بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمه الله:
تفسير سورة اقرأ، وهي أول شيء نزل من القرآن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق:1-5].
روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الوحي وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فغطني الثالثة حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ: مَا لَمْ يَعْلَمْ قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي.
فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺبِمَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ على موسى، ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أوَمُخرجيّ هُمْ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنَا- حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كي يتردى من رءوس شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ الْجَبَلِ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ له مثل ذَلِكَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ[1].
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَمَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِلْبُخَارِيِّ مُسْتَقْصًى، فَمَنْ أَرَادَهُ فَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، وَهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة سورة العلق، ويقال لها أيضًا: سورة اقرأ، وكذلك أيضًا سماها بعضهم بـ"سورة القلم".
وهذه السورة صدرها هو أول ما نزل على النبي ﷺ من الوحي، إلى قوله: عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
ثم كانت تلك الأولية بإطلاق، يعني أول ما نزل مطلقًا، أول ما طرق سمع النبي ﷺ، أول ما رأى الملك على صورته الحقيقية كان في ذلك الموقف، وهو في غار حراء ﷺ، ولم تنزل السورة كاملة، ثم بعد ذلك حصل انقطاع مؤقت للوحي، ثم نزلت عليه سورة المدثر.
وما جاء من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- من أن سورة "اقرأ" هي أول سورة نزلت من القرآن، هذا الذي عليه الجماهير من أهل العلم من السلف والخلف.
يليه في القوة -يعني من الأقوال في أول ما نزل- أن أول ما نزل هو سورة المدثر، وحديث جابر -رضي الله تعالى عنه- في هذا معروف، ولكن الروايات في حديث جابر إذا جمعت فإن ذلك يدل على أن جابرًا -رضي الله تعالى عنه- كان يعلم أن سورة: اقْرَأْ نزلت قبل ذلك، فكأنه كان يحدث عن فترة الوحي، يعني أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ لأن في ألفاظه أنه جاء الملَك الذي جاءه بحراء، إذًا هناك مجيء سابق، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تجدها في حديث جابر تدل على أن النبي ﷺ كان له عهد بالملك قبل ذلك، مع ما قد يقال من أن هذا قد يكون من قبيل الاجتهاد من جابر بن عبد الله ، أو أن سورة المدثر هي أول ما نزل في الرسالة، وأول ما نزل في النبوة: اقرأ، يعني ما نزل بإطلاق، نُبئ بـ"اقرأ"، وأرسل بـ"المدثر".
الموضوع الذي تتحدث عنه: هذه السورة ابتدأت بالأمر بالقراءة، أمر النبي ﷺ بالقراءة، وهذه القراءة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
فذكر فيها ما يستوجب حمده -تبارك وتعالى، والإذعان له، والإقرار بربوبيته وقدرته، فهو الخالق الذي خلق هذا الإنسان من هذه العلقة، مخلوق ضعيف، خلقه من هذا الشيء الذي لا شأن له، ثم علمه بالقلم، حيث صار بذلك يثبت العلوم ويدونها، وصار بذلك -يعني بالكتابة- قادرًا على جمع ما لم يكن يستطيعه بحفظه وإمكاناته من غير كتابة، فصارت منته -تبارك وتعالى- على الإنسان بتعليمه الكتابة بالقلم منة عظيمة، ومع ذلك هذا الإنسان إذا حصل له العطاء، وشعر أنه استغنى يحصل له الترفع والطغيان، فتوعد الله هذا الصنف من الناس وتهددهم، وذكر نموذجًا من هؤلاء، وهي الآيات التي نزلت في أبي جهل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى.
يعني هذا بلغ به الطغيان أنْ صار ينهى غيره، يعني هو لا يستنكف من عبادة الله -تبارك وتعالى- ويأنف من ذلك فقط، بل صار أيضًا ينهى غيره عن هذه العبادة.
وحديث عائشة -رضي الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" يعني في الوضوح، بحيث لا تلتبس، وليس ذلك يختلط مع أضغاث الأحلام، أو نحو ذلك.
"ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد" هذا تفسير للتحنث، يعني التعبد، لكن لا يقال هكذا في القراءة، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ليس هذا معنى التحنث، التحنث هو التعبد، فهذه جملة اعتراضية، وإلا فسياق الكلام هكذا: "فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد" الليالي ذوات العدد يعني كأنه يتحنث ليالي متتابعة، ثم يرجع ويتزود لمثل ذلك، وهكذا، حتى فجَأه الوحي، فجاءه الملك فيه، فقال: "اقرأ" فقال النبي ﷺ، فقلت: ما أنا بقارئ ما أنا بقارئ هنا ليس معناه: لن أقرأ، وإنما يخبر عن نفسه أن ذلك ليس من شأنه، وأنه لا يحسن القراءة، قال: فأخذني فغطني الغط هو الضغط الشديد، والضم بقوة، ضمه، يقول: حتى بلغ مني الجهد الجهد يعني المشقة والغاية: ثم أرسلني فقال: اقرأ، إلى آخره، إلى أن قال: فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف.
"تحمل الكلّ" الكلّ هو الضعيف، العاجز، فسر باليتيم، وفسر بالضعيف، وفسر بالمسافر.
المقصود: أنه الإنسان الذي يكون عاجزًا عن النهوض بحاجاته وشئونه.
لكن هنا في هذه الرواية: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله ﷺ فيما بلغنا" من القائل: "فيما بلغنا؟".
هو الزهري، أحد رواة الحديث محمد بن شهاب الزهري، فهنا: "فيما بلغنا" هذا ليس من متصل الإسناد، الحديث في الصحيحين، لكن هذا الجزء ليس بالإسناد الذي جاء به الحديث -الإسناد المتصل، وإنما هذا القدر من بلاغات الزهري، يعني أنه لا يثبت، ولا يصح من جهة الإسناد، فالبخاري هكذا أورده، لكن هذه اللفظة تبين وتوضح أن ذلك ليس بالإسناد المتصل الذي ذكره في أول الحديث، فهذا القدر لا يثبت، وحاشا رسول الله ﷺ أن يصدر منه هذا، ولا داعي للتكلف بحمله على محامل، وإنما يقال: هذا لا يصح، يقول: "فيما بلغنا، حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال".
وهذا لا يليق ولا يصح أن ينسب إلى رسول الله ﷺ.
قوله -تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ.
اقْرَأْ هنا هذا أمر للنبي ﷺ بالقراءة.
اقْرَأْ ماذا؟
هذا يقتضي مقروءًا.
اقْرَأْ ما أوحي إليك اقْرَأْ ما يوحى إليك، أو ما أنزل، أو ما ينزل عليك من الوحي، أو اقْرَأْ يعني ما تسمع، أو ما أمرت بقراءته.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الباء هذه يحتمل أن تكون للاستعانة، اقرأ مستعينًا، أو للابتداء، مبتدئًا باسم ربك، أو متلبسًا باسم ربك، الكلام في هذا معروف، ومضى في البسملة حينما يقول الإنسان: "بسم الله" الباء هذه ما موضعها.
وابن جرير -رحمه الله- يفسره يقول: اقرأ بذكر ربك.
وَفِيهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الذي امتاز به أبو البرية آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْكِتَابَةِ بِالْبَنَانِ، ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَالرَّسْمِيُّ يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِهَذَا قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وَفِي الْأَثَرِ: "قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ".
وَفِيهِ أَيْضًا: "مَنْ عَمِلِ بِمَا عَلِمَ ورثه الله علم ما لم يكن يعلم".
قوله: "والعلم تارة يكون في الأذهان" يعني أن يكون محفوظًا للإنسان "وتارة يكون في اللسان" يعني مذكورًا يتكلم به، "وتارة يكون في الكتابة بالبنان" فهذا هو الذي أشارت إليه الآية: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
يقول: "وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي" يعني هو يعيد الأشياء السابقة بمسميات مختصرة، ما يكون بالذهن يقال له: ذهني، وما يكون ملفوظًا يقال له: لفظي.
يقول: "ورسمي" الرسم يعني الكتابة، يكون مرسومًا، يعني مكتوبًا.
"والرسمي يستلزمهما، من غير عكس" يعني أن الذي يكتب يقتضي أن يكون محفوظًا في الأذهان، إنما يكتب الإنسان ما في ذهنه، ويكون أيضًا مما يتكلم الناس به فيمليه، أو نحو ذلك، يقول: "من غير عكس" يعني قد يكون الشيء في الذهن ولا يكتب، ولا ينطق به، وقد يكون ملفوظًا، ولكنه لا يكتب، فلهذا قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
فالحاصل: أن قوله -تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ هذا فيه إشارة إلى منة الله على هذا الإنسان، وأيضًا إلى ضعفه، ثم يصير أمره إلى ما قد ذكر من الطغيان في حال الاستغناء، ثم بعد ذلك العدوان على عباد الله -تبارك وتعالى، وهذا المخلوق من علقة، والله هو الذي أعطاه وأولاه، وامتن عليه وعلمه ما لم يكن يعلم، فهنا يقول: فلهذا قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فسره بما بعده: عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فعلمه بالقلم الكتابة التي تتضمن علومًا يتعلمها، فكما علمه الكتابة فإن هذا أيضًا كان سبيلاً إلى سائر العلوم أن تُحفظ وتضبط، ثم بعد ذلك يجد الإنسان بغيته منها، فلا تضيع العلوم وتذهب، فلو بقي ذلك للحفظ وحده لذهب كثير من العلم، سواء كان ذلك من العلم الشرعي، أو كان ذلك من العلوم الأخرى، لكن تتعاقب الأجيال، ويدونون العلوم، ثم بعد ذلك يجد من بعدهم بغيته في ذلك.
فعلمه بالقلم الكتابة التي تتضمن علومًا يتعلمها، فكما علمه الكتابة فإن هذا أيضًا كان سبيلاً إلى سائر العلوم أن تُحفظ وتضبط، ثم بعد ذلك يجد الإنسان بغيته منها، فلا تضيع العلوم وتذهب، فلو بقي ذلك للحفظ وحده لذهب كثير من العلم، سواء كان ذلك من العلم الشرعي، أو كان ذلك من العلوم الأخرى، لكن تتعاقب الأجيال، ويدونون العلوم، ثم بعد ذلك يجد من بعدهم بغيته في ذلك.
أما حديث: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم[2] فهذا فيه ضعف.
وهنا تعليق للحافظ ابن القيم -رحمه الله- في هذا الموضع، قال -رحمه الله: "فافتتح السورة بالأمر بالقراءة الناشئة عن العلم، وذكر خلقه خصوصًا وعمومًا، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَخص الانسان من بَين الْمَخْلوقات لما أودعه من عجائبه، وآياته الدَّالَّة على ربوبيته وَقدرته وَعلمه وحكمته وَكَمَال رَحمته، وأنه لَا إِلَه غَيره وَلَا رب سواهُ.
وَذكر هُنَا مبدأ خلقه من علق، لكَون الْعلقَة مبدأ الأطوار الَّتِي انْتَقَلت إليها النُّطْفَة، فَهِيَ مبدأ تعلق التخليق، ثمَّ أعاد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ مخبرًا عَن نَفسه بِأَنَّهُ الأكرم، وَهُوَ الأفعل من الْكَرم، وَهُوَ كَثْرَة الْخَيْر، وَلَا أحْدُ أولى بذلك مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَإِن الْخَيْر كُله بيدَيْهِ، وَالْخَيْر كُله مِنْهُ، وَالنعَم كلهَا هُوَ موليها، والكمال كُله، وَالْمجد كُله لَهُ، فَهُوَ الأكرم حَقًّا، ثمَّ ذكر تَعْلِيمه عُمُومًا وخصوصًا، فَقَالَ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ هَذَا يدْخل فِيهِ تَعْلِيم الْمَلَائِكَة وَالنَّاس، ثمَّ ذكر تَعْلِيم الإنسان خُصُوصًا، فَقَالَ: عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وَالْمَقْصُود أنه سُبْحَانَهُ تعرّف إِلَى عباده بِمَا علمهمْ إِيَّاه بِحِكْمَتِهِ من الْخط وَاللَّفْظ وَالْمعْنَى، فَكَانَ الْعلم اُحْد الأدلة الدَّالَّة عَلَيْهِ، بل من أعظمها وأظهرها، وَكفى بِهَذَا شرفًا وفضلا لَهُ"[3].
قوله -تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ العلق جمع علقة، وهي الدم الجامد، هذا معروف.
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [سورة العلق:6-19].
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى، وَكَثُرَ مَالُهُ، ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ، فَقَالَ: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَيْ: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ، وَفِيمَ صَرَفْتَهُ.
قوله -تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.
كَلَّا هذه مضى الكلام عليها بأنها تأتي بمعنى: الردع والزجر، وتأتي بمعنى: حقًّا، فإن كان ذلك لكلام قبله فهي للردع والزجر، وإلا كانت بمعنى حقًّا، وهي هنا تحتمل، فمن نظر إلى أنه لم يأتِ قبلها ما يستوجب الردع والزجر قال: هي بمعنى حقًّا، حقًّا إن الإنسان ليطغى، فإنه ذكر قبله منته -تبارك وتعالى- على الإنسان بخلقه، وبتعليمه بالقلم.
قال ابن القيم -رحمه الله: "ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعْتد بِهِ من نعمه على العَبْد، فَقَالَ فِي أول سُورَة أنزلت على رَسُول الله ﷺ: اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم.
فَتَأمل كَيفَ جمع فِي هَذِه الْكَلِمَات مَرَاتِب الْخلق كلهَا، وَكَيف تَضَمَّنت مَرَاتِب الوجودات الأربعة، بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه، فَذكر أَولا: عُمُوم الْخلق، وَهُوَ إعطاء الوجود الْخَارِجِي.
ثمَّ ذكر ثَانِيًا: خُصُوص خلق الانسان؛ لأنه مَوضِع الْعبْرَة، والآية فِيهِ عَظِيمَة، وَمن شُهُوده عَمَّا فِيهِ مَحْض تعدد النعم، وَذكر مَادَّة خلقه هَاهُنَا من الْعلقَة، وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع يذكر مَا هُوَ سَابق عَلَيْهَا، إِمَّا مَادَّة الأصل، وَهُوَ التُّرَاب والطين، أوْ الصلصال الَّذِي كالفخار، اَوْ مَادَّة الْفَرْع، وَهُوَ المَاء المهين، وَذكر فِي هَذَا الْموضع أول مبادئ تعلّق التخليق وَهُوَ الْعلقَة، فَإِنَّهُ كَانَ قبلهَا نُطْفَة، فَأول انتقالها إِنَّمَا هُوَ إلى الْعلقَة.
ثمَّ ذكر ثَالِثا: التَّعْلِيم بالقلم الَّذِي هُوَ من أعظم نعمه على عباده، إِذْ بِهِ تخلّد الْعُلُوم، وَتثبت الْحُقُوق، وَتعلم الْوَصَايَا، وَتحفظ الشَّهَادَات، ويضبط حِسَاب الْمُعَامَلَات الْوَاقِعَة بَين النَّاس، وَبِه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، وَلَوْلَا الْكِتَابَة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عَن بعض، ودرست السّنَن، وتخبطت الأحكام، وَلم يعرف الْخلف مَذَاهِب السّلف، وَكَانَ مُعظم الْخلَل الدَّاخِل على النَّاس فِي دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسْيَان الَّذِي يمحو صور الْعلم من قُلُوبهم، فَجعل لَهُم الْكتاب وعَاءً حَافِظًا للْعلم من الضّيَاع، كالأوعية الَّتِي تحفظ الأمتعة من الذّهاب والبطلان.
فنعمة الله بتعليم الْقَلَم بعد الْقُرْآن من أجل النعم، والتعليم بِهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يخلص إليه الإنسان بالفطنة وَالْحِيلَة فَإِنَّ الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك وأوصله اليه عَطِيَّةٌ وَهبهَا الله مِنْهُ، وَفضل أعطاه الله إِيَّاه، وَزِيَادَة فِي خلقه وفضله، فَهُوَ الَّذِي علمه الْكِتَابَة وَإِن كَانَ هُوَ المتعلم، فَفعله فعل مُطَاوع لتعليم الَّذِي علم بالقلم، فَإِنه علّمه فتعلم، كَمَا أنه علمه الْكَلَام فَتكلم، هَذَا، وَمَن أعطاه الذِّهْن الَّذِي يعي بِهِ، وَاللِّسَان الَّذِي يترجم بِهِ، والبنان الَّذِي يحط بِهِ، وَمن هيأ ذهنه لقبُول هَذَا التَّعْلِيم دون سَائِر الْحَيَوَانَات، وَمن الَّذِي أنطق لِسَانه، وحرك بنانه، وَمن الَّذِي دعم البنان بالكف، ودعم الْكَفّ بالساعد؟
فكم لله من آيَة نَحن غافلون عَنْهَا فِي التَّعَلُّم بالقلم، فقف وَقْفَة فِي حَال الْكِتَابَة، وَتَأمل حالك وَقد أمسكت الْقَلَم وَهُوَ جماد، وَضعته على القرطاس وَهُوَ جماد، فتولد من بَينهمَا أنواع الحكم، وأصناف الْعُلُوم، وفنون المراسلات والخطب، وَالنّظم والنثر، وجوابات الْمسَائِل، فَمن الَّذِي أجرى فلك الْمعَانِي على قَلْبك، ورسمها فِي ذهنك، ثمَّ أجرى الْعبارَات الدَّالَّة عَلَيْهَا على لسَانك، ثمَّ حرك بهَا بنانك، حَتَّى صَارَت نقشًا عجيبًا، مَعْنَاهُ أعْجَبْ من صورته، فتقضى بِهِ مآربك، وتبلغ بِهِ حَاجَة فِي صدرك، وترسله الى الأقطار النائية، والجهات المتباعدة، فَيقوم مقامك ويترجم عَنْك، وَيتَكَلَّم على لسَانك، وَيقوم مقَام رَسُولك، ويجدي عَلَيْك مَالا يجدي من ترسله، سوى من علم بالقلم: عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ؟
والتعليم بالقلم يستلزم الْمَرَاتِب الثَّلَاثَة: مرتبَة الْوُجُود الذهْنِي، والوجود اللَّفْظِيّ، والوجود الرسمي، فقد دلّ التَّعْلِيم بالقلم على أنه سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي لهَذِهِ الْمَرَاتِب، وَدلّ قَوْله: خلق على أنه يعْطى الْوُجُود الْعَيْنِيّ.
فدلت هَذِه الآيات مَعَ اختصارها ووجازتها وفصاحتها على أن مَرَاتِب الْوُجُود بأسرها مُسندَة إليه تَعَالَى خلقًا وتعليمًا، وَذكر خلقين وتعليمين، خلقًا عَامًّا وخلقًا خَاصًّا، وتعليما خَاصّا وتعليما عَاما، وَذكر من صِفَاته هَاهُنَا اسْم الأكرم الَّذِي فِيهِ كل خير، وكل كَمَال، فَلهُ كل كَمَال وَصفًا، وَمِنْه كل خير فعلا، فَهُوَ الأكرم فِي ذَاته وأوصافه وأفعاله، وَهَذَا الْخلق والتعليم إِنَّمَا نَشأ من كرمه وبره وإحسانه، لَا من حَاجَة دَعَتْهُ الى ذَلِك، وَهُوَ الْغَنِيّ الحميد"[4].
وقال -رحمه الله: "قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ولم يقل: أن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال: وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ [سورة الليل:8-10].
وهذا -والله أَعلم- لأَنه ذكر موجب طغيانه، وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه، وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته فعْلَ المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بُدًّا من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال، وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى، وهى التي وعد بها أَهل الإِحسان بقوله: لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26].
ومن فسرها بشهادة: أَن لا إِله إِلا الله، فلأَنها أَصل الإِحسان، وبها تنال الحسنى.
ومن فسرها بالخلف في الإِنفاق، فقد هضم المعنى حقه، وهو أَكبر من ذلك، وإِن كان الخلف جزءاً من أَجزاءِ الْحسنى.
والمقصود أَن الاستغناءَ عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية"[5].
واضح الفرق بين المقامين، فالاستغناء يكون سببًا لتيسيره للعسرى، التكذيب والاستغناء، وإذا رأى نفسه أنه استغنى كان ذلك سببًا لطغيانه.
يعني الكلام الآن صرفه على هذا التصريف، فأوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى هذه نزلت في أبي جهل وهذا أيضًا يصدق على كل من كان بهذه الصفة، إذ إن الناس على مراتب، فمنهم من يكون على الإيمان والعمل الصالح، ويأمر بذلك، يعني يدعو إليه، فهذه أعلى المراتب، وينهى عما يخالفه.
يليه في المرتبة من كان على الإيمان، ولكنه لا يدعو إليه، ولا ينهى عن خلافه، لا ينهى عن المنكر، لا ينهى عن الشرك والكفر، لا يدعو إلى الإيمان والمعروف.
ثم بعد ذلك تأتي المرتبة الثالثة وهي: من كان على المنكر والضلال، لكنه لا يدعو إلى ضلاله وباطله، ولا ينهى من كان على الهدى.
تأتي مرتبة بعدها وهي شر المراتب: أن يكون الإنسان على ضلالة، ثم هو يدعو إليها، وينهى من كان مهتديًا، عن الهدى، فهذا يكون بمنزلة الشياطين، بل هو شيطان، هذا فعل الشياطين، والشياطين يكونون من الإنس والجن، كما هو معروف، فكل ضال يدعو إلى الضلالة، أو ينهى عن المعروف والفضيلة، وينفر الناس منها فهو شيطان، فهنا: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى الذي ينهى هو أبو جهل، ينهى النبي ﷺ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى هنا هذا في النبي ﷺ، يعني هذا الذي تنهاه: أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى.
فهو يدعو إلى خشية الله وطاعته، ولم يصدر منه ما يوجب نهيه.
ثم يقول: أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى هذا في الذي ينهى، فصار الكلام بينهما في صفة المنهي وهو النبي ﷺ، ثم رجع إلى صفة ذاك الذي ينهى.
كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ هذه كَلَّا للردع هنا والزجر، فقد وجد قبلها ما يستوجب، أو ما يفهم منه ذلك: كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ هذه اللام موطئة للقسم، لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد وأيضًا النهي لمن كان على الإيمان، قال: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ قال: لنسمنها سوادًا يوم القيامة، عبارات المفسرين تكاد ترجع إلى معنيين في هذا الموضع، إذا جمعت عبارات السلف فمن بعدهم فهي تكاد ترجع إلى معنيين اثنين، وذلك لأن أصل هذه المادة -السفع- يدل على معنيين:
الأول: لون، وهو السواد، فالسفعة التي تكون في الوجه تكون سوادًا، فهذه بمعنى اللون، وهو السواد.
والثاني: التناول والأخذ، وهو تناول الشيء باليد، إذًا السفع يأتي مرادًا به اللون السواد، ويأتي مرادًا به تناول الشيء باليد.
ومن هنا جاءت عبارات المفسرين متفرعة في هذا الموضع من هذين المعنيين.
فالله يتهدد هذا الذي ينهى عبدًا إذا صلى بالسفع بناصيته، والناصية هي مقدم الرأس، فهنا بعضهم فسره بالتناول والأخذ والجذب الشديد، أن يأخذه الله -تبارك وتعالى- من ناصيته، وإلى النار، كما قال الله : فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [سورة الرحمن:41] يجمع ما بين الناصية والأقدام، ثم بعد ذلك يطرح في النار، فتكون الآية الأخرى مفسرة لهذا الموضع: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ فيكون بمعنى الأخذ والقبض، ونحو ذلك.
والمعنى الثاني: أنه يكون باعتبار اللون، يعني ما قاله ابن كثير -رحمه الله- هنا: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ لنسمنّها سوادًا يوم القيامة، يعني كما أن أهل الإيمان يُعرفون بالغرة والتحجيل، يُعرف هؤلاء بالسواد.
ابن جرير -رحمه الله- حمله على الأول: لنأخذن بمقدم رأسه فلنضمنّه ولنذلنّه، نضمنه، يعني يؤخذ بالنواصي والأقدام يجمع، فيؤخذ بهذا الأخذ الشديد القوي، هذا الإنسان المتجبر الطاغي المتكبر المتعاظم الذي يعتدي على عباده، وعلى أهل الإيمان، فينهى هذا عن الطاعة، ويؤذي هذا، يؤخذ هكذا، بناصيته وأقدامه، ثم يطرح في النار.
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] يخوفكم أولياءه، يجعل لهم هالة، ولكن في النهاية هم أقل من الهباء في حقيقة الأمر، وكثيرًا ما أذكر ما يرشد الأذهان إلى هذا المعنى مما نشاهده، الصور التي نشاهدها، صغر الإنسان، انظر إلى الحرم، الصور التي تكون من علو شديد، الناس مثل الذر، يتحركون، فهذا لا يصلح له الكِبْر، سيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله تعالى- في الأسماء الحسنى، عند الكلام على الكبير والمتكبر.
فهذا الإنسان الصغير الهباءة هو لا شيء بالنسبة لهذا الكون الكبير، وتجدون في بعض المقاطع بعضَ الأشياء أحيانًا تصور الإنسان وما حوله، وتصور الأشياء القريبة منه، ثم بعد ذلك يبدأ يتضاءل يتضاءل وتصور أعلى وأعلى حتى تصل به إلى العالم العلوي والأفلاك، فتظهر الأرض بكاملها مثل حبة الرمل، فهنا حينما ينتفش الإنسان ويتضخم، ثم يحسب له ألف حساب على طغيانه، وعتوه على الله ، إذا كانت الأرض كلها بهذه المثابة، مثل حبة الرمل، فهنا يأتي: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ [سورة المائدة:3]، فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ [سورة التوبة:13].
فالأرض ومن عليها بهذه المثابة صغيرة جدًّا، لا شيء، فلا يستحق الخلق أن يُعطَوا أكبر من قدرهم الذي يليق بهم.
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى يؤخذ المتجبر العاتي من النواصي والأقدام، من ناصيته وقدميه، ويقذف في النار، أصغر من الذرة.
كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ قال هنا: لنسمنّها سوادًا يوم القيامة.
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها.
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني أخبر عنه بأنه بهذه المثابة، فاجر خاطئ.
والمقصود صاحب الناصية، وهذا الذي مشى عليه المفسرون، وبه قال ابن جرير، ومن هنا فلا حاجة لئن يقال كما يذكر بعض من يتكلم في الإعجاز: إن موضع الكذب في هذا الموضع، قال: فأضاف إليها الكذب، فقال: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ من يتكلم في القرآن يجب أن يعرف معهود العرب في الخطاب، فالعرب يضيفون الشيء إلى الناصية، يقولون: هذه ناصية مباركة، ولا زال العوام عندنا إلى اليوم، يقولون -وإن كانت العبارة عليها تحفظ: تباركوا بالنواصي والبقاع، يعني إذا جئت تتزوج امرأة، تشتري مملوكًا، ابحث عن ما كان مظنة للبركة، والبقاع: تشتري عقارًا، أرضًا، بيتًا تسكن فيه، تحرَّ المواضع التي تكون محال البركة، لكن التحفظ هنا على قولهم: "تباركوا" فإن التبارك إنما يكون لله -تبارك وتعالى، فهو مختص به، والبركة منه وحده، ولكن الله قد جعل البركة في من شاء من خلقه من الذوات والبقاع، والأزمنة، وما إلى ذلك.
فالمقصود أن الناس حينما يقولون هذا قديمًا وحديثًا: هذه ناصية مباركة، هل يقصدون أن البركة في الإنسان هي في هذا الموضع، في مقدم الرأس في هذا الجزء من الدماغ؟
لا يقصدون هذا، ولا يخطر لهم على بال، ولا يدور في خيال، ولا يعرفونه، وإنما يقصدون صاحب الناصية، وكذلك حينما يقولون: هذه ناصية كاذبة، هذه ناصية خاطئة، يعني هنا في قوله: نَاصِيَةٍ في صفته: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ هل يقال أيضًا: إن الموضع من الدماغ الذي يصدر منه الإجرام هو في مقدم الرأس، في هذا الموضع؟ قد أضاف إليها أمرين: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ هل هذا هو الموضع من الدماغ الذي يحتاج إلى معالجة حتى يصير الإنسان على حال مستقيمة؟ هل مصدر الكذب هنا، ومصدر الإجرام والانحراف؟ -"خاطئة" لأن الخاطئ هنا غير المخطئ، المخطئ من وقع في الخطأ من غير قصد، والخاطئ هو من وقع فيه بقصد، فهل هذا هو الموضع الذي يكون لهذه الأمور؟
ليس هذا هو المراد، بصرف النظر عن كون العلم الحديث -إن صح ذلك- اكتشف أن موضع الكذب في هذا، نحن لا ندري عن هذا إن كان صحيحًا، فالآية لا تتحدث عنه، إن صح هذا علميًا، فالآية لا تتحدث عنه، وإنما تتحدث عن معهود العرب في الخطاب: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ يعني صاحب الناصية، فهذه طريقة العرب في مخاطباتها، ولذلك كان من الأسس، من الأشياء المهمة، بل الشاطبي جعل شروط الاجتهاد ترجع إلى اثنين، وألغى جميع الشروط الأخرى وقال: ممكن أن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، جعل هذا يرجع إلى اثنين أساسيين، مع كثرة ما يذكره الأصوليون من شروط الاجتهاد حتى جعلوه بمنزلة الممتنع، الشاطبي قال: يكفي أن يُعتبر في ذلك أمران: الأمر الأول: اللغة، فهم اللغة، ومعهود العرب في مخاطباتها، قال: بحيث يصير الذي يكون مجتهدًا، أو يتكلم على الأحكام، ويستنبط يكون عربيًّا، أو بمنزلة العربي في فهمه ومعرفته بلغة العرب ووجوه المخاطبات، عربي أو بمنزلة العربي، هذا الشرط الأول.
الثاني: معرفة مقاصد الشريعة، وركز على هذين، معرفة لغة العرب ووجوه المخاطبات في غاية الأهمية، ولهذا كانوا يقولون: أهلكتهم العجمة، فإذا عرف معهود العرب في مثل هذه المخاطبات فإننا نسلم من كثير من التكلفات، وحمل الكلام على غير مراد الله -تبارك وتعالى -والله تعالى أعلم.
وهذا الوعيد لأبي جهل؛ لأنه سبب النزول، وقد صح هذا، هو لا يختص به، فمن فعل فعله فإنه أيضًا متوعد بذلك، كل من نهى عن الإيمان، عن طاعة الله ، عن طاعة رسوله ﷺ، ينهى عن الخير، يحارب الفضيلة، فهو متوعد بهذا: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ تلك الناصية الكاذبة الخاطئة، وهذا الكلام يتوجه إلى كل الأشرار من صحفيين وغيرهم، ممن يفترون الكذب، ويشوهون الحقائق، ويقلبونها ويزوّرون كثيرًا، فهذا الوعيد يلحق كل هؤلاء الذين هم بهذه المثابة.
فَلْيَدْعُ نَادِيَهالنادي هو المجلس الذي يجلس الناس فيه، ويلتقون، منتدى لهم، يجتمعون فيه، القرابات أو الأهل والعشيرة، وما إلى ذلك، الذين يتكثر بهم، يفتخر بأنه خير وأفضل ناديًا من غيره، فهو يترفع بهؤلاء الذين يغشون مجلسه، ويخالطونه ويعاشرونه، يستنصر بهم، ويتقوى بهم.
يقول: فَلْيَدْعُ نَادِيَه ليدعُ هؤلاء الذين يتقوى بهم، وهذا أيضًا يشمل ما هو أوسع من هذا في المعنى، فإذا كان الناس في السابق يتقوى الواحد منهم بعشيرته، وكثرة الأولاد، فإن الناس اليوم قد لا يتكثرون بهذا، يعني قد لا يتقوى الإنسان اليوم بكثرة الأولاد، أو نحو ذلك، وإنما قد يتقوى بأمور أخرى، فكل مبطل يتقوى بالباطل، وبأهل الباطل فإنه أيضًا يدخل في ذلك حكمًا، فَلْيَدْعُ نَادِيَه يدعو هؤلاء الذين يترفع بهم، ويتقوى بهم، ويستكبر.
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ليستنصر بمن شاء ممن يظن أنهم ينصرونه ويقوونه، ويقفون معه، الله يقول: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَوهم ملائكة العذاب، يقول قتادة: الزبانية هم الشُّرَط في لغة العرب، وأصل الزبن هو الدفع، والعرب تطلق ذلك على من اشتد بطشه.
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَوالمقصود ملائكة العذاب، فهم كما وصف الله خزنةَ النار: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ [سورة التحريم:6].
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يَغْلِبُ أَحِزْبُنَا أَوْ حِزْبُهُ.
روى الْبُخَارِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: لئن فعل لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ[6].
وروى أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ -وَهَذَا لَفْظُهُ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ وَتَوَعَّدَهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَانْتَهَرَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ الله: فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ صَحِيحٌ"[7].
وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ -لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ[8].
وقوله تعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وَصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ، وَلَا تُبَالِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ، وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ[9].
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَسْجُدُ فِي: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[10].
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اقرأ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
قوله -تبارك وتعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ بمعنى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا مهما تعاظم، ومهما توعد وتهدد فإنه لا يطاع، بل الواجب هو الإقبال على الله -تبارك وتعالى، وطاعته وعبادته.
وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ هنا ظاهر كلام الحافظ ابن كثير -كما هو واضح من كلامه- أنه حمله على السجود: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض، فإن هذا هو الأصل في معناه الشرعي، ويأتي مرادًا به ما هو أوسع من ذلك، فالانحناء مثلاً -الركوع- يقال له: سجود، كما قال الله : وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة الأعراف:161] يعني في حال الركوع، وكذلك يقال للصلاة: إنها سجود، تسمية لها بركن من أشرف أركانها.
ومن هنا قال بعض أهل العلم: إن المراد هنا: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ يعني الصلاة، صلِّ وتقرب إلى الله -تبارك وتعالى.
وبعضهم فسره بسجود التلاوة، باعتبار أن هذا موضع سجدة.
وابن كثير هنا ذكر الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[11] وَاقْتَرِبْ التقرب إليه -تبارك وتعالى- بالسجود والدعاء في هذه الحال فحري ذلك بالإجابة.
وحينما يفسر ذلك بأنه المراد به السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض فإن هذا يقتضي الصلاة، ما لم يفسر بسجود التلاوة، فإذا كان الإنسان يسجد أعني على نفسك بكثرة السجود[12]، فهذا يقتضي صلاة كثيرة، يُكثر فيها من السجود.
فهذا أمر بطاعة الله ، والتقرب إليه، وهذا أبو جهل كان يتوعد النبي ﷺ أنه إذا عفّر وجهه بالتراب -سجد- أنه يضع قدمه على عنق رسول الله ﷺ، فالله قال: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ لا تبالِ به، وأقبل على ربك بصلاتك وسجودك، فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن.
- رواه البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، رقم(6982) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم (160) وهذا لفظ البخاري.
- بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار، لأبي بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي (1/ 99)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، رقم (422).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 58).
- المصدر السابق (1/ 278، 279).
- طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:14).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة، رقم (4957).
- رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة اقرأ باسم ربك، رقم (3349) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم (275).
- رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب قوله: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، رقم (2797).
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (482).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة، رقم (578).
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (482).
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، رقم (489).