بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون:1-7].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: يقول تعالى: أَرَأَيْتَ يا محمد الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ وهو المعاد والجزاء والثواب فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة، يقال لها: "سورة الماعون".
ويقال لها: "سورة الدين".
وسماها بعضهم بـ"سورة اليتيم".
وسماها بعضهم بأولها: أَرَأَيْتَ.
وبعضهم يقول: أَرَأَيْتَ الَّذِي.
وسماها آخرون بـ"سورة التكذيب".
وهذه الأسماء ليست كلها عن النبي ﷺ.
والأصل أن أسماء السور تكون توقيفية، يعني أنها تُتلقى من رسول الله -عليه الصلاة والسلام.
وهذه السورة من السور النازلة بمكة على قول الجمهور، وهو الذي اعتمده الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
وجاء عن بعضهم كقتادة -وهي رواية ثانية عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أنها مدنية.
ولعل السبب في ذلك -والله أعلم- هو النظر إلى بعض المعنى الذي تضمنته، يعني أن الله قال فيها: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وجعل ذلك من صفة بعض المصلين كما سيأتي.
فُسر هذا عند طائفة: أن ذلك من صفة المنافقين، وقالوا: إنما كان النفاق في المدينة، وبناء عليه -والله أعلم- قالوا: إن السورة مدنية، وقد مضى الكلام على هذا، وأن السورة لا يقال بأنها مكية أو مدنية، وكذا الآية، أو الآيات بناءً على ما لاح من معنى، فهذا المعنى يكون له توجيهات، وقد لا يكون هذا المعنى المراد، كما في بعض المواضع، وبناءً على هذا المعنى الذي فهمه بعض المفسرين قال بعضهم: إن بعض هذه السورة مكي، وإن بعضها مدني.
والذين قالوا: إن نصفها مكي، أو إلى الآية الثالثة مكي، إلى قوله: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ هؤلاء نظروا إلى أولها، وما ورد فيه من أسباب النزول من أنها نزلت في بعض المشركين، فقالوا: مكي، ونظروا إلى المعنى في قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ من الآية الرابعة: الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ قالوا: هذه صفة أهل النفاق، ومن ثَمّ فهي مدني، وهذا مروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، وهذا القول اختاره الطاهر بن عاشور.
وقول عامة أهل العلم: إن هذه السورة مكية.
والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة هي صفة هذا المكذب بالدين، ما الذي يوقع به التكذيب بالدين وبالجزاء والحساب؟ ما الذي يوقع به هذا التكذيب من أعمال وأوصاف سيئة؟ فهذا يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
وقوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ هو مرتبط بما سبق، بمعنى أن ذلك مظنة لهذه الصفة، أنه مضيع لصلاته -كما سيأتي، هذا الإنسان الذي لا يؤمن بالجزاء والحساب، واليوم الآخر فإنه يكون مضيعًا لحقوق الله ، ولحقوق خلقه، تكون صلته بربه -تبارك وتعالى- التي من أعظمها: الصلاة -فهي صلة بين العبد وربه- ضعيفة، فهو مضيع لها، وهو لما سواها أضيع.
وما يتعلق بالصلة بالمخلوقين، والإحسان إلى المخلوقين، فهذا إذا كان يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فكيف بغيرهم؟
هذا المسكين الذي لا يجد من يدفع عنه، أو يحفظ حقه، فيدفعه دفعًا شديدًا، دفعًا عنيفًا عن حقه، فكيف بالإحسان إليه، بالتصدق، وما إلى ذلك؟ إذا كان حقه يُدفع عنه، فكيف بما كان من قبيل الإحسان والإفضال على هذا اليتيم؟!
وقد مضى الكلام على وجه الاقتران بين الصلاة والزكاة، وذكرت هناك أوجهًا ذكرها أهل العلم، منها: أن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، وأنها صلة بين العبد وربه، وأن الزكاة هي رأس العبادات المالية، وأن سعادة العبد دائرة بين الأمرين: حسن صلته بربه، والإحسان إلى الخلق، هذا: لا هذا ولا هذا.
هذا الموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة، وهذا وجه الارتباط بين آياتها، والله أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ يقول هنا: يا محمد الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ وهو المعاد والجزاء والثواب.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ يمكن أن يكون الخطاب موجهًا للنبي ﷺ وهو موجه لأمته؛ لأن الأمة تخاطب بشخصه ﷺ، لأنه الأسوة والقدوة.
ومعلوم أن الخطاب للنبي ﷺ هو خطاب لأمته إلا لدليل.
فهنا: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ابن كثير -رحمه الله- يقول: يا محمد، ويمكن أن يكون الخطاب موجهًا لكل من يصلح أن يوجه إليه هذا الخطاب.
وهذا الخطاب جاء على وجه التعجيب، أن هذا أمر يتعجب منه؛ لأن من كان بهذه المثابة من الحرص والصلف والفظاظة والسوء والتضييع لحقوق الله وحقوق خلقه، لا شك أن مثل هذا أمر يثير العجب، أو التعجب.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ الرؤية هنا يمكن أن تكون بمعنى المعرفة، أو بمعنى أخبرني، أَرَأَيْتَ أي: أخبرني.
ويمكن أن تكون بصرية: هل أبصرت، هل شاهدت الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟
الدين هو المعاد والجزاء والثواب، يعني يكذب بثواب الله وعقابه، فلا يطيعه في أمره ونهيه، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، وقد مضى الكلام على الدين وأنه يأتي لمعانٍ منها هذا، كما يدل عليه السياق، ويوم القيامة هو يوم الدين، والله هو مالك يوم الدين، فذلك يراد به الجزاء والحساب، كما يقال: كما تدين تدان، كما تجازِي تجازَى.
هذا من قبيل التفسير على المعنى، يعني يَدُعُّ الْيَتِيمَ يظلمه ولا يطعمه ولا يحسن إليه.
أما تفسيره المطابق، أو التفسير على اللفظ فهو أن الدعّ هو الدفع بشدة، بمعنى أنه يدفعه عن حقه بقوة، فإذا كان يدفعه عن حقه بقوة فهذا يعني أنه يقهره، ويظلمه، ولا يحسن إليه، ولهذا قال الله : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [سورة الضحى:6- 9] مثل هذا يقتضي ثبوت ضده، ليس المراد لا تقهره فقط، بل أحسن إليه، فالمقصود أن هذا يدفعه عن حقه بشدة يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور:13] يعني يُدفعون دفعًا قويًّا شديدًا.
وكما هو معلوم بأن المسكين إذا أفرد فإن الفقير داخل فيه، فهذا لا يحض على طعام المسكين، إذا كان لا يحض على طعام المسكين فمن باب أولى أنه لا يطعم المسكين؛ لأن حضه لغيره على إطعامه هذا أمر لا يكلفه شيئًا، وكثير من الناس قد يحث على الصدقة، وقد لا يتصدق، فهذا لا يحض على طعام المسكين فمن باب أولى أنه لا يقوم بذلك؛ لأنه لا يؤمن بعائدته، لا يؤمن بالجزاء، وإذا تمكن الشح في النفس فإن صاحبه لا يكتفي بمنع الحقوق عن أصحابها، بل إنه يضيق ذرعًا حينما يرى الناس يؤدون هذه الحقوق، إذا رأى أحدًا يتصدق أو يحسن، أو نحو ذلك ضاق بهذا التصرف، وعده من التضييع، والإضاعة، والتفريط، والله المستعان.
هذه الأوصاف: يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ تدل على تمكن الشح في النفس، فهو يصادر حقوق الضعفاء، ويدفعهم عنها دفعًا عنيفًا، وهم أولى بالإحسان والرحمة والرعاية والرفق، وكذلك أيضًا هو لا يحض على الإحسان، ولا يدعو إليه للمنكسرة قلوبهم، للضعفاء، للمحاويج في المجتمع، فهذا يدل على صلف وقسوة قلب، وتهافت على الدنيا، وحرص عليها، نسأل الله العافية.
فمثل هذا لا يكون من صفة أهل الإيمان، إنما يكون لمن كانت الدنيا هي غايته، ولا يؤمن بالجزاء والحساب، ولهذا جعل الله ذلك من صفة المكذب بيوم الدين، والحض والحث على إطعام المسكين مطلوب شرعًا، والله -تبارك وتعالى- جعل ترك الحث عليه من صفة المكذبين، وجاء ذلك في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- في صفة أهل النار: إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الحاقة:33، 34].
ومن هنا يكون الحث على رعاية الفقراء والمحاويج، والمساكين والأرامل، ومن وقعوا في نكبة، ونحو ذلك من المطالب الشرعية، وأنه يجب أن يقوم به المجتمع، أن يقوم به أهل الإيمان، ولكن هذا لا يعني أن يكون ذلك على وجه التخصيص بالضرورة، بمعنى أنه لا يُفهم أن الشارع قد حث وأمر أن يكون ذلك على وجه التخصيص لبعض الأفراد، يعني يقول: يا فلان تصدق، يا فلان هناك فقراء، يا فلان يوجد أيتام نريد أن تكفلهم، وما أشبه هذا، فإن ذلك يوقع هؤلاء الناس في شيء من الحرج، ومن يفعل ذلك فإنه غالبًا يستثقله هؤلاء الناس، فإذا رأوه تحاشوه، أو قد لا يحبذون لقاءه ومقابلته، والجلوس معه؛ لأن سؤال الناس أموالهم يوقع في مثل هذا إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [سورة محمد:37] وهذا أمر مشاهد.
ولذلك مع ما لهذا من الأجر لمن يفعل ذلك إلا أنه لا يطالب الناس به ضرورة، أو يلام، أو ينسب إلى التقصير من لم يفعل، وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عمن يطلب لغيره، فكان الإمام أحمد -رحمه الله- كأنه لم يرَ ذلك لنفسه على الأقل، أو كأنه رأى أن هذا لا يخلو من هذا الإثقال الذي أشرت إليه، أو أن الترفع عنه على الأقل بالنسبة لبعض الناس أنه أولى، مع ما لهؤلاء من الأجر.
فهذا كله لا ينافي ما جاء من فضل الساعي على الأرملة واليتيم، وكذلك أيضًا الحث على الإطعام، إلى آخره، فيكون ذلك على سبيل العموم، كما كان النبي ﷺ يقف ويدعو إلى الصدقة، ولما جاءه أولئك الذين كانوا في هيئة رثة، وفي فقر مدقع، واجتَوَوا المدينة، فحث النبي ﷺ على الصدقة على سبيل العموم، وهكذا في تجهيز جيش العسرة، وغير ذلك من مقاماته ﷺ، فكان يفعل ذلك على سبيل العموم.
لكن الكلام في: يا أبا فلان نريد منك كذا وكذا، ويا فلان نريد منك كذا وكذا، ويا فلان تبرع بكذا، ويا فلان... فهذا لا يخلو من إثقال على نفوس هؤلاء، فمن ترفع عن ذلك، وتنزه عنه، وتركه على الأقل نقول: هو غير ملوم، هو يتكلم كلامًا عامًا، ويقول لهم: من أراد فهذا هو الطريق، بلا إحراج لأحد، فإن كان ذلك يتضمن مزيدًا من الحرج فهذا يكون أيضاً مما ينبغي التنزه عنه، أن ذلك أولى، طرق الإحراج المعروفة: يأتيه ويريه بعض الإيصالات، ويقول: فلان تبرع بكذا، وفلان تبرع بكذا، وفلان تبرع بكذا، ويخرج له دفترًا، ويأتيه من كل وجه، بحيث لا يُبقي له طريقًا إلا أن يتبرع، فهذا ثقيل على النفوس.
على الأقل أقول: أهل العلم ينبغي أن يترفعوا، أن يتنزهوا عن هذا، من أجل أن يُنتفع بما يقولون، والناس يحتاجون إليهم، وإلى تعليمهم، وإلى نصحهم وإرشادهم، وما إلى ذلك، فلا يتحاشونهم، لكن إذا عُرف بأنه كلما رأى أحدًا من أصحاب الأموال انتهز الفرصة، وأخذه، وقال: تعال يا أبا فلان، يوجد مشروع كذا نريد أن تتبرع، هناك وقف في عمارة نريد أن تشتريها تكون لكذا.
والمقصود أن قوله: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ لا يعني أنه بالضرورة يُطلب منه أن يكلم الأفراد بأعيانهم، وإنما يتكلم على سبيل العموم، والله المستعان.
قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ "الفاء" هذه جواب لشرط محذوف عند بعضهم، كأنه قيل: إذا كان الأمر ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، وبعضهم يقول غير ذلك.
قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول عن ابن عباس -رضي الله عنهما: يعني المنافقين.
هذا -كما سبق- من أنه حمل بعضَ أهل العلم -وهو مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- على القول بأن السورة مدنية.
والنفاق: القول أنه لم يوجد إلا في المدينة هذا فيه نظر، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، وأن النفاق وجد من وقت مبكر، وذكرت بعض ما يدل على ذلك، ومنه ما جاء في أول سورة العنكبوت، وهي سورة مكية: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [سورة العنكبوت:11] فسورة العنكبوت من السور المكية، وذكر فيها النفاق، ولا حاجة لأن يقال: إن هذه الآية من الآيات المدنية في هذه السورة المكية، ويدل عليه أيضًا قوله -تبارك وتعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [سورة الأنفال:49].
وهذا كان في خروج المسلمين إلى غزوة بدر، والمشهور أن النفاق لم يظهر إلا بعد غزوة بدر، حيث صار للمسلمين شوكة، وأن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه، وكانوا على الشرك: إني أرى هذا الأمر قد توجه، فادخلوا فيه ظاهرًا، لا شك أن النفاق بصورته الواضحة المكشوفة، أن يدخل قوم في الإسلام ظاهرًا من أجل الكيد له، أو أن يدخلوا خوفًا على أموالهم، وحقنًا لدمائهم، هذا ما وجد إلا بعدما صار للمسلمين شوكة، أما قبل ذلك في وقت الاستضعاف في مكة فلا حاجة لمثل هذا، هم مستخفون ضعفاء، لكن هل يوجد نفاق في مثل هذه الحالات؟
الجواب: نعم، وهذا معروف، وسورة العنكبوت -كما سبق- سماها ابن القيم -رحمه الله- سورة الابتلاء، فإذا ابتُلي كثير من الناس حصل لهم نوع نفاق، إذا جاءت الشدائد فبعض الناس ليس من المنافقين، لكن فيه ضعف، فيحصل عنده نوع من التلون، لربما يمالئ أهل الباطل، ويظهر لهم شيئًا من الموافقة، ولربما يتراجع بالكلية، فهذا يحصل، والله المستعان.
وقد مضى الكلام على قوله -تبارك وتعالى- أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [سورة النساء:97] فهؤلاء الذين خرجوا من المسلمين مع المشركين في غزوة أحد، خرجوا في جيش الكفار، بحجة الإكراه، فلم يعذرهم الله ؛ لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة أصلاً، أقوياء، فجلسوا فأدى بهم هذا الجلوس إلى الخروج في عسكر المشركين يقاتلون رسول الله ﷺ ومن معه، فهذا التصرف أورثهم ما ذكر الله بعده: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:97] فحكم لهم بالنار.
وهنا كون هذا بهذه المثابة، بهذه الصفة، صفات المنافقين، يرائي إلى آخره، يوجد عند أصحاب النفوس الضعيفة، فهو يتلون، يتبدل، يتغير، ولما ذكر النبي ﷺ الفتن في آخر الزمان ذكر أنه يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، والعكس.
قال: يعني المنافقين الذين يصلون في العلانية، ولا يصلون في السر، بمعنى أنه يترك الصلاة في السر لا يصليها أصلاً، ليس يؤخرها عن وقتها، وإنما يتركها، قال: ولهذا قال: لِّلْمُصَلِّينَ الذين هم من أهل الصلاة، وقد التزموا بها ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية.
يقصد عن فعلها بالكلية يعني ما ذكر قبله، يعني أنه يصلي في العلانية ويترك في السرية، هذا بالنسبة للمنافق، يعني يصلي ظاهرًا، إذا كان بحضرة الناس، ولربما من غير طهارة، لكن هي إثبات حضور، وإذا كان في حال خلوته فإنه لا يصلي، هذا المنافق، وليس المقصود أنه يتركها بالكلية، بمعنى أنه لا يصلي أصلاً، يعني لا يصلي لا في السر ولا في العلانية، هذا غير مراد؛ لأن الله قال: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ فهذا الوعيد للمصلين، يعني هو يصلي، يفعل هذه الصلاة، ولكنه يفعلها بصورة مشوهة مشينة لا تبرأ بها الذمة، ولا يتحقق مقصود الشارع منها.
قال: وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعًا، فيخرجها عن وقتها بالكلية، كما قاله مسروق وأبو الضحى.
تأمل قول عطاء: لم يقل: "في صلاتهم" مع أن حروف الجر معروف أنها تتناوب، فتكون "في" و"عن" بهذا الاعتبار تؤدي في النهاية معنى واحداً، يعني لا فرق: في صلاتهم ساهون، أو عن صلاتهم ساهون، بناءً على ما جاء من التفسير عن بعض السلف؛ لأن مما يدخل في معناها مما ذكره بعض أهل العلم، وذكره الحافظ ابن القيم أيضًا: أنه يكون في صلاته في غفلة، لا يقيم خشوعها، ولا يقيم ركوعها، ولا سجودها، فهذا "عن صلاته" أو "في صلاته"؟
هذا "في صلاته".
فعلى هذا يكون "عن" و "في" يؤديان معنى واحدًا، فهنا الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، أدخل فيه بعض أهل العلم التضييع لها حال فعلها، لا يقيم ركوعها ولا سجودها، ولا يحضر قلبه فيها، ولا يخشع، وفرقوا بين هذا وبين من يقع له السهو في الصلاة، فهذا لا يسلم منه أحد، حتى النبي ﷺ وقع له السهو، وهذا من طبيعة الإنسان، لكن الكلام فيمن كان قلبه في حال من الإعراض عنها، هو يؤدي حركات لا معنى لها، ولا يراعي حدود الله فيها، ينقرها كنقر الغراب، لا يقيم الركوع ولا السجود، وقلبه مشغول عنها بغيرها، لا يدري ماذا قرأ، وماذا صلى، وكم عدد الركعات التي ركع، وهذا ديدنه، هذا حاله، يعني لا يكون ذلك لعارض، وإنما هو مشغول عنها، لا يعبأ بها.
تأمل كلام ابن كثير: "وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها" هذا كله في"في صلاتهم ساهون"، هو يسهو فيها، يعني هناك فرق بين سهويْن في الصلاة، فالسهو الذي لا يخلو منه أحد هو ما يقع من الإنسان من شرود ذهن، أو التباس في صلاته، فلا يجزم كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، أو يسلم من ركعتين، أو من ثلاث، و نحو هذا، أو يزيد ركعة، هذا لا يسلم منه أحد، لكن الكلام هنا فيمن كان في صلاته مضيعًا لأركانها وواجباتها، لخشوعها، فقلبه بمنأى عنها، هذا حاله في هذه الصلاة، فهو داخل في هذا، هذا الذي ذكره ابن كثير وذكره ابن القيم وآخرون.
فعلى هذا عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لا يفرح بالتعبير بـ"عن" وأنه لم يقل: بـ"في" إلا في أمر واحد، وهو السهو الذي لا يخلو منه أحد، وإلا فإن السهو الذي يكون من قبيل التضييع داخل في هذا الوعيد، في: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ هذا ذكرته تعليقًا على ما جاء عن عطاء بن دينار: "الحمد لله الذي قال: عَن صَلَاتِهِمْ ولم يقل: في صلاتهم ساهون".
فهذا السهو فيها على نوعين، يعني حتى ابن جرير -رحمه الله- حمله على العموم، أي أنه يشمل هذه المعاني المذكورة، فكل ذلك داخل فيه، ومن ثم: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ يشمل حال المنافق، فيدخل فيه دخولاً أوليًّا، هذا المرائي؛ لأن الله قال بعده: الَّذِينَ هُمْ يُرَائُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وبهذا احتج ابن القيم -رحمه الله- وهي الحجة الثانية- على أن ذلك إنما يراد به الذين يصلون، وليس الذي يترك الصلاة بالكلية، لا يصلي أصلاً، لا في السر ولا في العلانية؛ لأنه قال أولاً: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الأمر الثاني: يُرَاءُونَ هذا الذي يرائي إذًا هو يصلي في الظاهر، ولكن قلبه منصرف إلى المخلوقين، يتزين لهم بهذه الصلاة، بمعنى أنه يريد إثبات حضوره، وأنه يصلي.
وفرق هنا دقيق في مسألة مراعاة الحضور للصلاة، لتحصيل أمر عاجل، فهذا على نوعين: نوع مشروع، ونوع ممنوع، النوع الممنوع: الذي يصلي يتزين بصلاته من أجل الناس، وكلام الناس، وثناء الناس، ونحو هذا.
النوع الثاني -وهو المطلوب: الذي يحضر الجماعة من أجل أنه يفعل ذلك طاعة لله، وأيضاً لتثبت عدالته، فهذا الذي لا يأتي للمسجد، لا يرى في المسجد لا تثبت عدالته، ولا تقبل شهادته، فالشاطبي -رحمه الله- يقول: "مراعاة هذا المعنى مطلوبة شرعًا"، ثبوت العدالة، فلا يكون ذلك من المقاصد السيئة، لكن لا يكون هو المطلب الأول، وإنما يكون ذلك على سبيل التبع.
تعدية سَاهُونَ بـ"عن" هل يشير إلى وجود التضمين سَاهُونَ أي: معرضون؟
مع مراعاة أن الحروف تتناوب، يعني هذا المعنى الذي ذكر أنه لا يقيم أركانها ولا شروطها، ولا... إلى آخره، وقلبه في لهو، ولهذا فسر السهو سَاهُونَ فسره بعض السلف بقوله: لاهون عنها، فهذا الذي لا يصلي إلا في المناسبات هذا داخل فيها، يصلي رياءً داخل فيها، الذي لا يقيم ركوعها ولا سجودها هو داخل فيها.
فهذا الإعراض يشمل الإعراض عن فعلها بالكلية بالسر مثلًا، ويشمل أيضاً الإعراض بترك ما أوجب الله عليه فيها، فإذا فسرته بالإعراض دخل فيه هذا، هو يصلي ولكن قلبه معرض عنها تمامًا، فهذا ديدنه، هذا حاله، فالمقصود: أن هذا يدخل فيه الذي يترك بعض الفروض كالمنافق الذي لا يصلي في السر، ويدخل فيه الذي يؤخرها حتى يخرج الوقت، ويدخل فيه الذي يؤخرها إلى آخر الوقت، كما قال النبي ﷺ: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس..[1].
ويدخل فيه الذي يصلي صلاة يضيع حدودها، وحقوقها وشروطها، وواجباتها، كل هؤلاء يدخلون فيه.
وفي قراءة لابن مسعود : "الذين هم عن صلاتهم لاهون" فهذا يمكن أن يفسر به السهو، لئلا يفهم أن المقصود بالسهو السهوُ العارض للمصلي مما أشرت إليه، وأنه لا يسلم منه أحد.
فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك فله قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي؛ كما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ قال: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا[2].
فهذا أخّرَ صلاة العصر التي هي الوسطى -كما ثبت به النص- إلى آخر وقتها، وهو وقت الكراهة، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن، ولا خشع فيها أيضًا، ولهذا قال: لا يذكر الله فيها إلا قليلا ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس، لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يصلِّ بالكلية، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142].
وقال تعالى هاهنا: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مرة قال: كنا جلوسًا عند أبي عبيدة، فذكروا الرياء، فقال رجل يكنى بأبي يزيد: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله ﷺ: من سمّع الناسَ بعمله سمّع الله به سامعَ خلْقه، وحقره وصغره[3].
ومما يتعلق بقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [سورة الماعون:6] أن من عمل عملا لله، فأطلع عليه الناس، فأعجبه ذلك أن هذا لا يعد رياءً.
يعني أن هذا الرياء هو من فعله يُرَاءُونَ فهو عملٌ منه بإظهار ذلك، إظهار الطاعة من أجل رؤية الناس، فهذا هو الرياء، ولهذا قالوا: إن الصيام من مزاياه أنه لا يدخله الرياء، بمعنى أنه لا يُرى، ولكن الواقع أنه يمكن أن يرائِي به، وأن يسمِّع.
يرائي به كيف؟
بأن يُظهر آثار الصوم، ليُعرف أنه صائم.
كيف يُعرف أنه صائم؟
يظهر الذبول، ويتقصد جفاف الشفة، ولربما يتصنع بعض المواقف، مثل ماذا؟ يعطونه يشرب شيئًا، أو يأكل شيئًا، أو نحو ذلك، فيقول: لا، أنا اليوم صائم، وكذلك لو أن هذا الإنسان يَقصِد بذلك، يعني أنه إذا جاء وقت الإفطار تصنّع ذلك علانية، جاء إلى المسجد، ولا يوجد آخرون يفطرون معه، وهو لا يعرف أن هذا اليوم مثلاً ليس مظنة للصوم، فيأتي إلى المسجد بالمغرب، ويجلس أمام الخلائق، في الحرم، أو غير الحرم، أو في مسجد الحي، أو مسجد الجامع، أو نحو هذا، وفي وقت محاضرةٍ الناسُ يجتمعون لها بعد المغرب، ويضع إفطاره ويجلس يفطر، فهذا ماذا يسمى؟
يقال له: رياء.
وأما التسميع فإنه يخبر، يقول: أنا كنت صائمًا، أنا صائم اليوم، كنت بالأمس، كنت في الأسبوع الماضي صائمًا، فهذا كله من التسميع، يخبر عن عمله، يقصد بذلك السمعة.
هنا فسر: الْمَاعُونَ بالعارية من المتاع، فالعارية لا يخسر صاحبها ولا يبذل شيئًا على سبيل التبرع بعينه، وإنما ذلك يرجع إليه، ومع هذا يمتنع.
فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى.
وقال المسعودي عن سلمة بن كهيل عن أبي العبيديْن: أنه سأل ابن مسعود عن الماعون، فقال: هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس، والقدر، والدلو، وأشباه ذلك.
آخر تفسير السورة، ولله الحمد والمنة.
هنا على قول ابن مسعود : أن هذه الأمور لا يتضرر ببذلها، وقد جرت العادة أن الناس يتعاورونها بينهم، فهو يمنع من ذلك، إذًا هو لما سواه أمنع، يعني لو طُلب منه شيء أعظم من هذا، أن يعيره سيارته مثلاً، يمتنع من باب أولى، هذا في الإعارة، وأما في البذل على سبيل التبرع بأعيان هذه الأشياء فهو أمنع وأمنع.
وكلام السلف في تفسير الماعون فيه اختلاف، ويمكن أن يلتئم ذلك تحت معنى عام، وابن جرير -رحمه الله- عممه، فقال: أصل الماعون من كل شيء منفعته.
فهم يمنعون الناس منافع ما عندهم، فبذل الفأس، إعارة الفأس، يمنعون منه، بذل الفحل للضراب، هذا لا يتضررون منه، فيمنعونه، وهكذا يمنعون منافع الأشياء، فيدخل في ذلك ما يتعاوره الناس بينهم من القدر، والفأس، والإناء، والقدّاحة -الولاعة- وهذه الأمور اليسيرة التي يحتاج إليها الناس، ولا يتضرر من بذلها، وهكذا ما لا يُمنع، كالملح، وفضل الماء، ونحو ذلك.
وبعض السلف فسره بالزكاة، باعتبار أنها واجب عليه، وحق في المال، وهنا يرِد إشكال: إذا كانت السورة مكية على قول الجمهور فما وجه ذكر الزكاة؟
وهنا قد يأتي من يقول: السورة إذًا مدنية، لهذا الاعتبار، أو أن آخرها مدني لهذا الاعتبار أيضًا، إضافة إلى ما سبق، وليس بالضرورة: أن المراد بذلك هو الزكاة، ثم أيضاً إذا فسر بالزكاة فالأقرب أن أصل الزكاة فرض بمكة، كما تدل عليه آية الأنعام: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] مع أن سورة الأنعام نازلة بمكة جملة، ومع هذا على كثرة الروايات الواردة في هذا فإن بعض أهل العلم لما نظر إلى هذا المعنى استثنى هذه الآية، وقال: هذه نازلة في المدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة، وهذا يجاب عنه بأحد جوابين: الأول وهو الأرجح: أن أصل الزكاة فرض بمكة من غير تقدير للأنصبة، والأموال التي تجب فيها الزكاة، ثم بعد ذلك فرض على سبيل التفصيل بالمدينة.
والجواب الثاني: أن الآية قد تنزل قبل تقرير الحكم.
وبعضهم فسرها بمنع الزكاة باعتبار أنه لا فضل له بالزكاة، هي حق في أموالهم، وحق معلوم، للسائل والمحروم، وهذا حق المال.
الزجاج، والمبرد، وبعض أصحاب المعاني يقولون: إن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، ومثلوا لهذا بالفأس، والدلو، والقدر، والقدّاحة، كل ما فيه منفعة سواء كان كثيرًا أم قليلاً.
وابن عاشور -رحمه الله- ذكر أن ذلك يطلق على الإعانة بالمال، يعني يمنعون فضلهم، أو الصدقة على الفقراء، ونَقل عن ابن المسيب وابن شهاب -ونقله غيره والرواية معروفة: أن الماعون بلغة قريش المال، فالمال داخل فيه.
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يعني هذا الحق المتعين في المال.
وهكذا أيضًا لما نقلوا عن الزجاج والمبرد بأنه في الجاهلية كل ما فيه منفعة، قالوا: هو في الإسلام الطاعة والزكاة.
وهم يعتمدون في هذا على بعض ما قيل من الشعر، ولكن ذلك لا يعني التحديد والتقييد بهذا المعنى.
وكذلك أيضًا نقل الفراء أنه سمع من بعض العرب إطلاق الماعون على الماء.
وفضل الماء داخل فيه، ولهذا بعضهم قال: هو الحق على العبد على العموم، كل هذا يقال له: الماعون.
وبعضهم يقول: هو المستغل من منافع الأموال، وقيدوا ذلك بالقليل باعتبار أنه مأخوذ من المَعن، وهو القليل، وذكر قطرب أن أصله من القلة، يعني الشيء اليسير، فهذه الزكاة ولو كثرت، أو الصدقة فإنها قليل من كثير مما أعطاه الله -تبارك وتعالى، بهذا الاعتبار.
وبعضهم يعبر عن هذا يقول: هو كل ما يبخل به.
الحاصل من هذا كله: أن الماعون: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يعني مما ينبغي بذله، من عارية، لا يتضرر ببذلها، أو حق لله -تبارك وتعالى- عليه في ماله، مما يجب عليه بذله، وينبغي عليه أن يبذله، أو الأمور التي جرت العادة ببذلها: الماء، فضل الماء، الملح، ونحو ذلك، هذا كله مع عارية المتاع داخل في الماعون.
بمعنى أن هذا إذا كان يمنع هذه الأمور التي هي حق عليه واجب، أو كان ذلك من الأمور اليسيرة، أو من العارية التي لا تضره في هذا المتاع فهو لما سواه أمنع.
بمعنى أن هذا صاحب هذه الصفة الذي لا يؤمن بيوم الدين، لا يؤمن باليوم الآخر لا يَخرج من يده شيء، لا قليل ولا كثير، لا تستطيع أن تتوصل منه إلى منفعة من المنافع، لا بإعارة ولا هبة ولا صدقة، ولا زكاة، ما يَخرج من تحت يده شيء، ممسك، شحيح، الذي يدخل عليه لا يخرج أبدًا، فهذا الذي لا يؤمن بالدين؛ لأنه لا يرجو عائدة، ولهذا قال الله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [سورة التوبة:98] لماذا يتخذ ذلك مغرمًا؟
هو يشعر أنه من قبيل الغرم؛ لأنه لا يرجو عائدته وثوابه عند الله -تبارك وتعالى؛ لأنه لا يؤمن باليوم الآخر، هذا في صفة المنافقين من الأعراب.
وذكر صفة أهل الإيمان منهم فقال: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [سورة التوبة:99] فهذا حال أهل الإيمان من الأعراب، وغيرهم، لكنه ذكره بصفة الأعراب؛ لأنه ذكر الطائفة الأولى -والله المستعان، هذا قوله: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.
إذًا هذه الأوصاف لهذا الجلف الجاف، المضيع لحقوق الضعفاء، بل المستلب لها، يدعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، وهو مضيع لصلاته، فصلته بربه منقطعة، وصلته بخلق الله -تبارك وتعالى- أيضًا منفصلة، لا يحسن إليهم، ولا يوصل معروفًا.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، رقم (622).
- المصدر السابق.
- رواه أحمد (6509) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".