الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} إلى قوله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} الآية:7.
تاريخ النشر: ٢٥ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 4159
مرات الإستماع: 3658

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ۝ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ۝ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ۝ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ۝ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [سورة الغاشية:1-7].

الغاشية: من أسماء يوم القيامة، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، لأنها تغشى الناس وتعمهم.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ يعني قد أتاك كما يقوله بعضهم كقطرب، وبعضهم يقول: هو على بابه، يعني للاستفهام، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ هنا الغاشية ما المراد بها؟

ذكر هنا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد أنها من أسماء القيامة؛ لأنها تغشى الناس وتعمهم، وهذا قول الأكثر من السلف فمن بعدهم، قول الجمهور، أنها اسم من أسماء القيامة، وقال بعض السلف كمحمد بن كعب القرظي وسعيد بن جبير: تغشى النارُ وجوهَ الكفار، يعني أن الغاشية هي النار تغشى وجوه الكفار، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وكما قال الله : وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [سورة إبراهيم:50] فجعلوا ذلك تفسيرًا للغاشية.

وبعضهم يقول: الغاشية هم أهل النار يغشونها هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ فهم يغشون النار وكأنهم أخذوا هذا والله أعلم مما بعده، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، فيكون ذلك من صفتهم، يكون الغاشية الناس الذين يغشون النار، فذكر وصفهم في وجوههم قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ.

والقول الأول: أنها اسم من أسماء القيامة هو الذي عليه الجمهور، والقول الآخر: أن المقصود بها النار قال به بعض السلف، وابن جرير -رحمه الله- ذكر القولين الأول والثاني، أنها اسم للقيامة، أو النار لكونها تغشى وجوه هؤلاء الكفار، وعمم المعنى، يعني قال: كل ذلك داخل في معناها، فالقيامة من أسمائها الغاشية؛ لأنها تغشى الناس، وكذلك النار تغشى وجوه الكفار، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ۝ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً.

الجمهور حينما قالوا: اسم من أسماء القيامة، قالوا: إن قوله: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً يدل على أنه لم يحصل ذلك لها بعد، فهم في القيامة يكونون في هذه الحال من الذل يعرضون على النار خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ]سورة الشورى:45] فهذه حالهم قبل دخول النار، قالوا: هذه قرينة في الآية نفسها تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً فتكون اسمًا من أسماء القيامة، وابن جرير يقول: والنار أيضاً تغشى وجوه هؤلاء فهي غاشية أيضاً.

وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ أي: ذليلة، قاله قتادة، وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها.

هذا بمعنى ما قبله أيضاً تخشع ولا ينفعها عملها، الخشوع في معنى التذلل والخضوع والانكسار إلا إن كان المراد بذلك معنى آخر، إنْ حُمل كلام ابن عباس على أن المقصود بذلك أنه في الدنيا، أي أن هذه صفة لهم في الدنيا، وسيأتي -إن شاء الله- أن هذه الأوصاف متى تكون.

وقوله تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ أي: قد عملت عملا كثيراً ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة ناراً حامية.

كلام ابن كثير هنا: عملت عملاً كثيرًا ونصبت فيه هذا متى؟ في الدنيا، وصليت يوم القيامة نارًا حامية.

روى الحافظ أبو بكر البرقاني عن أبي عمران الجوني يقول: مر عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- بدير راهب، قال: فناداه يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله في كتابه: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً فذاك الذي أبكاني[1].

وقال البخاري: قال ابن عباس -رضي الله عنهما: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ النصارى[2]، وعن عكرمة والسدي: "عاملة في الدنيا بالمعاصي، وناصبة في النار بالعذاب والأغلال".

الآن انظر هذه الأقوال للسلف -رضي الله عنهم- تتجه إلى معنيين:

  • المعنى الأول: أن هذه الأوصاف لهم في الدنيا.
  • والقول الآخر: أن ذلك في الآخرة.

فهنا في تفسير "خاشعة" قول ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها، يمكن أن يحمل على أن المراد بذلك أنه في الدنيا، يعني تجد هؤلاء من الرهبان والعبّاد ممن هم على غير الحق، ودين الإسلام لربما عندهم من الخشوع والخضوع ما يكون زادًا إلى النار، وكما قال بعض السلف: فما يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟ يعني هؤلاء قد يحصل لهم خشوع مع ضلالهم وكفرهم، وانظر إلى مزاولات الرافضة في معابدهم وما لهم من البكاء في ذلك لا ندري هل هم يتصنعونه أو هو حق، لكن لا يستعبد أن هذا البكاء يكون حقيقيًّا، لكن على ماذا؟ على ضلال.

هنا يقول: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ أي: عملت عملاً كثيرًا ونصبت فيه، هذا كلام ابن كثير على أن هذه الأوصاف في الدنيا، وما ذكره عن عمر لما رأى هذا الراهب وبكى إلى آخره هذا أيضًا حمله على أنه في الدنيا مع أن هذا الأثر فيه انقطاع، لا يثبت، يحتمل أن تكون هذه الأوصاف في الدنيا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ هذا وصفهم في الدنيا، كأن الذي حمل هؤلاء على هذا القول أن الآخرة ليس فيها عمل، وإنما هي دار جزاء، فقالوا: العمل في الدنيا، فهي تعمل "عاملة ناصبة".

لكن ما هو الذي تعمله؟ تعمل في عبادات غير مشروعة يتعبدون الله على غير دين الإسلام، على غير الحق، أو عاملة ناصبة في المعاصي ومحادة الله -تبارك وتعالى، فكأن هذا هو الذي حملهم على هذا القول، أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل، فكيف قال: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ؟

إذًا هذا في الدنيا، ولكن الذين قالوا: إن ذلك في الآخرة من قاله من السلف بينوا المراد، قتادة مثلاً يقول: أعملها الله وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في أرض المحشر.

لكن إذا قيل: إن قوله: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ هذا قبل دخول النار باعتبار أنه قال بعده: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً فهذا قبل دخول النار، فيمكن أن يحمل ذلك على ما يكون لهم في أرض المحشر، وجاء عن الحسن وسعيد بن جبير أن هؤلاء لم يعملوا وينصبوا في طاعة الله -تبارك وتعالى- فأعملهم وأنصبهم في نار جهنم.

والقول بأن ذلك في الآخرة، أن كل هذه الأوصاف وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ أن هذا في الآخرة هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله الجميع- يقولون: عاملة في النار ناصبة فيها.

ورد بعضُ العلماء الذين قالوا: إن ذلك في الآخرة، قالوا: نحن لا نسلم أن يقال أو أن يطلق القول بأن الآخرة ليس فيها عمل، بل الآخرة فيها عمل؛ فهم يدعون إلى السجود، وهذه المسألة يتكلم عليها الأصوليون في مسألة التكليف وهل يختص بالدنيا أو يكون شيء منه في الآخرة، وما يتعلق ببلوغ الخطاب -خطاب الشارع- للمكلفين، ومن لم يبلغه الخطاب فما حكمه، يسمونهم أهل الفترة.

فمن قال: إنهم يمتحنون في عرصات الآخرة، بعضهم يقول: الآخرة ليس فيها عمل، لكن ثبت النص بأنهم يمتحنون، فيقال: لا يقال بإطلاق: إن الآخرة ليست دار عمل، الدنيا نعم هي دار عمل واستثمار يترتب عليه الثواب والعقاب، أما الآخرة فقد يكون ذلك لإقامة وإظهار عدل الله كما يحصل لأهل الفترة، وقد يكون ذلك زيادة في العذاب أو التبكيت، أو يكون ذلك على سبيل الاستثناء، يعني مثلاً الأمر بالسجود فأهل الإيمان يسجدون، فهذا تكليف، والكفار لا يستطيعون السجود، أهل الإيمان يلهمون التسبيح في الجنة كما يلهمون النفس، فمثل هذه الأمور ثابتة، ولهذا لا يقال بإطلاق: إن الآخرة ليس فيها تكليف مطلق، يقال: نعم هي ليست دار تكليف وإنما هي دار جزاء، لكن ثبت في النصوص أن هناك أعمالا محددة وأمورًا معينة الناس يخاطبون بها.

وهنا هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ۝ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ "يومئذ" هنا ترجع إلى "الغاشية" فدل على أن هذا الوصف خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ أن هذا كله في الآخرة، وهذا الذي يحتج به ابن جرير وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على أن هذا وصف لهم في الآخرة وليس في الدنيا، ومن هنا لا يصح الاحتجاج بهذا على أعمال الكفار التي يريدون بها التقرب إلى الله مثلاً في الدنيا، أن يحتج بهذه الآية، أو أن تذكر الآية في هذا المقام فيقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً هذا وصفهم في الآخرة -والله تعالى أعلم.

قال: قول ابن عباس: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يعني: النصارى هذا من باب التمثيل وإلا فهو لا يختص بهم، لكن لما كان النصارى يظهر فيهم التعبد والرهبانية أكثر من اليهود ذكر النصارى، يعني الرهبان عند النصارى عندهم تعذيب الجسد، الإغراق في العبادة بوجه لا يكاد الإنسان يحتمله ويطيقه، هذا موجود عند النصارى، لربما بقي الواحد في بئر -كما يقولون- واقفًا في مدة تطول جدًّا حتى تصل إلى أكثر من أربعين سنة، يعذب نفسه بهذا، فأخبار النصارى أخبار الرهبان وما لهم من العجائب في ذلك ومن التقلل من الطعام إلى حد يعني البقاء على قيد الحياة فقط أشياء لا يكاد يصدقها الإنسان، لكن على ماذا؟ على ضلالة.

الكتب التي تذكر تاريخ هذه الديانات في الهند تقول: إن بوذا بقي لا يأكل إلا حبة واحدة من الرز في اليوم، هكذا يقولون، لكن هل يمكن أن يعيش الإنسان بهذه الطريقة؟ يمكن أن يعيش على الماء مدة، لكن حبة رز في اليوم؟ وما تغني عنه؟ لو كان نملة لربما -الله أعلم.

قال ابن عباس والحسن وقتادة: تصلى نارا حامية أي: حارة شديدة الحر، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: قد انتهى حرها وغليانها، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي.

هو هذا، "آنية" يعني شديدة قد بلغت من الحرارة والغليان الغاية، وما روي عن بعض السلف يمكن أن يرجع إلى هذا -والله أعلم.

وقوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: شجر من النار، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة: هو الشِّبْرِق، قال قتادة: قريش تسميه في الربيع الشِّبْرِق، وفي الصيف الضريع.

يعني إذا كان أخضر يقال له: الشِّبرِق، وإذا صار يابسًا يقال له: الضريع، شوك.

قال عكرمة: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض.

وقال البخاري: قال مجاهد: الضريع نبت يقال له الشِّبرِق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سُم.

وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله، يعني الآن هذه الأقوال كلها ترجع إلى أن هذا الضريع المقصود به شجر له شوك يابس قاسٍ شديد، وهذا الذي عليه الجمهور من المفسرين، وأهل اللغة، خلافًا لما جاء عن الخليل بن أحمد -رحمه الله- من أن ذلك نبات أخضر منتن يلقيه البحر، هذا خلاف قول عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم.

وقال معمر عن قتادة: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ هو الشِّبرِق إذا يبس سمي الضريع، وقال سعيد عن قتادة: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ من شر الطعام وأبشعه وأخبثه.

يعني الآن القول الذي ذكره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أولاً: شجر من النار، هنا مطلق، وكذلك هنا: من شر الطعام وأبشعه وأخبثه هذا أيضًا مطلق، ما بيْن ذلك هو تفسير له، تحديد أنه شجر له شوك يابس، لكن مهما يكن القرآن خاطبهم بما يعرفون بلغتهم، وهم يعرفون الضريع، ولكن شتان بين الضريع الذي يعرفون مما لا تطيقه البهائم، والضريع الذي يكون في النار، كما أن الله -تبارك وتعالى- ذكر النار، وشتان بين النار التي في الدنيا ونار جهنم.

قوله: لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ قال: يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور.

  1. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3925).  
  2. صحيح البخاري، (6/ 168)، معلقاً، كتاب تفسير القرآن، باب لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [سورة الانشقاق: 19].

مواد ذات صلة