أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ سورة الفيل.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْغَمَ أنوفهم، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِشَرِّ خَيْبَةٍ، وَكَانُوا قَوْمًا نَصَارَى، وَكَانَ دِينُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ وَالتَّوْطِئَةِ لِمَبْعَثِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وُلِدَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: لَمْ نَنْصُرْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ عَلَى الْحَبَشَةِ لخيرتكم عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صِيَانَةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي سَنُشَرِّفُهُ وَنُعَظِّمُهُ وَنُوَقِّرُهُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقبل الشروع في الكلام على سورة الفيل أُذكِّر بما مضى من الكلام على السورة التي قبلها من قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [سورة الهمزة:1]، وكنت بحثت في كتاب المقاييس في اللغة لابن فارس لنرى ماذا يقول في الهمزة واللمزة، هو يرى أن هذه المادة: الهاء والميم والزاي: أنها كلمة تدل على ضغط وعصر، كما سبق، فالهمز تدل على ضغط وعصر، يعني: كأن ذلك يكون بالفعل، مع أنه قال بعد ذلك: والهمّاز: العياب، وقال عن اللمز: إن اللام والميم والزاي كلمة واحدة، وهي: اللمز، وهو: العيب، وإن الرجل اللمّاز واللمزة هو: العياب، فجعلهما بمعنى واحد بهذا الاعتبار، لكن الأصل الذي ذكره الأول، وهو: الهمز، جعله يرجع إلى معنى واحد، وهو: الضغط والعصر، وعلى هذا يتفق مع قول من قال: إن الهمز هو العيب بالفعل، وإن اللمز هو العيب بالقول.
سورة الفيل، ويقال لها: سورة ألم ترَ، هذه السورة مكية بالاتفاق، وتتحدث عن موضوع واحد، وهو: قصة أصحاب الفيل.
يعني: هنا جعل أبرهة وأبا يكسوم شخصًا واحدًا، مع أن بعضهم يقول: إن أبا يكسوم ليس هو أبرهة، فجعلوا أبا يكسوم من خاصة ملك الحبشة، يعني: كأنه من وزرائه، وأنه غير أبرهة، ومثل هذه الأشياء في التاريخ تجدون فيها اختلافًا كثيرًا، في الأسماء، وفي الأحداث أيضًا ، وقد مضى الكلام على شيء من ذلك في سورة البروج.
فَدَخَلُوا الْيَمَنَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَاسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ حِمْيَرَ، وَهَلَكَ ذُو نُوَاسٍ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ، وَاسْتَقَلَّ الْحَبَشَةُ بِمُلْكِ الْيَمَنِ وَعَلَيْهِمْ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ: أَرِيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاخْتَلَفَا فِي أَمْرِهِمَا وَتَصَاوَلَا وَتَقَاتَلَا وَتَصَافَّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى اصْطِدَامِ الْجَيْشَيْنِ بَيْنَنَا، وَلَكِنْ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ فَأَيُّنَا قَتَلَ الْآخَرَ اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْمُلْكِ.
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَتَبَارَزَا، وَخَلْف كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَنَاةٌ، فَحَمَلَ أَرِيَاطُ عَلَى أَبَرْهَةَ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَشَرَمَ أَنْفَهُ وَفَمَهُ وَشَقَّ وَجْهَهُ، وَحَمَلَ عَتَوْدَةُ مَوْلَى أَبَرْهَةَ عَلَى أَرِيَاطَ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ أَبَرْهَةُ جَرِيحًا، فَدَاوَى جُرْحَهُ فَبَرِأَ، وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ جَيْشِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ يَلُومُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيَحْلِفُ لَيَطَأَنَّ بِلَادَهُ وَيَجِزَّنَّ نَاصِيَتَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبَرْهَةُ يَتَرَقَّقُ لَهُ، وَيُصَانِعُهُ، وَبَعَثَ مع رسوله بهدايا وتحف، وبجراب فيه مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ فَأَرْسَلَهَا مَعَهُ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لِيَطَأ الْمَلِكُ عَلَى هَذَا الْجِرَابِ فَيَبِرّ قَسَمَهُ، وَهَذِهِ نَاصِيَتِي قَدْ بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ، فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَعْجَبَهُ مِنْهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ.
يعني: هو يطلب منه ذلك، ويدعوه، فاللام لام الأمر في "ليطأ الملك".
يعني: هكذا ذُكِر، وقيل: غير ذلك.
وبعضهم يقول: إن الحريق الذي حصل من قبل هؤلاء الفتية لم يكن المقصود به هذه الكنيسة، وإنما كان هؤلاء في تجارة، فأوقدوا نارًا من أجل حاجتهم، فكان يومًا شديد الريح، فتطاير من هذه النار ما كان سببًا لإحراق هذه الكنيسة، يعني: أن ذلك لم يكن عن قصد، والله أعلم.
وقيل: أكثر من هذا بكثير.
ومثل هذا ليس فيه شيء يصح، فالله أعلم، يعني: حتى عام الفيل متى كان؟ بعضهم يقول: قبل مولد النبي ﷺ بأربعين سنة، وبعضهم يقول دون ذلك، فالله أعلم، لكن المشهور: أن النبي ﷺ ولد عام الفيل، يعني: مثل هذه التفاصيل لا تؤثر في ثبوت ذلك؛ لأن الله أثبته، وأخبر به في هذه السورة المستقلة بهذا الخبر، فتبقى بعض التفاصيل لم تثبت، مثال ذلك: كم كان عدد الأفيال، وما هو سبب مجيء هؤلاء -أعني: الحبشة- والباعث لهم على هذا المجيء؟
يعني: يدافعون عنه، وأبرهة ليس بحاجة إلى أن يأتي بفيل عظيم أو بهذه الأفيال الكثيرة لأجل أن يهدم البيت، لكن أراد أن يأتي بجيش يخافه الناس، ولا يجترئ أحد على مدافعته، حتى قالوا: إنه أراد أن ينقل حجر الكعبة؛ ليبني به بيتًا هناك في اليمن، فالله أعلم.
يقال: إنه طلب من أبرهة أن يستبقيه، وألا يقتله، وأن إبقاءه خير له من قتله، فأبقاه.
يعني: قبيلة خثعم المعروفة، وشهران القبيلة المعروفة أيضاً، وهي من القبائل المتفرعة عن خثعم، وكذلك ناهس أيضًا هي من القبائل المتفرعة عن خثعم، وبعض أهل الأنساب يقولون: ناهس من قبائل شهران، أي: أنها تتفرع عن شهران، ومن ثَمَّ فهم متفقون على أن هؤلاء جميعًا يرجعون إلى خثعم، وهذا معروف، وقبيلة شهران هي المعروفة اليوم.
ويقال أيضًا: إن نفيلا طلب من أبرهة أن يستبقيه، وأغراه بذلك؛ لكونه يعرف الطرق في الحجاز الموصلة إلى مكة، أي: يعرف أسهل الطرق، فأبقاه لهذا.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا: ثَقِيفٌ، وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ الَّذِي عِنْدَهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ: اللَّاتَ، فَأَكْرَمَهُمْ، وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رُغَالٍ دَلِيلًا، فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى الْمُغَمْسِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ بِهِ، وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى السَّرْحِ بِأَمْرِ أَبَرْهَةَ أَمِير الْمُقَدِّمَةِ، وَكَانَ يقال له: الأسود بن مقصود، فَهَجَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَجَاءَ حُنَاطَةُ، فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يخلِّ بينه وبينه فوالله مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ.
فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أبرهة أجله، وكان عبد المطلب رجلا جسيمًا حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: ما حَاجَتُكَ؟
يقولون: جلس معه على البساط: لم يقصد بذلك التواضع، وإنما كره أن يجلسه معه على السرير، فتركه يجلس على الأرض، ثم جلس معه إكرامًا له.
فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، والتحصن في رءوس الْجِبَالِ؛ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ:
لاهُمَّ إنّ المرءَ يمنعُ | رحلَه فامنع رحالَك |
لا يغلبنّ صليبُهم | ومِحالُهم أبدًا مِحَالَك |
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ المطلب حلقة الباب، ثم خرجوا إلى رءوس الجبال، وذكر مقاتل بن سلمان: أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ لَعَلَّ بَعْض الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ اسْمُهُ: مَحْمُودًا، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، وَقَالَ: ابْرُكْ مَحْمُودُ، أو ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَبَرَكَ الْفِيلُ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أصْعدَ فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ؛ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطبرزين.
يعني: آلة حديدية مثل الفأس.
يعني: صاروا ينخسونه حتى أدموه بهذه المحاجن، والمحجن معروف: عصا لها طرف معكوف.
قوله هنا: إن هذا الفيل برك، والفيل معروف أنه لا يبرك، وإنما البروك يكون للبعير، ولكن المقصود: أنه فَعَل فِعْل البعير من جهة أنه حرن ولزم الأرض بأي صفة كانت.
فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ.
وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس، ولا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلٍ؛ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نفيل يقول:
أين المفرُّ والإلهُ الطالبُ | والأشرمُ المغلوبُ ليس الْغَالِبُ |
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ نُفَيْلٌ فِي ذلك أيضا:
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا | نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الإصباح عينا |
رُدينةُ لَوْ رَأَيْتِ وَلَا تَرَيْهِ | لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا |
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي | وَلَمْ تأسِ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا |
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا | وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا |
فَكُلُّ القومِ تسأل عَنْ نُفَيْلٍ | كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا |
قوله: "ألا حُييتِ عنا يا ردينا"، ردينا يعني: اسم امرأة؛ لأنه من تصغير ردنة، يعني: قطعة من الحرير.
قوله: "نعمناكم مع الإصباح عينًا"، يعني: نعمنا عينًا بكم.
والتفاصيل في الأخبار في صفة هذه الطير، وفي صفة الحجارة التي كانت معها هي أخبار كثيرة غير متفقة، لكن يكفي أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ [سورة الفيل:3]، وما وصف هذه الطير من جهة الهيئة، أو من جهة صورتها، وإنما ذكر تتابعها، وهكذا فيما يذكرونه من قصة الذي خرج معهم من الطائف، وأنه أبو رغال، وأبو رغال بعضهم يقول: هذا مولى، وبعضهم يقول: هو أصلاً ملك من ملوك ثقيف، وبعضهم يقول غير ذلك، فانظر إلى هذا الاختلاف: مولى وملك، وبعضهم يقول: هو الذي خرج معهم، وبعضهم يذكر أنه رجل خرج قبل مدة طويلة سابقة لخبر الفيل.
يعني: أيضًا ما صحة هذه التفاصيل؟ وما أثر هذه الحجارة عليهم؟ الله يقول: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، فما صفة موت هؤلاء؟ وماذا كانت تفعل فيهم هذه الحجارة؟
بعضهم يقول: إنها كانت تدخل من رأسه وتخرج من دبره، وكذلك أيضًا بعضهم يقول: لا، ولكنها كانت تصيبه، فيبدأ جسده بالتسلخ، فيتمزق هذ الجسد، ويسقط عضوًا عضوًا، وبعضهم يقول: يصيبه الجدري، أو ما يشبه الجدري، إلى غير ذلك من الأقوال.
وأسوأ من هذا كله -يعني: مما لم يثبت فيه شيء على هذا الاختلاف الكثير بين هذه الأقاويل- قول بعض أصحاب المدرسة العقلية في التفسير، كمحمد عبده، ورشيد رضا، قالوا: إن هذه الطير هي البعوض، قالوا: من أجل التقريب للغرب، والعالم المادي؛ إذ لا يؤمنون بالغيب، فقالوا: لعلها بعوض يأخذ من الطين الذي في المستنقعات، فأصابتهم الملاريا، فماتوا بسبب الملاريا، فقالوا: الطير الأبابيل هي: البعوض -والله المستعان- من أجل أن الغرب يقتنعون، ويقبلون.
وكان أبرهة ممن تساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلَكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَأُصِيبَ أَبَرْهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ.
انظر: قال هنا: "حتى قدموا به صنعاء"، وهناك يقول: "قدموا خثعم".
هكذا قالوا، مع أن ظاهر القرآن: أن الله أهلكهم في موقعهم، قال الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:5]، فهذا يصور الحالة التي آلوا إليها في ذلك الحين لما جاءتهم هذه الطير الأبابيل.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ فِيمَا يَعُدُّ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ؛ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:1-5]...، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش:1-4]، أَيْ: لِئَلَّا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؛ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِوَاحِدِه.
يعني: هذا فيه اختلاف: هل الأبابيل له واحد، أي: له مفرد أو لا؟
قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، هنا بمعنى: ألم يبلغك، وألم تعلم؛ لأن النبي ﷺ لم يرَ ذلك، سواء قلنا: إنه ولد -عليه الصلاة والسلام- عام الفيل، أو إن حادثة الفيل كانت قبل هذا، وبالمناسبة مثل هذا الخبر لا يعد سببًا لنزول سورة الفيل، يعني: قصة أصحاب الفيل، وما وقع من مجيء أبرهة ومن معه ليس هو السبب لنزول هذه السورة، فإن ذكر الوقائع التاريخية في القرآن إنما هو من قبيل القصص والأخبار، وأما سبب النزول فإنه -كما مضى في بعض المناسبات: ما نزلت الآية أو الآيات محدثة عنه أيام وقوعه، سواء كان واقعة أو سؤالا، فهذا ليس مما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه أيام وقوعه، وإنما نزلت بعد مدة طويلة، فهو من جملة الأخبار والقصص في القرآن.
قال: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قوله: فِي تَضْلِيلٍ يعني: في ذهاب وضياع، وهذا الكيد الذي جاءوا من أجله هو: هدم الكعبة، ولم يحصّلوا ما طلبوا، وإنما وقع لهم ما لم يحتسبوا.
قوله: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ يقول: "قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات".
وبعضهم يقول: بالكاف "سِنك"، وبالكاف "كِل" -والله أعلم، وبالأعجمية الكاف والجيم متقاربان: سنك أو سنج، ولربما ينطق بهذا عن هذا، وكذلك الجيم والكاف في الثانية: كِل أو جِل.
هذه دعوى، ومضى الكلام على المعرَّب هل هو موجود في القرآن أو لا، وذكرت حينها الكلام في الأنواع الثلاثة، وأن الخلاف إنما هو في نوع واحد منها، وهو: المُنكَّر، ومثل ابن جرير -رحمه الله- لا يثبت ذلك، والعلماء منهم من يقول: إن القرآن نزل بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء:195]، وإن لغة العرب أولى به، فيكون أولئك هم الذين أخذوه من لغة العرب، أو مما توافقت به اللغات، وبعضهم يقول غير ذلك، والله أعلم.
هذه دعوى، وبعضهم لا يثبت هذا، يقول: أصلها عربية؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب المعاني كالزجاج إلى أنها مشتقة من السِّجِل، يعني: مما كتب عليهم العذاب به، أي: السجل، حتى إن بعضهم يقول: كل حجر مكتوب عليه اسم من أرسل إليه، هكذا قالوا، وذكروا في صفة هذه الأحجار: أنها سوداء فيها خطوط حمراء، أو نحو ذلك، وكل هذا لا يثبت.
وبعضهم يقول: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من طين، مطبوخة في نار جهنم عليها أسماء هؤلاء القوم، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [سورة المطففين:7]، فبعضهم يقول: تتناوب الحروف في مثل هذا عند العرب، وبعضهم يقول: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من السماء، وهي: النازلة على قوم لوط، فقوم لوط ماذا قال الله في حقهم؟
قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [سورة هود:82]، وفي الآية الأخرى قال: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [سورة الذاريات:33]، فهذا تفسير للسجيل بالطين، وهو من تفسير القرآن بالقرآن، وهو من أوضح ما يكون، فتكون حجارة من طين بهذا الاعتبار، فهذا الذي دل عليه القرآن، وبعضهم يقول: حجارة من جهنم، وأنها هي سجين بالنون، وسجيل وسجين شيء واحد، أي: أن النون أبدلت لامًا، والله أعلم.
قال سبحانه: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، وليس كعصف فقط، بل كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، ما المراد بالعصف؟
عبارات المفسرين وقبلهم أيضًا أهل اللغة متفاوتة في تفسيره، فابن فارس -رحمه الله- يُرجع أصل هذه المادة إلى الخفة والسرعة، والذي يعنينا منها هنا هو: الخفة، أما السرعة فمثل: العواصف والرياح، يعني: ذات الهبوب الشديد، وذكر ابن فارس أن العصف يقال لما على الحب من القشور، فهي خفيفة تتطاير، ومثل -أكرمكم الله- التبن، فهو خفيف؛ ولهذا فسر به، وهكذا ما على ساق الزرع من الورق، فذلك كله إذا صار يابسًا متفتتًا يقال له: العصف.
وبعضهم عممه كابن الأعرابي، فقال: ورق كل نابت يقال له: العصف، وبعضهم يقول: هي القشور التي تكون على الحب أو على السنبل أو نحو ذلك، فإذا أكل هذا الحب بقيت هذه البقايا الخفيفة التي تتطاير لا شأن لها ولا قيمة.
وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كما قال الله : فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً [سورة المؤمنون:41]، فهكذا شأن هؤلاء الذين ينزل بهم بأس الله ونقمته يصيرون بهذه المثابة، والغثاء هو: الشيء المشابه لهذا من ناحية الخفة والضعف، مثل الذي يطفو على الماء أي: الذي يحمله الماء، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [سورة الرعد:17] فالغثاء مثل الذي يكون من الزبد، والأوراق التي يحملها الماء، ونحو ذلك مما يطفو عليه، فكذلك هذا العصف هو هذه الأوراق الخفيفة التي تسقط من النبات، أو قشور الحب، أو نحو هذا، يعني: جعلهم بهذه المثابة، وهذه الأمور قد لا يتصورها الإنسان حتى يرى شيئًا من ذلك -نسأل الله العافية.
يعني: كما في قوله -تبارك وتعالى- عن عاد، شبّههم وصوّرهم بعد إهلاكهم بأعجاز النخل الخاوية: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7]، وأعجاز النخل يعني: أصول النخل، فإذا رأيت النخل قد تساقط وصار في حال من اليبس فإن ذلك يصور لك تلك الحال؛ لضخامة أجسام هؤلاء، كذلك أيضًا هنا العصف فحينما ترى مثلاً مثل هذا الذي رأيناه في تسونامي، فترى الناس وبيوتهم والمدينة تحولوا إلى قش، تختلط فيه قطع الأخشاب، وتختلط فيه جثث الموتى، فتطفو على الماء ونحو ذلك، فكأنها غثاء، كأنها مثل الشيء الخفيف الذي يطفو على الماء، فهؤلاء الذين لربما يكون الواحد منهم يشعر بالقوة والتمكين ونحو ذلك يأتي عليهم هذا الماء فيحملهم ويحمل سياراتهم، بل ويحمل السفن التي في البحر، ويجعلها فوق بيوتهم، فتكون هذه الأشياء جميعًا يجري بها الماء كأنها القش، فتختلط تلك الجثث مع تلك القطع من الأخشاب، وتطفو على الماء، ويذهب بها هنا وهناك مع مراكبهم وسياراتهم وكل شيء -والله المستعان.
فهم جاءوا بهذه الأفيال، وبهذه القوة الهائلة، ثم تحولوا إلى هذه الحالة: كالعصف المأكول، والله يقول: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [سورة الرحمن:12]، فهذه قشور الحب خفيفة تتطاير.
يعني: هذا كما قال ابن هشام أولاً: الأبابيل: الجماعات، هذا قال: الفِرَق، يعني: الجماعات.
يعني: جماعات متتابعة، يعني: هذا قيده بقيد هنا، أي: ليس مطلق الجماعات، وإنما جماعات يتبع بعضها بعضًا.
وانظر أيضاً: هنا قيد آخر، وهو: الكثرة.
يعني: هنا ليس فيه اختلاف، أي: في قول مجاهد: "أبابيل: شتى متتابعة مجتمعة"، بمعنى: أنها تأتي متتابعة، مجموعات يتلوها مجموعات من هذه الطير، فكل مجموعة مجتمعة، وتجتمع أيضًا فوق هؤلاء، فترميهم بهذه الأحجار.
انظر إلى هذا: فإن فيه قيدًا ثالثًا، يعني الآن صار عندنا: أنها مجتمعة، وصار عندنا: أنها متتابعة، وهنا: تأتي من أنحاء مختلفة، هذا كله ليس بينه اختلاف حقيقي، وإنما ذلك يمكن أن يكون من صفة مجيئها، والله أعلم.
هذا أحد الأقوال، فقد سبق أن ابن هشام قال: ولم تتكلم العرب بواحده، يعني: ما له مفرد، وهذا كما سبق ليس محل اتفاق، والذين قالوا: له مفرد اختلفوا فيه، فالكسائي يذكر هذا، وبعضهم يذكر غير ذلك.
النحاس يقول في الأبابيل: حقيقتها أنها جماعات عظام، جماعات كبيرة عظيمة من هذه الطيور، وابن جرير جمع بين هذه الأقوال، فعبر عن ذلك بعبارة تنتظم ما سبق، فقال: "متفرقة، يتبع بعضها بعضًا من نواحٍ شتي"، يعني: مجموعات متفرقة متتابعة، تأتيهم من أكثر من ناحية.
فهذا بناء على أنه اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، وهؤلاء جميعًا هم من أهل اللغة، ومن ثَمَّ فهذه الأقاويل وهذا التفسير للأبابيل إنما فهموه من لغتهم، فدل على أن هذه المعاني صحيحة، فابن جرير على عادته أنه يحمل ذلك على هذه المعاني جميعًا؛ لأنه لم يرد ما يدل على إرادة واحد منها.
قال: وروى ابن جرير: عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه قال في قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ هِيَ: الْأَقَاطِيعُ، كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ.
وعَنْ ابْنِ عباس: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ قال: لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وعن عكرمة في قوله تعالى: طَيْرًا أَبَابِيلَ قال: كانت طيرًا خضرًا خرجت من البحر، لها رءوس كرءوس السباع.
وعن عبيد بن عمير في قوله: طَيْرًا أَبَابِيلَ قال: هي طيور سود بحرية، في مناقيرها وأظافرها الحجارة، وهذه أسانيد صحيحة.
لكن انظر إلى الاختلاف فيها، فبعضهم يقول كما جاء عن عكرمة: كانت طيرًا خضرًا، خرجت من البحر، وهنا قال: إنها سود.
ومعنى مُجزَّعة يعني: مقطعة، ومجزأة.
قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى صُفَّتْ عَلَى رءوسهم، ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا، فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ من جسده إلا خرج مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً، فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا.
وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يعني: التبن الذي تسميه العامة: "هَبّور"، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْعَصْفُ: التِّبْنُ، وَالْمَأْكُولُ: الْقَصِيلُ يُجَزُّ لِلدَّوَابِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
ومعنى القصيل يعني: ما يُقصل، وهو: ما يجز من الزرع الأخضر لعلف الدواب، فكل هذا يرجع إلى ما سبق من أنه هو: هذا الشيء الخفيف الذي يتطاير.
وبعضهم يقول: كالزرع المأكول.
وبنحو هذا قال ابن جرير -رحمه الله، يعني: كقول ابن زيد.
قال: وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ مُخبِر إِلَّا وَهُوَ جَرِيحٌ، كَمَا جَرَى لِمَلِكِهِمْ أَبْرَهَةَ، فَإِنَّهُ انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ حِينَ وَصَلَ إلى بلده صنعاء، وأخبرهم بما جَرَى لَهُمْ، ثُمَّ مَاتَ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَكْسُومُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ، ثُمَّ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الحميري إلى كسرى فاستعانه عَلَى الْحَبَشَةِ، فَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنْ جُيُوشِهِ، فَقَاتَلُوا معه، فرد الله إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَمَا كَانَ فِي آبَائِهِمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَجَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلتَّهْنِئَةِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَطَلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَزَجَرُوهَا فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، أَيْ: حَرَنَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا فَقَامَتْ"[1]، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ حَبْسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَدْ عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب[2].
آخر تفسير سورة الفيل، ولله الحمد والمنة.
- أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، رقم: (2731).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم (112)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، رقم: (1355).