بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمسلمين.
يقول ابن كثير -رحمه الله:
تفسير سورة والتين والزيتون، وهي مكية.
قال مالك وشعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب: "كان النبي ﷺ يقرأ في سفر في إحدى الركعتين بـ"التين والزيتون"، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه"[1] [أخرجه الجماعة في كتبهم].
بسم الله الرحمن الرحيم.
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [سورة التين:1- 8].
المراد بسورة التين: روى العوفي عن ابن عباس: "أنه مسجد نوح الذي على الجودي".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة من السور النازلة بمكة، وموضوعها الذي تتحدث عنه هو: الإنسان، حيث خلقه الله خلقًا سويًّا، ثم بعد ذلك يتحول هذا الخلق السوي إلى حال أخرى، إلا من شاء الله.
فهذا الذي خلقه وصرفه هذا التصريف كل ذلك دال على قدرته وإحاطته بهذا المخلوق، وأن حكمه ماضٍ فيه، وأن قضاءه عدل فيه، وأن مرجعه إليه، وسيجازيه على أعماله.
إذا نظرت مثلاً في سورة الطارق: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [سورة الطارق:1-4].
الله -تبارك وتعالى- محيط بهذا الإنسان، محيط بأعماله.
ثم بين له كيف كان مبدأ خلقه من ضعف: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:5- 10]، كل هذا يرجع إلى هذا المعنى.
هذا الذي خلقه هذا الخلق، محيط به إحاطة كاملة، فهو قادر على إعادته ومجازاته، هنا: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
هذه الرواية التي ذكرها: "كان النبي ﷺ يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بـ"التين والزيتون" فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا، أو قراءة منه"[2].
في لفظ: "فصلى العشاء"[3] هذا في سفر "فقرأ".
وفي بعض الروايات: أنه قرأ بها في الركعة الأولى في صلاة العشاء[4] تخفيفًا على الناس.
وفي بعض الروايات: أنه قرأ بها في المغرب في الركعة الثانية[5].
ومعلوم: أنه ﷺ كان يقرأ في المغرب كثيرًا من قصار السور، وربما قرأ من قصار المفصل.
وربما قرأ من أواسط المفصل أو من طوال المفصل.
فعلى كل حال إن كان ذلك في صلاة العشاء فهذا فعله ﷺ تخفيفًا؛ كما قرأ في الفجر في سفر: "إذا زلزلت" أعادها في الركعتين[6].
وقال مجاهد: هو تينكم هذا.
وَالزَّيْتُونِ قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وغيرهم: هو مسجد بيت المقدس.
وقال مجاهد وعكرمة: هو هذا الزيتون الذي تعصرون.
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ هنا يقول:عن ابن عباس من طريق العوفي: أنه مسجد نوح الذي علي الجودي.
هذه الرواية لا تصح عن ابن عباس .
والجودي باعتبار أنه جبل رست عليه سفينة نوح، وهذا الجبل لا يعرف، وإنما يذكر في أخبار بني إسرائيل، ولو صح ذلك فإن مكانه غير معلوم، ولا يعرف جبل في الدنيا اسمه: " جبل التين"، وهذا خلاف المتبادر.
يقول: وقال مجاهد: "هو تينكم هذا"، وهذا القول لم يتفرد به مجاهد، بل قال به جماعة، كالحسن وعكرمة وإبراهيم النخعي والكلبي، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، وهو الظاهر المتبادر، فالله خاطبنا بما نعهد وبما نعرف: "هو تينكم هذا".
والزيتون، قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وغيرهم: هو مسجد بيت المقدس.
وقال مجاهد وعكرمة والآخرون -الذين ذكرت آنفًا: إن التين هو التين المعروف، فكذلك الزيتون.
كل هؤلاء كالحسن والنخعي والكلبي، وهو اختيار ابن جرير: أنه هو الزيتون الذي نعرفه، الزيتون الذي تعصرون.
وهذا قول الأكثر من أهل العلم.
وينبغي حمل القرآن على الظاهر المتبادر.
والقَسم -كما هي القاعدة- لا يكون إلا بمعظم، فإذا أقسم الله بالتين والزيتون؛ فهذا يدل على شرفهما من بين سائر الثمار، وكثرة المنافع لهما.
يعني التين إذا نظرت إليه، وما فيه من كثرة المنافع، يؤكل رطبًا، ويؤكل مجففًا، وليس فيه نوى، وهو سهل الهضم، سهل المضغ، بقدر المضغة، وسهل النبات أيضًا، ويوجد في محال ومواضع كثيرة من الأرض.
فهو يوجد في بلاد حارة، ويوجد في بلاد باردة، وله صنوف وأشكال وألوان، فهو كثير النفع.
وكذلك الزيتون لا يخفى، والله -تبارك وتعالى- وصف شجرته بأنها مباركة: يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ [سورة النور:35]، وهذه البركة جعلها الله في هذه الثمار، كما جعلها في بعض البقاع، وجعلها في بعض الأوقات، وجعلها في بعض الذوات.
والبركة من الله -تبارك وتعالى، فتطلب منه، وأيضًا يحصل لمن لابس هذه المواضع من البركة ما شاء الله، ولذلك ماء زمزم ماء مبارك، فيشرب الإنسان منه.
وهكذا التين والزيتون، وهكذا إذا سكن الإنسان في بقعة مباركة، مثل أرض الشام، فإنها كثيرة الخيرات، كثيرة البركات.
وبعضهم يفسره بغير ذلك، جاء عن بعض السلف كالضحاك أن التين هو المسجد الحرام، والزيتون الأقصى، وهذا لا دليل عليه.
وابن زيد يقول: إن التين هو مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس.
وقتادة يقول: التين هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون هو الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وكل هذا لا دليل عليه، وهو خلاف الظاهر المتبادر، لكن يحتمل أن يكون المراد: أن الله -تبارك وتعالى- أقسم بالتين والزيتون فقط، ويحتمل أن يكون المراد أيضًا مع الثمر الشجر، شجر التين والزيتون.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك المنابت، أو أن تكون المنابت داخلة فيه، يعني يكون الإقسام بالتين والزيتون مع متعلقه من المحل الذي ينبت فيه.
فالتين والزيتون هذه يمكن أن تشير إلى مواضع، فيكون هنا لو قلنا مثلاً لو صححنا أو أردنا أن نوجه هذه الرواية المروية عن ابن عباس -ولا تصح- فبعضهم يقول: هذا إشارة، أو إقسام بمواضع الشرائع الأربع، فالتين باعتبار -هذا لو صححنا الرواية عن ابن عباس- أن موضع الجودي إشارة إلى شريعة نوح ﷺ، وهو أول رسول إلى أهل الأرض، وأول نبي هو آدم ﷺ، فيكون هذا إشارة إلى هذه الشريعة.
والزيتون شريعة موسى ﷺ، وأما عيسى ﷺ، فجاء مكملاً لها، ولم يبعث بشريعة خاصة، كما هو معلوم.
وعلى هذا التقسيم: يكون الزيتون إشارة لعيسى ﷺ، والطور لموسى -عليه الصلاة والسلام، وهذا البلد الأمين للنبي -عليه الصلاة والسلام.
وكثيرون يجعلون ذلك على ثلاثة أنحاء وليست أربعة، يقولون: "والتين والزيتون" هذا إشارة إلى الشام التي هي مبعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ومنهم عيسى ﷺ.
"وطور سينين" هذا إشارة إلى موسى -عليه الصلاة والسلام.
"وهذا البلد الأمين" مكة إشارة إلى محمد -عليه الصلاة والسلام.
فيقولون: هذه الآيات تشير إلى ذلك.
وإذا حملنا هذا على المعاني المتبادرة المعروفة، وقلنا: والتين والزيتون: النبات المعروف أو الثمر المعروف، فلا يمنع بعد ذلك أن تكون هذه الأقسام مشيرة إلى هذه المحال، ولكن ليس هذا هو المعنى لهذه الألفاظ، وإنما يفسر القرآن بالظاهر المتبادر، ولا يجوز العدول عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه، هذا أصل وقاعدة.
وَطُورِ سِينِينَ الطور هو: الجبل، هذا معروف، لكن ما ذكر بعده "سِينِينَ"، هل هذه اللفظة عربية في أصلها أو أعجمية بناء على أنه يوجد في القرآن ما يسمى بالمعرَّب، يعني كلمات أصلها أعجمية؟
وهذه ألفاظ ادُّعي فيها ذلك، والدعاوى فيها متفرقة، تجد في اللفظة الواحدة غالبًا من يقول: هذه حبشية، والآخر يقول: رومية، والثالث يقول: فارسية، وهي لفظة واحدة.
والعلماء لهم كلام في هذا قد مضى في بعض المناسبات، فمنهم من ينكر وجود المعرَّب أصلاً، وذكرت من قبل القسمة الثلاثية في هذه المسألة، وأن القرآن بالاتفاق لا يوجد فيه شيء من التراكيب بغير اللغة العربية.
والله أخبر أن هذا القرآن: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [سورة الشعراء:195].
فلا يوجد فيه تركيب، يعني لا يوجد جملة مثلاً، أو شبه جملة، لا لفظًا ولا تقديرًا باللغة الأعجمية، لا يوجد، هذا القسم متفق عليه.
القسم الثاني: وهو الأعلام، أسماء الأعلام، فهي ينطق بها بحسب الألفاظ التي عُبر بها عن هذا العلَم بأي لغة كانت، هذا الأصل، فأكثر أسماء الأنبياء الموجودة في القرآن ليست عربية، كما هو معلوم، ولكن العرب تتصرف في الأسماء الأعجمية بما يتفق مع ألسنتها، فتتصرف فيها بما يليق بلغاتها، لغات العرب وألسنتها، فلا ينطقون به نطق الأعاجم، وإنما القاعدة عندهم: "أعجمي فالعَبْ به" فيتصرفون فيه.
القسم الثالث: هو الذي فيه الخلاف، وهو: المنكَّر، ألفاظ النكرة إستبرق، سندس، مشكاة، وما شابه ذلك من الألفاظ المنكَّرة، ليست أعلامًا مثل أسماء: إسماعيل، أو داود، أو إبراهيم، أو نحو ذلك، وليست تراكيب مثل: جاء زيد، أو نحو هذا، ولكنها ألفاظ منكَّرة، فهذه هل توجد أو لا توجد؟
بعضهم يقول: ليست الأعجمية أولى بها، الله أخبر بأن القرآن بلسان عربي مبين، فنحكم أنها عربية، فأولائك إن وجدت في لغتهم فقد أخذوها من العرب، فلماذا نعكس القضية؟!، أو أنها مشتركة بين اللغات، بين أكثر من لغة، إلى غير ذلك مما يقولون.
وهذه اللفظة: "طور" هو الجبل، و"سينين" هل هي عربية أو غير عربية؟ وما المراد بها؟
هنا يقول: قال كعب الأحبار وغير واحد: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ﷺ.
الطور هو الجبل، أضافه لهذا الموضع، مثلاً "طور سيناء"، وبعضهم يقول غير هذا، ولا يظهر كل الظهور، والله أعلم.
لكن الطور هو الجبل، ولكن هل هو الجبل بإطلاق أو بقيد؟
بعضهم كابن جرير يقول: هو الجبل ذو الشجر، هو الذي يقال له: الطور، وليس كل جبل، فلما أضافه هنا إلى "سينين" عرف أنه جبل خاص، يعني ليس أي جبل فيه شجر، وإنما هو جبل خاص، هو الذي كلم الله عنده موسى ﷺ، الجبل الذي في سيناء، وهذه لغة فيها: "سينين".
وإن كان بعضهم يقول: إن "سينين" تعني الحَسَن بلغة الحبشة، وهو جبل جميل، إما صورة؛ لما فيه من الشجر، وإما معنى؛ باعتبار أن الله كلم عنده موسى ﷺ فصار له من المنزلة والشرف ما جمّله، إلى غير ذلك مما يقولون.
لهذا كان ذلك في البقعة المباركة، فأثبت الله البركة لهذا الموضع.
وبعضهم يقول: إن هذه اللغة سريانية، بمعنى المبارك.
وهذه دعاوى تحتاج إلى إثبات، وإذا أُثبتت يُنظر هل يسلَّم بها أو لا.
فمن أهل العلم من يقول: لغة العرب أولى، فهم أخذوها، أو أنها مشتركة بين اللغات.
وكنت أسأل الطلاب في الجامعة الإسلامية الذين جاءوا من بلاد كثيرة عما يُذكر أحيانًا: هذه رومية، وهذه فارسية، وهذه حبشية، فكنت أسأل الأحابيش، وأسأل الفرس، وأسأل: هل تعرفون هذا في لغتكم؟
يقولون: هذا لا يُعرف، ما وجدت لفظة عرفوها في لغتهم.
لكن طبعًا يرِد على هذا واردات: أن هناك لغات قديمة لهم، وهناك لغات جديدة، الآن الفارسية القديمة، والفارسية الجديدة، الرومية القديمة، والجديدة، العبرية القديمة، والجديدة، هذا موجود.
وبعضهم يقول: ربما هذا كان في اللغة القديمة التي اندثرت، والآن تغيرت بعض الألفاظ في اللغة الجديدة.
وبعضهم يقيد هذا بقيد إضافة إلى ما ذكره ابن جرير، يعني ابن جرير قال: الجبل ذو الشجر، وبعضهم قيده بقيد آخر قال: الجبل ذو الشجر المثمر، وهذا منقول أيضًا عن بعض السلف، كمجاهد، وبعضهم يقول: هذه اللغة أصلاً لغة نبطية، هذه دعوى ثالثة، على القول بأنها غير عربية، وأن "سينين" معناه الشجر في لغتهم، كل هذا يحتاج إلى إثبات، ولكن على كل حال "طور سينين" قيده هنا بهذا القيد الذي دلت عليه الإضافة: طُورِ سَيْنَاء [سورة المؤمنون:20].
فهذا في موضع معروف، فصار ذلك محددًا معلومًا.
جاء في قراءة غير متواترة عن بعض السلف، تُروى عن بعض الصحابة والتابعين كعمر وغيره -رضي الله تعالى عنهم- أنهم قرءوا: {طور سِيناء}.
وهنا انتهت هذه الاحتمالات من أنها لغة غير عربية، إلى آخره.
أولائك يقولون: "سينين" يعني الحَسَن، مع أن الحَسَن في لغة الحبشة يقال: سَنَاه، وسَنَه، جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: يا أم خالد، هذا سَنَاه[7] في لغة الحبشة؛ لأنها جاءت من الحبشة وهي صغيرة، ولما كساها النبي ﷺ قال: هذا سناه يعني هذا جيد، يخاطبها ويداعبها بلغة لربما عرفتها، أو عرفت بعضها: هذا سناه وليس "سينين".
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني: مكة، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وإبراهيم النخعي وابن زيد وكعب الأحبار، ولا خلاف في ذلك.
وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيًّا مرسلا من أولي العزم، أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي: بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم.
والثاني: طور سينين، وهي: طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.
والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدًا ﷺ.
قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء -يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران -وأشرق من ساعير– يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى، واستعلن من جبال فاران -يعني: جبال مكة التي أرسل الله منها محمدًا ﷺ، فذكرهم مخبرًا عنهم على الترتيب الوجودي، بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الأمين فعيل، وفعيل تأتي مرادًا بها معنى: فاعل، وتأتي مرادًا بها معنى: مفعول.
هنا يحتمل هذا البلد الأمين يعني الآمن، جعلنا حرمًا آمنًا، يأمن الناس فيه، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25].
ويحتمل أن يكون بمعنى: مفعول، يعني أنه مأمون.
وابن جرير -رحمه الله- يفسره بالآمن، يعني من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا [سورة القصص:57].
فالله -تبارك وتعالى- امتن عليهم بهذا، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3، 4].
يذكر ابن القيم -رحمه الله- وجوهًا في الترجيح ومناقشات، فيذكر معانيَ لطيفة وجميلة، يصعب اختصارها، وقد ذكرت لكم من قبل أن من الأمور التي تنمي الملكة في التفسير النظر في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم، وكثرة القراءة في تفسير ابن جرير والشنقيطي وابن كثير.
يقول ابن القيم -رحمه الله- معلقًا على قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: "فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام، والأمم الكثيرة"[8].
تأمل ابن القيم -رحمه الله- يشير إلى هذه المحال والمواضع.
وقال -رحمه الله: "فالتين والزيتون المراد به نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما، وهو أرض بيته المقدس؛ فإنها أكثر البقاع زيتوناً وتيناً"[9].
فتأمل الجمع بين هذه المعاني، حمله على الظاهر المتبادر: الثمرتين، وأن الشجرتين داخلتان فيه للملازمة، الثمر والشجر، وأن ذلك يقتضي محلا توجد فيه هذه الأشجار، فهنا هذه مواضع هؤلاء الأنبياء الثلاثة -عليهم الصلاة والسلام- أو الشرائع الثلاث.
وقال -رحمه الله: "وقد قال جماعة من المفسرين: إنه سبحانه أقسم بهذين النوعين من الثمار، لمكان العزة فيهما، فإن التين فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، لا عَجْم له، وهو على مقدار اللقمة، وهو فاكهة وقوت وغذاء وأدم، ويدخل في الأدوية، ومزاجه من أعدل الأمزجة، وطبعه طبع الحياة، الحرارة والرطوبة، وشكله من أحسن الأشكال، ويدخل أكله والنظر إليه في باب المُفرِّحات"[10].
يقصد ابن القيم -رحمه الله- أن التين من المفرِّحات؛ فهناك أشياء يسمونها: "المفرحات" وقد ذكرتها في درس بعنوان: "وصيتي لكل محزون".
فهناك أشياء تؤكل "مفرحات" تسبب الإجمام؛ مثل التلبينة لأهل الميت، فهي تخفف الحزن، وهناك أيضًا التُّرُنْج، والتين، فهذه الأشياء يقال لها: مفرحات، كذلك: رائحة الطيب، من جملة المفرحات، فيحصل بها انشراح وسرور، وإجمام بالنفس.
وقال -رحمه الله: "وله لذة يمتاز بها عن سائر الفواكه، ويزيد في القوة، ويوافق الباءة، وينفع من البواسير والنقرس، ويؤكل رطبًا ويابسًا.
وأما الزيتون ففيه من الآيات ما هو ظاهر لمن اعتبر، فإن عوده يُخرج ثمرًا يَعصر هذا الدهن، الذي هو مادة النور، وصبغ للآكلين، وطيب ودواء، وفيه من مصالح الخلق ما لا يخفى، وشجره باق على مر السنين المتطاولة، وورقه لا يسقط، وهذا الذي قالوه حق، ولا ينافي أن يكون منبته مرادًا، فإن منبت هاتين الشجرتين حقيق بأن يكون من جملة البقاع الفاضلة الشريفة، فيكون الإقسام قد تناول الشجرتين ومنبتهما"[11].
فتأمل توجُّه القَسم إلى ثلاثة أشياء: الثمر توجه إليه القسم ابتداءً، والشجر، والمنبت.
وقال -رحمه الله: "وهو مَظْهَر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى ابن مريم، كما أن طور سينين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى، فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه، وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة، مظهر خاتم أنبيائه ورسله، سيد ولد آدم، وترقى في هذا القَسم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر عبده ورسوله، وأكرم الخلق عليه"[12].
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هذا هو المقسم عليه، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوي الأعضاء، حسنها.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى النار، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد، وغيرهم.
ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل؛ ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وقال بعضهم: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى أرذل العمر.
وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة، حتى قال عكرمة: "من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر" واختار ذلك ابن جرير.
ولو كان هذا هو المراد لما حسُن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه؛ كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر:1- 3].
قوله -تبارك وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ اللام هذه داخلة على جواب القسم، أكده بـ"اللام" وبـ"قد".
و"قد" إذا دخلت على الفعل الماضي فإن ذلك يفيد التحقيق: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
وكلام أهل العلم في هذا الخلق بهذه الصفة: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يدور على معنيين: هل المراد به في الصورة الظاهرة؟
وهذا الذي عليه الأكثر سلفًا وخلفًا: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في الصورة الظاهرة.
المعنى الآخر: قال به قلة من المفسرين -مع أنه معنى معتبر- وهو: أن المراد بذلك الصورة الباطنة، أو الحال الباطنة، أي خلقه الله على هذه الفطرة، خلقه الله بهذه الصفة: يعقل؛ وعلى الفطرة.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التقويم هو جعْل الشيء ذا قوام.
يعني جعْله مستقيمًا معتدلاً، خلقه الله بهذه الصفة، فهو ذو اعتدال واستواء.
هذا الاعتدال وهذا الاستواء هل هو في صورته الظاهرة أو في صورته الباطنة؟
يقول ابن كثير -رحمه الله: إن الله خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوي الأعضاء، حسن الأعضاء، ويقصد بذلك الأمر الظاهر، رأسه إلى أعلى، منتصب القامة.
الحيوانات رأسها إلى الأرض، تأكل بفمها مباشرة، هذا الإنسان رأسه -أشرف الأشياء فيه- إلى أعلى، مرتفع، يأكل بيده.
فهو أحسن هذه المخلوقات التي نشاهدها، أحسنها هيئة وصورة وخلقة، جعله الله بهذه الصفة، فكرمه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
فابن كثير -رحمه الله- يرى أنها الصورة الظاهرة.
وهذا -كما سبق- قول الأكثر؛ يقولون: هذه الحيوانات مُكبّة على وجوهها، وجوهها إلى الأرض، بخلاف هذا الإنسان، تأكل بأفواهها، ويأكل بيده.
خلقه خلقًا مستويًا معتدلاً، هذا المعنى الذي يذكرونه هو معنى صحيح، يعني في صورته الظاهرة، فميزه الله -تبارك وتعالى- بهذا.
خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فهذا الخلق يدخل فيه خلق الصورة؛ فإن الخلق يأتي بمعنى: الإيجاد، ويأتي بمعنى: التصوير، ويأتي بمعنى: التقدير.
فأعطاه الله صورة لم يعطها شيئًا من هذه المخلوقات، وجعله في حال من التكريم، مازَ هذه الدواب والبهائم، فشرفه الله -تبارك وتعالى- عليها.
والمعنى الآخر: وهو الجانب المعنوي يدخل فيه -والله تعالى أعلم، ففقد أشار إلى ذلك بعض أهل العلم، كابن العربي وابن عاشور.
وخصه ابن عاشور بهذا، أي بالأمر المعنوي.
ولكن الآية أعم من ذلك: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فلم يقل: في صورته الظاهرة، ولم يقل: في الصورة الباطنة، وإنما أطلق ذلك.
فخلقه في أحسن تقويم ظاهرًا وباطنًا.
فالله -تبارك وتعالى- جعل فيه من هذه الأوصاف؛ من العلم والعقل والإرادة، ويتكلم، وجعله يسمع ويبصر، وأعطاه من التدبير والتعقل في الأمور ما لم يعطِ هذه المخلوقات.
ولو قيل: إن هذا يشمل الظاهر والباطن، أي خلقه في صورة ظاهرة خلقًا سويًّا معتدلاً، كما وصف، وفي الباطن على الفطرة؛ كما قال النبي ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه[13].
فهو في أحسن تقويم، خلقًا مستويًا معتدلاً، ثم بعد ذلك يحصل التحول.
تأمل ما ذكر بعد ذلك: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ قال: أي: إلى النار، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم.
وهذا قال به آخرون؛ كما ذكر ابن كثير -رحمه الله، وممن قال به قتادة، وهو الذي اختاره ابن القيم -رحمه الله.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى النار، بعد هذا الخلق السوي يكون أسفل سافلين، هذا بالنسبة للكافر الذي لم يهتدِ بهدى الله -تبارك وتعالى، فكان مرده بعد هذا الخلق الذي كرمه الله به إلى حال في غاية السوء، وهي النار، وهي: أَسْفَلَ سَافِلِينَ.
وهنا يوردون سؤالاً، وهو: إذا كان المقصود بـأَسْفَلَ سَافِلِينَ أسفل النار؛ فإن المنافقين هم الذين في الدرك الأسفل من النار؟
فبعضهم يقول: النار هي أسفل سافلين، وليس المقصود بالضرورة الطبقة السفلى منها.
وبعضهم يقول: لا مانع أن يدخل مع المنافقين غيرُ المنافقين من الكفار، الذين عظم كفرهم، فالنار دركات -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها.
فهذا الذي قالوه: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى النار، أو أن بعض الأفراد من هؤلاء يصل إلى أسفل النار كالمنافقين مثلاً، يقول ابن كثير: "ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيرهم إلى النار، إن لم يطع الله ويتبع الرسل".
فتأمل: ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فهو يعلل، يعني هؤلاء لماذا قالوا: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلى النار؟
قالوا: لأن القرينة هي ما بعده: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فلو كان المعنى رددناه إلى أرذل العمر -الهرم- فالكل يصير إلى ذلك المؤمن والكافر على حد سواء، إذا كان ممن طال عمره، إذا أراد الله له البقاء، فقالوا: ما في فرق بين المسلم والكافر، يرد إلى أرذل العمر، فكيف استثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟
فالعلماء إزاء هذا الاستثناء توجهت أقوالهم إلى قولين: فبعضهم لجأ إلى هذا، قالوا: إلى النار، من أجل الاستثناء.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلى النار، إلا أهل الإيمان، والعمل الصالح، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً؛ أي يرد الإنسان إلى أسفل سافلين أي إلى النار، إلا أهل الإيمان والعمل الصالح، فالاستثناء متصل.
وآخرون قالوا: إن "أسفل سافلين" ليس المقصود به النار، وإنما المقصود به أرذل العمر.
كيف أجابوا عن: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؟
بعضهم يقول: الاستثناء متصل أيضًا.
كيف يكون متصلاً: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؟
قالوا: هذا الإنسان في وقت قوته وشبابه يعمل ويكتسب، وفي أحسن تقويم، ثم يرد إلى أرذل العمر، إلا أهل الإيمان فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ بمعنى أن ما كانوا يعملونه حينما كانوا في حال القوة والجلد يجري لهم حينما يصيرون إلى حال العجز والضعف عن العمل في أرذل العمر، الهرم والشيخوخة، فأعمالهم تجري بخلاف غيرهم، فابن مسعود مرض فبكى، فسئل عن سبب بكائه، فأخبر أن هذا المرض قد حل به في وقت هو في حال من الفتور، يعني جاءه المرض وهو في حال فتور من العمل الصالح، يعني ما كان في وقت ذروة ونشاط، فكان يتمنى أن هذا المرض جاءه وهو في وقت قوة ونشاط في العمل الصالح، بحيث يجري له وقتَ المرض ما كان يعمله، فلو واحد جاءه المرض وهو فقط مقتصر على الفرائض والسنن الرواتب يجري له هذا فقط، لكن لو واحد جاءه المرض وهو يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل، ويقرأ كل يوم سبع القرآن، وجاءه مرض، فمثل هذا ولو طال مرضه لسنين، ولا يستطيع أن يعمل حتى مات يجري له ما كان يعمله.
فهؤلاء يقولون: إذا صار إلى حال الهرم والضعف والعجز والقعود عن العمل فإن عمله يجري: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قالوا: فهنا استثنى، قال: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ باعتبار أنه غير مقطوع، أو منقوص -كما سيأتي.
وبعضهم قال -ممن قالوا: إن المقصود الهرم وأرذل العمر: الاستثناء منقطع، يعني المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وإنما هو بمعنى: لكن، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون، فسروه بهذا، أنه استثناء منقطع.
وقال بعضهم: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلى أرذل العمر، وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة، وأيضًا قال به آخرون كالنخعي -إبراهيم النخعي، حتى قال عكرمة: "من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر".
جمع القرآن يعني حفظه.
وهذا منقول عن بعض السلف، نُقل عن ابن عباس ، فمن حفظ القرآن لم يصبه الخرف.
وبعض أهل العلم يقول: هذا معروف أيضًا بالتتبع والاستقراء، أي: لا يُعرف أن أحدًا من أهل القرآن صار إلى فقد العقل والخرف الذي يصيب الإنسان حينما يتقادم به العمر.
وهذا يصيب الإنسان أحيانًا في أوقات مبكرة، الداء الذي يسمونه: "الزهايمر" قد يصيبه وهو ابن ستين، أليس كذلك؟
والإنسان حينما يتقادم به العمر تضعف قواه، ويضعف تجدُّد الخلايا في الجسم في الجلد وفي غير الجلد، لا يكون كالشباب، ولذلك تجد الجلد يبدأ بالذبول والضعف، والتغير، يتغير لونه، يتغير ملمسه، يتغير.. وهكذا يضعف البصر، ويضعف السمع، وتضعف قواه -والله المستعان.
وما جعل الله فيه من الغدد والإفرازات، وحرارة الغريزة كل هذا يضعف ويتلاشى شيئًا فشيئًا، وخلايا المخ حينما تتلف وتموت فإنها لا تتجدد، فتجد أن بعض هذه الخلايا يصيبها التلف، ثم بعد ذلك يُخلِّط الإنسان شيئًا فشيئًا، ثم بعد ذلك يبدأ يَسأل لا يعرف زوجته، ولا يعرف أولاده، فيصبح كالطفل الصغير أو أشد، كالطفل الذي له سنة، أو سنتان، لا يخرج، ويقفلون الأبواب، فإذا خرج فهو لا يعرف الطريق، ولا يعرف أهله، ولربما كان كالطفل يحتاج إلى رعاية، كالطفل تمامًا، ولا يميز ولا يدرك، ولا يستطيع الذهاب إلى الخلاء، ولا يعرف الخلاء، والله المستعان.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ يقول ابن كثير: واختار ذلك ابن جرير، أي أنه يرد إلى حال أرذل العمر.
فابن القيم -رحمه الله- يوافق ابن كثير، وابن جرير يخالف هذا القول، وابن كثير يرد على هذا، فيقول: ولو كان هذا هو المراد لما حسُن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأن الهرم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه، كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
لكن ابن جرير يوجه هذا القول، ويوضح السر في اختياره له -أي أنه يرد إلى أرذل العمر- فيقول: هذا كله جاء في سياق معين، في سياق بيان قدرة الله في الخلق، خلق هذا الإنسان، والتصرف فيه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
ويقول: إن الله -تبارك وتعالى- حينما يذكر ذلك فهو يحتج على هؤلاء المخاطبين بأمر يعرفونه، ويلزمهم بمقتضاه.
يقول: الذي تصرف في هذا الإنسان هذا التصرف، وهو محيط به، قادر عليه، جعله في أحسن تقويم، ثم يرد إلى أرذل العمر، هو الذي له الحكم المطلق، والتصرف المطلق، والملك، ونواصي الخلق بيده، وهو القادر على إعادته ثانيًا، فكيف يكذبون بيوم الجزاء والحساب، والله يتصرف في هذا الإنسان يخلقه هذا الخلق العجيب السوي المعتدل، ثم يرده إلى هذه الحال من الضعف؟ فالذي يتصرف فيه هذا التصرف قادر على مجازاته ومحاسبته وإعادته.
فابن جرير يقول: يحتج عليهم بأمر يعرفونه، ولو كان المعنى ثم رددناه إلى النار، فهم يكذبون بالنار، وما رأوا النار، يقول: فما يحصل لهم بذلك الإلزام، خلقه في أحسن تقويم ثم يرد إلى النار، وإنما يخاطبهم بشيء يشاهدونه ويعترفون به، ويقرون، ويرون هذه التحولات، مهما كان الإنسان في حال من القوة والشدة، أو مزاولة الرياضة، والمحافظة على قوام البدن وعافيته، فإن هذه هي النتيجة، وهي المصير، فهذا أمر يشاهده كل أحد ويعرفه كل أحد، بعد النضارة تتحول إلى شيء آخر، فهذا توجيه ابن جرير -رحمه الله، وهو توجيه وجيه، فليس ذلك بمستبعد في المعنى، كما قالوا.
يقول ابن القيم -رحمه الله: "وقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: في أحسن صورة وشكل واعتدال، معتدل القامة، مستوي الخلقة، كامل الصورة، أحسن من كل حيوان سواه.
والتقويم تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التأليف والتعديل، وذلك صنعته -تبارك وتعالى- في قبضة من تراب، وخلقه بالمشاهدة من نطفة من ماء، وذلك من أعظم الآيات الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وعلمه، وصفات كماله، ولهذا يكررها كثيرًا في القرآن، لمكان العبرة بها، والاستدلال بأقرب الطرق على وحدانيته، وعلى المبدأ والمعاد.
وتضمن إقسامه بتلك الأمكنة الثلاثة الدالة عليه، وعلى علمه وحكمته وعنايته بخلقه، بأن أرسل منها رسلا، أنزل عليهم كتبه، يعرفون العباد بربهم، وحقوقه عليهم، وينذرونهم بالله ونقمته، ويدعونهم إلى كرامته وثوابه، ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين: منهم من أجاب، ومنهم من أبى ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين، والصحيح: أنه النار، قاله مجاهد والحسن وأبو العالية، قال علي بن أبي طالب : "هي النار بعضها أسفل من بعض".
وقالت طائفة منهم قتادة وعكرمة وعطاء والكلبي وإبراهيم: إنه أرذل العمر، وهو مروي عن ابن عباس، والصواب القول الأول لوجوه:
أحدها: أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين، لا في لغة ولا عرف، وإنما أسفل سافلين هو سجين الذي هو مكان الفجار، كما أن عليين مكان الأبرار.
الثاني: أن المردودين إلى أسفل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جدًا، فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر.
الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رد من طال عمره منهم إلى أرذل العمر، فليس ذلك مختصًا بالكفار حتى يستثنى منهم المؤمنين.
الرابع: أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار، بل جعله لجنس بني آدم، فقال: وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحـج:5].
فجعلهم قسمين: قسمًا متوفى قبل الكبر، وقسمًا مردودًا إلى أرذل العمر، ولم يسمه أسفل سافلين.
الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين، وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء، وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين، وجزاء المؤمنين أجرًا غير ممنون.
السادس: أن قول من فسره بأرذل العمر يستلزم خلو الآية عن جزاء الكفار، وعاقبة أمرهم، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس، فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود الأهم، وأخبر عن أمر يعرف بالحس والمشاهدة، وفي ذلك هضم لمعنى الآية، وتقصير بها عن المعنى اللائق بها.
السابع: أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في مبدئه ومعاده، فمبدؤه خلقه في أحسن تقويم، ومعاده رده إلى أسفل سافلين، أو إلى أجر غير ممنون، وهذا موافق لطريقة القرآن وعادته في ذكر مبدأ العبد ومعاده، فما لأرذل العمر، وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته، والاستدلال عليه.
الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس، وإخراج الكلام عن ظاهره، والتكلف البعيد له، فإنهم إن قالوا: إن الذي يرد إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين كابروا الحس، وإن قالوا: إن من النوعين من يرد إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء.
فمنهم من قدر ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا ردوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة، فهذا -وإن كان حقًّا، فإن الاستثناء إنما وقع من الرد، لا من الأجر والعمل.
ولما علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلف خص بعضهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرآن خاصة، فقالوا: من قرأ القرآن لا يرد إلى أرذل العمر.
وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن الاستثناء عام في المؤمنين، قارئِهم وأميِّهم، وأنه لا دليل على ما ادعوه، وهذا لا يعلم بالحس، ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه، والله أعلم.
التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم، وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان وعبادته وحده لا شريك له، فينقله حينئذ من هذه الدار إلى أعلى عليين، فإذا لم يؤمن به، وأشرك به وعصى رسله نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورة من أقبح الصور في أسفل سافلين، فتلك نعمته عليه، وهذا عدله فيه، وعقوبته على كفران نعمته.
العاشر: أن نظير هذه الآية قوله تعالى: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سورة الانشقاق:24، 25].
فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك، والأجر غير الممنون هناك هو المذكور هنا، والله أعلم"[14].
فابن القيم من عشرة أوجه يرجح هذا القول، والجواب عن هذه الأشياء التي يوردها لا يعجزون عنه، وتوجيه ابن جرير -كما سبق- هو توجيه قوي.
الآن في هذا المثال مثلاً، وفي أمثلة كثيرة: الذي يترجم معاني القرآن هو في الواقع يفسر، ثم ينقل ما فهم، فإذا جاء يترجم مثل هذا الموضعثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، ماذا سيقول؟
سيقول: رددناه إلى النار؟ أو سيقول: رددناه إلى أرذل العمر؟
فهذا يحتاج إلى معرفة باللغتين المنقول منها وإليها، ويحتاج إلى بصر بالتفسير، ومهما يكن، فهذا الذي ينقله إنما هو فهمه، قد يصيب وقد يخطئ، هنا تأتي خطورة الترجمة، لو أتيت بعالم أو أتيت بلجنة من علماء، وأرادوا أن يمحصوا وأن يرجحوا فإن غاية ما هنالك أن هذا على أحد هذه الأقوال، يعني إن قالوا بهذا، أو قالوا بهذا.
والآخرون يرون أن القول هذا خطأ، ولذلك كانت الفكرة في القرن الماضي في أوائله لما كان الجدل الكبير في الترجمة، والردود والمناقشات، وكذا، الذين رجحوا القيام بأعمال ترجمة لمعاني القرآن ذكروا طريقة يخففون فيها من الأضرار، بحيث يُجعل القرآن في الأعلى، ثم يُجعل تفسير مختصر، عملوا تفسيرًا مثل التفسير الميسر باللغة العربية، ثم تُجعل الترجمة في أسفل ذلك، ويكتب عليها أنها ترجمة تفسير معاني القرآن، تكون الترجمة للتفسير، بحيث يفهم أن هذه الترجمة لهذا التفسير، وهذا هو فهم هذا المفسر، ترجمنا لك هذا التفسير، أي لا تقرأ على أن هذا هو كلام الله قطعًا، وأن هذا هو مراد الله بهذه الترجمة المنقولة، هذا فهم المفسر.
فكيف إذا كان الذي ينقل ويترجم أصلاً هو ضعيف علميًا، لا يفقه في التفسير شيئًا كما هو الغالب؟ كيف لو كان عنده ضعف في اللغتين والعجمة غالبة؟!.
الممنون هنا فسره بالمقطوع، أي أن أجرهم غير مقطوع، فعلى قول ابن كثير ومن وافقه: إن أسفل سافلين يعني إلى النار، أما أهل الإيمان فلهم أجر غير ممنون، يعني غير مقطوع في الجنة.
والآخرون الذين قالوا: إلى أرذل العمر، بالتوجيه الذي ذكرناه سابقا: أنه إلا الذين آمنوا بحيث يجري لهم العمل الذي كانوا يعملونه في وقت شبابهم ونشاطهم وقوتهم، فذلك لا ينقطع عنهم.
والممنون يأتي بمعنى: المقطوع، ويأتي بمعنى: المنقوص أيضًا، وهذا الذي رجحه ابن جرير -رحمه الله- باعتبار أن ذلك هو الأكثر في الاستعمال، وأنه هو المتبادر، يقال: حبل مَنين أي ضعيف، بهذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما، أي أجر غير منقوص.
وبعضهم كمجاهد والنخعي قالوا: غير محسوب، أي أجر كثير.
أما من فسر ذلك بالمنّة، أي من غير منٍّ فقالوا: إن المنّ تنغيص وتكدير، فهم يأتيهم أجر غير ممنون، فهذا وإن كان لفظ ممنون من حيث هو يحتمله إلا أن المنّة هنا هي منة الله -تبارك وتعالى- على عباده.
وهذه المنّة حاصلة، وليس فيها أدنى تكدير ولا تنغيص، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [سورة الحجرات:17]، ومنته -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان في الدنيا وفي الآخرة واقعة لا إشكال في ذلك، لكنهم قصدوا أنه لا يحصل به المنّ الذي يتأذون به، وذلك إنما يكون بمنّ المخلوقين، قصدوا هذا، ولم يقصدوا منة الله، ولذلك الذين ردوا عليهم أحيانًا يردون بقوة وعنف بأن منّة الله حاصلة، وكيف يفسر بهذا المعنى؟!.
وهم لم يقصدوا أن الله لا يمنّ عليهم، هم يثبتون هذا، لكن قصدوا أنه لا يحصل به منّ، لا يحصل به تأذٍّ، وهذا من المخلوقين: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [سورة البقرة:263].
ومن الأذى: المنّ: ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى [سورة البقرة: 262] هنا فرّق بينهما.
يقول: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فهو غير منقوص ولا مقطوع.
يقول ابن القيم: "قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص، ولا مكدر عليهم، وهذا هو الصواب.
وقالت طائفة: غير ممنون به عليهم، بل هو جزاء أعمالهم، ويُذكر هذا عن عكرمة ومقاتل، وهو قول كثير من القدرية، قال هؤلاء: إن المنّة تكدر النعمة، فتمام النعمة أن يكون غير ممنون بها على المنعم عليه، وهذا القول خطأ قطعًا، أُتي أربابه من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق، وهذا من أبطل الباطل، فإن المنّة التي تكدر النعمة هي منة المخلوق على المخلوق، وأما منّة الخالق على المخلوق فبها تمام النعمة، ولذتها وطيبها، فإنها منة حقيقية، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الحجرات:17].
وقال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [سورة الصافات:114، 115].
فتكون منَّة عليهما بنعمة الدنيا دون نعمة الآخرة.
وقال لموسى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [سورة طـه:37].
وقال أهل الجنة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [سورة الطور:27].
وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة آل عمران: 164] الآية.
وقال: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:5] الآية.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال للأنصار: ألم أجدكم ضُلالًا فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟[15] فجعلوا يقولون له: الله ورسوله أمنّ.
فهذا جواب العارفين بالله ورسوله، وهل المنة كل المنة إلا لله المان بفضله الذي جميع الخلق في مننه، وإنما قبحت منة المخلوق؛ لأنها منة بما ليس منه، وهي منّة يتأذى بها الممنون عليه، وأما منّة المنان بفضله التي ما طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة فهي منّة يمنّ بها على من أنعم عليه..."[16].
ليس كل هؤلاء من القدرية، يعني الذين فسروا المنّ بالمن المعروف، فهم لا يقصدون منّ الله، وإنما يقصدون غير مكدر -كما في الدنيا- بمنّ المخلوقين، وإلا فالشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مثلا من المعاصرين فسر ذلك بالمنّ المعروف، فهذا لا يمكن أن يقصد به منّة الله على عباده، لكن هذا النعيم كامل من كل وجه، ليس فيه تكدير، ومن ثَمّ لا يحصل لهم فيه التأذي، كما في الدنيا يكون عطاء المخلوق مع المنّ بصورة، أو بأخرى، فقوله: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع، أو غير منقوص، وكما سبق ابن جرير حمله على معنى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير منقوص أيام هرمهم.
وأولائك قالوا: في الآخرة، في الجنة.
تأمل هنا قال: يا ابن آدم، ما يكذبك؟ الخطاب عممه لابن آدم، وبعضهم خصه بالكافر، فما يكذبك أيها الكافر بالدين؟
وبعضهم وجه ذلك إلى النبي ﷺ، كما قال بعض أصحاب كتب المعاني، كالأخفش والفراء، واختاره ابن جرير، باعتبار أن "ما" بمعنى: "مَن"، يعني فمن يكذبك بعد بالدين؟ من يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين؟
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ من يكذبك بعد هذا بالدين؟
قال: أي: بالجزاء في المعاد، ولقد علمتَ البداءة وعرفتَ أن من قدر على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا؟!
وهنا "الدين" يفسر: بالجزاء، ويفسر: بالحساب، وهذا منقول عن جماعة من السلف، وهو اختيار ابن جرير.
تقول: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] يوم الجزاء، والحساب، دِنَّاهم كما دانوا، جازيناهم كما فعلوا، كما تدين تدان، الجزاء من جنس العمل، كما تفعل، كما تعمل، كما تُجازِي تُجازَى.
وبعضهم فسر الدين هنا: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ بحكم الله، كما نقل عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما.
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ تأمل أنه قال بعدها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
على قول ابن عباس: فما يكذبك بعد بحكم الله -تبارك وتعالى؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا، ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه.
يقول ابن القيم -رحمه الله: "قوله تعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أصح القولين: أن هذا خطاب للإنسان، أي فما يكذبك بالجزاء والمعاد بعد هذا البيان وهذا البرهان فتقول: إنك لا تبعث ولا تحاسب؟ ولو تفكرت في مبدأ خلقك وصورتك لعلمت أن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك، وينشئك خلقًا جديدًا، وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه وأعياه خلقك الأول.
وأيضا فإن الذي كمّل خلقك في أحسن تقويم بعد أن كنت نطفة من ماء مهين، كيف يليق به أن يتركك سدى، لا يكمِّل ذلك بالأمر والنهي، وبيان ما ينفعك ويضرك، ولا تُنقل لدار هي أكمل من هذه، ويَجعل هذه الدار طريقًا لك إليها، فحكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك، وتقضي خلافه، قال منصور: قلت لمجاهد: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عنى به محمدًا؟ فقال: معاذ الله، إنما عنى به الإنسان!"[17].
تأمل الذين قالوا: عنى به محمدًا ﷺ يمكن أن يوجه هذا باعتبار أن "ما" بمعنى "مَن"، فمنيكذبك بعدُ بالدين؟
قال ابن القيم: "وقال قتادة: الضمير للنبي ﷺ، واختاره الفراء، وهذا موضع يحتاج إلى شرح وبيان، يقال: كذَب الرجل إذا قال الكذب، وكذّبتُه أنا إذا نسبته إلى الكذب ولو اعتقدت صدقه، وكذّبتُه إذا اعتقدت كذبه وإن كان صادقًا، قال تعالى: فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ [سورة آل عمران:184].
وقال: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [سورة الأنعام:33].
فالأول: بمعنى: وإن ينسبوك إلى الكذب.
والثاني: بمعنى لا يعتقدون أنك كاذب، ولكنهم يعاندون ويدفعون الحق بعد معرفته جحودًا وعنادًا.
وهذا أصل هذه اللفظة، ويتعدى الفعل إلى الخبر بنفسه، وإلى خبره بـ"الباء"، وبـ "في" فيقال: كذّبته بكذا، وكذّبته فيه، والأول أكثر استعمالا، ومنه قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ [سورة ق: 5]، وقوله: وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا [سورة البقرة: 39].
إذا عُرف هذا، فقوله: فَمَا يُكَذِّبُكَ اختلف في "ما" هل هي بمعنى: أيّ شيء يكذبك؟ أو بمعنى: من الذي يكذبك؟
فمن جعلها بمعنى: أيّ شيء؟ تعين على قوله أن يكون الخطاب للإنسان، أيْ فأيّ شيء يجعلك بعد هذا البيان مكذبًا بالدين وقد وضحتْ لك دلائل الصدق والتصديق؟
ومن جعلها بمعنى: فمن الذي يكذبك؟ جعل الخطاب للنبي ﷺ.
قال الفراء: كأنه يقول: من يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعدما تبين له مِن خلْق الإنسان ما وصفناه؟
وقال قتادة: فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا بالدين؟
وعلى هذا قول قتادة والفراء إشكال من وجهين:
أحدهما: إقامة: "ما" مقام "مَن" وأمره سهل.
والثاني: أن الجار والمجرور يستدعى متعلقًا، وهو يكذبك، أي فمن يكذبك بالدين؟
فلا يخلو إما أن يكون المعنى فمن يجعلك كاذبًا بالدين، أو مكذبًا به؟ ولا يصح واحد منهما، أما الثاني والثالث فظاهر، فإنّ كذّبته ليس معناه جعلته مكذِّبًا، أو مكذَّبًا، وإنما معناه نسبته إلى الكذب.
فالمعنى على هذا فمن يجعلك بعدُ كاذبًا بالدين؟ وهذا إنما يَتعدى إليه بـ"الباء"..."[18].
كذَبتُه: أكذبتُ قوله، جعلت قوله كذبًا.
وكذَّبتُه: نسبته إلى الكذب.
الكذب في اللغة يأتي بمعنيين:
المعنى الأول: هو مخالفة الظاهر للباطن في القول والفعل، فالنفاق كذب، إذا حدث كذب، ولو كان موافقًا للواقع، موافقًا للخارج، يعني لكنه يخالف ما فيه باطنه، إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1].
فهم قالوا قولاً يوافق الواقع: إنه رسول الله، لكن يخالف ما في بواطنهم، فصاروا مكذبين بهذا، صاروا كاذبين، فهذا هو الكذب المذموم شرعًا الذي جاء ذمه: "إذا حدث كذب"، وما إلى ذلك من الذنب.
النوع الثاني: هو ما كان يخالف الواقع، هكذا بإطلاق، بصرف النظر عما في داخل هذا القائل، هذا المتكلم، فهذا الذي جاء في بعض النصوص: كذَب فلان، يعني النبي ﷺ قد يقوله في بعض أصحابه: كذَب أبو السنابل[19] يعني أخطأ.
وكذلك تجد الصحابة يقولون: كذَب فلان، ينسبونه إلى الكذب، يعني أخطأ، وهذا لا يلحقه الذم شرعًا، ليس هذا هو المذموم شرعًا، فكل ما خالف الخارج والواقع قيل له: كذب بهذا الاعتبار، وإن كانت هذه اللغة غير ذائعة وشائعة، وإنما الأشهر هو الأول.
هنا يقال: كذَبْتُه، وأكذبتُه، متعدٍّ، أكذبْته وكذّبتُه إذا نسبته للكذب، وكذَبتُه يعني الخطأ.
يقول ابن القيم: "وإنما معناه نسبته إلى الكذب، فالمعنى على هذا فمن يجعلك بعدُ كاذبًا بالدين؟ وهذا إنما يتعدى إليه بـ "الباء" الفعلُ المضعف لا الثلاثي، فلا يقال: كذّب كذا، وإنما يقال: كذّب به.
وجواب هذا الإشكال: أن قوله: كذّب بكذا، معناه كذّب المخبرَ به، ثم حذف المفعول به، لظهور العلم به، حتى كأنه نُسي، وعدّوا الفعل إلى المخبر به، فإذا قيل من يكذِّبك بكذا؟ فهو بمعنى كذَّبوك بكذا، سواء، أي نسبوك إلى الكذب في الإخبار به، بل الإشكال في قول مجاهد والجمهور؛ فإن الخطاب إذا كان للإنسان وهو المكذِّب، أي فاعل التكذيب، فكيف يقال له: ما يكذبك؟ أي يجعلك مكذِّبا، والمعروف: كذَّبه إذا جعله كاذبًا، لا مكذِّبا، ومثل فسّقه إذا جعله فاسقًا، لا مفسِّقًا لغيره.
وجواب هذا الإشكال: أن صدّق وكذّب بالتشديد يراد به معنيان:
أحدهما: النسبة، وهي إنما تكون للمفعول...
والثاني: الداعي والحامل على ذلك وهو يكون للفاعل"[20].
وقال ابن القيم أيضا: "وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وهذا تقرير لمضمون السورة من إثبات النبوة والتوحيد والمعاد، بتضمن نصره لرسوله على من كذبه، وجحد ما جاء به، بالحجة والقدرة والظهور عليه، وحكمه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحكمه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه، وأن أحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ونقله في أطوار التخليق، حالًا بعد حال، إلى أكمل الأحوال.
فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته؟!
وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته؟
فلله ما أخصر لفظ هذه السورة، وأعظم شأنها، وأتم معناها، والله أعلم"[21].
فَمَا يُكَذِّبُكَ يعني: يا ابن آدم، بَعْدُ بِالدِّينِ أي: بالجزاء في المعاد ولقد علمتَ البداءة، وعرفتَ أن من قدر على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟
وقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أي: أمَا هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا، ومن عدله: أن يقيم القيامة فينصف المظلوم في الدنيا ممن ظلمه.
وقد قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعًا: فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين[22].
آخر تفسير سورة "والتين والزيتون" ولله الحمد والمنة.
الحديث هذا ضعيف، فلا يقول القارئ إذا قرأها شيئًا، وإنما صح أنه إذا قرأ في آخر القيامة: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة القيامة:40] يقول: سبحانك، فبلى،[23] في هذا الموضع.
وعلى كلام ابن جرير السابق من أن "أسفل سافلين" يعني أرذل العمر يكون الكلام الذي بعده -كما ترون- كأنه أقرب، وأليق بالمعنى-والله أعلم، أن الله احتج عليهم بهذا، فهو يُردّ بعد هذا الكمال إلى حال من الضعف والعجز، فالذي صرفه هذا التصريف قادر على مجازاته ومحاسبته، وعلى إعادته ثانيًا، فَمَايُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ بعد هذا كله؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟
والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء (767) ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم (464).
- المصدر نفسه.
- رواه البخاري كتاب التوحيد، باب قول النبي ﷺ: "الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، رقم (7546) ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم (464).
- رواه الترمذي، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العشاء، رقم (309).
- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلاة، باب ما يقرأ به في المغرب، رقم (3592).
- رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين، رقم (816)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (862).
- رواه البخاري، كتاب اللباس، باب الخميصة السوداء، رقم (5823).
- التبيان في أقسام القرآن (43).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (43، 44).
- المصدر السابق (44).
- المصدر السابق.
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم (1385).
- التبيان في أقسام القرآن (45- 48).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4330)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، رقم (1061).
- التبيان في أقسام القرآن (48، 49).
- المصدر السابق (51).
- المصدر السابق (51-53).
- رواه أحمد، كتاب المكثرين من الصحابة، باب مسند عبد الله بن مسعود، رقم (4273)، وهو في سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (3274).
- التبيان في أقسام القرآن (53، 54).
- المصدر السابق (54).
- رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود، رقم (887)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود، رقم (887) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (156)، وفي ضعيف الجامع الصغير وزيادته (5784).
- الحديث رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة، رقم (827).