الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
سورة الكافرون كاملة
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 7797
مرات الإستماع: 11687

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام ابن كثير: تفسير سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وهي مكية.

ثبت في صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قرأ بهذه السورة، وبـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف[1].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قرأ بهما في ركعتي الفجر[2].

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعًا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1][3].

وروى أحمد أيضًا: عن ابن عمر قال: رمقت النبي ﷺ أربعًا وعشرين مرة، أو خمسًا وعشرين مرة، يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[4].

وروى أحمد عن ابن عمر قال: رمقت النبي ﷺ شهرًا، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، وأخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي إسحاق به، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"[5].

وقد تقدم في الحديث: أنها تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن[6].

سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ هذه من السور التي اختلفوا فيها هل هي مكية أو مدنية.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إنها مكية، وحكى عليه الاتفاق، كذلك حكى هذا الاتفاق ابن عطية، وقال به جماعة من السلف كابن مسعود، وهو رواية عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة.

ولكن هناك من قال: إنها مدنية، وهو أحد الروايتين عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وبه قال قتادة والضحاك وابن الزبير.

هذه السورة تُذكر لها أسماء غير هذا الاسم المشهور: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فيقال لها اختصارًا: "سورة الكافرون".

ويقال أيضاً: سورة الإخلاص؛ لأنها مع سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تمثلان الإخلاص للمعبود، كما سيتضح من الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة.

وهكذا سماها بعضهم بـ"سورة العبادة".

وأيضاً سميت بـ"سورة الدين".

وتسمى مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بـ"المُقشقِشتيْن" بمعنى أنهما تبرئان من الشرك وأوضاره، تقشقشان من الشرك، تبرئان منه، كما يقال لسورة براءة أيضاً: "المُقشقِشة" هذا يذكر في أسمائها المتعددة.

وهذه السورة تتحدث عن موضوع واحد، وهو التوحيد العملي الإرادي، وسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تتحدث عن التوحيد القولي.

التوحيد القصدي الإرادي العملي: لَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:2] لذلك سميت بسورة العبادة، وسورة الإخلاص، فالإخلاص يكون من العبد لخالقه .

وأما سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فهي في صفة المعبود -تبارك وتعالى، فهذا من التوحيد القولي، ولهذا كان النبي ﷺ يقرأ بهاتين السورتين في هذه المواضع المذكورة، فالأولى في توحيد العبادة: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فهي تيئيس للمشركين من عبادة معبوداتهم في جميع الأوقات، في الحاضر والمستقبل، كما سيأتي في الكلام على تفسير الآيات.

فيما يتعلق هنا بهذه الرواية الأخيرة يقول: "روى أحمد..." كون النبي ﷺ كان يقرؤها كثيرًا كل ذلك ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام، لكن الأخيرة يقول: وقد تقدم في الحديث: أنها تعدل ربع القرآن[7] هذا فيه ضعف، وبعض أهل العلم حسنه، الشيخ الألباني قال: "حسن لغيره"، لكن دون ما ورد في الزلزلة، كون الزلزلة تعدل ربع القرآن، وفي بعض الروايات: نصف القرآن هذا لا يصح.

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ۝ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:1-6].

هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكنّ المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش.

وقيل: إنهم من جهلهم دعوا رسول الله ﷺ إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله ﷺ فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية.

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ السور المفتتحة بالأمر للنبي ﷺ أن يقول: قُلْ خمس سور، ثلاث منها هي أمر له -عليه الصلاة والسلام- بالتبليغ، يعني قل لهم كذا، كقوله -تبارك وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1] وهكذا أيضاً هذه السورة، وكذلك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فهذه ثلاث النبي ﷺ مأمور بأن يبلغ ذلك، وأن يقوله.

والرابعة والخامسة هما المعوذتان، فذلك فيما يقوله هو -عليه الصلاة والسلام، لتعويذ نفسه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ يشمل كل كافر على وجه الأرض، باعتبار أن "الألف واللام" للجنس: الْكَافِرُونَ فيشمل كل كافر.

لكن ابن كثير -رحمه الله- هنا كغيره من المفسرين يقول: ولكنّ المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش، بأي اعتبار؟

يمكن أن يكون ذلك باعتبارين:

الاعتبار الأول: المرويات الواردة في سبب النزول، وهذه المرويات لو ثبتت لكان لهذا مستند.

والأمر الثاني: أن هذا أمر من الله لنبيه ﷺ أن يقوله، فإذا قيل: هذه السورة نازلة بمكة، فإن الخطاب يتوجه فيها أول ما يتوجه إلى كفار قريش، يعني كأنهم نظروا إلى هذين الاعتبارين، فيكون هذا بالإضافة إلى إشكال يورده العلماء عادة في هذا الموضع، وهو من جهة المعنى أيضاً، حيث إن الله أمره أن يقول: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني على تفسيرها بأن ذلك في الماضي والمستقبل أيًّا كان الموضع الذي يراد به الماضي أو المستقبل، سواء الأول أو الثاني، على خلاف، كما سيأتي، فهنا لاسيما مع التعبير بالجملة الاسمية: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني أنتم ملازمون لشرككم، لن تتحولوا عنه بحال من الأحوال، لا في الحاضر ولا في المستقبل.

ومعلوم أن بعضهم قد أسلم، فكيف كان ذلك الخطاب بهذا العموم لهؤلاء المشركين، مع أن بعضهم دخل في الإسلام؟

فمِن هنا خصه بعض أهل العلم بفئة، ولم يحمله على العموم، تنوعت عباراتهم، واختلفت في ذلك، يعني بعضهم يقول: لما كانت هذه الآية خطابًا لمن سبق في علم الله -تبارك وتعالى- أنه لا يؤمن، قال: "ومن هنا يمكن أن يقال: إنها من قبيل العام المراد به الخصوص".

اللفظ عام، القالب عام، ولكن يراد به فئة من الكافرين التي قضى الله أن تبقى على الكفر، وتموت عليه: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وعلى هذا مشى ابن جرير -رحمه الله- خروجًا من هذا الإشكال.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- لم ينحُ هذا المنحى في تفسيرها، وضعف هذا القول، مع أن هذا القول له وجه، يعني هو ليس بقول ساقط لا وجه له، أو أنه في غاية الوهاء والضعف، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ هذا بحسب المعنى الذي سيذكر بعده، فإذا فهم منه التأبيد -كما سيأتي- على بعض الأقوال: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني أنكم ستبقون على شرككم وكفركم، إذًا هذا لا يصدق على جميع الكفار بهذا الاعتبار.

لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن هذه الآية في هذا الخطاب "أل" للجنس، وأنه خطاب لعموم المشركين في كل زمان ومكان، وأن ذلك لا يختص بزمن النبي ﷺ أو بقريش وإنما هو عام، وأن من أسلم من هؤلاء خرج من هذا الوصف.

وهذا يتضح في الكلام على التفاصيل المتعلقة بالآيات، فإن هذا يمكن أن يتجه على بعض الأقوال.

"ولكنّ المواجَهين" إذا قرأتها هكذا "ولكنّ"، وإذا قلت: "ولكنْ" فإنها لا تكون عاملة، فيصح هنا: "ولكن المواجهون" ولهذا هنا عندنا مكسورة لالتقاء الساكنين، وإلا فهي ساكنة في الأصل: "ولكنِ المواجهون" فـ"لكنْ" هنا لا تعمل، وإذا قرأتها "لكنّ" فهنا تكون عاملة، تنصب المبتدأ وترفع الخبر.

فقال: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يعني من الأصنام والأنداد وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وهو الله وحده لا شريك له، فـ "ما" هاهنا بمعنى "مَن".

هذه المواضع تحتاج إلى مناقشة: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ما المراد؟ ما المعنى؟ وما موقع "ما" هنا؟

يقول: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يعني من الأصنام والأنداد، هم يعبدون الملائكة، أليس كذلك؟ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وعلى قول شيخ الإسلام أن ذلك لعموم المشركين في أي زمان ومكان، هناك من يعبدون المسيح  -عليه الصلاة والسلام، وهناك من يعبدون عزيرًا، هناك من يعبدون الجن، فهنا قال: الأصنام والأنداد بأي اعتبار؟

باعتبار أن "ما" هذه لغير العاقل، أن قريشًا كانوا يعبدون الأصنام في الجملة، ولكن يأتي مناقشة هذا: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وهو الله وحده لا شريك له، هنا يرد سؤال: هناك  تُحمل على الأصنام، غير العاقل مثلاً، وسيأتي الكلام على هذا، لكن: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وهو الله -تبارك وتعالى- فكيف عبر بـ"ما"؟

باعتبار أنها موصولة، وهذا أحد الأقوال، لكن هنا ابن كثير يقول: فـ"ما" هاهنا بمعنى "مَن" وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ "ما" بمعنى "من" وكما هو معلوم أن "مَن" هي التي تستعمل لمن يوصف بالعلم، أو العقل، لكن هنا يعبر بالعلم باعتبار أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، فالله موصوف بالعلم، فـ "مَن" لمن يعلم، و "ما" لمن لا يعلم، هذا الأصل.

وأحسن ما يذكر في الجواب عن هذا -والله أعلم- هنا في هذا المقام: أنه إن أريد صفة من يعلم -من يوصف بالعلم- فإنه يعبر بـ"ما" وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فهم يعبدون الله -تبارك وتعالى- بزعمهم، ويعبدون غيره، ولكن الله الذي يعبدونه بشركهم ليس هو الذي يعبده النبي ﷺ بأوصافه الكاملة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1-4] فهؤلاء يدعون أن الملائكة بنات الله، ويجعلون له الأنداد والشركاء، وهنا يقول: الله الذي تعبدونه ليس هو الذي  أعبده، فجاءت "ما" في هذا الموضع: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مراعى فيه صفة المعبود، وأما إذا أريد الذات فإنه تأتي "مَن"؛ لأنها تكون لمن يوصف بالعلم، هذا ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله، وذكره أيضاً ابن القيم.

ثم قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي: ولا أعبد عبادتكم، أي: لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، ولهذا قال: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم، كما قال: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [سورة النجم:23].

فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لابد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول ﷺ وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كان كلمة الإسلام: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" أي: لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول ﷺ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله، ولهذا قال لهم الرسول ﷺ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

هنا قوله -تبارك وتعالى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ۝ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ هذه أربع جمل، هذه الجمل الأربع هل فيها تكرار أو لا يوجد فيها تكرار؟

من أهل العلم من يطلق بأنه لا يوجد تكرار في القرآن.

وبعضهم يقيد، مثل شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: لا يوجد جملتان متتابعتان مكررتان في القرآن، ولكنه قد يكون التكرار بعد فاصل.

فالحاصل أن الذين يطلقون، يقولون: لا يوجد تكرار، يحملون كل جملة على معنى آخر، وكما سبق في بعض المناسبات، مثل قوله في سورة المرسلات: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:15] أن هذا كل جملة تتعلق بما قبلها، وكذلك أيضاً في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13] كل جملة تتعلق بالمذكور قبلها، فلا يكون ذلك من قبيل التكرار.

وهنا على قول عامة أهل العلم، الجماهير من السلف والخلف وإن اختلفوا في التفاصيل، فهم يقولون: هنا لا يوجد تكرار، بمعنى أن قوله: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ له محمل ومعنى، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ له محمل ومعنى، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْيقولون: هذه غير الأولى، هذه تدل على معنى آخر، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ هذه أيضاً غير الأخرى، فلها محمل آخر، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك.

مع أن هناك من يقول: إن ذلك كرر للتوكيد، لتيئيسهم من تحول النبي ﷺ إلى عبادة غير الله ، أن يعبد آلهتهم، فهو يؤيسهم من ذلك، فكرره بهذا الاعتبار.

لكن لو أردنا أن نستعرض الآن بعض ما قيل في معنى الجملتين الأُوليين، مع الجملتين الأخيرتين، فما محمل ذلك؟

بعضهم يقول: إن الأوليين يعني قوله -تبارك وتعالى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ هذا في المستقبل: لَا أَعْبُدُ في المستقبل مَا تَعْبُدُونَ وإن "لا" هذه مثل "لن" لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وقالوا: إنه في الغالب "لا" هذه لا تدخل إلا على المضارع، "لا" النافية التي في معنى الاستقبال: لَا أَعْبُدُ أي: في المستقبل، لا أذهب معك يعني في المستقبل، يقولون: كما أن "ما" تدخل على المضارع الذي في معنى الحال، هكذا قالوا.

وهذا ليس محل اتفاق؛ لأن هذه الاختلافات واقعة بين أئمة اللغة، وأصحاب معاني القرآن.

وكذلك أيضاً لو نزلنا الأقوال على هذا أقوال السلف، وهم أهل لغة، فإنهم يفهمون المراد من مثل هذا، ومع ذلك حمله بعضهم على الماضي، وحمله بعضهم على المستقبل، هؤلاء يقولون: إن قوله: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أعبد يعني في المستقبل، وإن قوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ يعني في الماضي، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني كذلك، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في المستقبل، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ في الماضي وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في الماضي.

ويدخل فيه الحاضر ضمنًا على هذا، لكن يأتي من صرح بأن ذلك في الحاضر، لكن هذا قول هؤلاء أصحاب القول الأول، شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن الجملتين الأوليين أنهما للمستقبل، وأن الأخيرتين في الزمن الماضي.

وبعض أهل العلم يقول بعكس هذا، عكس القول الأول، يقول: إن الجملتين الأوليين للحاضر: لَا أَعْبُدُ الآن مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ الآن، وَلَا أَنَا في المستقبل عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ في المستقبل عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لن تتحولوا إلى عبادة إلهي، ولن أتحول إلى عبادة آلهتكم، فالحال مفترق، ولهذا قال: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

وهؤلاء الذين قالوا بهذا القول قالوا: إن قوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ مثل هذا يدل على الاستقبال، تقول: أنا ذاهب إلى الرياض، يعني سأذهب، تقول: أنا ضارب زيداً، يعني تقصد في المستقبل، وهكذا، ولهذا قال مثل الفراء والأخفش: إن معناه: لَا أَعْبُدُ الساعة مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ الساعة مَا أَعْبُدُ، أن الجملتين الأوليين للحاضر، وَلَا أَنَا عَابِدٌ في المستقبل: مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ في المستقبل: مَا أَعْبُدُ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، ابن جرير يقول بعكس ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله الجميع.

ابن جرير يقول: "الأوليين للحاضر، والأخيرتين للمستقبل".

الزجاج يقول: نفى النبي ﷺ بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال، وفيما يستقبل، ونفى عنهم أيضاً كذلك، الزجاج يقول بهذا أيضاً الذي اختاره ابن جرير.

وبعض أهل العلم يقول: كل واحدة من هذه الجمل -يعني الأوليين أو الأخيرتين- كل ذلك يصلح للحال والمستقبل، ويقولون: لكننا نخص إحداهما بالحال والثانية للاستقبال، أو العكس، رفعًا للتكرار، يعني سواء قلنا بأن الأوليين للمستقبل: لَا أَعْبُدُ في المستقبل أو أن هذا في الحال، وأن الأخيرتين في المستقبل، وهذا كله صحيح في اللغة، والآية تحتمله، و التأسيس مقدم على التوكيد، يعني كونك تؤسس معنى جديداً أولى من أن تقول: هذا هو نفس المعنى السابق، وإنما كرر للتوكيد فقط، فإذًا على قول هؤلاء: تُفسَّر الجملتان الأوليان بما يقابل ما تُفسَّر به الأخيرتان، إذا فسرتَ الأوليين للحال، فسر الأخيرتين للاستقبال، وإذا عكستَ فاعكس، يعني هم رأوا أن اللفظ قابل لهذا في جميع هذه الجمل، ولا إشكال عند هؤلاء، مع أن بعض أهل العلم من لا يذهب إلى شيء من ذلك، ويقول: هذا فيه تكلف، وشيء من التعسف في حمل هذه الآيات وتفسيرها، ويذكرون لهذا تعليلات وردودًا ومناقشات لا حاجة للتطويل بذكرها هنا.

إذًا ماذا يقال فيها؟

يقولون: هذا جرى على طريقة العرب، أنهم يكررون الكلام للتوكيد، يقولون: يكرر الكلام، كرره هنا توكيدًا لهذا المعنى، وتيئيسًا لهم من عبادة معبوداتهم.

والذي عليه أهل العلم هو التفريق بين الجملتين الأوليين والأخيرتين، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام في هذا، سيأتي ذكره بعد نهاية تفسير السورة.

كما قال تعالى: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس:44]، وقال: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة الشورى:15].

وقال البخاري: يقال: لَكُمْ دِينُكُمْ الكفر وَلِيَ دِينِ الإسلام، ولم يقل: ديني؛ لأن الآيات بالنون فحذف الياء، كما قال: فَهُوَ يَهْدِينِ [سورة الشعراء:78]، ويَشْفِينِ [سورة الشعراء:80].

مراعاةً لفواصل الآيات لتتحد: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ يعني أنتم لكم ملة ودين، وأنا لي ملة ودين، ونحن على خلاف وافتراق، لا يمكن أن نلتئم، وأن نجتمع بحال من الأحوال، فهذا معنى الدين، الدين بمعنى: الملة هنا، وإن كان يأتي لمعانٍ أخر، لكنه لا يفسر بها هذا الموضع من كتاب الله، وإن قال طائفة من أهل العلم: إن المقصود بالدين هنا الجزاء، لكم جزاء على أعمالكم وكفركم وعبادتكم لغير الله -عز وجل، ولي جزاء آخر على الإيمان والتوحيد، لكم جزاؤكم ولي جزائي، لكم حسابكم ولي حسابي.

والذي عليه عامة أهل العلم هو تفسير الدين بالملة، أنتم على دين وأنا على دين، لا يمكن أن نلتقى، ولا يمكن أن نجتمع.

وهذه السورة أصل في إبطال التقريب، أو الدعوة إلى التقريب بين الأديان، أصل في هذا الباب، لن تتحولوا إلى ديني ولن أتحول إلى دينكم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فنحن مفترقون لا يمكن أن نلتقي، ولا يمكن أن نجتمع بحال من الأحوال؛ لأن الحال على ما وصف، وكما قيل: من خالف عقده عقدك -يعني خالف اعتقاده اعتقادك- خالف قلبه قلبك، ولابدّ، والناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، تقودهم وتأسرهم، وينطلقون بناء على هذه المعتقدات حبًّا وبغضًا، تقريبًا وإبعادًا، موالاة ومعاداة، إلى غير ذلك من التصرفات الواقعية العملية الخارجية، كل هذا بناء على هذه المعتقدات، فلا يمكن أن يتحول ذلك إلى لون من الموادّة، إلا بالتخلي عن هذه العقائد، وهذا أمر غير ممكن، الناس تأسرهم عقائدهم، وانظر إلى كثرة ما يبذل من جهود في هذا السبيل، وإذا حدث أمر كشّر هؤلاء عن أنيابهم، وظهرت الحقائق على ما هي عليه.

انظر إلى البوذيين على سبيل المثال الآن ماذا يفعلون في بورما في المسلمين، يحرقونهم حرقًا بقراهم، وهم أحياء، لا يفرقون بين طفل ولا امرأة، وهؤلاء لا يحملون سلاحًا، ولا يقاتلون، وهم أضعف من ذلك، هم في وضعهم الحالي الآن أضعف من أن يفكروا مجرد تفكير في هذا، ما يسمى  بالمنظمات الإنسانية، هذه تحارَب غاية المحاربة، ولا يمكن أن تعمل إلا بصورة سرية على بذلٍ في غاية الضعف، في هذه المخيمات البائسة، منتهى البؤس، تجتمع خلائق في خيمة واحدة، من أسر مختلفة، هؤلاء من الوثنيين الذين يعملون هذه الأفاعيل، والأعمال الشنيعة، ويقودون تلك الجموع البائسة من الوثنيين يحرقون المسلمين حرقًا، في وقت دعاوى حقوق الإنسان تملأ الفضاء، فبماذا يفسر هذا؟

يفسر أن العقائد هذه تقود أصحابها، ولا يمكن أن يُطمس هذا بدوري كرة قدم، أو غير ذلك، يتبادل فيه الناس الابتسامات والضحكات والمجاملات، وما إلى ذلك، ويصورون مع بعضهم، أو نحو هذا، إذا جاء الجد كشر كل واحد عن أنيابه، الرافضة مهما أنفقتَ، ومهما أعطيت، ومهما بذلت، ومهما حاولت، ومهما قربت، ومهما جلست على طاولة مستديرة أو مستطيلة، ففي النهاية إذا جاء الجد ربط كل واحد عصابته، وبدأ لا أقول بالرصاص، بدأ بالسواطير، والعراق أكبر شاهد، يفعلون الأفاعيل، يجمعون الناس في ميدان عام، يصبون عليهم البنزين، ويشعلون بهم النار، ويتضاحكون، خبّاز لأن اسمه "عمر" فقط، رجل كبير في السن يدخل في النار، ويخرج مشويًّا؛ لأن اسمه "عمر".

وفي سوريا أشياء هائلة، نرى المقاطع، الطعن والضرب بالطابوق على الرأس، حقد ليس له نظير، تتقاصر دونه أفعال اليهود والنصارى، اليهود ما يفعلون هذا، غزة ضربت، لكن ما فعلوا مثل ما فعل بشار، وإذا أراد اليهود أن يقصفوا بيتًا، أو نحو هذا، قبل عشرين دقيقة يأتي اتصال لأهل هذا البيت، يقولون لهم: الآن سيضرب هذا البيت، بعد عشرين دقيقة، اطلعوا، وتأتي طائرة وتوزع منشورات في المحيط قبل مدة كافية، قبل يوم أو يومين، ويقولون: هذا البيت سيضرب، ابتعدوا عنه، هذا فعل اليهود، أما هؤلاء الرافضة، أو أولئك من الوثنيين من البوذيين الذين يقودهم هؤلاء الرهبان بالآلاف فإنهم يحاصرون القرية، ويحرقونها كاملة حرقًا، والرافضة كما رأينا في الصور والمشاهد يأخذون النساء والأطفال، يرمونهم على المزابل بعدما يذبحونهم ذبحًا بالسكاكين، بلا رحمة، يرمون الطفل، ولا كأنه سخلة، يلقيه في المزبلة، وأحيانًا يحرقونهم بعد ذبحهم.

هذه العقائد التي تحمل أصحابها على ذلك، فمهما بُذل في تخفيف، أو إزالة مثل هذه الأمور الكامنة في النفوس فإن ذلك لا يمكن أن يتأتى، وهذه السورة قررت هذا الأصل الكبير، لن تتحولوا إلى ديني، ولن أتحول إلى دينكم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ تيئيساً لهم، انتهى، أنا أعبد الله، وأنتم تعبدون الشيطان، أنا من أولياء الله، وأنتم من أولياء إبليس، لا التقاء.

ما السبيل؟

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ [سورة الأنفال:60] هؤلاء لا يعرفون إلا منطق القوة، عندك قوة ستحترم، وتقدر، ما عندك قوة سيتضاحكون عليك، ويفتلون شواربهم، وكل واحد يغمز للآخر، فتارة تجد نفسك في ملعب هذا، وتارة تجد نفسك في ملعب الثاني، وتضيع قضاياك في محافلهم الدولية، ويمضي عليها عشرات السنين، وفي كل مرة تقدم مزيدًا من التنازلات، ومزيدًا من الترجي والاستجداء لهم، وهم يتضاحكون، وإذا جاء الواحد منهم وشد نفسه أمام الإعلام، وبدأ يتكلم ويصرح تصريحات، ترى ملامح الكذب جميعًا على تقاطيع وجهه، أنه كذاب، حينما يتحدث عن قضية من قضايا المسلمين، وأنه سيفعل كذا، أو لن يقبل بكذا، والمسلمون يترجون وينتظرون ويأملون ويحاولون أن يحصلوا على مجرد تصريح إدانة، أو شجب، أو إنكار، أو تنديد لجريمة من هذه الجرائم العظام، ومن كان يتصور في هذا العصر- عصر الصورة والنقل المباشر- أن يجري ما يجري الآن في سوريا، أو في بورما؟ من كان يتصور؟

الناس قد يظنون ويتوهمون قبل ذلك أنه لا، الآن عصر الإعلام، والإعلام سلاح ضارب، وأن هذه الصور التي تنقل مباشرة لا يمكن حصول هذه التجاوزات معها، وأن العالم الحر لا يمكن أن يقبل هذا، وأنا لا تقل شفقتي ورحمتي إذا رأيت هؤلاء من إخواننا الذين يقتلون هذه القتلات البشعة، لا تقل شفقتي بهؤلاء الذين ينقلون صورًا وهم معذورون، هذا الذي بيدهم، ينقلون صور أطفال، هذا طفل على مزبلة، هذا طفل نائم على الرصيف، لعل ضمير العالم الحر يتحرك، هذا عالم ميت، فهو لا يتحرك في قضايا المسلمين صوِّرْ أطفال أو لا تصور، فلا تتعب نفسك، وتنشر هذه الصور عل أحدًا منهم يتعاطف إذا رأى الأطفال في هذه الصورة البائسة، ودماء هؤلاء الصغار تنزف، والواحد منهم ملقى هنا أو هناك، أو يأكل من المزابل، أو نحو ذلك، هذا عالم قد مات ضميره، ولا يمكن أن يرتجى من هؤلاء الكفار الذين هم على دين ونحن على دين أن يقفوا معك، وأن ينصروك؛ لأنهم أعداء، هم فعلوا مثل هذا أيضاً في مواقف ومواطن، ومواقع أخرى، ماذا فعلوا؟

هذه الأمة في كل لحظة ينتاشها عدو من هنا وهناك، تارة وثني، وتارة ملحد، وتارة من السيخ، وتارة من الهندوس، وتارة من اليهود، وتارة من النصارى، وتارة من الرافضة، فإذا نظرت إلى جرائم الرافضة قلت: هؤلاء أشد الأعداء، وإذا سلطت الضوء على جرائم النصارى، وما فعلوا بالمسلمين في مواقع، قلت: هؤلاء أشد الأعداء، وإذا سلطت الضوء على اليهود، وماذا فعلوا، قلت: هؤلاء أشد الأعداء، وإذا نظرت إلى فعل الملاحدة والروس، وما فعلوا بالمسلمين قلت: هؤلاء أشد الأعداء.

"استالين" ماذا فعل؟

أكثَرَ القتلى من المسلمين، كم قُتل؟ من المسلمين أكثر من أربعين مليونًا، هذه أرقام، وقتل من المسلمين ومن غير المسلمين، من المسلمين لا يقل عن أربعين مليونًا، الذين قُتلوا، صور قديمة رأينا بعضًا منها، تحملهم الجرافات، الجثث مثل الجبال، وهكذا إذا نظرت إلى جرائم كل طائفة من هذه الطوائف من الأعداء، قلت: هؤلاء أعدى الأعداء، والنتيجة من هذه الصورة جميعًا إذا ركّبتها صار الأمر جليًّا أن هؤلاء جميعًا هم أعداؤك، فلا تنتظر منهم نصراً، ولكن العجيب أن الكثير من أبناء المسلمين لا زالوا في سكرة في الشهوات، وفي غمرة في الإعجاب بهؤلاء، وفي تقليدهم، والتزيي بأزيائهم، ومحاكاتهم، والإعجاب بأذواقهم، هذا كيف يكون مع ما يشاهد من فعلهم بالمسلمين؟! نسأل الله العافية.

ولعلي أذكر جملاً من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في تفسير هذه الآية وكلامه طويل جدًّا، لكن سأقتصر على بعض الجمل، هنا عبارة ابن كثير -رحمه الله- نقلها في قوله: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يقول: "إن المراد نفي الفعل؛ لأنها جملة فعلية: لَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ نفي قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ فكأنه نفى الفعلَ وكونَه قابلاً لذلك، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً" وابن كثير يقول: "هذا قول حسن".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "فقوله: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له، وإن دعوه وصلّوا له"[8].

تأمل لما جاء هنا الكلام على "ما" والوصف.

ويقول: "وأيضًا فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص، بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به، بما له من الأسماء والصفات، فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه"[9].

يعني أن هذا مراعى فيه الصفة: وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ.

ويقول: "إذا تبين هذا فنقول: الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم، سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل" -يعني: أَعْبُدُ هذا مضارع يشمل الحاضر والمستقبل- "كما قال سيبويه: "وبنوْه لما مضى من الزمان ولما هو دائم لم ينقطع ولما لم يأتِ بمعنى الماضي والمضارع وفعل الأمر".

"فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل، فقوله: لَا أَعْبُدُ يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل، وقوله: مَا تَعْبُدُونَ يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل، كلاهما مضارع.

وقال في الجملة الثانية عن نفسه: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ فلم يقل: "لا أعبد" بل قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ ولم يقل: "ما تعبدون" بل قال: مَّا عَبَدتُّمْ فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأولى، والنفي بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالأولى، فإنه قال: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ بصيغة الماضي، فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتى، وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر، كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى".

ويقول -رحمه الله: "فقوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة الماضية، كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال.

فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماضٍ وحاضر ومستقبل. وقوله أولا: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لا يتناول هذا كله".

وتكلم على قوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ يقول: "هذا اسم فاعل قد عمل عمل الفعل، ليس مضافًا، فهو يتناول الحال والاستقبال أيضًا، لكنه جملة اسمية، والنفي بـ"ما" بعد الفعل فيه زيادة معنى، كما تقول: ما أفعل هذا، وما أنا بفاعله" يقول: "أبلغ من قولك: "ما يفعله أبدًا" فإنه نفى عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك: "ما يفعل هذا" فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه، ولا يدل على أنه لا يصلح له، ولا ينبغي له، بخلاف قوله: "ما هو فاعلا، وما هو بفاعل"[10].

يعني: وَلَا أَنَا عَابِدٌ هذا يدل على نفي الإمكان أصلاً، وله كلام كثير في هذا المعنى، يمكن مراجعته، يقول مثلا في قوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ "أي نفسي لا تقبل، ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط، ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط، فأي معبود عبدتموه في وقت فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات".

تأمل يعني الجملتين الأوليين عنده في المستقبل، والأخيرتين في الماضي.

ويقول: "ففي هذا -أي في الجمل الأربع- من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه، وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان ما ليس في الجملة الأولى، تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي، وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودًا لهم، ولو في بعض الزمان الماضي فقط، والتقدير: ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا"[11]، إلى آخر ما ذكر.

ومما قال أيضًا في الكلام على "ما" و"من" يقول هنا: فـ"ما" هي لما لا يعلم، يعني يقولون لغير العاقل، ولصفات من يعلم، ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:3] أي: الذي طاب، والطيب من النساء، فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب وقصد هذه الصفة، دون مجرد العين عبر بـ"ما" -العين يعني الذات- أي: لم يقصد الذات فقط، ولو عبر بـ"مَن" كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة كما إذا قلت: جاءني من يعرف، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك، فالمقصود الإخبار عن عينه والصلة للتعريف، وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت"[12]، إلى آخر ما ذكر.

والقول بأن ذلك قد نسخ، يعني قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ باعتبار أن هذا دل على المتاركة، مع أنه أمر بمجاهدتهم في آخر الأمر، هذا غير صحيح، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لكنه هنا هذا مقام البراءة من دين المشركين، ومن معبوداتهم، وليس الكلام في ما يتصل بجهادهم وقتالهم.

وفي كلام لابن القيم تفاصيل جيدة، بعدما ذكر الأقوال وناقشها واحداً واحدًا، كلام فيه تفاصيل، وفيه شيء من الطول، لكن نقرؤه قراءة خفيفة، قراءة سريعة، نترك الأقوال ومناقشة الأقوال، ونأتي للمعاني التي قررها والفوائد التي استخرجها، ذكر ما يقرب من إحدى عشرة مسألة وفائدة من هذه السورة، فوائد جميلة، وسؤالات ترد، ثم بعد ذلك بين وجه الجواب عنها.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية: تكرير الأفعال في هذه السورة، ثم فائدة ثالثة: كونه كرر الفعل في حق نفسه"، -تأمل هنا يورد المسائل أو الفوائد والقضايا التي سيتحدث عنها لماذا كذا؟ لماذا كذا؟ بعدما ناقش الأقوال، "كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين، وأتى في حقهم بالماضي، ثم فائدة رابعة: وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم عنه بلفظ الفعل المستقبل وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل، ثم فائدة خامسة: وهي كون إيراده النفي هنا بـ"لا" دون "لن"، ثم فائدة سادسة: وهي أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله" فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض؟ وما سر ذلك؟

وفائدة سابعة: وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم، ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟

وفائدة ثامنة: وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا والذين هادوا، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [سورة التحريم:7]، وقوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ [سورة الجمعة:6] ولم يجئ "يا أيها الكافرون" إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟

وفائدة تاسعة: وهي هل في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ معنى زائد على النفي المتقدم، فإنه يدل على اختصاص كلٍّ بدينه ومعبوده، وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟

وفائدة عاشرة: وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص، وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة، وفائدة حادية عشرة: وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار:

أحدهما: براءته من معبودهم، وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدًا.

الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم، فهل هذا متاركة وسكوت عنهم فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار، أم الآية باقية على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة؟

فهذه عشر مسائل في هذه السورة وقد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهي: وقوع "ما" فيها بدل "من" فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله ﷺ بريئان منه".

وكلام ابن القيم على "مَن" و "ما" مثل كلام شيخ الإسلام.

"وأما المسألة الثانية، وهي: فائدة تكرار الأفعال فقيل فيه وجوه: أحدها: أن قوله: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ نفي للحال والمستقبل.

وقوله: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مقابلة، أي: لا تفعلون ذلك.

وقوله: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ أي: لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي، فقال: مَا عَبَدْتُمْ فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم، وقوله: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مقابله، أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائماً، وعلى هذا فلا تكرار أصلاً، وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضياً وحالاً ومستقبلاً -وهذا قول شيخ الإسلام- عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأحضره وأبينه، وهذا -إن شاء الله- أحسن ما قيل فيها، فلنقتصر عليه ولا نتعداه غيره، فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها.

وأما المسألة الثالثة: وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم، ففي ذلك سر وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله له عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام لا يرضي به بدلا، ولا يبغي عنه حولا، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم"  

باعتبار أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت "عابد" لا يتحرك ولا يتزعزع، ولا يتغير ولا يبدل، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، أما هم: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فهؤلاء لهم معبودات مختلفة متفرقة، في كل حين لهم هوى يتبعونه.

قال: "فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبوداً وغدًا غيره، فقال: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يعني الآن وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أنا الآن أيضاً، ثم قال: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون، وأشبهت "ما" هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.

فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل ولا جواب لها وهي موصولة فما أبعد الشرط منها؟

قلنا: لم نقل إنها نفسها شرط، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه، لوقوعها على غير معين وإيهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط بادياً على صفحاته، فإذا قلت لرجلٍ ما تخالفه في كل ما يفعل: أنا لا أفعل ما تفعل، ألست ترى معنى الشرط قائماً في كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام: مهما فعلتَ من شيء فإني لا أفعله، وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [سورة مريم:29] كيف تجد معنى الشرطية فيه، حتى وقع الفعل بعد "مَن" بلفظ الماضي والمراد به المستقبل، وأن المعنى من كان في المهد صبيًّا كيف نكلمه؟

وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين: "أن كان نبيًّا"، بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إليه من بابه، بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل، وعزب فهم غيرهم عن هذا للطفه ودقته، فقالوا: "كان" زائدة، والوجه ما أخبرتك فخذه عفوًا، لك غنمه وعلى سواك غرمه، إلا على مَن في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره، فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ بخلاف قوله: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لبعد ما فيها عن معنى الشرط، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.

أما المسألة الرابعة: وهي أنه لم يأتِ النفي في حقهم إلا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى، فذلك -والله أعلم- لحكمة بديعة، وهي أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني، أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلاً لي، ولا وصفاً، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي، وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، أي: أن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتفٍ عنكم، فليس هذا الوصف ثابتاً لكم، وإنما ثبت لمن خص اللهَ وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحداً، وأنتم لما عبدتم غيره، فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله، ويعبد معه غيره.

كما قال أهل الكهف: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [سورة الكهف:16] أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3] فهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، فلم ينتفِ عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتاً على عبادة الله، موصوفاً بها.

فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد الله، وأنه عبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحداً في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابداً لله ولا عبداً له، وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن، وهذا لا يفهمه كل أحد ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فلله الحمد والمنة.

وأما المسألة الخامسة: وهي أن النفي في هذه السورة أتى بأداة "لا" دون "لن" فلما تقدم تحقيقه عن قرب، أن النفي بـ"لا" أبلغ منه بـ"لن"، وأنها أدل على دوام النفي وطوله من "لن" وأنها للطول والمد الذي في نفيها طال النفي بها واشتد، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن "لن" إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحالَ المستمرَّ النفيَ في الاستقبال، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق، فالإتيان بـ"لا" متعين هنا، والله أعلم.

وأما المسألة السادسة: وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها براءة من الشرك، فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، وهذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحاً، فقوله: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ براءة محضة وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ إثبات أن له معبوداً يعبده وحده، وأنتم بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء: إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [سورة الزخرف:26، 27] وطابقت قول الفئة الموحدة: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ [سورة الكهف:16] فانتظمت حقيقة "لا إله إلا الله".

ولهذا كان النبي ﷺ يقرنها بسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في سنة الفجر وسنة المغرب، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلاً وفرعاً ونظيراً، فهذا توحيد العلم والاعتقاد، والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نوعي التوحيد، وأخلصتا له، فكان ﷺ يفتتح بهما النهار في سنة الفجر، ويختم بهما في سنة المغرب، وفي السنن أنه كان يوتر بهما، فيكونان خاتمة عمل الليل، كما كانا خاتمة عمل النهار.

ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة، وهي: تقديم براءته من معبودهم ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده، فتأمله.

وأما المسألة الثامنة، وهي: إثباته هنا بلفظ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ دون: يا أيها الذين كفروا فسرُّه -والله أعلم- إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتاً له لازماً لا يفارقه فهو حقيق أن يتبرأ الله منه، ويكون هو أيضاً بريئاً من الله، فحقيق بالموحد البراءة منه، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازم لكم، ثابت لا تنتقلون عنه، فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة لي دائما أبداً، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار في مقابلة الكفر الثابت المستمر، وهذا واضح.

وأما المسألة التاسعة: وهي ما الفائدة في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وهل أفاد هذا معنى زائداً على ما تقدم؟ فيقال: في ذلك من الحكمة -والله أعلم- أن النفي الأول أفاد البراءة، وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضاً، فقال له: لا تدخل في حدي، ولا أدخل في حدك، لك أرضك ولي أرضي، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا، فأصابنا التوحيد والإيمان، فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به، لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم به، فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه، وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبى القلوب، وتأخذ بمجامعها، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزف إلى ضرير مقعد، فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها، ونسأله إتمام نعمته.

وأما المسألة العاشرة: وهي تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص بهم، فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها، فإن السورة لما اقتضت البراءة، واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضي كل بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وقد أبرز النصيبين، وميز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أردأ منه، ولا أدون، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف، والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسم، فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك ولي قسمي، فتقدُّم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم، وزعمت أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم، فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم به، والنداء على سوء اختياره، وقبح ما رضيه لنفسه من الحسن والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه، والحاكم في هذا هو الذوق، والفطن يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان.

ووجه ثانٍ وهو أن مقصود السورة براءته ﷺ من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبُّها ومغزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني، مكملاً لبراءته ومحققاً لها، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ مطابقًا لهذا المعنى، أي: لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه، بل هو دين باطل تختصون أنتم به ولا أشرككم فيه أبداً، فطابق آخر السورة أولها، فتأمل.

وأما المسألة الحادية عشرة: وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرون على دينهم، وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وعمومها نص محفوظ وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص، كما تقدم، ومنشأ الغلط ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ.

وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار، وهم من لا كتاب لهم، فقالوا: هذا مخصوص بأهل الكتاب، ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم، أو إقراراً على دينهم أبداً، فلم يزل رسول الله ﷺ من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكار عليهم، وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه، والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل نادٍ، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مضيًّا على الإنكار عليهم، وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة، كما تقدم، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبداً، فإنه دين باطل، فهو مختص بكم، لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدّعوا النسخ أو التخصيص؟

أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول ﷺ أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذه براءة منهم ومن بدعتهم، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.

فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة، والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها، من غير استعانة بتفسير ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه، بل هي استجلاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، ولبالغت في استحسانها، وعسى الله المانُّ بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسيرٍ على هذا النمط وهذا الأسلوب، وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس، والله المرجو إتمام نعمته"[13].

لو كتب تفسيرًا بهذه الطريقة لأغنى عن كتب التفسير -رحمه الله، هذا من غير كتاب ولا رجوع إلى مصادر، فكيف لو رجع إلى المصادر؟!.

فلا تستطيلوا هذا الكلام، فهذا لا يوجد في كتب التفسير، ولا قريبٌ منه.

  1. رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218).
  2. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما، رقم (726).
  3. رواه أحمد، رقم (4763)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  4. رواه أحمد، رقم (5741)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  5. رواه الترمذي، كتاب أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في تخفيف ركعتي الفجر والقراءة فيها، رقم (417)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب ما جاء فيما يقرأ في الركعتين قبل الفجر، رقم (1149)، وأحمد، رقم (5691)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  6. رواه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في إذا زلزلت، رقم (2895)، وأحمد، رقم (12488)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".
  7. المصدر السابق.
  8. مجموع الفتاوى (16/ 550).
  9. المصدر السابق.
  10. المصدر السابق ( 16/ 552، 553).
  11. المصدر السابق (16/ 554).
  12. المصدر السابق (16/ 596).  
  13. انظر: بدائع الفوائد (1/ 134-142).

مواد ذات صلة