الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
سورة العصر كاملة
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 5146
مرات الإستماع: 5742

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: تفسير سورة العصر، وهي مكية.

ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعدما بُعث رسول الله ﷺ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أُنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر:1-3]، ففكر مسيلمة هُنيهة ثم قال: وقد أُنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفْر نقْر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.

وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف بـ"مساوئ الأخلاق" في الجزء الثاني منه شيئًا من هذا أو قريبا منه.

والوبْر: دويبة تشبه الهر، أعظم شيء فيه أذناه وصدره، وباقيه دميم، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرجْ ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان.

وروى الطبراني عن عبد الله بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر.

وقال الشافعي -رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة سورة العصر كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: مكية، وهذا على قول الجمهور، وجاء عن بعض السلف كقتادة ومقاتل أنها مدنية.

والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة هو: موضوع واحد، وذلك ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من وصف الخسارة لبني الإنسان إلا من استثنى الله -تبارك وتعالى- من أصحاب تلك الأوصاف: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

وهذا الأثر المروي عن عبد الله بن عمرو مروي عنه وهو كان في مكة، وهو مما يدل على أنها نازلة في مكة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وقال مالك عن زيد بن أسلم: هو العشيّ، والمشهور الأول.

يقول ابن كثير: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم"، يعني: أنه ظرف، والمقصود به: الدهر على هذا القول، أن العصر هو: الدهر، يعني: الزمان، ولا يقيد ذلك بالوقت المعروف.

وبعضهم يقول: إن العصر هو: السَّنة، والسنة أيضاً يقال لها: الدهر، لكن الإقسام بالعصر باعتبار أنه الزمان، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، إذا أردنا أن نربط بينه وبين المقسم عليه، أي: من وجه الارتباط بين المقسم به والمقسم عليه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ

وقد تكلمنا في مناسبات سابقة عن التغابن في تفسير سورة التغابن أيضاً من أن الله -تبارك وتعالى- أعطى كل واحد رأس مال، وهي: هذه الأنفاس، وأمره أن يتّجر بها حتى يلقى ربه -تبارك وتعالى، فاشتغل بعض الناس بما ينفعهم ويرفعهم، وبادروا بالأعمال الصالحات، ثم قدموا على الله -تبارك وتعالى- بأعظم التجارات، فدخلوا الجنة، واشتغل قوم بما يضرهم، فسخروا أعمارهم وأوقاتهم وأموالهم فيما يسخط الله -تبارك وتعالى، فدخلوا النار، وأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار في الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة في النار، فذلك من أعظم التغابن.

يقول ابن كثير: "العصر هو: الزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم"، فإذا قلنا: إنه الدهر فيمكن أن يقال لما يقع فيه من العبر والعظات، وتعاقب الليل والنهار، والظلام والضياء، مما يدل على قدرة الله -تبارك وتعالى، وكذلك أيضاً هذا الزمان الذي يعمل فيه العاملون، ويتقرب فيه المتقربون، ويفرط فيه المفرطون، ويضيع فيه المضيعون، قال النبي ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ[1]، بهذا الاعتبار.

وبعضهم جعل ذلك بمعنى أخص وهو: الوقت المعروف، كما قال هنا: العشي، نقله عن زيد بن أسلم، وقال به غيره أيضاً، كقتادة والحسن، والعشي يعني: الوقت الذي نعرفه، يكون من بعد دخول وقت العصر إلى غروب الشمس، هذا الوقت يقال له: العشي، كما أن العشي يقال لما هو أوسع من هذا، من بعد الزوال إلى غروب الشمس؛ لذلك يقال للصلاتين -صلاة الظهر والعصر: صلاتي العشي.

وابن جرير -رحمه الله- حمله على الجميع، وهذا محمل حسن، باعتبار أن العصر يصدق على هذا وهذا، يصدق على الزمان أي: الدهر، ويصدق أيضاً على الوقت المعروف، ولا شك أنه وقت شريف عظيم، ومما يدل على عظمته وشرفه ومنزلته ما جاء في تعظيمه في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً عن صلاة العصر: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة: 238]، وهي: صلاة العصر.

وكذلك أيضاً في قوله -تبارك وتعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [سورة المائدة: 106]، الراجح كما سبق في تفسير الآية: أنها صلاة العصر؛ لما في اليمين والقسم بعد العصر من عظمة ومنزلة.

وكذلك أيضًا يدل عليه الحديث في الرجل الذي حلف على يمين بعد العصر وهو كاذب، أي: يمين فاجرة على سلعة[2]، فالشاهد: أن العصر ليس كغيره، يعني: هذا الوقت، فهو داخل في القسم، والله تعالى أعلم.

فأقسم -تعالى- بذلك على: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، أي: في خسارة وهلاك، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ قال: "أي: في خسارة وهلاك"، فسرت الخسارة بالهلكة وهو معنى مقارب للخسارة، وبعضهم يقول: في شر، كما جاء عن ابن زيد: أنه في شر، وبعضهم كالفراء يقول: يعني: في عقوبة.

وأصل الخسران يقال: للنقصان وذهاب رأس المال، وذلك في الأصل يستعمل في البيع والشراء والتجارة، والله -تبارك وتعالى- قد أورد من هذا أشياء، كما في قوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16]، فسمى المعاملة معه: تجارة، وسماها: بيعًا وشراء فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة:111]، إلى أن قال: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [سورة التوبة:111]، وقال: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9]، والغبن في الأصل يكون في البيع والشراء، وما في معناهما، فكل هذا يذكره الله -تبارك وتعالى- في المعاملة معه.

وهكذا الخسارة تقال: للنقصان، فإذا اشترى الإنسان سلعة بمائة ثم باعها بخمسين يكون قد خسر، وإذا اشترى سلعة بمائة فذهبت فإنه يكون قد خسر، فتقال للنقصان، وذهاب رأس المال، فالناس في هذه الحياة الدنيا وما يزاولونه ويتعاطونه فيها في خسارة، وذلك لتضييع حظهم من الله -تبارك وتعالى، فيقع منهم التفريط والاشتغال بما يضرهم، والإعراض عما ينفعهم، ولو علموا قيمة هذه الأنفاس التي تذهب ولا تعود، وأن العبد يمكن أن يرتقي بها، ويمكن أن يتزود من الأعمال الصالحات، وأن يصل إلى الدرجات العالية في سلم العبودية، لما فرطوا بلحظة، ولهذا كان بعضهم إذا جاء من يضيع وقته أو يكلمه بما لا طائل تحته يقول له: أمسك الشمس، فهذه الأنفاس في كل نفس منها يمكن أن تتزود بتسبيحة أو تهليلة أو تكبيرة أو بشيء يقرّب أو بشيء ينفع أو بشيء يرفع، وإذا هان على الإنسان ما يطلب فإنه يضيع الأوقات بالجملة، فتكون كما قيل:

والوقتُ عندكم رخيصٌ سعرهُ حثوًا بلا كيلٍ ولا ميزانِ

يعني: هو يعطي الوقت جزافًا، ومن الناس من يرى أن من التكلف الشح بالوقت، وأن ذلك غير محمود، وأن التفريط والتضييع هو المحمود عندهم، وهؤلاء إنما يقولون ذلك؛ لكدر في بصائرهم، فهم لم يعرفوا قدر الأعمار، وقدر ما يسعون إليه، وما يطلبون، فصار منهم هذا التضييع والتفريط، حتى صار ضياع الزمان عندهم غنيمةً ومطلبًا، ونحن اليوم نسمع بعض من يفرح ويبدي انشراحاً وسرورًا أن الأسبوع صار يمضي سريعًا لمّا صارت الدراسة تبدأ يوم الأحد، أي: لا يشعر بالأسبوع، وهو في الواقع يفرح بمضي الأعمار، وانقضاء الأوقات، وهو لا يعلم بعد ذلك أن كل لحظة إنما هي تقربه إلى أجله، فيقدم على الله -تبارك وتعالى- إقدام المفاليس، ببضاعة قليلة، وعمل قليل، فالله المستعان.

قال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وهو: أداء الطاعات، وترك المحرمات.

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أي: على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر.

آخر تفسير سورة العصر، ولله الحمد والمنة.

قوله: إِنَّ الْإِنْسَانَ يعني: جنس الإنسان، وهذا كثير في القرآن، كقوله: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22]، فهذا له نظائر، وقد مضى كثير من هذا، فالمقصود به: جنس الإنسان، أي: هكذا هو، إلا من تهذبت نفسه بالإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وإلا فالخسارة واقعة لهذا الجنس، والناس فيها بين مقل ومكثر، ومن الناس من تكون خسارته محققة، وهم أولئك الذين لم يعرفوا الله أصلاً، ولا الدار الآخرة، وما كانوا يرجون لله وقارًا، مهما بلغوا من العلم بالأمور المادية الدنيوية، ومهما عرفوا، ومهما صنعوا، ومهما بلغوا من أسباب القوة والتمكين المادي، فإن هؤلاء في خسارة عظيمة محققة، لا يعرفون ما هم فيه من الخسران حتى يوافوه.

ثم ذكر لنا وصف هؤلاء الذين استثناهم الله -تبارك وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فاستثنى هؤلاء المؤمنين العاملين الصالحات، وذكر أيضاً وصفًا آخر، وهو: التواصي بالحق، إذًا لا يكفي الإيمان وحده الذي يكون بالقلب، بل لابدّ من العمل، وأيضاً لابدّ من أمر آخر وهو: التواصي بالحق.

والتواصي مأخوذ من التفاعل، والأصل أن هذا يكون بين طرفين فأكثر، فالحق لما كان ثقيلاً يحتاج إلى شيء من التواصي، والتعاهد بالعمل به، والنهوض بما أمر الله -تبارك وتعالى- به، وأن يسدد الناس بعضهم بعضًا، وأن ينصح بعضهم بعضًا، وأن يكمل بعضهم بعضًا.

ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لابدّ من التواصي بالحق، ولا يكون الإنسان مكملاً للإيمان، أي: محققًا للإيمان الواجب إلا بهذا؛ ولهذا قال الله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110]، فجعله مقدمًا على الإيمان بالله؛ إذ هو من أعظم خصائص هذه الأمة، ومزاياها، ولما ذكر أهل الكتاب قال: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:113، 114]، فذكر الإيمان أولاً، ثم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانيًا.

وذلك -والله أعلم- لأن أولئك وإن كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكنه ليس من أعظم خصائصهم، بخلاف هذه الأمة، فلما كان هذا من أعظم خصائصهم، ومن أعظم مزاياهم قدمه على الإيمان، فهم يشتركون في الإيمان مع سائر الأمم، فأهل الكتاب الذين كانوا على دين الأنبياء دون تحريف أو تبديل هم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وكذلك أيضاً هذه الأمة يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكن هذه الأمة تميزت على غيرها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو فيها أثبت، فذكره مقدمًا على الإيمان.

وهكذا في اللعن، قال : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79]، وكذلك أيضاً قال في أحبارهم ورهبانهم: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [سورة المائدة:63] فهنا في حق الأحبار والرهبان قال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63]، فهذا أعظم وأشد وأشنع: أن يُترك ذلك من قبل الربانيين والأحبار والرهبان.

على كل حال، كل هذا يدخل في التواصي بالحق، المناصحة بين أهل العلم، والمناصحة بين الدعاة إلى الله ، والمناصحة بين طوائف الأمة، مناصحة المخطئ، والأخذ بيده، أما الترك أو التشنيع فإن ذلك ليس من سبيل أهل الإيمان.

قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وهو: أداء الطاعات، وترك المحرمات، أي: كل ما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ فهو داخل في هذا، فيدخل فيه الإيمان، ويدخل فيه ما يتفرع عنه.

وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أي: على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر، التواصي بالصبر يكون فيما هو أعم من ذلك، يتواصون بالصبر على طاعة الله، ويتواصون بالصبر عن معصية الله وعن الشهوات، ويتواصون بالصبر على أقدار الله المؤلمة، فإن الصبر ينتظم هذه الأمور جميعًا، وليس فقط على المصائب والأقدار المؤلمة، فكل ذلك يتواصون عليه؛ لأنه يحتاج إلى تواصٍ، وذلك لثقله وشدته، فإن الإنسان قد يتعبد مدة من الزمان ثم بعد ذلك يفتر، فيحتاج ذلك إلى تواصٍ، وإلى تعاهد، وإلى أن يشد بعضهم بعضًا، ويقوي بعضهم بعضاً حتى يصلوا ويبلغوا، وكذلك أيضاً في ترك المعاصي، فيحتاج هذا إلى تواصٍ، وإلا فإن الشهوات والأهواء غلابة، والشيطان متربص، وأما الأقدار المؤلمة فهذا ظاهر، والله أعلم.

وهذه السورة هي التي قال فيها الإمام الشافعي -رحمه الله: "لو لم ينزل على الناس إلا هذه السورة لكفتهم، ووجه ذلك: أن الله -تبارك وتعالى- ذكر فيها ما يتحقق فيه الفلاح والنجاة والسعادة والصلاح في الدنيا والآخرة، فإنه إذا تحقق الإيمان والعمل الصالح، وصار التواصي على الحق والصبر فإن هذا يكون مشتملاً ومنتظمًا لجميع شرائع الإيمان، لا يخرج من هذا شيء، وهذه السورة انتظمت أيضًا فيها القواعد الأربع، ففي قول الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، هذا فيه الاحتياج إلى العلم والمعرفة بالإيمان والعمل الصالح، ثم أيضاً الاحتياج إلى العمل.

وكذلك أيضًا في قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ: التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فالتواصي بالحق يعني: الدعوة إلى ذلك، والتواصي بالصبر يعني: الصبر على الأذى في سبيله، وبعض أهل العلم يقول: قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا هو الذي يدل على العلم، وقوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يدل على العمل، والذي يظهر -والله أعلم: أن المعنى أعم من هذا، كما ذكرت.

ولابن القيم في ذلك كلام قيم، يقول -رحمه الله: "قال الشافعي : لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم، وَبَيَان ذَلِك: أن الْمَرَاتِب أربعة، وباستكمالها يحصل للشَّخْص غَايَة كَمَاله، إحداها: معرفَة الْحق، الثَّانِيَة: عمله بِهِ، الثَّالِثَة: تَعْلِيمه من لَا يُحسنهُ، الرَّابِعَة: صبره على تعلمه، وَالْعَمَل بِهِ، وتعليمه، فَذكر تَعَالَى الْمَرَاتِب الأربعة فِي هَذِه السُّورَة، وأقسم سُبْحَانَهُ فِي هَذِه السُّورَة بالعصر: أن كل أحْد فِي خسر: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وهم الَّذين عرفُوا الْحق، وَصَدقُوا بِهِ، فَهَذِهِ مرتبَة.

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وهم الَّذين عمِلُوا بِمَا علموه من الْحق، فَهَذِهِ مرتبَة أخرى.

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصّى بِهِ بَعضهم بَعْضًا تَعْلِيمًا وإرشادًا، فَهَذِهِ مرتبَة ثَالِثَة.

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ صَبَرُوا على الْحق، ووصى بَعضهم بَعْضًا بِالصبرِ عَلَيْهِ والثبات، فَهَذِهِ مرتبَة رَابِعَة.

وهذا نهاية الْكَمَال، فَإِن الْكَمَال: أن يكون الشَّخْص كَامِلا فِي نَفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوّتيْه العلمية والعملية، فصلاح الْقُوَّة العلمية بالإيمان، وَصَلَاح الْقُوَّة العملية بِعَمَل الصَّالِحَات، وتكميله غَيره بتعليمه إياه، وَصبره عَلَيْهِ، وتوصيته بِالصبرِ على الْعلم وَالْعَمَل، فَهَذِهِ السُّورَة على اختصارها هِيَ من أجْمَعْ سور الْقُرْآن للخير بحذافيره، وَالْحَمْد لله الَّذِي جعل كِتَابه كَافِيًا عَن كل مَا سواهُ، شافيًا من كل دَاء، هاديًا إلى كل خير.."[3].

قال: "ولم يكتفِ منهم بمعرفة الحق والصبر عليه حتى يوصي بعضهم بعضًا به، ويرشده إليه، ويحضه عليه، وإذا كان من عدا هؤلاء خاسرًا فمعلوم أن المعاصي والذنوب تُعمي بصيرةَ القلب فلا يدرك الحقّ كما ينبغي، وتُضعِفُ قوتَه وعزيمتَه فلا يصبر عليه، بل قد يتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه كما ينعكس سيرُه، فيدرك الباطلَ حقًّا، والحقَّ باطلًا، والمعروفَ منكرًا، والمنكرَ معروفًا، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقرّ النفوس المُبْطِلَة التي رضيَتْ بالحياة الدنيا، واطمأنَّتْ بها، وغفلت عن الله وآياته، وتركت الاستعداد للقائه، ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه العقوبة وحدها لكانت كافيةً داعيةً إلى تركها والبعد منها، والله المستعان.."[4].

وقال: "وإنه سبحانه قسم نوع الإنسان فيها قسمين: خاسرًا، ورابحًا، فالرابح: من نصح نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ونصح الخلق بالوصية بالحق المتضمنة لتعليمه وإرشاده، والوصية بالصبر المتضمنة لصبره هو أيضًا، فتضمنت السورة النصيحتين والتكميلتين وغاية كمال القوتين، بأخصر لفظ وأوجزه وأهذبه، وأحسنه ديباجة، وألطفه موقعًا.

أما النصيحتان: فنصيحة العبد نفسه ونصيحة أخاه بالوصية بالحق والصبر عليه.

وأما التكميلان: فهو تكميله نفسه وتكميله أخاه، وأما كمال القوتين فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والنظر، وكمالها بالإيمان، وقوة الإرادة والحب والعلم، وكمالها بالعمل الصالح، ولا يتم ذلك لها إلا بالصبر، فصار هاهنا ستة أمور، ثلاثة يفعلها في نفسه ويأمر بها غيره: تكميل قوته العلمية بالإيمان، والعملية بالأعمال الصالحة، والدوام على ذلك بالصبر عليه، وأمره لغيره بهذه الثلاثة، فيكون مؤتمرًا بها، متصفًا بها، معلمًا لها، داعيًا إليها، فهذا هو الرابح كل الربح، وما فاته من الربح بحسبه وحصل له نوع من الخسران، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان.."[5].

قال: "وإقسامه بالعصر على حال الإنسان في الآخرة، والعصر المقسم به قيل: هو أول الوقت الذي يلي المغرب من النهار، وقيل: هو: آخر ساعة من ساعاته، وقيل: المراد صلاة العصر، وأكثر المفسرين على أنه الدهر، وهذا هو الراجح، وتسمية الدهر عصرًا أمر معروف في لغتهم، قال الشاعر:

ولن يلبثَ العصران يومٌ وليلةٌ إذا طلبا أنْ يُدرِكا ما تيمّما

ويوم وليلة بدل من العصر، فأقسم سبحانه بالعصر؛ لمكان العبرة والآية فيه.."[6].

يعني: هذا مثال على الربط بين المقسم به والمقسم عليه، وقد ذكرت أن بعض المفسرين وبعض العلماء يربط هذا الربط، ولكن ذاك قد لا يخلو من تكلف في بعض المواضع.

قال: "فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما واعتدالهما تارة، وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام، والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات الرب تعالى، وبرهان من براهين قدرته وحكمته.

فأقسم بالعصر الذي هو: زمان أفعال الإنسان ومحلها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ، وهو: خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد، وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان، وخلق الفاعلين وأفعالهم، وجعلها قسمين خيرًا وشرًا، تأبى أن يسوي بينهم، وألا يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسان خاسر إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمْرِ غيره به، وهذا نظير رده الإنسان إلى أسفل سافلين، واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين.

وتأمل حكمة القرآن لما قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ فإنه ضيق الاستثناء وخصصه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، ولما قال: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [سورة التين:5] وسع الاستثناء وعممه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:6]، ولم يقل: وتواصوا، فإن التواصي هو: أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله، فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح، فصار في خسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين، فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة، وقد تكون فرضًا على الأعيان، وقد تكون فرضًا على الكفاية، وقد تكون مستحبة.

والتواصي بالحق يدخل فيه: الحق الذي يجب، والحق الذي يستحب، والصبر يدخل فيه: الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب، فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء، وهو سبحانه إنما قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ومن ربح في سلعة وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنه في خسر، وأنه ذو خسر، كما قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة"، فهذا نوع تفريط، وهو نوع خسر بالنسبة إلى من حصّل ربح ذلك.."[7].

قال: "وقوله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ إرشاد إلى منصب الإمامة في قوة الدين، كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

والصبر نوعان: نوع على المقدور كالمصائب، ونوع على المشروع، وهذا النوع أيضاً نوعان: صبر على الأوامر، وصبر عن النواهي، فذاك صبر على الإرادة والفعل، وهذا صبر عن الإرادة والفعل، فأما النوع الأول من الصبر فمشترك بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، لا يثاب عليه لمجرده إن لم يقترن به إيمان واختيار، قال النبي ﷺ في حق ابنته: مرها فلتصبر ولتحتسب[8]

وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود:11]، وقال تعالى: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [سورة آل عمران:125]، وقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [سورة آل عمران:186]، فالصبر بدون الإيمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور.

وقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [سورة الروم:60]، فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر، فإنهم لعدم يقينهم عُدم صبرهم، وخفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا، وما خفوا ولا استخفوا، ومن قل صبره خف واستخف، فالموقن صابر رزين؛ لأنه ذو لب وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف، والله المستعان"[9].

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، رقم: (6412).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، رقم: (7446)، بلفظ: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك.
  3. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 56، 57).
  4. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:93، 94).
  5. لم أجده في كُتب ابن القيم.
  6. التبيان في أقسام القرآن (ص:83، 84).
  7. المصدر السابق (ص: 84 - 86).
  8. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله -تبارك وتعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، رقم: (7377)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم: (923).
  9. التبيان في أقسام القرآن (ص:87، 88).

مواد ذات صلة