الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
سورة العاديات كاملة
تاريخ النشر: ١٩ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 6039
مرات الإستماع: 4281

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ۝ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ۝ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ۝ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ۝ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ۝ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۝ أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ۝ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ۝ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [سورة العاديات:1-11].

يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت.

سورة العاديات هذه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إنها مكية، وهذا قول الأكثر، وهو مروي عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، كابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس -رضي الله عنهما.

والقول الآخر: إن هذه السورة مدنية، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وبه قال أنس بن مالك ، وقتادة من التابعين.

ومنشأ ذلك الاختلاف فيها -والله أعلم- ومِن ثَمّ سيأتي الكلام على المعني المراد بالعاديات- أنه إن قيل: إنها مكية على أن المراد بالعاديات هي الخيل على قول الجمهور، كما سيتضح -إن شاء الله- فلم يكن جهاد في المرحلة المكية وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا قالوا: هذه الخيل تضبح، تسرع، تنطلق، تغير، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ۝ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا الإغارة على الأعداء، فهي تثير الغبار وتأثيراته، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا جمْع الأعداء على أحد المعاني، كما سيأتي -إن شاء الله.

فهنا قالوا: مكة لم يكن فيها جهاد، وبناء على ذلك هذه السورة مدينة، وقد ذكرت في بعض المناسبات أن الحكم على السورة أو الآية بأنها مكية أو مدنية باعتبار ما يلوح أو ما قد يلوح من المعنى أن هذا غير صحيح، وأن مرجع ذلك -يعني الحكم بأنها مكية أو مدينة- إنما هو النقل، وإلا فهذه المعاني التي تذكر يجاب عنها بأجوبة، سيأتي الكلام على قول من قال: إن العاديات هي الإبل مثلا وتعليل ذلك.

لكن على قول الجمهور: إنها الخيل يمكن الإجابة على ما سبق بأجوبة، منها ما ذكره بعض أهل العلم أن العرب الذين خوطبوا بهذا حينما أقسم الله بها كانوا يعرفون الخيل، ويعرفون أثرها ودورها في الحروب، ويشاهدون هذا، وإن لم يكن الجهاد قد فرض، ثم أيضاً هذه الخيل التي تعدو في سبيل الله لا يشترط أن ذلك كان في المرحلة المكية، بل كان ذلك قد حصل للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وأتباع الأنبياء.

فالله يقسم بها وهم يعرفون دورها وأثرها وفَرْيها، كذلك أيضاً يمكن أن يقال: إن هذا فيه إشارة لما يكون في المستقبل من أمر الجهاد الذي فرض بعد الهجرة في المدينة، فالله -تبارك وتعالى- أقسم بالخيل بالعاديات ضبحا، فليس فيه فرض الجهاد، فما المانع أن يقسم بالخيل التي كما أخبر النبي ﷺ: معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة[1]؟ فهي هكذا قبل فرض الجهاد، هكذا جعلها الله وخلقها "معقود بنواصيها الخير".

والقسم لا يكون إلا بمعظم كما سبق، فهذه الخيل بهذه المثابة وبهذه الصفة التي هي من أكمل أوصافها أقسم الله -تبارك وتعالى- بها، لا إشكال ولا حاجة لأن يُلجأ إلى القول بأن السورة مدنية؛ لأنها تحدثت عن الخيل العادية في سبل الله، كما لا حاجة لحملها على الإبل كما سيأتي.

وتأويل تضبح بمعني: تضبع، قالوا: لأن الإبل لا تضبح، وإنما الذي يضبح الخيل، والإبل تضبع تمد قوائمها الأمامية وعنقها إذا أسرعت في المشي، وأن هذا من باب الإبدال، والعرب تبدل الحرف بغيره، تضبح وتضبع، وهذا وإن قال به بعض أصحاب المعاني إلا أنه لا دليل عليه.

أما الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة المصدرة بهذه الأقسام الثلاثة فإن ذلك هو حال الإنسان من حيث هذه الصفة السيئة، وهي الكنود والجحد والكفران لنعمة الله -تبارك وتعالي- عليه، فهذه طبيعته وصفته ما لم تهذب، وتروض نفسه بالإيمان، وهذا مضى له نظائر في صفة الإنسان إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:19، 21]، ثم يأتي التهذيب إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:22] إلى آخر ما ذكر الله تعالى.

هنا: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، بعضهم يقول: الكافر كما سيأتي، وبعضهم يقول: الإنسان، جنس الإنسان باعتبار الغالب، فهذه السورة تدور حول هذا المعنى، صفة الإنسان هذه الصفة السيئة من الجحد لنعم الله -تبارك وتعالى- وكفرانها، مع ما يصاحب ذلك من الحرص الشديد على المال، كفرانٌ للنعمة وحرص على المال.

والله يخبره بأنه محيط به، عالم بأحواله، ومكنونات نفسه، وما يصدر عنه، وما انطوت عليه هذه النفس من الحرص والشح والجشع إلى غير ذلك.

هذا الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة.

يقسم الله تعالي بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت، وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو.

هنا يقسم بالخيل، هذا قول الجمهور أن المقصود بذلك العاديات، يعني الخيل، فإنها تعدو في سبيل الله، جمع عادية، العاديات الجارية بسرعة، تجري بسرعة شديدة، فأقسم الله بها بهذه الصفة أو الحال، وذلك أكمل أوصافها كما سبق، فإن ذلك هو المأمول منها من قبل أصحابها، فهم إنما يعدونها لهذا، أن تعدو وتسرع، وإنما كانت الخيل بهذه المنزلة عن الإبل، وعن الحمر، والبغال لشدة عدوها، فهي تدرك مالا تدركه سائر الدواب، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى ومميزات تتفاوت فيها الخيل، بحسب ما هي عليه في أصولها، وسلالاتها، وتربيتها، وتضميرها، وتدريبها.

فالخيل العربية ليست كغيرها كما هو معلوم، ولها من القُدر والامكانات القتالية ما ليس للخيل الأخرى -الخيول الأعجمية، ولهذا اختلف الصحابة لما فتحت بلاد فارس والشام في تلك الخيول التي وجدوها، هل يُجرون لها السُّهمان التي تكون للخيل أو لا، لأن الخيل التي كانت عند العرب لها أثر بالغ في القتال، وهذا معروف، تعرفه الأمم.

ولا زالت الخيول العربية في كل أقطار الدنيا، ولها شهادات ولها سلالات، وهناك كتب في أوصافها، وفي تفاصيلها، وفي أنسابها، كتب في أنساب الخيل منذ القدم، وتكلم العرب على كل التفاصيل فيها.

الأصمعي -من أوعية اللغة- في خبره المعروف مع أبي عبيدة معمر بن المثنى، وذلك أن كل واحد منهما وضع كتاباً في الخيل، وأوصافها، وتسمية كل عضو، ومفصل منها، من هامتها إلى حوافرها، فلما سئل كل واحد منهما عما في كتابه بخيل عربي أصيل أن يصف ذلك عليه، فأبو عبيدة معمر بن المثنى قال: لست بيطاراً، يعني كأنه يقول: أنا لست طبيباً بيطرياً حتى أصف هذا على الطبيعة، يعني يعرف هذا نظريًّا.

أما الأصمعي فوثب على ظهره وجلس يفصله من هامته إلى حوافره، كل جزء ما اسمه عند العرب، فالوزير أعطاه هذا الفرس، فكان إذا أراد أن يغيظ أبا عبيدة ركب الفرس وأتى إليه به.

فالشاهد أن العرب اعتنوا بهذا عناية كبيرة، والخيل في القتال -الخيل العربية- معروف أن لها طرقاً وفنوناً في القتال، بحيث إنها تنطلق مسرعة، وبلحظة تنقلب وتدير وجهها فيستقبل راكبُها مَن خلفه بالرمح، يعني هذا الذي يطارده ويظهر له أنه قد فر منه، ينطلق مسرعاً أمامه، وبلحظة وحركة تقلب وجهها، وإذا بالرمح يستقبل هذا الفارس الذي خلفه، إلى غير ذلك، بحركة كلمح البصر تنخفض وتنزل، فيطير السيف الذي ضرب به خصمه في الهواء فيبتدره بضربة.

لها فنون في القتال وكذا ليست لغيرها من أنواع الخيول، فالله -تبارك وتعالى- أقسم بها وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ولهذا مضى الكلام في قوله -تبارك وتعالى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [سورة الحشر:6] وقلنا هناك: إن الإيجاف بمعنى الإسراع، وإن الخيل تشير إلى الإغارة على العدو، وإن الركاب تشير إلى السفر الطويل.

 فالإبل تتخذ للسفر للمسافات الطويلة، والخيل للإغارة فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، قلنا هناك: إن المعنى أنه لم يكن فيه جهد يذكر، فما أغاروا على العدو، ولا قطعوا فيه المسافات الشاسعة، وإنما هو شيء أفاءه الله على رسوله ﷺ، من غير كدٍّ ولا تعب منكم.

هنا قوله: يقسم الله تعالى بالخيل، هذا التفسير تفسير العاديات بالخيل قال به جماعة من السلف ، رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، وسالم، والضحاك، وبعضهم يقول: إنها الإبل، وهذا مروي عن ابن مسعود، وعلىٍّ، وأيضاً مروي عن بعض التابعين، كالنخعي وعبيد بن عمير.

والسبب في ذلك -والله أعلم- كما أشرت أولا: أن مكة لم يكن فيها جهاد، ومن ثم إذا قيل: إن هذه السورة مكية، قالوا: هذه وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا الإبل تضبح.

وبعضهم قال: تضبع، وإنّ هذا حصل فيه إبدال، إبدال حرف بحرف، تضبع بمعنى تمد عنقها وقوائمها مسرعة، إلى أين تسرع وهي ليست بذات كر ولا فر في القتال؟

قالوا: إن ذلك حينما تنطلق من عرفة إلى مزدلفة، أو من مزدلفة إلى منى.

لاحظ هنا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ۝ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ۝ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فسروه بهذا، يعني: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا سيأتي على قولين -والأقوال فيها أكثر، لكن فيما يتعلق هنا بالإبل: أن ذلك يرجع إلى أصحابها، يعني: يورون يوقدون النيران لطعامهم، أو أنها هي حينما تضرب بخفها بالحجارة، فتصطك هذه الحجارة، فيظهر الشرر؛ لأن خفاف الإبل لينة، وحينما تصطك بالحجارة لا يخرج شرر، وهذا موضع إشكال، وهو أحد وجوه الرد على أصحاب هذا القول، وسيأتي إن شاء الله.

فالمقصود أنهم قالوا: إن الحجارة يضرب بعضها بعضًا من شدة جري هذه الإبل، وقد مدت أعناقها منطلقة إلى مزدلفة مسرعة، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ۝ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا هنا قال بعضهم: إنها تذهب من مزدلفة إلى منى، ويكون ذلك في الصبح بعد الإسفار.

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا تثير الغبار بانطلاقها هذا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا قالوا: هذه مزدلفة، يقال لها جمع، وكما تلاحظون المعنى يكون قلِقًا، يعني: هنا تذهب صبحًا إلى منى، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا مزدلفة، ومزدلفة قبلُ، أو يقال: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا جمع الناس في منى مثلا، لكن -والله أعلم- هذا خلاف الظاهر المتبادر.

هنا يقول: يقسم بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا "ضبحًا" بعضهم يقول: هذا مصدر مؤكد لاسم الفاعل، يعني: تضبح ضبحًا، ضابحةً ضبحًا.

بعضهم يقول: الضبح هذا هو ضرب من السير، إسراع، ويقال: ضبح الفرس إذا عدا بسرعة، وبعضهم يقول: هذا صوت الحوافر، صوت حوافر هذه الخيل حينما تضرب بقوة في الأرض، والفراء يقول: هو صوت أنفاسها، نفَس الخيل حينما يشتد، ويعدو بسرعة.

ومن قال: إن ذلك يراد به الإبل قالوا: حينما تنسف بمناسنها الحجارة -الحصى، تسمع صوت الحصى. وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا هنا يقول: هو الصوت الذي يُسمع من الفرس حين تعدو، هذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله، هذا الصوت في حنجرتها، وبعضهم يقول: يصدر من صدرها بمعنى: الحمحمة، ومثله ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: "أُح أُح"، يعني: يكون لها صوت بهذه الطريقة.

وبعضهم يقول: إنهم كانوا يلجمونها عند الإغارة؛ لئلا يسمع العدو صوت الصهيل؛ فيستعد، أي من أجل المباغتة، لأن الخيل تنطلق مسرعة فيباغتون العدو، لهذا قال: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، ذكر هذا الوقت باعتبار أنه أشرف اليوم، وهو مبدأ القتال، وبه تستبين الأشياء، وتتضح.

وكان النبي ﷺ إذا غزا كان يتربص ويستمع الأذان -أذان الصبح- فإن سمع أذانًا وإلا أغار، ويكون الناس في غِرّة لم ينتشروا بعد، فهم غارُّون في بيوتهم مع أهليهم، فلا يكاد يخرج منهم أحد في وقت الفجر، يعني كما قال الله : وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [سورة التكوير:18]، فهذا يكون بطلوع الفجر، والناس غارُّون، فهنا تكون الإغارة في هذا الوقت مباغتة لهم.

النبي ﷺ لما غزا خيبر ورآه الفلاحون قالوا: "محمد والخميس"، ومعهم مساحيهم يعني: بدءوا يخرجون لأعمالهم، فقال ﷺ: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين[2].

فهنا قال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا هو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو، هذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، ليس ذلك صوت الحوافر ولا خفاف الإبل، وإنما هو صوت يصدر عن الخيل يقال له: الحمحمة، مع أن بعضهم قال: ليس بالحمحمة، يعنى: هو صوت غير الحمحمة.

أما القول: إنهم كانوا يلجمونها من أجل ألا يصدر منها صهيل فهذا بعيد؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أقسم بشيء هو من صفتها وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.

قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا يعني: اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا هنا فسره بهذا المعنى وهو المشهور الذي عليه الجمهور، والخيل معروف أنه يوضع تحت حوافرها النعل -قطع معدنية، فحينما تعدو بسرعة فهذا يحتك بالحجارة فيخرج منه شرر.

فهنا قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا تقدح منه النار، الموريات يعنى: هذه الخيل توري يعني: يخرج الشرر من اصطكاك حوافرها بالحصى والصخر.

والقدح: أصله الصك، فجُعل ذلك منها كالقدح في الزناد، تقدح في الزناد يعني: يوقد المَرْخ والعِفار -نوعان من الشجر يوقد بهما، وكذلك حينما تضرب الحصى من صفوان ونحوه ببعضه، فإنه ينقدح منه الشرر.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا القدح: الصك، فصار ذلك منها بمنزلة القدح في الزناد، هنا قوله: "قدحًا" كما سبق في قوله: "ضبحًا" يعني: أنه على قول بعضهم مصدر مؤكد لاسم الفاعل، قادحةً قدحًا للصخر فتُقدح منه النار.

قال: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا يعنى: الإغارة وقت الصباح، كما كان رسول الله ﷺ يغير صباحًا ويتسمع الأذان، فإن سمع أذانًا وإلا أغار[3].

قوله: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ذكرت أن هذا قول الجمهور، لكن هناك من فسروا بمعانٍ دون هذا، بل لا يخلو بعضها من بُعد، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا قالوا: هذه الخيل أوقدت الحرب، أشعلت الحرب، أثارت الحرب؛ لأنها لما نزلت في مجتمع القوم ثارت ثائرة الحرب فأشعلتها فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، أشعلت الحرب وأورتها بهذه الإغارة، وهذا بعيد -والله أعلم- وإن قال به بعض السلف كقتادة وسعيد.

وبعضهم لا يحمل ذلك على الخيل أصلا، سواء قيل: إنها الإبل أو الخيل، يعني: لا يحمل ذلك على ما يكون مِن ضرْب قوائمها بالأرض سواء كانت إبلا أو خيلا.

وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى أصحابها فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، أنهم بعدما يرجعون من هذا، بعد انصرافهم من الحرب يوقدون النار ليصطلوا بها وليصنعوا طعامهم، وهنا كما تلاحظون هذا يقتضي تفريق الضمائر، يعني: هذه في الخيل وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ۝ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا هؤلاء أصحابها حينما يوقدون النار، وهل هذا شيء عظيم بحيث يستحق أن يقسم به حينما يوقدون نارهم؟

الجواب: لا، ليس كذلك، بل إن بعضهم قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا يعني: الرجال بدهائهم وفكرهم في الحرب، وتدبيرهم فيها، وهذا منقول عن مجاهد، وهو مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا أنها أفكار الرجال والدهاء الذي يكون به قوام الحرب، والنبي ﷺ قال: الحرب خدعة[4]، وبعضهم يحمل ذلك على الألسنة، كما جاء عن عكرمة، بمعنى: أن هذه الألسن هي مشاعل حرب، يعني: ممكن أن يكون بسببها فتنة وحروب لكلمة تقال؛ لشدة خطرها، وهذا بعيد.

ابن جرير -رحمه الله- حمل هذا على جميع هذه المعاني، بأي اعتبار؟ قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، كل ما يحصل به ذلك فهو داخل فيه، وأن الله لم يخص معنى دون معنى، فهذه الخيل يحصل في قوائمها هذا، وكذلك هؤلاء يوقدون نيرانهم، وكذلك أيضاً هذه الألسن تثير الفتنة، وكذلك آراء الرجال والدهاء في الحرب، إلى آخره.

في الواقع أن ذلك ليس بسبب اشتراك في اللفظ -يعني: أن اللفظ يأتي لعدة معانٍ، وإنما هو باعتبار ما ذكرت سابقًا مِن المراد بالعاديات ابتداءً، فكثير من هذا الاختلاف يرجع إليه، وإن لم يكن جميع الاختلاف فيه يرجع إلى هذا المعنى.

فهل هنا القسم أو الإقسام بهذه النار التي يوقدونها أو بهؤلاء الذين يوقدون النار له شأن؟

الجواب: لا.

هل الإقسام بهذه الألسن التي تثير فتنة، وتقوم بسببها الحرب له شأن؟

الجواب: لا، فالسياق هو الذي يبين المراد، فهذه الفاءات الأربع فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ۝ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ۝ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا هذه الفاءات الأربع بهذه المواضع الأربع كلها تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فهي مترابطة، السياق يبين هذا ويوضحه، ومن ثَمّ فإن ذلك جميعًا -والله تعالى أعلم- في موصوف واحد له أوصاف متعددة.

فالعاديات: هي الخيل، تضبح ضبحاً، حينما تسرع في الإغارة والغزو، وتُخرج هذا الصوت منها، هذه صفتها فيما يُسمع من الصوت، وفيما يحصل من قوائمها وحوافرها ينقدح الشرر، وفي مهامها التي أُنيطت بها، وتُنتظر من مثلها الإغارة فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، وأثر خارجي وهو: الغبار المنبعث من هذه القوائم، وهذه السرعة، والنزول والجولان بأرض أو بساحة المعركة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا.

قال هنا: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا يعني: الإغارة وقت الصباح، والذين قالوا: الإبل قالوا: تنطلق إلى منى من مزدلفة، فَالْمُغِيرَاتِ، لكن هل هذا يقال له: إغارة؟

الإغارة تستعمل في الهجوم على العدو، فانطلاقها إلى منى هل هو إغارة على منى؟ يعني هذا لا يخلو من بُعد -والله أعلم.

فَالْمُغِيرَاتِ سبق في بعض المناسبات أن ذكرت كلام بعض المبالغين في التفسير العلمي أو ما يسمى "بالإعجاز العلمي" أنه حمل هذه جميعاً على السيارات، وأن الضبح هو: صوت "البساتم"، وعملية حركة "البساتم" والاحتراق.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، تقدح هذه البساتم في عملها حينما تتحرك، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا هنا فسر "المغيرات" بالمُغيِّرات، يقول: بدأ الصبح وظهر كسيفاً؛ لأن أنوار السيارات أغنت عنه، فصار الناس يستوي الليل والنهار في تنقلهم عليها، وانتقالهم، لا يحتاجون إلى انتظار للصباح، فصار الصبح كسيف البال؛ لأنه وُجد ما أغنى عنه فتغير، فَالْمُغِيرَاتِ فسرها بالمُغيِّرات صبحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، فهذا من التلاعب بكتاب الله -تبارك وتعالى.

ابن جرير حمله على المعنيين، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا باعتبار أن ذلك في الخيل حال الإغارة، وفي الإبل حينما تنطلق من مزدلفة إلى منى، كما روي عن عليٍّ، وابن مسعود -رضي الله عنهما، فالله لم يقيد ذلك، فهذا وهذا كله يصدق عليه قوله: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا.

وقوله تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا يعني: غبارًا في مكان معترك الخيول.

قوله هنا: فَأَثَرْنَ بِهِ الضمير يرجع إلى ماذا؟

هنا يقول: في مكان معترك الخيول فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا المكان الذي تجول فيه الخيل، أو تجري فيه، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا في هذا المكان الذي تعدو فيه الخيل، فيكون الضمير يرجع إلى المكان بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول: إنه يرجع إلى الصبح فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ۝ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وإن المكان لا ذكر له فَأَثَرْنَ بِهِ يعني: الصباح، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا.

وبعضهم يقول: أثرن به يعني: بقوائمها وحوافرها، أثرن بها الغبار، والنقع: هو الغبار، وبعضهم يقول: أثرن به بعَدْوها.

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا بهذا العَدْو، وهذه المعاني بعضها متقاربة أو متلازمة، فحينما يقال مثلا: بعدوها فإن ذلك إنما يكون ويقع بحوافرها وبقوائمها، وإنما يكون ذلك بالمكان الذي تجول فيه فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، أثرن بهذا العدو بواسطة هذه القوائم في المكان الذي تجري فيه، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا.

والذين قالوا: هي الإبل قالوا: إن الإبل لا تثير الغبار، كما تثير الخيل؛ لأن قوائمها عريضة، وخفافها لينة ليست كالخيل.

وبعضهم يقول: إن "نقعًا" هذا مكان بين منى ومزدلفة، يعني: وادي مُحسِّر، وهذا رُد عليه بأن المكان ذاك أصلا فيه صلابة، وليس به غبار، والإبل إذا أتت عليه لا تثير الغبار، وأن هذا فيه بُعد -والله أعلم؛ إذ إن المراد بذلك -والعلم عند الله- هي الخيل حينما تغير على الأعداء.

قال: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، أي توسطن ذلك المكان كلهن جَمْع.

يعني: اجتمعت، فوسطن به مجتمعات، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، وسط ذلك المكان فيكون "جمعًا" يعود إليهن، يعني: من صفتهن، أو فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا الضمير يرجع إلى ذلك الوقت، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ۝ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ۝ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا بذلك الوقت.

أو أن المراد فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، يعني: جموع الأعداء، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا جمع العدو في ميدان المعركة، وبعضهم يقول: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا يعني بذلك الغبار، إذا حلت في ساحة المعركة ثار الغبار، فوسطن بذلك النقع، الغبار.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: فوسطن بركبانهن، الركبان: جمع القوم يعني الأعداء، أي نزلن بساحتهم في أرض المعركة.

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا الكلام على الضمير إلى أين يرجع هل هو الغبار؟ أو هؤلاء الذين يركبونها؟ أو وسطن به بعَدوهن، وإسراعهن، فبهذا العَدو والجري السريع توسطن جمعًا، أو وسطن به يعني: وسطن بذلك الصباح جمعاً من الأعداء؟ هذا كله يحتمل، والله تعالى أعلم.

وقوله: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني إغارة الخيل صبحًا في سبيل الله.

وقوله: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا هو: المكان الذي حلت فيه أثارت به الغبار.

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، أثرن به يعني: بالمكان الذي نزلن فيه، ابن جرير -رحمه الله- يقول: فرفعن بالوادي غبارًا، نفس كلام ابن كثير، "فأثرن به نقعا"، والنقع: هو الغبار.

وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا قال العوفي عن ابن عباس، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: يعني: جمع الكفار من العدو.

وقوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هذا هو المقسم عليه، بمعنى أنه لِنِعم ربه لكفورٌ جحود.

قال ابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو الجوزاء، وأبو العالية، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، ومحمد بن قيس، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد: الكنود: الكفور.

نعم هذا هو المشهور، وبعضهم يقيده بالكفور بالنعمة، ولا منافاة، من طبيعته "إن الإنسان"، فالإنسان جنس، بعضهم يقول: الكافر، لكنها طبيعة الإنسان ما لم تروض نفسه وتهذب بالإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وهذا المعنى: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، هذا قول الجمهور بمعنى: الكفور، وبعضهم يقول: هذه بلغة ربيعة ومضر كنود بمعني: كفور.

قال: الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب، وينسى نعم الله عليه.

وهذا بنفس المعنى السابق، لاحظ في السابق قال: والضحاك والحسن وقتادة. فقول الحسن ما هو؟

قال: الذي يعد المصائب وينسى النعم، فهذا الذي يعد المصائب وينسى النعم هذا كنود؛ لأنه لو أنه ذكر المصائب والنعم لكان لربما، لكن يذكر الأمور التي تسوء، وينسى الأمور التي هي من قبيل النعم هذا النكران، يعني: لو تعامل أحد مع الناس بهذه الطريقة.

المرأة حينما قال النبي ﷺ: وتكفرن[5]، هنا كفر النعمة، نعمة الزوج، بين ذلك بقوله: لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيرًا قط، يعني: سرعان ما تنكر، وتجحد فضله، وإحسانه إليها المتتابع.

ولهذا الإنسان إذا ابتلى، إذا مرض، إذا اعتل، هو بحاجة إلى التذكير، كأن يقال له: إن أيام العافية أطول من أيام البلاء، كم بلغت من العمر؟ 70 سنة، كم عوفيت فيها؟ فحينما جاءك عارض من العوارض لمدة أسبوع، أو شهر، أو سنة، أو أكثر، فإن أيام العافية أكثر من أيام البلاء.

حينما يمرض الإنسان لأيام أو لأسبوع يقال له: أيام العافية أكثر، تنسى أيام العافية هذه كلها؟ هنا يحصل عنده شيء من الاعتدال، ويتماسك فلا يحصل له الجزع، ولا يحصل التسخط، ولا يسوء ظنه بربه -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: الكنود هو الجاحد للحق، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جحود، وبعضهم يقول: هو الحسود، لكن هذا فيه بُعد -والله أعلم.

وبعضهم يقول: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي: بخيل، ما ينفق في مرضات الله -تبارك وتعالى، ويقولون: هذا بلغة كنانة.

وبعضهم يقول: الكنود يعني: العاصي بلغة حضرموت، وكِندة، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود به الكفور كثير الكفران لنعم الله -تبارك وتعالى- المتتابعة عليه، يغفل عنها وينساها، وهذه صفة في الإنسان غالبة.

ولذلك يلاحظ الإنسان نفسه دائمًا ويحاسبها، ويتذكر نعم الله عليه، فذكر النعم مطلب شرعي، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب:9]، وهذا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى.

ولذلك قال الله : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:11] فيكون ذلك تذكيراً للنفس، وتذكيراً للآخرين، وإقراراً بالنعمة، واعترافًا، وإذعاناً، وتواضعًا لربه ، بخلاف هذا الذي لا يكاد يخرج منه.

يعني: الآن في تعاملات الناس، امرأة أو آخر أو غير ذلك يُحسَن إليه، ولربما كان هذا الإحسان ذا تكاليف بالغة، رجل يحج بامرأته، ويتحمل الأعباء المالية، والنفسية، والبدنية، العبء النفسي لوحده هذا في كفة، والأعباء الأخرى في كفة أخرى.

الرجل إذا كان معه امرأة واحدة أو عشر سواء في الحج، خلاص هو الهم؛ لأنه يحمل همها، تمرض، تحيض، لا تستطيع أن تواصل النسك، تضيع، تتعرض لأذى الزحام حينما يتدافع الناس في الطواف، أو يتدافعون عند القطار، أو يتدافعون عند الجمار، فهو يحمل همًّا كبيراً، ثم لا يسمع منها كلمة واحدة تعبر عن مشاعر، أو دعاء، أو اعتراف بالجميل أو نحو ذلك.

فكيف إذا قالت له في يوم من الدهر: ما رأيت منك خيرًا قط؟! هذه تثقل على كثير من النفوس.

هنا: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ فكيف مع الله الذي قال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا؟ [سورة التوبة:51] ذكرنا في رمضان قوله: "إلا ما كتب الله لنا"، ما قال: علينا، عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير[6] حتى البلاء والمصائب هي خير له، فتكون رفعة، تكفير السيئات كل ذلك خير له، ثم بعد ذلك يحصل منه هذا النكران، والجحود لنعم الله .

هذه صيغة مبالغة "كنود" يعني: كثير الكفران، وهذا لا يختص بالكفار، يعني: الإنسان حينما يتذكر الآن أشياء مرت عليه، ولربما كان يلهج بالدعاء، ويتضرع إلى الله، ويطيل رفع يديه، يا رب يا رب، ولو ذُكِّر الآن بها لربما نسيها، تَذْكُر حينما كنتَ تعاني من كذا؟ لربما لا يتذكر إذا ذُكِّر، وقد يتذكر، لكنه نسي، وغفل عن هذا.

وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ قال قتادة وسفيان الثوري: وإن الله على ذلك لشهيد، ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان، قاله محمد بن كعب القرظي، فيكون تقديره: وإن الإنسان على كونه كنوداً لشهيد، أي: بلسان حاله، أي: ظاهرٌ ذلك عليه في أقواله وأفعاله، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [سورة التوبة:17].

نعم، هنا الضمير إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهو إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ۝ وَإِنَّهُ، فهنا أقرب مذكور هو الرب، "لربه" يعني: الرب على ذلك لشهيد.

فإذا نظرت إلى المُحدَّث عنه وهو الإنسان، وما يتصل بأوصافه المذكورة هنا فهو كنود، وَإِنَّهُ أي: الإنسان، واضح؟ أي: الإنسان.

وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، إذا قلنا: إن ذلك بالنسبة للرب -تبارك وتعالى، وهو قول الجمهور، اختاره ابن جرير، وفي قراءة غير متواترة شاذة، هذه التي ذكرها، {وإن الله على ذلك لشهيد} لمّا قال: قال قتادة وسفيان الثوري، القراءة ذكرها قتادة: {وإن الله على ذلك لشهيد}، هذا لفظ القراءة الشاذة، هي صريحة بهذا الاعتبار.

والقراءة الشاذة إذا صح سندها فإنها تفسر القراءة المتواترة.

إذا: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، هنا صار يؤيده أمران:

الأمر الأول: عود الضمير إلى أقرب مذكور، هذه القاعدة.

والثاني: القراءة الشاذة.

كما أنه أيضاً قول الأكثر؛ لأن من أهل العلم من يرى حال التساوي والاحتمال الترجيح بقول الأكثر في الفقه، وفي غيره، وهذا ليس محل اتفاق، ليس دائماً.

لكن من ضمن المرجحات الكثيرة، وطرق الترجيح التي تبلغ المائة، هي حالات لا يوجد فيها مرجح، فقد يرجح بقول الأكثر.

ويحتمل -كما قال ابن كثير- أنه يرجع إلى الإنسان المُحدَّث عنه، الموصوف إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، يقول: قاله محمد بن كعب القرظي، قال به غيره كالحسن، وأيضاً هو مروي عن آخرين.

 يؤيد هذا القول: أولاً: أن ذلك يرجع إلى المحدَّث عنه وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ.

ثم أيضا: أن ذلك يجري على قاعدة "توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها".

يعني الآن إذا قلنا: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ أي: الإنسان، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، هذا بالإجماع أن المقصود به الإنسان، فصار ذلك يرجع إلى الإنسان.

أَفَلا يَعْلَمُمن؟ الإنسان.

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يعني: الناس، فهذا كله يرجع إلى الناس، فيكون بهذا الاعتبار إذا قيل: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ إنه الإنسان، فهذا يجري على قاعدة: "توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها"، فلا يقال بتفريقها إلا لموجِب، بحيث إنه لا يستقيم المعنى، وربما لا يستقيم إلا بضرب من التكلف، ودعاوى في التقديم والتأخير لا حاجة إليها، وهنا يمكن أن يستقيم المعنى من غير تكلف.

وقوله: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ابن كثير بين هذه الشهادة قال: بلسان حاله، أي: ظاهرٌ ذلك عليه في أقواله وأفعاله كما قال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، لكنهم لا يشهدون بلسان المقال، ولكن بلسان الحال بأفعالهم هذه الشركية.

لو قيل: إن ذلك يرجع إلى الله، ويرجع إلى الإنسان، باعتبار الاختلاف في مفسر الضمير، يحتمل هذا، وهذا.

فالله شهيد عليه، وحاله شاهدة أيضاً عليه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، لو قيل ذلك لم يكن بعيداً، فيكون جمعنا بين القولين؛ لاحتمال مفسر الضمير.

كما ذكرنا في مناسبات مشابهة تارة يكون بين المعنيين ملازمة، وتارة لا يكون بينهما ملازمة، مثل قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] هل هو مِن علم أقرب مذكور وهو: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، أو من علم الله: يعلم أي: الله؟ فبين المعنيين ملازمة، فإن علم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ هو جزء من علم الله -تبارك وتعالى، فإذا كانوا لا يحيطون به فإنه باب أولى أنهم لا يحيطون بعلم الله -تبارك وتعالى.

وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي: وإنه لحب الخير -وهو المال- لشديد، وفيه مذهبان:

أحدهما: أن المعنى: وإنه لشديد المحبة للمال.

والثاني: وإنه لحريص بخيل؛ من محبة المال، وكلاهما صحيح.

جمع بين المعنيين، بالإجماع أن قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أن الخير: هو المال، هنا كما قال الله : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [سورة البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً، فهنا المقصود بالخير: المال، وليس البر، والمعروف، والطاعة، والعمل الصالح.

وذكرت في بعض المناسبات قول بعض من يتكلم في بعض القنوات بطريقة لا يريد أن يزعج بها أحد، يقول: الإنسان الأصل فيه الخير، وهو مجبول على الخير، والناس يحبون الخير، مهما كانوا في الفساد، والغي، والشر، والدليل على هذا وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.

فالإنسان يحب الخير، هذا أخبر به الله، الإنسان يحب الخير، شديد المحبة للخير!، وهناك ناس شياطين، صارت الشياطين من الجن تتتلمذ على أيديهم، أشرار لا يحبون الخير، ولا يحبون المعروف، بل يحاربون الفضيلة بكل طريق مستطاع، فكيف يقال للناس مثل هذا الكلام في قناة فاسدة؟!، ولكنها فتنة الإعلام، وفتنة الخروج في القنوات الفاسدة.

فهو يتخيل جمهوراً معيناً من أصحاب الأهواء، والشهوات، فيريد أن يقول لهم قولاً لا يزعج خواطرهم، هذا بالإجماع حب الخير يعني: المال، لَشَدِيدٌ فيه القولان:

الأول: شديد المحبة، وهذا هو الظاهر المتبادر وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.

والثاني: شديد أي بخيل، تقول: فلان شديد، ويقول الناس: لا زال فلان شديدًا، يعني: ممسكًا يده، ما يَخرج من يده شيء، بخيل من محبة المال، وهذا من لازم ما سبق، يعني: إذا كان يحب المال حبًّا شديدًا، كما قال الله تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] هذا تفسير لهذه الآية، فإذا كان يحبه هذه المحبة الشديدة فإنه لا يكاد يفرط به، فيودي به ذلك إلى الحرص، والله المستعان.

كما قال الله : وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128]، وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ۝ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [سورة محمد:36، 37] النفوس تتحرك إذا طُلبت المال، إذا سُئلت المال، ولهذا كثرت الآيات جدًّا في فضل النفقة، والأمر بها، وما للمنفقين في مواضع كثيرة في كتاب الله  والسبب في هذا هو أن النفوس مجبولة على محبة المال، وما لإخراج المال في سبيل الله من الآثار النفسية، والخارجية على المجتمع والأمة، فلا جهاد إلا بمال، ولا دعوة إلا بمال، ولا مصالح تقوم، ولا حياة إلا بالمال، فهنا أن يخرجه هكذا يعطيه للفقراء، والمحتاجين، وغيرهم، هكذا بعد أن تعب فيه وجمعه، هذا يحتاج إلى نفس قوية ثابتة.

وقد مضى الكلام في الأمثال في قوله -تبارك وتعالى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:265] على المعاني المذكورة في الآية، فإن بعضهم قال: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: النفس لربما لا تنقاد لإخراج المال فتحتاج إلى تثبيت وإلى ترويض إلى أن تُحمل على هذه الخلال، والخصال حملا فتثبت؛ لأنها تضطرب ويحصل لها نفور، وتنتابها الخواطر والوساوس والأفكار التي تصرفها عن ذلك وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، الله المستعان.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- مزهِّداً في الدنيا ومرغباً في الآخرة، ومنبهاً على ما هو كائن بعد هذه الحال، وما يستقبله الإنسان من الأهوال: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ أي: أُخرج ما فيها من الأموات وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ.

أَفَلَا يَعْلَمُ الهمزة هنا استفهامية للإنكار، أفلا يعلم هذا الإنسان الذي هو بهذه المثابة من الكفران، والحرص الشديد، ومحبة المال؟ أَفَلَا و"الفاء" للعطف على مقدر يقتضيه المقام، يعني: يفعل ما يفعل من القبائح، ويتصف بهذه الأوصاف.

فلا يعلم ما سيكون حينما تبعثر القبور، ويحصل ما في الصدور، فتخرج الدفائن من القبور، ومن النفوس في الصدور، تخرج المخبآت في القبور من الأجساد، والمخبآت في الصدور من العقائد، والأعمال، وما تنطوي عليه النفس، وما قد يخفى على الناس، فيكون بادياً علانية ظاهراً لا يخفي، وإن حاول صاحبه أن يواريه على الناس مدة حياته.

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ فكل ما أسر الإنسان في نفسه وخبأ من الإرادات، والمقاصد والنيات، أو العقائد والأفكار فإن ذلك يخرج جميعاً، والله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه منه، فلا يُكنّ الإنسان في نفسه إلا الخير، والإيمان، والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، وما إلى ذلك من الأعمال القلبية التي يرضاها الله ويحبها، وجنسها أفضل من جنس الأعمال البدنية.

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ كل ما في الصدور من إيمان وكفران، وما يتفرع عنهما، ولهذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله: إنه ينبغي على الإنسان أن يقصد الخير، وينويه دائماً، فإن حصل له   -فَعَله- فهو على بر وطاعة من جهة العمل، والامتثال، فإن لم يحصل له فإنه يُبلَّغ بهذه النية.

أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ بُعثر بمعني: نُثر، تقول: بعثرت المتاع يعني: جعلت أسفله أعلاه، وتقول: أغراض مبعثرة يعني كما نقول في العامية: "محيوسة"، فالقبور تبعثر، تنبش، فيجعل أسفلها أعلاها، وكما في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [سورة الانفطار:4]، وقد مضى الكلام على هذا.

قال: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ قال ابن عباس وغيره: يعني: أُبرز وأُظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم.

يعني قول الأكثرين، لاحظ هنا قال: أبرز وأظهر، الأكثرون يقولون: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ: التحصيل هو التمييز، مُيز ما في الصدور، وما تُكنّ من خير وشر، وفُصل ذلك عنها بمعنى: أُخرج وأُبرز، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سورة يس:59] يعني: من المَيْز وهو الانفصال، فهنا قال ابن جرير -رحمه الله: أي: مُيز، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، مُيز وبُين فأبرز ما في الصدور، إذا امتاز عن غيره يعني: انفصل عنه وبان، فهنا فسر بأبرز.

فالذين فسروا حُصِّلَ بمُيز هذا لا يخالف قول من قال: أُبرز.

قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي لعالمٌ بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون، ومجازيهم عليه أوفر الجزاء، ولا يظلم مثقال ذرة.

آخر تفسير سورة العاديات، ولله الحمد والمنة.

  1. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، برقم (1872).
  2. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4198)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، برقم (1365).
  3. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم (382).
  4. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، برقم (3029)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، برقم (1739).
  5. رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، وبرقم (1462)، في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق، برقم (1739).
  6. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).

مواد ذات صلة