بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [سورة الدخان:34-37]
يقول تعالى منكرًا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد، وأنه ما ثَمّ إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا، فإن كان البعث حقًّا فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقًا جديدًا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودًا، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا.
ثم قال تعالى متهددًا لهم ومتوعدًا ومنذرًا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تُبّع -وهم سبأ- حيث أهلكهم الله وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شَذَر مَذَر كما تقدم ذلك في سورة سبأ، وهي مصدَّرة بإنكار المشركين للمعاد، وكذلك هاهنا شبههم بأولئك، وقد كانوا عربًا من قحطان، كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير -وهم سبأ- كلما ملك فيهم رجل سموه تُبعًا، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرًا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يَقْرونه بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود، كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة، فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة، فنهياه عن ذلك أيضًا وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظَّمها وطاف بها وكساها المُلاء والوصائل والحبر.
ثم كر راجعًا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى -عليه الصلاة والسلام- فيه مَن يكون على الهداية قبل بعثة المسيح -عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما أدري تُبّع نبيًّا كان أم غير نبي[1]، وروي عن تمام بن عبد الرحمن قال: قال عطاء بن أبي رباح: "لا تسبوا تُبعًا فإن رسول الله ﷺ نهى عن سبه"، والله تعالى أعلم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما أدري تُبّع كان نبيًّا أم غير نبي، هذا محمول -كما يقول ابن عساكر- على ما كان من النبي ﷺ قبل أن يوحى إليه بشأنه، والرواية أو الحديث الآخر عند أبي داود حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: ما أدري أتبّع -أو تبّع- كان لعينًا أم لا[2]، يعني هل كان كافرًا أم كان مسلمًا، فالنبي ﷺ كان متوقفًا في أمره قبل أن يوحى إليه بشأنه.
وهذا الحديث الذي ذكره المصنف -رحمه الله- وعزاه إلى عبد الرزاق لا وجود له في تفسير عبد الرزاق، ولا في مصنفه، ولكن أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير من طريق معمر شيخ عبد الرزاق، وكذلك أيضًا فعل الثعلبي في التفسير، وتُبّع هذا جاء في حديث آخر صحيح: لا تسبوا تُبعًا فإنه كان قد أسلم[3]، كما يدل عليه هذا الخبر الذي نقله ابن كثير -رحمه الله، هذا جاء عن سهل بن سعد، وجاء أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو حديث صحيح، ولذلك الله -تبارك وتعالى- هنا ما ذمه وإنما ذكر قومه أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ فالذين حصل لهم الإهلاك هم قومه.
قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الدخان:38-42].
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله -جل وعلا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:115، 116].
ثم قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ، وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين.
وقوله : مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي: يوم يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا أي: لا ينفع قريب قريبًا، كقوله : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101]، وكقوله -جلت عظمته: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ [سورة المعارج:10، 11] أي: لا يسأل أخًا له عن حاله وهو يراه عيانًا.
وقوله -جل وعلا: وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ أي: لا ينصر القريب قريبه، ولا يأتيه نصره من خارج، ثم قال: إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله بخلقه، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: هو عزيز ذو رحمة واسعة.
قوله -تبارك وتعالى: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يعني خلقًا متلبسًا بالحق، وقول الحسن البصري وكذا قال الكلبي: إلا للحق، يعني أن الله لم يخلقهما عبثًا وباطلاً وإنما للحق، وهكذا قول من قال: لإقامة الحق وإظهاره، وهذه ألفاظ متقاربة.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ والحق هو الحِكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يُعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته.
ومنها: أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع.
ومنها: أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع.
ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيوجد أثر عدله وفضله موجودًا مشهودًا فيُحمد على ذلك ويشكر.
ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
ومنها: أن يصدق الصادق فيكرمه، ويكذب الكاذب فيهينه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علمًا مطابقًا لما في الواقع.
ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.
ومنها: ظهور أثر كماله المقدس، فإن الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حي قدير، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلًا مختارًا.
ومنها: أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به، ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهد حكمته الباهرة.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح، ولابدّ من لوازم ذلك خلقًا وشرعًا.
ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم.
ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته، إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق، فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق، وخلقها متلبس بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو متضمن للحق، وقد أثنى تعالى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ [سورة آل عمران:191]، وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة ص:27]، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له؟"[4].
هو يرد على نفاة الحكمة والتعليل في أفعال الله وصفاته، فهذه الأقوال التي سبقت: "إلا بالحق" يعني خلقًا متلبسًا بالحق، أو قول الحسن: إلا للحق، أو قول غيره: إلا لإظهار الحق، كل ذلك يرجع إلى معنى واحد، وقد انتظمها كلام ابن القيم -رحمه الله.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ المولى يقال: للناصر، والقريب ابن العم مثلاً؛ لأنه ينصر قريبه، ويقال للسيد: مولى، كما يقال للمملوك: مولى، ويقال للمعتَق: مولى، فالموالي بهذا الاعتبار أعلوْن وأدنوْن، السيد يقال له: مولى، والمملوك يقال له: مولى.
فالمقصود أنه لا أحد ينصر أحدًا في ذلك اليوم، ولا يغني، كما قال الله : وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] فنفى جميع الأسباب التي يحصل بها الخلاص، وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً لا يستطيع أن ينفعه بنافعة، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فهنا الوساطة من أجل تخليصه مِن قِبَل من له منزلة هذا لا يكون يوم القيامة إلا لمن أذن الله له من الشافعين، ورضيه من المشفوع لهم.
وكذلك أيضًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] لا يمكن أن يدفع فدية ويتخلص، أو يخرج بغرامة أو نحو ذلك، وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ لا يستطيع أحد أن يخلصهم بالقوة، فكل هذه الأسباب أسباب الخلاص نفاها، لا بواسطة، ولا بمقابل، ولا بالقوة.
لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ابن كثير يقول: أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله بخلقه، مقتضى كلام ابن كثير -رحمه الله- هنا أن الاستثناء منقطع، يعني لكن من رحم الله، أي أنه لا يغني أحد، فالنفي باق على عمومه لا يُستثنى منه شيء، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ لكن من رحم الله فإن رحمة الله تنفعه، هذا كلام ابن كثير، فالاستثناء منقطع بمعنى لكن، وهذا الذي مشى عليه بعض أصحاب المعاني مثل الفراء والكسائي، أنه استثناء منقطع.
وبعضهم يقول: الاستثناء متصل يعني لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، إلا من رحم الله، يعني من الشافعين، فإن الله -تبارك وتعالى- يشفعهم في قراباتهم، أي إلا أهل الإيمان هم أهل الرحمة، فهؤلاء يشفعون، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، استثناء متصل فلا أحد يغني عن أحد إلا أهل الإيمان فإنهم يشفعون، وعلى الأول لا أحد يغني عن أحد شيئًا إطلاقًا، لكن من رحمه الله نفعته رحمة الله، ويحتمل أن يكون الاستثناء راجعًا إلى المشفوع لهم، أي إلا من رحم الله نفعته الشفاعة.
هذا المقام مقام بيان انقطاع الأسباب، وأن الأمر وحده لله -تبارك وتعالى، وهو مقام تخويف إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ فكلام ابن كثير كأنه -والله أعلم- أليق بالسياق والمقام؛ لبيان أن الله وحده هو المتفرد، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا [سورة الإنفطار:19]، فهذا باقٍ على إطلاقه، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فيكون اللجْأ إليه وحده دونما سواه، والله أعلم.
ولهذا عقب بهذين الاسمين الكريمين، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمن مقتضيات عزته أنه لا أمر لأحد سواه، ولا أحد يستطيع أن ينفع أحدًا أو يخلصه، وهو رحيم -تبارك وتعالى، فمن حلت به رحمة الله ونزلت به نفعه ذلك، فجمع بين هذين الاسمين، فاسم العزيز إذا اقترن مع الرحيم فإن هذا فيه دلالة على أن عزته -تبارك وتعالى- لا تُقنِّط أهل الإيمان من رحمته، هو مع عزته رحيم، وكذلك أيضًا أنه -تبارك وتعالى- حينما يرحم لا يكون ذلك عن ضعف وعجز عن المؤاخذة، فهو رحيم مع العزة، وقد تكون الرحمة مع ضعف وعجز، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عزيز رحيم.
قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ [سورة الدخان:43-50].
يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ والأثيم أي في قوله وفعله وهو الكافر، وذكر غير واحد أنه أبو جهل، ولا شك في دخوله في هذه الآية ولكن ليست خاصة به، روى ابن جرير أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلاً إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِفقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء : قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر، أي: ليس له طعام من غيرها، قال مجاهد: ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، وقد تقدم نحوه مرفوعًا.
هنا ما جاء عن أبي الدرداء حينما قرأ هذا الرجل: طعام اليتيم، الرجل يقرأ هكذا، يعني هو ما عرف يقرأ: الأثيم، فقال أبو الدرداء: قل: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر، وهذا أيضًا جاء عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه، فهل هذا الذي قالاه من باب القراءة؟ أي أنهما ذكرا له وجهًا من أوجه القراءة، هل هذا هو المراد؟ يعني هل هذه قراءة؟
بعض العلماء يقول: نعم هذه قراءة، ولكنها ليست قراءة متواترة كما هو معروف، ولم يكن لهما أن يقولا له ذلك من عند أنفسهما؛ لأن القراءة مبناها على السماع والتلقي، التوقيف، وليس لأحد أن يأتي بلفظ من عنده، وهذا الذي مشى عليه في ظاهر كلامه الباقلاني في كتابه "الانتصار لنقل القرآن"، هذا الكتاب كان المطبوع منه مختصرًا -تهذيبًا- في جزء، وقبل سنوات قريبة طبع كاملاً، يعني طبع الموجود من الكتاب في ثلاثة مجلدات، كتاب كبير، وهو كتاب نافع جدًا، فيه رد على الطاعنين في القرآن من الرافضة والنصارى وغيرهم، فيرد عليهم هذه الأشياء التي يلبِّسون بها.
ومثل هذه الأشياء الآن طعام الفاجر هل له أن يأتي بكلام من عنده؟ هل في القرآن زيادة، أو نقص، أو تحريف؟ والمستشرقون يأخذون مثل هذه الأشياء ويلبسون بها على الناس، وهكذا أيضًا تجد ذلك في الشبهات التي تبث الآن في وسائل الاتصال وما إلى ذلك، فمن أهل العلم مثل الباقلاني في كتابه الانتصار يقول: هذه قراءة، وهذا الذي مشى عليه الزرقاني أيضًا في "مناهل العرفان".
بعض أهل العلم يقول: إن ذلك كان على سبيل التفسير وليس على سبيل الإقراء أو القراءة، إنما هو يفسر له، فقُرئت كذلك، هذا قاله النحاس، وابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز"، أن هذا من باب التفسير، قراءة تفسيرية طَعَامُ الْأَثِيمِ قال: الفاجر.
وبعضهم يقول كالأنباري: إنه من باب التقريب؛ لأن الرجل كان يقرأ الأثيم: اليتيم، فهو يبين له أنها مادة أخرى، ليس الأثيم يعني اليتيم، يمكن أن يكون في سمعه شيء فهو يبين له أن الأثيم يعني الفاجر وليس اليتيم، تعرف تقرأ الفاجر، يعني اقرأ مثلها هناك في الأثيم، يعني أنه يقرب له اللفظة أنها ليست متصلة باليتم، وإنما المقصود مادة أخرى تتصل بالفجور من أجل أن يقرأ الأثيم قراءة صحيحة، هذا قاله ابن الأنباري، ويحتمل أن تكون قراءة غير متواترة، لكن أن يكون ذلك على سبيل الاختيار فهذا غير صحيح مع أنه ظاهر كلام صاحب الكشاف، هذا غير صحيح، ولا يجوز القراءة على المعنى، لا يجوز أن يبدل لفظة بلفظة من عند نفسه بزعم أنها تؤدي معناها، ولا يوجد لفظة تؤدي معنى اللفظة الأخرى من كل وجه، والقرآن كلام الله .
المهل يقول: كعكر الزيت، يقال: دُرْدِيّ الزيت، وعكر القطِران، عكر الزيت، ما هو عكر الزيت؟ تجد الزيت يكون في أسفله مثل التَّخثُّر والحثالة، الزيت يصفو أعلاه، وأسفله يكون فيه شيء من الكدر، هذا يقال له عكر الزيت، كما يقال: حثالة الشيء ونحو ذلك، حثالة الزيت يكون أسفله متغيرًا، فهذا كالمهل يغلي في البطون -نسأل الله العافية، قال: عكر الزيت، دُردي الزيت، ويقال: عكر القطران.
وبعضهم يقول: إن المهل هو النحاس المذاب، أو ما يذاب من فضة أو رصاص، وابن جرير -رحمه الله- عمم ذلك في كل مذاب من رصاص أو فضة أو غير ذلك، شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ والأثيم صفة يعني صاحب الآثام، نحن عرفنا أن الإثم يقال للمعصية، يقال: هي إثم، فيقال: الزنا إثم، والسرقة إثم، ويقال لجرائرها وما ينتج عنها من المؤاخذة، فيقال مثلاً: مَن فعل كذا فهو آثم، يأثم، يلحقه الإثم الذي هو النتيجة، المؤاخذة يقال لها: إثم، وعرفنا أيضًا أنه يقال بإطلاق خاص وهو شرب الخمر يسمى إثمًا، فالعرب تسميه إثمًا باعتبار أنه أصل في الآثام، فإذا شرب وسكر فعل كل شيء، فهنا كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ما الذي يغلي في البطون؟ هنا يغلي في البطون كالمهل، "يغلي" قراءة حفص التي نقرأ بها هكذا بالياء كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، وبها قرأ ابن كثير، وهي قراءة ورش "كالمهل يغلي"، يغلي يرجع إلى ماذا؟
لا تقل: المهل، إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ هنا يصف ماذا؟ يصف المهل أنه في البطون يغلي؟ هل المهل في البطون يغلي؟ يعني هل هؤلاء في بطونهم مهل مثلاً يغلي؟ هل هذا المقصود؟ أو وصف الطعام أي إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ ما به؟
يغلي في البطون كالمهل غليان المهل، فالذي يغلي هو الطعام، "كالمهل يغلي في البطون"، وقراءة الجمهور بالتاء كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ "تغلي" يرجع إلى شجرة الزقوم، تغلي في البطون، فإذا أكلوها فإنها تغلي في بطونهم، -نسأل الله العافية، وذلك لا يرجع إلى المهل على قراءة الياء "يغلي"، يعني الطعام طعام الأثيم، قال: كَغَلْيِ الْحَمِيمِ هو ما تناهت حرارته.
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ العتل هو القود بعنف، يقاد بعنف، يُدفع دفعًا، وبعضهم يقول: هو أن يُؤخذ من تلابيبه، هذا العتل عند العرب، يؤخذ الرجل من تلابيبه ومجامعه فيجر، يسحب، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ يعني يجر إلى النار ويسحب بقوة وبعنف، يعني ما هو يمشي على راحته ويقال له: تفضل إلى النار، لا، وإنما بعنف وقوة، وهؤلاء من المجرمين يكونون مقيدين، الأغلال في الأعناق والسلاسل، ومقرنين أيضًا يعني يُقرن بعضهم إلى بعض، ثم بعد ذلك يكبكبون في النار، يدفعون فيها، ويُدعُّون في نار جهنم دعًّا.
تصور هذا المشهد وهم يتساقطون فيها ما مداها ما عمقها؟ النبي ﷺ لما سمع صوت وجبة قال: هذا حجر ألقي في النار منذ سبعين سنة، يعني هذا الذي يهوي -يسقط- وفي النار، وبهذه الطريقة مقيد ومقرون بغيره أيضًا لا شك أن هذه مشاهد لو أن الإنسان يتصور ذلك ويتيقنه فإنه لا يهنأ لا بطعام ولا شراب ولا نوم، كون النار بين عينيه لا يمكن أن يجترئ على معصية الله ، لو قيل لإنسان: ستلقى فقط من مكان مرتفع لخاف أشد الخوف، أنت تلاحظ الآن عندما يكون الإنسان في مكان شاهق يعني يشعر أنه سيسقط في أي لحظة ويتخيل له السقوط، وعندما يكون الإنسان فوق جبل مرتفع أو مبنى مرتفع جدًا ثم ينظر إلى أسفل يشعر أن الدنيا تدور به، فكيف بالنار التي لا يقادر قدرها ولا يعرف مداها وقعرها؟! لو لم يكن فيها نار لو كانت مجرد حفرة يلقى فيها لكان هذا شيئًا هائلًا، يعني لو قيل: عقوبة من فعل جريمة أو نحو ذلك أنه يلقى من أعلى مبنى في البلد، يعني انظر إلى العمائر مثلاً المجاورة للحرم عندما تأتي الصور للحرم من فوق من أعلى منها تجد منارات الحرم صغيرة، فلو قيل لأحد: تُلقى من فوق من أعلى هي عقوبة ليست سهلة.
تأمل هذه المشاهد التي نراها لإخواننا في بلاد الشام كيف الواحد يتألم من مجرد النظر إليها، فكيف هذه الأشياء التي لا يمكن للعقل أن يتصور حقيقتها كما هي؟!، لو إنسان يُصب عليه أسيد، أو تُلقى عليه مادة مشتعلة ثم توقد كيف يكون مثل هذا؟ فكيف بنار جهنم؟!
وقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي: قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ، وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أي: لست بعزيز ولا كريم.
نعم، قال: لأنه يدعي ذلك، ويقال له على سبيل السخرية والاستهزاء والتهكم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، وفي القراءة الأخرى قراءة الكسائي وهي قراءة متواترة: ذُقْ أَنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي لأنك أنت العزيز الكريم.
وقوله : إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ، كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [سورة الطور:13-15]، ولهذا قال تعالى هاهنا: إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ.
قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ [سورة الدخان:51-59].
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء؛ ولهذا سُمي القرآن مثانِيَ، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي: لله في الدنيا، فِي مَقَامٍ أَمِينٍ أي: في الآخرة وهو الجنة، قد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب، ومن الشيطان وكيده، وسائر الآفات والمصائب.
يعني يُحمل على أعم معانيه، فِي مَقَامٍ أَمِينٍ يأمنون من كل المخاوف، المَقام على قراءة الجمهور هذه بالفتح فسره كما سبق: مَقام موضع القيام، كما يقول الكسائي، وعلى القراءة الأخرى بالضم }مُقام{ يعني مكان وموضع الإقامة، وهذه قراءة نافع وابن عامر.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ... الآيات: "فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه، واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس، وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضًا، وتمام اللذة بالحور العين، ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها، وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتًا.
والحُور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء"[5].
وقال -رحمه الله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ والمقام الأمين موضع الإقامة، والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه، وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص، وأهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد، والبلد الأمين الذي قد أمن أهله فيه مما يخاف منه سواهم، وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ وفي قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها، وأمْن الخروج منها فلا يخافون ذلك، وأمْن الموت فلا يخافون فيها موتًا"[6].
السندس هو ما رق من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، هذا المشهور وهو الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله- قال به آخرون، يعني يلبسون أنواع الحرير، والديباج الرقيق والغليظ.
هذا من كمال المجالس، ومن المتعة فيها، ولذلك الناس إذا هيئوا مجلسًا فإنهم إذا أرادوا أن يكون هذا المجلس على حال من الكمال يجعلون المقاعد فيه أو الأماكن المهيأة للجلوس متقابلة.
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ "كذلك" هذه إما نعت لمصدر محذوف أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك، وإما مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف، يعني الأمر كذلك نفعل بالمتقين، كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ قال: أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ الحور ما المقصود به؟
سبق الكلام على هذا هل ذلك من صفات العين، أو أنه من صفات المرأة إجمالاً؟ بعضهم يقول: هو من صفة المرأة، فالحوراء هي البيضاء البياض النقي الذي لا شائبة فيه، يعني ليس فيه نمش، وليس فيه ما يكدره، وإنما هو في غاية الصفاء، فالبياض لا شك أنه كمال في المرأة، وأنه من المطالب، ولهذا قالوا: البيضاء هي الحوراء، وابن جرير فسره بهذا، البيضاء، نقية البياض، بياض في نقاء، والعرب تسمي النساء في مقامات المدح بالبِيض، كما تقول ذلك للسيوف أيضًا.
ولا زال الناس يقولون هذا ويذكرونه، الآن يسمون المرأة بأسماء منها يقولون: وضحاء، ما معنى وضحاء؟ بيضاء، ويقولون للإبل البيض: الوُضح أو لا؟ لا زال هذا مستعملًا إلى اليوم، الوُضح يعني البيض، الإبل ألوان، فالبيض منها يقال لها: وُضح، يقال: هذه ناقة وضحاء، فالمرأة تسمى إلى اليوم: وضحاء، نظرًا للبياض، هذا أصله.
فبعضهم يقول كابن جرير: إن المقصود أن المرأة بيضاء، حور فهن بيض، عِينٌ هذه صفة العين، بعضهم يقول: إن ذلك بمعنى الاتساع، فالمرأة العيناء هي واسعة العين، وأن السعة تُطلب في المرأة في أربعة مواضع، والضيق يطلب في أربعة مواضع، هذه من صفات الجمال عند العرب، وعند الحكماء، وعند الأمم، حتى حكماء الفلاسفة وغير هؤلاء، وكانت العرب تذم ضيق العين واستطالتها في المرأة، وترى أنه من العيوب، فالمرأة العيناء هي واسعة العين.
بعضهم يقول: هو من صفة العين، ولكن هو بياض في غاية الصفاء مع شدة السواد أيضًا، وهذه في العادة لا شك أنه جمال، والغالب في عيون العرب السواد، ولكن لما لحقت الهزيمة الناس في كل شيء إلا من رحم الله صار حتى أشكال هؤلاء الذين يقلدونهم من الغربيين صارت هذه الأشكال جميلة، ومطلوبة بالنسبة إليهم، وصار بدلا من الشعر الأسود الفاحم الذي هو في غاية الجمال، وقد جاء جبريل إلى النبي ﷺ شديد سواد الشعر، والعرب في كل كلامها تمدح المرأة بشدة سواد الشعر، صار اللون الأشقر هو الأفضل، وتجد المرأة تفاجئك بحالة مشوهة قد غيرت شعرها وصبغته بلون لا يصلح لهيئتها وسحنتها.
وهكذا في العين صار الآن الناس يلبسون العدسات فيتشبهون بأولئك، مع أن العرب تقول: إن زرقة العين تدل على الغدر، والله -تبارك وتعالى- قال: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [سورة طـه:102] يعني زرق الأعين، مع أن هذا ليس بلازم -أقصد أن زرقة العين تدل على الغدر، فإن هذه خلقة في الإنسان، وكثير من الأخيار قد تكون عينه زرقاء، ويكون في غاية الصلاح فما ذنبه؟
لكن لا شك أنه من ناحية الصورة والجمال السواد هو الأفضل، ولكن حينما تتغير الفطر ينقلب الحسن إلى قبح والعكس، فاليوم الأمزجة والأذواق تغيرت، فبدلا من كون البياض في المرأة هو الجمال أصبح اليوم نسمع أن كثيرًا من النساء البيض صارت تضع على نفسها أشياء على جلدها من أجل أن يظهر في حال من السمرة، هذا موجود الآن ويروج بين النساء، الشعر الناعم صار الآن توضع عليه مواد ليتجعد، فتخرج المرأة في حال وهيئة مخيفة بعد ذلك الشعر الناعم الفاحم، والعيون السوداء تحولت إلى عيون أخرى، -والله المستعان، كل شيء تغير عند كثير من الناس.
فالمشهور أن الحور العين شدة البياض أنها من صفة العين، وهذا الصفاء يكون عادة في الأطفال الصغار، وكلما تقدم السن في الإنسان اصفر البياض، هناك لا، في غاية الصفاء، والأطباء يقول بعضهم: إن هذه الصفرة تكون بسبب الهموم والأشياء التي تمر على الإنسان، وهذا الذي ذكرته من بياض وسواد في صفاء هذا قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى مع أن بعضهم كأبي عمرو بن العلاء قال: هو سواد العين كاملاً، كل العين سوداء كعيون الظباء والمها والبقر، قال: ولهذا يشبهون المرأة بالمها وبالبقر، والبقرة يقصدون بها الوحشية فهذه الظباء والمها عيونها جميلة، والعرب دائمًا يذكرون هذا ويشبهون به النساء.
وقد مضى الكلام على هذا في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [سورة ص:23] في قول من قال: إن المقصود بها المرأة، وإن النعجة عند العرب المقصود بها حينما يذكرونها في صفة المرأة، أو حينما يذكرون أحيانًا النعجة في كلامهم على سبيل ذكر الأوصاف الحسنة ونحو ذلك يقصدون بها الظباء والمها فعينها في غاية الجمال كلها سوداء، ولا يوجد امرأة أو إنسان عينه كلها سوداء، لكن هم يشبهون الجمال فلهذا يقولون ذلك في المرأة، ولهذا تسمى المرأة مها بهذا الاعتبار.
فمع أن بعض السلف كمجاهد يقول: إنه قيل لها: حوراء؛ لأن الطرْف يتحير في حُسنها، يعني ليس ذلك يرجع إلى لون الجلد ولا إلى صفة العين، لكن المشهور خلاف ذلك، وبعضهم رده أيضًا من جهة أن أصل المادة -الحور- ليس من التحير، لكن هذا يشكل عليه أن مجاهدًا في وقت الاحتجاج.
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ يعني يطلبون، كلما طلبوا شيئًا حضر لهم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ... الآيات: "والحور جمع حوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة، البيضاء شديدة سواد العين، وقال زيد بن أسلم: الحوراء التي يحار فيها الطرْف"[7].
قول زيد بن أسلم هذا أو قول مجاهد أيضًا.
وقال -رحمه الله: "وعِين: حسان الأعين، وقال مجاهد: الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون، وقال الحسن: الحوراء شديدة بياض العين شديدة سواد العين، واختلف في اشتقاق هذه اللفظة، قال ابن عباس: الحُور في كلام العرب البِيض، وكذلك قال قتادة: الحور البيض، وقال مقاتل: الحور البيض الوجوه، وقال مجاهد: الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديًا مخ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة وصفاء اللون، وهذا من الاتفاق وليست اللفظة مشتقة من الحيرة، وأصل الحَوَر البياض، والتحوير التبييض، والصحيح أن الحُور مأخوذ من الحَوَر في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها، فهو يتضمن الأمرين، وفي الصحاح الحَوَر شدة بياض العين في شدة سوادها، امرأة حوراء بيِّنة الحَوَر"[8].
هذا هو المشهور.
وقال -رحمه الله: "وقال أبو عمرو: الحَوَر أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر، وليس في بني آدم حَوَر، وإنما قيل: النساء حور العين؛ لأنهن شبهن بالظباء والبقر، وقال الأصمعي: ما أدري ما الحَوَر في العين، قلت: خالف أبو عمرو اللغة في اشتقاق اللفظة، وردَّ الحَوَر إلى السواد، والناس غيره إنما ردوه إلى البياض، أو إلى بياض في سواد، والحَوَر في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر، عين حوراء إذا اشتد بياض أبيضها، وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حَوَر عينيها بياض لون الجسد، والعِين جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء، ورجل أعْيَن إذا كان ضخم العين، وامرأة عيناء والجمع عِين، والصحيح أن العِين اللائي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة، قال مقاتل: العِين حسان الأعين، ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول، وضيق العين في المرأة من العيوب، وإنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع فمها، وخرق أذنها، وأنفها، وما هنالك"[9].
يعني ثقب الأذن والأنف وما هنالك
وحذْفُ ما يُعلم جائزٌ كما | تقول: زيدٌ بعدَ مَن عندكما؟ |
وقال -رحمه الله:وفي قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها، وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك، وأمن الموت فلا يخافون فيها موتًا"[10].
لاحظ المعاني الكثيرة التي جمعها "آمنين" الأمن من كل وجه.
وقوله : يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ أي: مهما طلبوا من أنواع الثمار أُحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا، وقوله: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت[11]، وقد تقدم الحديث في سورة مريم -عليها الصلاة والسلام، وروى عبد الرزاق عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله ﷺ: يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا[12]، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس، ويحيا فيها ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه [13].
هنا قوله -تبارك وتعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى هذا الاستثناء هنا يقول: إنه منقطع ومؤكد للنفي؛ لأن الاستثناء المنقطع يؤكد في مثل هذا المقام النفي ويقويه، إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى يعني لكن الموتة الأولى؛ لأن الجنة ليس فيها موت أصلاً، ولكن الموتة الأولى التي ماتوها في الدنيا إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى؛ ولهذا بعضهم يقول: إنه بمعنى بعد، يعني "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" يعني بعد الموتة الأولى، كما يقوله ابن جرير -رحمه الله، يقول: الاستثناء بمعنى بعد الموتة الأولى، وما ذكره ابن كثير من كون الاستثناء منقطعًا هذا هو المشهور، وهو ظاهر القرآن، وهو الذي مشى عليه أصحاب المعاني كالزجاج والفراء، وهكذا قول من قال: إنه بمعنى سوى، كما يقوله ابن عطية، سوى الموتة الأولى، لكن ابن قتيبة يقول: إن الاستثناء متصل، كيف يكون متصلا؟ الجنة ما فيها موت، ما وجه كلام ابن قتيبة؟
وجه كلام ابن قتيبة وإن كان فيه نظر -والله أعلم- مع أنه إمام في اللغة وهو أديب أهل السنة بمنزلة الجاحظ عند المعتزلة، وجه كلامه أنه حينما يموت الإنسان فإنه يكون -يعني المؤمن- في حال من النعيم، يفتح له نافذة إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، ويرى منزله من الجنة صباح مساء، فهو في حال من النعيم، قد اتصل بأسباب الجنة، ولكنه ميت، فيقول: لمّا كان متصلاً بأسباب الجنة والله يقول: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى، فهذا الذي ينعَّم ويرى منزله من الجنة، ويأتيه من روحها هو لا يذوق الموت في الجنة إلا الموتة الأولى، هذه التي قد اتصل معها بأسباب الجنة من هذه الحيثية، يعني عنده أن الاستثناء متصل، فهذا لم يدخل الجنة بعد لكنه على نوع اتصال بها، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً، لكن هذا فيه بعد، والله أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وَأَمَّا قوله: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى فهذا الاستثناء هو لتحقيق دوام الحياة وعدم ذوق الموت، وهو يجعل النفي الأول العام بمنزلة النص الذي لا يتطرق إليه استثناء ألبته، إذ لو تطرق إليه استثناء فرد من أفراده لكان أولى بذكره من العدول عنه إلى الاستثناء المنقطع، فجرى هذا الاستثناء مجرى التأكيد، والتنصيص على حفظ العموم، وهذا جارٍ في كل منقطع، فتأمله فإنه من أسرار العربية"[14].
قوله تعالى:وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِأي: مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب، ولهذا قال : فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدًا لن يُدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ﷺ: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل [15].
وقوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحًا بينًا جليًّا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: يتفهمون ويعلمون، ثم لمّا كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله ﷺ مسليًا له وواعدًا له بالنصر ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب والهلاك: فَارْتَقِبْ أي: انتظر، إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ أي: فسيعلمون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21] الآية، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر:51، 52].
آخر تفسير سورة الدخان، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
- رواه الحاكم في المستدرك، برقم (104)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2217).
- رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3682)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
- رواه أحمد في المسند، برقم (22880)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة وأبي زرعة عمرو بن جابر، وأبو زرعة أشد ضعفا"، والطبراني في الأوسط، برقم (1419)، وفي الكبير برقم (6013)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2423).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:198).
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 218).
- المصدر نفسه (ص:100، 101).
- المصدر نفسه (ص: 218).
- المصدر نفسه (ص:218، 219).
- المصدر نفسه (ص:219).
- المصدر نفسه (ص:100، 101).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ [سورة مريم: 39]، برقم (4730)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2849).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة وقوله تعالى: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، برقم (2837).
- رواه الطبراني في الكبير، برقم (1161)، وفي المعجم الأوسط، برقم (8045).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 326).
- رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).