُقط الفارقليط في المطبوعات الأخيرة بالمُعزّى، قال بعضهم: "ولا عجب من هذه التحريفات" إلى آخره.
وقوله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [سورة الصف:6] هنا الحافظ ابن كثير يقول: فلما جاءهم أحمد أي: المبشر به في الأعصار المتقادمة، يعني قال الكفار: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، فهنا: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، فَلَمَّا جَاءَهُمْ إذا نظرت إلى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور فهو أحمد، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله، فلما جاءهم أحمد، جاءهم الرسول ﷺ الذي بشروا به كفروا.
ومن أهل العلم من يقول: فَلَمَّا جَاءَهُمْ يعني عيسى، فالله -تبارك وتعالى- يخبر عن جرائم بني إسرائيل وأذيتهم للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فآذوا نبيهم كبير أنبياء بني إسرائيل وهو موسى -عليه الصلاة والسلام، آذوه كثيراً، فالله يقول عن موسى ﷺ إنه قال لهم: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [سورة الصف:5]، هذا موسى ، فلما جاءهم عيسى ﷺ وكان من شأنه أنه كان مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فلما جاءهم عيسى -أيضاً- آذوه وكذبوه، واتهموه، واتهموا أمه، وقالوا عنهم ما هم مبرءون منه، فيكون فَلَمَّا جَاءَهُمْ أي: عيسى ﷺ جاء بني إسرائيل باعتبار أن الكلام كله في بيان حال عيسى -عليه الصلاة والسلام، فيكون المقصود بذلك ما واجهوه به، هل قبلوا منه؟ هل آمنوا؟ هل انقادوا أو لا؟
ويمكن لو أن قائلاً قال: إن الضمير إذا احتمل معنيين وكلاهما يدل عليه دليل أنه يحمل على ذلك جميعاً، باعتبار أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فلما جاءهم عيسى ولما جاءهم أيضاً محمد ﷺ كانت هذه حالهم فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بيّن ظاهر.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة الصف:7-9].
يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أنداداً وشركاء وهو يُدعى إلى التوحيد والإخلاص، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
"من أظلم" استفهام مضمن معنى النفي، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام، وهذا مع قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114]، وكذلك: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [سورة السجدة:22] قد يفهم منه التعارض، يعني: لا أحد أظلم من هذا، ويجاب عن هذا بجوابين:
الجواب الأول: إما أن يقال: كل واحدة مختصة ببابها، لا أحد أظلم في المانعين مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، ولا أحد أظلم في المعرضين مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، ولا أحد من المفترين أعظم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.
والجواب الثاني: أن أفعل التفضيل في مثل هذا السياق لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع الزيادة، فكلهم قد بلغ في الظلم غايته.
يعني أن هذه الشمس مخلوق كما نراها من بُعد صغيرة، فمثل هؤلاء الذين يريدون أن يطفئوا نور الله -تبارك وتعالى- وهو هُداه كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، لو اجتمع أهل الأرض جميعاً قاطبة في صعيد واحد وجعلوا ينفخون على الشمس فإن ذلك يدل على أن عقولهم قد ذهبت، وهذا النفخ لا يؤثر في الشمس قليلاً ولا كثيراً، فهي لا تتأثر ولا يصلها من ذلك شيء، وإنما نفخ هؤلاء لا يجاوزهم، فهو لا يصل إلى الشمس، فنور الله أعظم من الشمس، وهؤلاء في محاولاتهم لإطفاء الحق وإخماده ورده، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، فهذا وعد من الله فهم لا يضرون إلا أنفسهم.
والشاهد على ذلك ظاهر فعلى كثرة ما يكاد للإسلام ويحارب في مشارق الأرض ومغاربها إلا أنه أكثر انتشاراً في العالم بشهادة ألد أعدائه، كل هؤلاء قد صرحوا بأن الديانة الأكثر انتشاراً في العالم هي الإسلام، مع محاربة الجمعيات الخيرية، والتبرعات، رأوا أمراً لا قِبل لهم به؛ لذلك اضطروا لخوض الحروب، وتمزيق جميع الشعارات التي كانوا يتغنون بها، وأذية المسلمين، وقمع الحريات التي كانوا يتشدقون بها في بلادهم، الأذان، الصلاة في الأماكن العامة، الحجاب، وهم يتسابقون في إصدار القوانين لمنع الحجاب في الأماكن الخاصة في المكاتب والشركات في فرنسا بعدما منعته في الأماكن العامة، ومع ذلك هو الأكثر انتشاراً في العالم.
وإذا قرأت عن الإحصاءات التي يملكها المُنصِّرون من الأموال، ومن أعداد المنصرين من الأطباء وغيرهم فإنك تخطئ بالأرقام، فمنصر واحد يتابعه أكثر من مائتين وخمسين مليونًا من النصارى، هذا قبل أكثر من عشر سنوات، مجمع تابع لمنصر واحد، مدرسة نصرانية فكرية، منصر واحد عنده قاعة للاجتماعات حضرها من أنحاء العالم من المنصرين أكثر من ثلاثين ألفًا، كأنها ملعب رياضي، ونحن إذا حضر من الدعاة ثلاثون قلنا: ما شاء الله! حضور كبير ومشرف، والدعوة الإسلامية في آسيا وفي إفريقية والجهود بسيطة شخصية، وليس لهم ميزانيات إطلاقاً ومع ذلك الأكثر انتشاراً في العالم، هذا هو دين الفطرة، هذا نور الله.
وبوش الأب كان يقول: نحن لن نستطيع إيقاف هذا المد، يقصد المد الإسلامي الذي حاربوه غاية المحاربة، ثم بعد ذلك رفعوا شعار حرب الإرهاب، كل هذا من أجل حرب الإسلام، يقول: لن نستطيع إيقاف هذا المد، ولكن سنحاول أن نغير مجراه، كيف يغير مجراه؟
يُغير مجراه بدعم الفكر التنويري، وبدعم بعض الشخصيات المنحرفة التي تمثل إسلاماً خاوياً، إسلاماً لا يكون على منهاج رسول الله ﷺ كالصوفية مثلاً؛ لأن النفوس فيها نزعة للتدين، عُقدت اجتماعات في مصر مدعومة من دول غربية على مستوى العالم للصوفية، وأوجدوا لهم منظمة أو رابطة على مستوى العالم، ولا زالت أعمالهم ومحاولاتهم من أجل تقديم التصوف كبديل، من أراد أن يتدين فبهذا التصوف الذي لا يعارض مصالح الغرب، ولا يمكن أن ينهض بهذه الأمة، وكذلك بعض الدعاة الذين لا يمثلون حقيقة الإسلام، فهم يدعمون مثل هذا النوع ورأيتم في تقرير راند أشياء من هذا القبيل.
مثل هذه الشخصيات يروج لها؛ لتكون هي النموذج الذي يقدم الإسلام للناس، ولكن الله يخيب آمالهم، حرب على الإسلام، تونس حاربوا كل شيء، حاربوا الصلاة، وحاربوا الحجاب، وحاربوا كل مظاهر الدين، وماذا كانت النتيجة؟ محاضرة في ملعب رياضي، ما في مكان يسع الناس! هذه الحرب كلها ثم هذه هي النتيجة، هذا نور الله، ينبغي على الجميع أن يعتبر، وأن يدرك أنه يحارب رب العالمين، يريد أن يطفئ نور الله بفيه، الشمس لا تُغطى بغربال، هم يحاولون أن يفعلوا شيئاً ولكنهم لا يستطيعون مهما عملوا، وكل من كذب على الله -تبارك وتعالى- ممن ينتسب إلى العلم فإنه لا يضر إلا نفسه فقط، ويبقى الحق ثابتاً لا يتأثر، ولا يتزعزع، والسعيد من سار في ركابه.
ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُو الَّذِي أرسْلَ رسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة الصف:8، 9] وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الصف:10-13]
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة أرادوا أن يسألوا رسول الله ﷺ عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، ومن جملتها هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود، ومزيلة للمحذور، فقال تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها.
الله سمى المعاملة معه تجارة، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ والتنكير هنا يدل على التعظيم، يعني تجارة عظيمة، وكما في سورة البقرة: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16]، وسمى ذلك شراء، وسماه تجارة، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [سورة التوبة:111]، فهذه هي التجارة، هذه الصفقة، اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ووعدهم بالجنة، فهذا في التعامل معه؛ ولذلك في النهاية حينما يَقْدم الناس عليه يحصل بينهم التباين الكبير والغبن؛ ولهذا سمي يوم القيامة بيوم التغابن، فهذا من المعاني الداخلة في ذلك.
وهنا قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس مع أن الجهاد بالنفس أعظم وأشرف، وتقديم المُهج أعظم من تقديم الأموال، فإن المُهج تحفظ ويدفع عنها بالمال، ولكن لما كان الجهاد لا يقوم إلا بالمال قُدم -والله تعالى أعلم؛ ولهذا في قوله -تبارك وتعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "أنفقوا في سبيله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فإنهم إن امتنعوا من الإنفاق في سبيل الله قوي عدوهم، وضعفوا فاجتاحهم عدوهم، وغلب عليهم، وأخذ ما بأيديهم، وقتل، وأزهق نفوسهم".
هنا يرد سؤال يَغْفِرْ مجزومة بأي اعتبار؟
هنا الله يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ، هذه الصيغة خبرية، وليست شرطية، لكنها مضمنة معنى الشرط، يعني إن آمنتم وجاهدتم، "يغفر" مضمن معنى الشرط، فجاء الجواب مجزوماً مع أنه لا يوجد صيغة شرط.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يعني من تحت أشجارها، وقصورها، والمساكن الطيبة هي طيبة باعتبار أنها واسعة الأرجاء، طيبة المُقام، والهواء، والمرأى، والجار، ليس فيها شيء من المكدرات التي تكون في دور الدنيا، في دور الدنيا مهما تعاظمت وكانت واسعة كبيرة إلى آخره فإن الإنسان يمل ذلك، ويحصل له ما يتأذى به، أما هذه فهي في غاية البهجة، والراحة ليس فيها ما ينغص ولا يكدر، لا حر، ولا برد، ولا ما يكرهه من المناظر، ولا جار يؤذي، ولا يصل إليه شيء يكرهه، مساكن طيبة، وجَنَّاتِ عَدْنٍ يعني الإقامة.
ثم قال تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [سورة الصف:13]، أي: إذا قاتلتم في سبيله، ونصرتم دينه تكفل الله بنصركم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [سورة محمد:7]، وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج:40]، قال تعالى: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [سورة الصف:13] أي: عاجل، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم، وأفعالهم، وأنفسهم، وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [سورة آل عمران:52] أي: من مُعيني في الدعوة إلى الله ؟
يعني باعتبار هذا التفسير -المعين في الدعوة إلى الله- مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ كيف عدي بـ"إلى"، ما قال: من أنصاري في الله، وإنما قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ؟
العلماء -رحمهم الله- ذكروا أن هذا من باب التضمين، وعلى طريقة الكوفيين حروف الجر تتناوب مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يعني من أنصاري مع الله؟ ولكن مذهب البصريين أدق وأوفى بالمعنى، بتضمين الفعل معنى فعل آخر، أو فعلٍ ما يقوم مقامه، وهنا مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يعني: في سيري إلى الله، في دعوتي إلى الله، هنا يقول: من معيني في الدعوة إلى الله؟ فإن هذه النصرة مضمنة معنى ماذا؟ "من أنصاري؟"، يعني يدعو معه، يسير معه إلى الله.
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ والحواريون هم خاصة أو خلاصة أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام، وأصل الحَوَر شدة البياض، يقولون: منه الخبز الحَوراني باعتبار أنه أبيض نقي، فبعضهم يقول: إن ذلك مأخوذ من هذا المعنى، الحواريون هم خلاصة أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام.
وبعض أهل العلم يعزون ذلك لصنعة أو مهنة كانوا يقومون بها، يعني أنهم كانوا من القَصّارين، والنبي ﷺ يقول: لكل نبي حواري وحواريي الزبير[13].
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وهم أتباع عيسى ، نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به، ومؤازروك على ذلك، ولهذا بعثهم دعاةً إلى بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين، وهكذا كان رسول الله ﷺ يقول في أيام الحج: مَن رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟[14]، حتى قيض الله له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه وشاطروه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وفّوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله ورسوله الأنصار، وصار ذلك علماً عليهم -رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ أي: لما بلّغ عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- رسالة ربه إلى قومه ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعوه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فرقًا وشيعًا، فمن قائل منهم: إنه ابن الله، وقائل: إنه ثالث ثلاثة، الأب والابن وروح القدس، ومن قائل: إنه الله، وكل هذا الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ أي: نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى، فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ أي: عليهم، وذلك ببعثة محمد ﷺ كما روى الإمام أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه -وهم في بيتٍ اثنا عشر رجلاً- من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يُلقَى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟"[15].
هذه الراوية عن ابن عباس لا تقال من جهة الرأي، ولكن ابن عباس -رضي الله عنهما- يروي عن بني إسرائيل، ولهذا لا نجزم برفعه إلى النبي ﷺ وإلا فإن قوله هنا: "أيكم يُلقَى عليه شبهي فيقتل مكاني"، هذا يفسر قوله -تبارك وتعالى: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:157]، وهذا أحد الأقوال أنه ألقي الشبه على غيره فصلبوه، وقتلوه، وظنوا أنهم قتلوا عيسى ﷺ.
والمعنى الثاني: شُبِّهَ لَهُمْ يعني لُبِّس عليهم فراج ذلك، يعني زعموا أنهم قتلوه فلم يتحققوا من هذا، ولم يكونوا على يقين منه، ولكن شبه لهم.
قال: "فقام شاب من أحدثهم سنًا فقال: أنا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، قال: فأُلقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من رَوْزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق.
فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء الله، ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء يعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله، ثم رُفع إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً ﷺ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [سورة الصف:14] يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى، فأيدينا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بإظهار محمد ﷺ دينهم على دين الكفار.
على هذه الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ أنه لم يزل أهل الإيمان من أتباع عيسى -عليه الصلاة والسلام- في ضعف وتسلط من قبل الكفار، وذلك أنه لم يكن لهم ظهور في التاريخ إلى أن بُعث محمد ﷺ، فكان بعث محمد ﷺ هو إظهار أو ظهور الحق والتوحيد، فهذا هو التأييد فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، فظهر المسلمون على اليهود والنصارى من المشركين أصحاب التثليث، وصار اليهود أذلاء، وحصل لهم ما حصل كما هو معروف في قريظة والنضير وخيبر وبني قينقاع، فكان ذلك ظهورًا للإيمان والتوحيد، وأن العبرة بالعواقب، كمال النهايات لا نقص البدايات.
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ببعث محمد ﷺ، تاريخيًّا لم يكن لهم ظهور، متى كان الظهور للنصارى -على شركهم- على اليهود؟ النصارى كانوا يستضعفون من قبل اليهود، واليهود يسومونهم الخسف والذل حتى دخل قسطنطين في النصرانية، وهو رجل وثني، وجرّ النصرانية إلى الوثنية، وحصل مجْمع نِيقيا الشهير، وبعد ذلك اتفقوا على عقيدة التثليث، فصار أهل التوحيد وهم قلة صاروا في حال من الاستضعاف من قبل النصارى، وتحت بطشهم، وتهديدهم، وقتلهم، وتنكيلهم إلى أن بُعث محمد ﷺ.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن قوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ يعني: النصارى صاروا قاهرين لليهود، وصار اليهود في ممالك النصارى كما هو معروف في التاريخ يُنادَى عليهم، يعني تارة مثلاً في حلب، وتارة في حماة، وتارة في حمص، يُنادَى عليهم في هذه الممالك فيُخرجون ويقتلون جميعاً؛ لأنهم كانوا يفسدون، فيتأذى منهم الناس، فكانوا آفة في تلك المجتمعات، فيُنادى عليهم في كل مرة، ويقتلون قتلا ذريعاً.
فابن القيم يرى أن ظهور النصارى على اليهود هو المراد بقوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، لكن هو يعرف هذا الإيراد: أن هؤلاء الذين ظهروا كانوا مع قسطنطين وهذا رجل وثني، وأقروا عقيدة التثليث، فكيف هؤلاء هم الذين قُصدوا بهذه الآية: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ؟
ابن القيم -رحمه الله- يقول: "لمّا كان لهؤلاء -وإن كانوا على التثليث- شائبة في اتباع المسيح، كانوا بذلك أرجح من اليهود، فكان لهم من التأييد بسبب هذا الاتصال بالمسيح، والاتباع له، وإن كانوا على غير الدين الصحيح والإيمان والتوحيد"، هذا كلام ابن القيم، وما اختاره ابن كثير هنا لعله هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك بظهور محمد ﷺ وإلا فأولئك لا يستحقون أن يوصفوا بالإيمان.
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة، وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه، فأمة محمد ﷺ لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام، كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
آخر تفسير سورة الصف، ولله الحمد والمنة.
الآيات في مجملها تدور حول موضوع الاستجابة.
- رواه أحمد في المسند، برقم (23788)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (59).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (59).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، برقم (4991)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (748).
- أسباب النزول للواحدي (ص: 447)، تحقيق: زغلول.
- رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، برقم (3150)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، برقم (1062).
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام، برقم (3404)، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة، برقم (339)، وفي كتاب الحيض، باب من فضائل موسى ﷺ.
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله ﷺ، برقم (3532)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه ﷺ، برقم (2354).
- رواه الحاكم في المستدرك، برقم (4174).
- رواه أحمد في المسند، برقم (17150)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2091).
- رواه أحمد في المسند، برقم (17163)، وقال محققوه: "صحيح لغيره"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (224).
- رواه أحمد في المسند، برقم (4400)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وقال الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص:166): "وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن".
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الطليعة، برقم (2846).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، برقم (4734)، والترمذي، في أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، برقم (2925)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب فيما أنكرت الجهمية، برقم (201)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1947).
- رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/ 623).