بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
قال: تفسير سورة ويل لكل همزة لمزة، وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [سورة الهمزة:1-9].
هذه السورة سورة الهمزة هي مكية بالإجماع، وهذا اسمها المشهور "ويل لكل همزة"، ويقال لها: الهمزة أيضًا، وهو من أسمائها المشهورة اختصارًا، وبعضهم سماها بالحطمة.
الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة: هي صفة سيئة بائسة من صفات بعض أهل الخسران، وهي الهمز واللمز مع ما يقارن ذلك من الحرص والشح على المال وجمعه وحياطته، هذا توعده الله -تبارك وتعالى- بأن ينبذ في النار.
الهماز: بالقول، واللماز: بالفعل، يعني: يزدري بالناس وينتقص بهم، وقد تقدم بيان ذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [سورة القلم:11].
قال ابن عباس: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ طعّان مِعياب، وقال مجاهد: الهُمزة: باليد والعين، واللمزةُ: باللسان.
وقوله: الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ أي: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عدده كقوله: وَجَمَعَ فَأَوْعَى [سورة المعارج:18] قاله السدي، وابن جرير.
وقال محمد بن كعب في قوله: جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.
وقوله: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار، كَلا أي: ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب.
قوله -تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ يقول: الهماز بالقول: واللماز بالفعل، يعني يزدري الناس وينتقص بهم، ونقل عن ابن عباس طعّان مِعياب، وعن مجاهد: الهمزة باليد والعين، واللمزة باللسان، يعني: عكس الأول، عكس الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله.
والعلماء يذكرون في ذلك أقوالاً ولكن إذا تتبعت هذه الأقوال على كثرتها تجد أن عامتها يشترك في صفة واحدة، وإن اختلفوا في تنزيلها على الهماز أو اللماز، هذه الصفة هي الغيبة، عامة الأقوال تشترك في ذكر هذا المعنى وإن اختلفوا في تنزيله، هل هو الهمزة أو اللمزة؟
فبعض أصحاب المعاني كالزجاج وأبي عبيدة جعلوا ذلك بمعنى واحد قالوا: الهمزة اللمزة هو الذي يغتاب الناس، لا فرق في المعنى، فالهمزة هو الذي يغتاب، واللمزة هو الذي يغتاب، ولكن على سبيل الذم والعيب، وبيان قبح هذا الفعل، تقول: فلان همزة لمزة، وهذه الصيغة كما هو ظاهر هي صيغة مبالغة تدل على أنه كثير الهمز، وكثير اللمز، فعلى هذا يكون المعنى واحدًا.
وطائفة من السلف فرقوا بينهما، وهذا قول الأكثر أعني التفريق بين الهمزة واللمزة، حتى أصحاب المعاني، وأهل اللغة أكثرهم على التفريق بين الهمزة واللمزة، هذا له معنى، وهذا له معنى، وإن اختلفوا في تنزيل كل واحد منهما، فبعضهم كأبي العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح يقول: الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه، واللمزة هو الذي يغتابه في قفاه، يعني من وراء ظهره، وكيف يغتاب الرجل في وجهه؟
النبي ﷺ فسر الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكره[1]، ولم يقيد ذلك بغيبته، لكن أصل المادة يدل على الغيبة، ولهذا قالوا في قوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] قال بعض السلف -كما سبق في الكلام: إن المراد به الغيبة، وقلنا هناك: إن المعنى أعم من هذا، لكن كان توجيه قول من قال: إن المراد الغيبة وَلَا تَقْفُ قالوا: لأنها تقال في القفا، فالذي يواجه الناس بما يكرهون هذا هو الهمزة، واللمزة هو الذي يلمزهم في حال غيبتهم، أي بمعنى الغيبة المعروف المشهور الشائع في الاستعمال الكثير الغالب.
وبعضهم عكس هذا كقتادة فقال: اللمزة هو الذي يواجههم بما يكرهون، والهمزة هو الذي يقوله بغيبتهم، وجاء أيضاً عن قتادة ومجاهد في رواية أن الهمزة هو الذي يغتابهم في أمر خاص وهو الأنساب، يتكلم في أنسابهم هذا لا يثبت نسبه، وهذا يرجع إلى كذا، وهذا قبيلته كذا، فيعيبهم في هذه الأمور.
وجاء عنه أيضاً -أعني مجاهدًا- أن الهمزة هو الذي يهمز الناس باليد، ولا يقصد بذلك -والله أعلم- تخصيص اليد، وإنما بالفعل يعني اليد وما يقوم مقامها كأن يقول مثلاً -يعني يشير- أنه قصير، أو يقول: إنه مخلط فيشير بيده، أو غير ذلك مما يحصل من الإشارة التي تعبر عن معنى يعيب به الناس، كأن يشير بيده أو بجبينه أو بشفته أو بعينه أو نحو ذلك، فهذا يكون من قبيل الفعل.
وهذا المعنى له وجه قريب، وذلك أن الهمز في أصله كأنه يدل -والله أعلم- على ما يكون بالجارحة، هذا القول أن الذي يهمز بيده مثلاً يعيبهم بالإشارة، وليس المقصود أنه يهمزهم بيده أنه يضربهم بيده مثلاً أو نحو ذلك، فهؤلاء على قول مجاهد هنا في هذه الرواية: الهمزة الذي يهمزهم بيده، وإن شئت أن تقول بما هو أعم من هذا، يعني بإشارة أو حركة، واللمزة هو الذي يلزمهم باللسان.
وسفيان الثوري يقول: الهمزة هو الذي يهمزهم باللسان، واللمزة يشير بعينه، طبعًا هم لا يقصدون خصوص الإشارة بالعين، وإنما لأن ذلك كان كثيرًا، فهو يشير بعينه إشارة معينة تدل على أن هذا الإنسان مغفل، أو أن هذا الإنسان لا يؤخذ منه شيء أو غير ذلك مما قد يفهم من إشارته بحسب المقام.
وبعضهم يقول: إن الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، وهذا يرجع إلى أحد المعاني السابقة، وهو منقول عن جماعة من السلف كما سبق: الذي يغتاب الرجل في وجهه، يعني يواجه الناس يكاشرهم بما يكرهون، وأن اللمزة هو الذي يشير بيده أو حاجبه أو برأسه أو بعينه.
وجاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: هو المشاء بالنميمة، المفرق بين الجمع، المغري بين الإخوان.
ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن ذلك يقال لكل مغتاب للناس همزة يغتابهم ويغضبهم، يغضبهم معنى ذلك أنه يتصرف بحضرتهم بما يكرهون، يعني بما يكرهون مما يكون من قبيل الإساءة إليهم، كذاك الذي قال: إنه يواجههم بما يكرهون، أو ما يؤدي هذا المعنى من عباراتهم.
وبعضهم يقول: الهمز هو عيب الناس بالإشارة سواء كان باليد أو بغيرها، هذا الهمز سواء كان بحضرة المهموز أو بغيبته، واللمز هو الطعن عليهم كما قال الله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [سورة التوبة:79]، فهذا سماه لمزًا، ماذا كانوا يفعلون؟ إذا جاء أحد بصدقة كثيرة، قالوا: هذا مُراءٍ، وإذا جاء بصدقة قليلة قالوا: الله غني عنه، وعن صدقته، قال: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، ويشهد لقول من قال -أول ما ذكرنا: إن الهمزة هو الذي يذكرهم في غيبتهم فقط: قول الشاعر:
تُدلي بودٍّ إذا لاقيتَني كذبًا | وإنْ أغبْ فأنت الهامزُ اللمزة |
وقول الآخر:
إذا لقيتُك عن سُخط تكاشرني | وإنْ تغيبتُ كنتَ الهامزَ اللمزة |
الأصل أن التأسيس مقدم على التوكيد، وأن الهمز غير اللمز، وإن كان يقرب من معناه، فكل ذلك من قبيل الإساءة إلى الناس، ولكن أحدهما يكون مغايرًا للآخر، ولو قيل: إن الهمزة هو الذي يعيبهم بفعل أو بإشارة أو نحو ذلك هو كثير الهمز هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [سورة القلم:11]، لاحظ ذكَرَ النميمة هناك: يمشي بالنميمة، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، وإن اللمزة هو الذي يعيبهم أيًّا كان هذا العيب في أشكالهم أو أنسابهم أو في أعمالهم، وما هم عليه وما إلى ذلك.
هنا هذا الوعيد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ابن جرير كعادته يقول: إن الويل المقصود به الوادي في جهنم، وبعضهم يقول: هي كلمة وعيد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، فالله -تبارك وتعالى- توعد هذا النوع من الناس كثير الهمز، كثير اللمز، كثير العيب للناس، ينتقصهم، ويتتبع عيوبهم، ويتتبع عثراتهم، يقع في أعراضهم، فمن كان ديدنه هذا وقُوتُه هو أعراض المسلمين لاسيما أعراض أهل الصلاح من العلماء والدعاة إلى الله ومن طلبة العلم من الصالحين من العاملين في الصلاح والإصلاح، فويل له، ثم ويل.
ويل لمن كان قُوتُه الهمز واللمز، بئس الزاد إلى المعاد أعراض العباد، فمثل هذا بضاعة لا تبلغ العبد ولا توصله إلى معالي الأمور لا في الدنيا ولا في الآخرة، فله المقت بكل صوره وأشكاله في الدنيا، وله الخسار في الآخرة، فهذا الذي ليس له شغل إلا الوقيعة في الأعراض فهذا ديدنه، وهذا عمله وهذا شغله، وهذا إنتاجه فهذا خسارته محققة، ويقدم على الله -تبارك وتعالى- بلا عمل صالح، بل بهذه الأوزار والأعمال السيئة، فمثل هذا يوجب الحذر، أولئك الذين لربما يفعلون ذلك تدينًا وتقربًا إلى الله وهذا أقبح ما يكون، فلا يسلم منهم أحد.
يلمزون أهل الإيمان، كل من عُرف بخير وصلاح وتُقى وطلب علم ونحو ذلك صار -نسأل الله العافية- شغلاً لهم، ووقعوا في عرضه، وآذوه، والله ، يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب[2]، فهذا يوقع نفسه بهذا الموقف الشديد العظيم ويعرض نفسه لهذه المخاطر في بضاعة كاسدة فاسدة لا تنفع ولا ترفع، وإنما هو عمل المفاليس، فمثل هذا لا تجد له اشتغالا بعمل صالح لا قيام ليل ولا صيام نهار، ولا تقوى لله ، بطال في النهار، وهو جيفة في الليل، ولربما كان ما بين ذلك يقضي فيه هذه الوسائل -وسائل الاتصال- يقع في أعراض هؤلاء من الأخيار ومن المصلحين ومن الصالحين، ومن عباد الله المتقين، فبئس ما صنع.
مثل هذا لا تجد له مشروعات نافعة تنفع الناس، تنفع المجتمع لا تجد عنده أعمالا جليلة، وإنما البضاعة هي الوقيعة، قلب أسود، ولسان حاد يسلق به عباد الله المتقين، فهذا ينبغي الحذر منه، هناك أناس يفتحون حسابات خاصة للوقيعة في أعراض هؤلاء، بعض هؤلاء ممن ينتسب إلى اللبراليين وغيرهم، وبعض هؤلاء يفعل هذا تدينًا وهم مشتركون بهذا الوصف القبيح -نسأل الله العافية للجميع.
وانظر كلام ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- هنا: هو المشاء بالنميمة، المفرق بين الجمع، المغري بين الإخوان، لا يسلم أحد، الوقيعة في أعراض الجميع، وهذا من أعظم ما يكيد به الشيطان لبعض بني آدم، والله المستعان.
الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ هذه القراءة المتواترة التي نقرأ بها وهي قراءة الجمهور، وفي قراءة أخرى متواترة لابن عامر وحمزة والكسائي الَّذِي جَمَّعَ مَالا وَعَدَّدَهُ ونحن نعرف أن التشديد للتكثير، وأن زيادة المبنى لزيادة المعنى الَّذِي جَمَّعَ مَالا وَعَدَّدَهُ جمّعه وعدده لماذا؟ هنا قال: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عدده كقوله: وَجَمَعَ فَأَوْعَى قاله السدي، وابن جرير، يعني جمعه ولم يؤدِّ حق الله فيه، لم يخرج حق الله من هذا المال، فهو لشدة حرصه على هذا المال مشغول بعدِّه، فيحصيه يعده حينًا بعد حينًا، عدّده فهذا يدل على الكثرة، فهو لخوفه على هذا المال لحرصه على هذا المال ألا يضيع منه شيء يعدده.
وبعضهم يقول: إن المقصود بتعديده أنه يكثر من ذكره بحضرة الناس، يكثر من تعديده، وبعضهم كالضحاك يقول: أعده لمن يرثه، وبعضهم كالسدي يقول: أحصى عدده، وهو الذي عليه الأكثر وهو لا يخالف قول من قال: عدده مرة بعد مرة، فإنه إنما يحصيه لهذا، والمادة بهذا اللفظ تدل على التكثير كما سبق، وبعضهم يقول: عدده لنوائب الدهر.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد بذلك عدده أي: أكثر من عده، وهذا يدل على حرصه وشحه ألا يضيع منه شيء، والله المستعان.
الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ هذه صفة مذمومة، الحرص على جمع المال، ألا يؤدي حق الله -تبارك وتعالى- فيه.
وقال محمد بن كعب في قوله: جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.
وقوله: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار، كَلا أي: ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب.
يعني "كلا" هذه هنا للردع والزجر، ليس الأمر كما توهم، هو يظن أن هذا المال يخلده، يعني أنه يبقيه في هذه الحياة، وبعض أهل العلم يقول: هذا فيه تعريض بالعمل الصالح، بمعنى أنه الذي يبقى ويخلد له بسببه الذكر الجميل يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ.
كَلا لَيُنْبَذَنَّ هذا جواب قسم محذوف أي والله لينبذن، وهذه القراءة الوحيدة المتواترة، لكن ما الذي ينبذ هل هو الشخص صاحب المال أو المقصود هذا المال الذي فرح به وعدده وتعب في جمعه وإحصائه وحفظه والاحتراز له وحياطته؟
في قراءة غير متواترة: ليُنبذانِّ في الحطمة يعني المال وصاحب المال، وفي قراءة أخرى: ليُنبذُنّ في الحطمة على سبيل الجمع، يعني هو ومن على شاكلته، من كانوا بهذه الصفة، وفي قراءة أخرى: {لنَنبِذنّه في الحطمة} وهذه القراءة تصلح أن تكون مفسرة للقراءة المتواترة هنا، وهي قوله: كَلا لَيُنْبَذَنَّ ما الذي ينبذ هو أو المال؟ القراءة الأخرى تفسرها لنَنبِذنّه في الحطمة يعني صاحب هذا المال، والحطمة هي النار، قيل لها ذلك؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها.
بلغ منهم العذاب، يعني أنه وصلت إلى أفئدتهم، يعني الحروق المعروفة في الدنيا حروق من الدرجة الأولى، حروق من الدرجة الثانية، حروق من الدرجة الثالثة -نسأل الله العافية، هذه أبلغ من هذا كله، الإحراق يصل إلى الفؤاد، يصل إلى القلب، فهنا يبكي يقول: بلغ منهم العذاب يعني وصلت النار إلى قلوبهم.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ يعني أن ألمها ووهجها يصل إلى الأفئدة، وهذا بمعنى قول ثابت البناني، يعني يخلص حرها إلى القلوب لا تكون فقط تحرق الجلود، وإنما تصل إلى قلبه فيعلو تلك القلوب لهبُ النار فتحترق به، وهذا قول الأكثر، وهو ظاهر أو ما قد يفهم من ظاهر القرآن، -والله تعالى أعلم.
وبعض أهل العلم يقول: إنما خصت الأفئدة بهذا -لأنها تطلع على الأفئدة- مع أنها تحرق الأجسام بكاملها وليس فقط الأفئدة، بعضهم يقول: لكون الأفئدة هي محل العقائد الفاسدة التي أوقعت هؤلاء وأشغلت جوارحهم وأبدانهم بمساخط الله -تبارك وتعالى، أو باعتبار أن النار إذا وصلت إلى هذه المواضع -وصلت إلى القلوب- فإن الموت المحقق هو الذي ينتظر صاحبها، يعني أنه بلغ بالاحتراق غايته، ولكنه في حال لا يموت ولا يحيا، يعني وصل إلى حال شديدة عظيمة من العذاب، وبعضهم يقول: تطّلع على الأفئدة من الاطلاع بمعنى المعرفة، أنها تعرف قدر ما يستحقه كل واحد من هؤلاء بما أطلعها الله عليه، والعلم عند الله -تبارك وتعالى، ولكن المشهور كما سبق: "تطلع على الأفئدة" أن حرها ولهبها يصل إلى الأفئدة.
وقوله: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي: مطبقة كما تقدم تفسيره في سورة البلد.
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قال عطية العوفي: عَمد من حديد، وقال السُّدِّي: من نار.
وقال العوفي عن ابن عباس: أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد، وفي أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب.
آخر تفسير سورة ويل لكل همزة لمزة.
يعني أن هذه النار -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها- لشدة حرها تصل إلى الأفئدة، وهم فيها لا يستطيعون الخروج، فهي عليهم مؤصدة، مغلقة الأبواب لا يستطيعون التحول عنها والفرار، والإنسان لو أنه تصور هذا المعنى لاستشعر بعض ما تحته، يعني الإنسان لو كان في مكان مغلق في غرفة أو نحو ذلك واشتعلت فيها النار وهو لا يستطيع الخروج فإنه يكون في حال من الكرب لا يقادر قدره.
السيارة إذا احترقت -نسأل الله العافية- أنتم تعرفون أن الغرف والسيارات ونحو ذلك من الأماكن المغلقة حينما تشتعل النار مباشرة يحترق الأكسجين ثم بعد ذلك ينسحب الهواء بطريقة في غاية السرعة، ثم بعد ذلك لا ينفتح الباب ما ينفتح باب الغرفة، ما ينفتح باب السيارة فتجد أن صاحبها وهو حي أمامك ليس به بأس يحاول أن يفتح الباب ما يستطيع، الناس يحاولون يجتمعون على الباب لفتحه لا يستطيعون، وهكذا تجد الإنسان يحاول أن يفتح باب شقته أو باب غرفته أو نحو ذلك التي اشتعلت فيها النار ولا يستطيع، فيبقى الناس يتفرجون على هذا في سيارته وهو يحترق أمامهم، إذا كانت النوافذ مغلقة فاحترقت السيارة ما يستطيع أن يخرج منها إذا وصلت النار إلى الداخل، ثم بعد ذلك يحترق أمامهم حتى يتفحم وهم يتفرجون عليه لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئًا، وهذا شيء مشاهد ويتكرر، نسأل الله العافية.
وهذه النار مغلقة عليهم، تصوَّرْ نار الدنيا هذه البسيطة التي لحظات ويموت وينتهي ما يشعر بألم ولا يشعر بشيء، هناك لا يموت، ومغلقة عليه لا يستطيع الخروج هذا شيء هائل، لو ما وصلت إليه النار في غرفته فقيل له: البيت احترق، أخبره أولاده، أخبره أهله، طرقوا عليه الباب فأراد فتح الباب مع الارتباك والعجلة انكسر المفتاح في الباب، هذا حصل، انكسر وهو في الغرفة، والناس -أهله أولاده- يقولون: البيت يحترق وهو لا يشعر هو في الغرفة إنما سمع استغاثتهم فأراد أن يفتح الباب الذي كان مغلقًا فانكسر المفتاح، فبقي في حال يرثى لها، والنار ما وصلت إليه، ولم يشعر بشيء من هذا أصلاً، فكيف لو كانت النار أمامه وتصل إليه شيئًا بعد شيء؟!
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ "في عمد ممددة" يتعلق بما قبله كما هو معلوم لكن تقديره من جهة الإعراب يتضح به المعنى، والمعنى والإعراب بينهما ملازمة كما نعلم، فهنا "في عمد ممددة" يحتمل أن يكون ذلك في محل نصب على الحال من الضمير الهاء عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ، يعني كائنين في عمد ممددة، كيف يكونون في عمد ممددة؟ الله أعلم.
العَمد: العرب تقول العَمد للشيء المستطيل سواء كان من خشب أو من حديد أو غير ذلك، يعني "في عمد ممددة" هل هم يوثقون بهذه العمد، فيكون أشد في إيلامهم وتعذيبهم، أو أنهم يوثقون بعمد توصد بها أيضاً هذه الأبواب، عمد طويلة فلا سبيل إلى فتحها ولا سبيل لهم أيضًا إلى محاولة فتح هذه الأبواب، أو أنهم يكونون في داخل هذه العمد كما يقوله بعض السلف؟
يعني مثل الآن لو أردنا أن نقرب المعنى والفرق متحقق لكن لو قلنا: إن هذه العمد بمنزلة الأنابيب فهم يدخلون فيها وتضطرم نارًا عليهم، فهذا أشد في الإحراق والعذاب، أو أن هذه العمد توصد بها الأبواب، لاحظ هنا إذا قلنا: إن قوله: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ في محل نصب على الحال من الضمير "الهاء" أي: كائنين هم في عمد ممددة، إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ حال كونهم في عمد ممددة، سواء قلنا: إنهم يوثقون بها، يربطون بها، أو -نسأل الله العافية- في داخلها.
ويحتمل أنه في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ، يعني هم في عمد ممددة، ويرِد فيه المعنى السابق: أي موثقون بها، أو في أجوافها، في داخلها، ويحتمل أن يكون صفة لمؤصدة، فهذا يرجع إلى النار وإلى أبوابها، يعني أنها مؤصدة بماذا؟ من شدة إحكام الإغلاق فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ لا ينفتح الباب ولا سبيل إلى فتحه؛ لأن دون ذلك العمد الممتدة فلا يتوصلون إلى فتحها ولا يمكن أن تفتح أبوابها فيخرجون منها، فهي مؤصدة بعمد ممددة كما يقوله مقاتل، يقول: أطبقت عليهم الأبواب ثم شدت بأوتاد من حديد فلا تفتح، ولا يصل إليهم شيء من روح فيكون ذلك سببًا لتخفيف العذاب عنهم.
إذًا "في عمد ممددة" عمد طويلة ممتدة وهذه أقوى وأثبت وأرسخ من القصيرة، وبعضهم يقول غير هذا؛ لأن العمد الممددة المقصود بها السلاسل أو القيود أو الأغلال التي يغلون بها، ابن جرير -رحمه الله- ذهب إلى ما قاله قتادة، يعني: أنهم في عمد يعذبون بها، ولكن ابن جرير -رحمه الله- يقول: فالله أعلم كيف يكون ذلك، يعني بمعنى هل يكونون في داخلها، أو أنهم يربطون فيها، ما صفة هذا الربط؟ يعني كما يقول بعض السلف: إنه يوثق بهذه العمد وتُشد يداه إلى عنقه بالأغلال، ومربوط بهذه العمد، يعني أن ذلك أبلغ، فهم في النار في السجن، ثم بعد ذلك يكون الواحد منهم موثقًا بعمود ولا يستطيع أن يحرك يدًا، ويكون رأسه مشدودًا إلى يديه، ويداه مشدودتان إلى رأسه -والله المستعان.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم (2589).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).