السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ..} الآية:17 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 8289
مرات الإستماع: 18073

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين والمستمعين.

يقول الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ۝ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ۝ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ۝ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ۝ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ ۝ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ۝ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ۝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ۝ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ۝ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة القلم:17-33].

قال المفسر -رحمه الله: هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثُهُ محمدًا ﷺ إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة، ولهذا قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ أي: اختبرناهم كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ أي: حلفوا فيما بينهم ليجُذنّ ثمرها ليلا؛ لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم، ولا يتصدقوا منه بشيء وَلَا يَسْتَثْنُونَ أي: فيما حلفوا به، ولهذا حنّثهم الله في أيمانهم، فقال تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ أي: أصابتها آفة سماوية.

فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، قال ابن عباس: أي كالليل الأسود.

وقال الثوري، والسدي: مثل الزرع إذا حُصد، أي هشيمًا يبسًا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ.

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ أي: هؤلاء الذين بعث فيهم النبي ﷺ من كفار قريش.

وهذا الذي ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- به: الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة، يعني أنْ بعث فيهم نبيه ﷺ، وقابلوا ذلك بالتكذيب.

وبعض أهل العلم يقول: المراد بذلك ما وقع من دعاء النبي ﷺ عليهم، فجعلها الله -تبارك وتعالى- عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم الجهد والقحط والمشقة والمجاعة.

وهذا من توابع ذاك، ومن آثاره، يعني لما قابلوا بالتكذيب حصل لهم هذه العقوبة.

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ هنا ليس هناك حاجة لتحديد المبهم مَن هؤلاء؟ وأين وجدوا؟ أين توجد هذه الجنة؟

وإذا نظرت إلى الأقوال الواردة في ذلك كل هذا يرجع إلى ما تلقاه المفسرون عن بني إسرائيل، وهي أقوال متنافية، يعني من يقول: إنها في اليمن، ثم يختلفون في تحديد هذا الموضع من أرض اليمن، ومنهم من يبعد جدًّا، فيذكر نواحيَ أخرى غير اليمن، هذا لا فائدة فيه، وكما بينا مرارًا أن تتبع مثل هذه المبهمات هو قليل الفائدة، وأنه لو كان في ذلك مصلحة لذكرها الله -عز وجل، فلا يُشتغل بهذا، يقول: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ يقول: أي: حلفوا فيما بينهم ليجُذنّ ثمرها ليلا.

الصرم هو القطع، والمقصود به قطع الثمر، يعني جذ الثمر.

مُصْبِحِينَ قال: ليلاً، وهذا قد لا يخلو من إشكال؛ لأن قوله: مُصْبِحِينَ أي: داخلين في وقت الصباح، ولهذا قالوا: أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ والغدو هو الوقت الذي يكون في أول النهار قبل طلوع الشمس، فيذهبون إليها قبل انتشار الناس؛ لئلا يراهم أحد، فيجذونها وهم داخلون في وقت الصباح، يعني في الصباح الباكر.

يقول: وَلَا يَسْتَثْنُونَ الأخبار الواردة في هذا وهي من الأخبار الإسرائيلية وإن لم يصرح بذلك، يقولون: إن هذه الأرض، هذا الحرث، هذه المزرعة كانت لأبيهم، وكان أبوهم صالحًا، وكان يجعل جزءًا مما خرج من هذه الأرض للمساكين، فإذا جاء وقت الحصاد والجذاذ جعل هذا للمساكين خاصة، فيأتون ويجدون ذلك موفرًا لهم، فهؤلاء قالوا: إن الناتج والحاصل من هذه الأرض قليل، والورثة كثير، فأرادوا أن يوفروا هذا الجزء لأنفسهم، وبصرف النظر: هل كان الأمر كما قيل أو لا لكن واضح أن هؤلاء أرادوا أن يمنعوا حق هؤلاء المساكين، ولا شك أنهم أرادوا بذلك أن يوفروا القدر الأكبر لأنفسهم، وأن يستأثروا بناتج الثمر الذي خرج من هذه الأرض، والله المستعان.

فهذا في مقاييس البشر المحضة قد يرون أنه من التوفير، وأن ذلك مما يكثرون به المال، ولكنه بالمقاييس الشرعية بخلاف ذلك، فالنبي ﷺ أخبر: أنه ما نقص مال عبد من صدقة[1].

فالمعايير في الشرع تختلف عن المعايير القاصرة عند البشر حينما تلوح الأطماع، فهذا الذي يُعطَى لهؤلاء المساكين يدفع الله -عز وجل- به من البلاء ما لا يقادر قدره، ويحصل فيه من البركة، وتكثير المال، والزرع والثمر، والعبرة إنما هي بالبركة، وليست بكثرة العدد من هذه الثمار، أو الأشجار، أو نحو ذلك، العبرة بالبركة، فكم من محصل لكثير ولكنه في النتيجة وفي النهاية لا يكاد يبقى في يده منه شيء، فهؤلاء أرادوا هذا، فحصل لهم خلاف مقصودهم.

إذًا على العبد أن يراعي حق الله، وأن يحفظ حدوده، وأن يعلم أن هذا هو الطريق دون ما سواه، يقول: وَلَا يَسْتَثْنُونَ أي: فيما حلفوا به، يعني ما قالوا: "إن شاء الله" بل هم واثقون من أنفسهم، يدفعهم هذا الطمع، فغلب على نفوسهم، فنسوا هذا الاستثناء، يقول: ولهذا حنّثهم الله في أيمانهم، هذا هو ظاهر الآية -والله تعالى أعلم: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني حينما أقسموا.

مع أن من أهل العلم من قال كعكرمة: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني ما للمساكين من جملة هذا الثمر، أو الزرع الذي يستحصد، يعني أنهم عزموا على أخذه كله، ولم يستثنوا، ولا يريدون أن يستثنوا من ذلك شيئًا للمحتاجين والفقراء والمساكين.

وَلَا يَسْتَثْنُونَ لا يستثنون منه شيئًا، هكذا جاء عن عكرمة.

والذي عليه عامة أهل العلم: أن المراد بذلك: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني في اليمين.

يقول: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ يقول: أي: أصابتها آفة سماوية، هذا الطائف الذي أصابها الظاهر أنه ليلاً؛ لأنهم لما غدوا عليها، فرأوها في هذه الحال: قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، وهنا قوله: وَهُمْ نَائِمُونَ يدل كل ذلك على أنه كان في الليل، ولهذا قال بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله: إن الطائف في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً، لا يقع إلا ليلاً.

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ما هذا الطائف الذي حل بها؟

هي آفة سماوية، نزل بها أمر الله، صاعقة، نزل بها عقوبة، فأصبحت بهذه المثابة، احترقت، وأَصبحَتْ كَالصَّرِيمِ يقول: قال ابن عباس: كالليل الأسود، وهذا قال به أيضًا من أصحاب المعاني الفراء.

يقول وقال الثوري والسدي: مثل الزرع إذا حصد، أي: هشيمًا يابسًا.

الهشيم اليابس يكون متغيرًا.

وهذا اللفظ "الصريم" بعضهم يقول: إنه الرماد الأسود فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وهذا قريب من قول من قال: هشيمًا مثل الزرع إذا حصد، أي: هشيمًا يابسًا، فبعض أهل العلم يقول: الرماد الأسود بلغة خزيمة يقال له: الصريم.

وبعض أصحاب المعاني كالأخفش يقول: كالصبح إذا انصرم من الليل.

تأمل ذاك يقول: الليل، وهذا يقول: كالصبح إذا انصرم من الليل، يعني صارت يابسة بيضاء بعد أن كانت غنَّاء شديدة الخضرة فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.

وظاهر من هذا -وهؤلاء أهل لغة: أن الصريم يأتي لمعنيين متضادين، فهو من الأضداد، الصريم يقال: الليل، سوداء كالليل، وكذلك أيضًا: النهار، بيضاء كالصبح، فالنهار والليل، كل ذلك يقال له: صريم، فهذا ينصرم عن هذا، وهذا ينصرم عن هذا، كما يقول الفراء.

وبعضهم يقول: قيل لليل صريم؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف والتنقل والاشتغال بطلب المعاش والرزق، فيقال له: صريم.

ويمكن الجمع بين هذين القولين المتقابلين: أنها أصبحت كالصريم، يعني سوداء محترقة، أو أنها بيضاء، والسواد والبياض ضدان، النسبة بينهما التضاد، والضدان هما ما لا يجتمعان في موضع واحد -في محل واحد- في وقت واحد، ويمكن ارتفاعهما، يعني قد لا تكون سوداء ولا بيضاء، ولكن حمراء مثلاً، لكن لا يمكن أن تكون سوداء بيضاء في نفس الوقت، في نفس الموضع، إما أسود، وإما أبيض، هذان الضدان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما، يقال: لا أسود ولا أبيض، بخلاف النقيضين، فإنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثل الليل والنهار، والحياة والموت، لا يمكن أن تقول: لا ليل ولا نهار، لا حي ولا ميت، ولا يمكن أن تقول: حي ميت، ليل نهار، إما هذا، وإما هذا، ولا ثالث لهما.

فالمقصود: أن الصريم هنا من الأضداد، فقول من قال: إنها صارت سوداء محترقة، ومن قال: إنها صارت بيضاء كل ذلك يمكن أن يجتمع، فيكون حاصله: أنه لم يبق فيها شيء، فمن قال: إنها بيضاء يقصد أن الزرع الذي فيها، أو الثمر والشجر، كل ذلك قد انقشع وزال، ولم يبق منه شيء، صارت أرض جرداء، ومن قال: إن ذلك بمعنى الليل، فالصريم يعني سوداء محترقة، فهذا بمعنى قول من قال أيضًا: إن ذلك كله قد ترحل، وزال وتقشع، فلم يبق فيها شيء.

المقصود: أنها أصابها التلف، ولم يبق فيها زرع، ولا شجر -الله المستعان- صارت بهذه المثابة.

وحمله بعضهم كالحسن "كالصريم" على معني صرم منها الخير، لكن هذا يمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم.

فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجذاذ، أي: القطع: أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ أي: تريدون الصرام فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم.

ثم فسر الله عالِم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال تعالى: فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ أي: يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم.

قال الله تعالى: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي: قوة وشدة، قَادِرِينَ أيْ: عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَيَرُومُونَ.

قوله: فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ "أن" هذه مفسرة لهذا التخافت، ماذا يقولون؟ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يقول: أي: قوة وشدة قادرين أي عليها فيما يزعمون ويرومون.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ الحرد هنا فسره بعضهم: بالمنع والقصد.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني أنهم قصدوا منع الفقراء، أن لا يدخل عليهم أحد من هؤلاء، فيمنعوهم حقهم، وجاء عن جماعة من السلف -كقتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد- تفسير: الحرد: بالقصد، وهؤلاء أهل لغة يحتج بكلامهم وتفسيرهم اللغوي؛ لأنهم في وقت الاحتجاج، ففسروا الحرد: بالقصد، قالوا؛ لأن القاصد إلى شيء حارد.

حَرْدٍ أي: قصد، حردتُ حردَك، يعني قصدت قصدك.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على قصد بيتوه.

وجاء عن بعض أصحاب المعاني كأبي عبيدة والمبرد، وبه قال ابن قتيبة أيضًا: أن الحرد بمعنى: المنع.

تأمل هناك القصد، وهنا المنع.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي منع، فيقولون: الحارد من النوق هي قليلة اللبن، وإذا حاردت الإبل يعني منعت لبنها، يعني لم يوجد فيها شيء، أو قلت ألبانها.

وفسره بعضهم: بالغضب وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على غضب، كما جاء عن السدي وسفيان والشعبي، وهذا أيضًا له ما يدل عليه من كلام العرب.

تفسير الحرد بالغضب جاء في كلام العرب شعرًا ونثرًا، العرب يقولون: أسد حارد، يعني غاضب، وحرد الأسد إذا غضب.

وجاء عن جماعة أيضًا من السلف تفسير ذلك: بالحسد وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على حسد، وهذا قال به قتادة ومجاهد أيضًا، على حسد.

وفعلهم هذا لا شك أنه يدل على نفوس ضعيفة، وعلى لؤم، وعلى حسد، وعلى أمراض وعلل في هذه النفوس التي لا تجود بنفع، ولا خير للناس، ولا ترق قلوبهم للمحتاجين والضعفاء والمساكين، فكيف بالأقوياء والأغنياء؟!.

وجاء أيضًا تفسير ذلك عن الحسن بأن الحرد يعني: الحاجة والفاقة وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ.

وبعضهم فسر ذلك: بالانفراد، قال: حرد عن قومه، يعني انفرد واعتزل، تنحى عنهم، لم يخالطهم، وهذا قال به كبير من أئمة أهل اللغة كالأصمعي -رحمه الله، وهذه الأقوال لا يستهان بها، والأصمعي -رحمه الله- خزانة من خزائن العرب، فهو من أحفظ الناس لكلامهم وشعرهم ونثرهم، ففسره بالانفراد، وهذا أيضًا قال به الإمام الآخر صاحب تهذيب اللغة الأزهري، فهؤلاء جبال، أئمة كبار.

وتأمل هذه المعاني التي قالوها.

لكن قد يكون أبعدَ من فسر ذلك: بالجنة وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني اسم هذه الجنة التي كانت لهم.

أو قول من قال بأن ذلك بمعنى: القرية، أو هو اسم للقرية التي كان فيها ذلك البستان، فهذا قد لا يخلو من بعد، -والله تعالى أعلم.

وعبارة ابن جرير -رحمه الله- في هذا يقول -تأملوا عبارة ابن كثير وابن جرير- ابن جرير يقول: وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه، واستسرّوه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم، ففسر ذلك بالقصد، على أمر قد قصدوه.

ابن كثير يقول: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ: أي: قوة وشدة، فما دامت هذه الأقوال صحيحة في اللغة: أن الحرد بمعنى القصد، وأنه أيضًا بمعنى: المنع، وأيضًا الغضب، ونحو ذلك من المعاني التي ذكروها، فيكون هؤلاء قد غدوا على حرد يعني على قصد للمنع، وهم في غاية التصميم، حتى إنهم لم يستثنوا، وفي حال من الانفعال، نفوسهم قد شُحنت ومُلئت بالحنق؛ لئلا يدخل عليهم أحد من المحتاجين، النفوس حينما تضيق يحصل فيها مثل هذا.

حينما يريد الإنسان أن يستأثر بشيء دون الآخرين، يذهب تدفعه نفس ضعيفة صغيرة، دفعًا للأثرة، أو الاستئثار بهذا، ولو كان من الأمور الصغيرة التافهة، لو أراد الإنسان أن ينافس على شيء تافه، في الطريق يمنع الناس من أن يجتازه أحد، أو أن يفسح لأحد بحاجة إلى أن يقف، سيارة قادمة في زحام شديد، يريد صاحبها أن يعبر من طريق فرعي، إذا كانت النفس ضعيفة تجد هذا الإنسان يعارك، ويستعد من مدة قبل أن يصل إليها، ليضع السيارة في مؤخرة السيارة الثانية مباشرة، لئلا يعطيه فرصة، وتجد النفس تضيق، هكذا يفعل اللؤم بأصحابه.

ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المجادلة:11]، وذكرنا هناك أن الفسح في المجالس يجازي الله عليه بهذا الفسح الذي أطلقه: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ بماذا؟

بالصدر يجد انشراحًا، وسعة في الصدر، وكذلك في الرزق، وكذلك في القبر، وكذلك في الآخرة.

وأما إذا كان الإنسان ضيق النفس، ضيق العطن، لا يفسح للآخرين، فإن مثل هذا حتى في المجالس حينما لا يفسح والناس بحاجة في يوم الجمعة، أو في المجامع الكبار، كالعيد، أو في الحرم، أو نحو ذلك، تجد أن نفسه تنقبض انقباضًا شديدًا، فيبقى في هذا الوقت كله إلى أن تنقضي الصلاة، وهو يشرع بالانقباض؛ لئلا يأتي أحد هنا أو هنا، فيضيق عليه المكان بزعمه، هذه أمور ناتجة عن هذه الممارسات والنفوس الضعيفة.

قَادِرِينَ أي: عليها فيما يزعمون ويرومون، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، قَادِرِينَ هنا النصب بعضهم يقول: على الحال، يعني حال كونهم كذلك.

وبعضهم كالفراء فسر: قَادِرِينَيعني أنهم قد قدّروا أمرهم، ليس من القدرة، وإنما من التقدير: قَادِرِينَ قدّروا أمرهم، بنوا عليه.

لكن جاء عن بعض السلف كقتادة أن المراد "قادرين" يعني على هذه الجنة، وتحصيل الثمر، والاستئثار به دون الفقراء.

وبعضهم فسره بتفسير لا يبعد من هذا، كقول الشعبي "قادرين" يعني على المساكين، يعني على منعهم.

فقول من قال: قادرين على الثمر، قادرين على المساكين على منعهم، جاءوا فلم يجدوا شجرًا ولا ثمرًا.

فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أيْ: فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَأَشْرَفُوا عَلَيْهَا وَهِيَ عَلَى الْحَالَة الَّتِي قَالَ اللَّه ، قَدْ اِسْتَحَالَتْ عَنْ تِلْكَ النَّضَارَة وَالزَّهْرَة، وَكَثْرَة الثِّمَار إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاء مُدْلَهِمَّة لَا يُنْتَفَع بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوا الطَّرِيق، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّا لَضَالُّونَ أيْ: قَدْ سَلَكْنَا إِلَيْهَا غَيْر الطَّرِيق فَتُهْنَا عَنْهَا، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.

ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أيْ: بَلْ هِيَ هَذِهِ، وَلَكِنْ نَحْنُ لَا حَظّ لَنَا وَلَا نَصِيب.

يعني أن هؤلاء لم يخطر ببالهم أن تتحول إلى هذه الحال، فلما رأوها حكموا بأنهم قد أضلوا الطريق، وأن هذه ليست هي المزرعة، أو البستان الذي كان لهم، ثم استدركوا، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ يعني هي لكن وقع بنا الحرمان من هذا الحصاد الذي قصدناه، والزرع والثمر، فلم يحصل لنا من ذلك قليل ولا كثير.

قَالَ أَوْسَطُهُمْ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة: أيْ: أَعْدَلهمْ وَخَيْرهمْ.

الأوسط يعني العدل، قال الله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] أي: عدولاً خيارًا.

الأوسط هو الأعدل.

أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج: لَوْلَا تُسَبِّحُونَ أَيْ لَوْلَا تَسْتَثْنُونَ. قَالَ السُّدِّيّ: وَكَانَ اِسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان تَسْبِيحًا.

وَقَالَ اِبْن جَرِير: هُوَ قَوْل الْقَائِل: إِنْ شَاءَ اللَّه.

يعني أن ابن جرير أيضًا فسره بهذا، يعني هذا يقوله لهم أوسطهم أعدلهم: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ.

تأمل على هذا المعنى، الآن هذا الأعدل، والأفضل فيهم، ما قال: لا، أعطوا الفقراء لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قال: قولوا: إن شاء الله، يعني أنه موافق لهم على هذا القصد الفاسد، لكن يقول: قولوا: إن شاء الله، من أجل أن يتحقق هذا المطلوب.

لكن هم لشدة اندفاعهم وحنقهم لم يصدر منهم هذا، ما قالوا: "إن شاء الله" فهذا يلومهم ويذكرهم: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ؟

لَوْلَا هنا بمعنى: هلا.

فهي إذا كانت على أمر لا يمكن استدراكه فهي للتبكيت، تقول لمن وقع به المكروه: لولا فعلت كذا، يعني قبل أن يقع، تقول لإنسان مفرط مضيع، فأخفق في دراسته مثلاً، تقول له بعد الإخفاق: لولا اجتهدت، فهذا يكون للتبكيت فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116] هنا انتهى، هلكوا، فهذا للتبكيت.

وإذا كان في أمر يمكن استدراكه فتكون للتحضيض: لولا اجتهدت، لولا تسببت فتكتسب، ونحو ذلك.

فهنا يقول: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ؟ يعني لولا تستثنون، هكذا فسروه، قالوا: وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا، يمكن أن يكون هذا أي أن يكون استثناؤهم بالتسبيح: سبحان الله، وقد لا يكون بمعنى التسبيح، أي قصد به الاستثناء؛ لأنه من ذكر الله -تبارك وتعالى، وأنه لا يقع إلا ما أراد، والناس لا زالوا إلى اليوم حينما يقول الواحد منهم شيئًا، ويريد أن يؤكد هذا مع الاستثناء، يقول: هذا أمر سأفعله، هذا لابد من فعله، لابد أن أصنع ذلك، لكن سبحان الله! هذا مستعمل في كلام الناس إلى الآن، سبحان الله! يعني أن الله قد لا يريد هذا، فلا يحصل، يعني إلا ما شاء الله، يقول: أنا سأفعل هذا الشيء، لكن سبحان الله، يقصد به الاستثناء، قد يكون هذا هو المراد: لَوْلَا تُسَبِّحُونَ بمعنى أن هذا الإنسان لا يقطع بأمر دون أن يستثني: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23، 24].

فهذا الذي تفسيره بالاستثناء هو قول عامة أهل العلم.

قال: وقيل معناه: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي: هلا تسبحون الله، وتشكرونه على ما أعطاكم، وأنعم به عليكم.

فيكون هنا التسبيح ليس الاستثناء، وإنما الشكر على هذا الإنعام، فيكون هذا الأوسط قد قال لهم قولاً يثنيهم به عن قصدهم ومرادهم، فإنّ شكر ذلك يقتضي إعطاء هؤلاء المحتاجين والفقراء، أن يعطيهم حقهم.

وبعضهم يقول: سماه تسبيحًا، يعني الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله ، وإقرار به.

ومعلوم أن أصل التسبيح هو التنزيه، يقول النحاس: فجعله في موضع إن شاء الله.

وبعضهم قال: لَوْلَا تُسَبِّحُونَ يعني تستغفرون الله، يعني بعدما وقع لهم ذلك، فهذا الأعدل فيهم يقول: استغفروا الله من هذا القصد الذي قصدتموه، والعزم على صرمها، دون إعطاء المحتاجين.

لكن ابن جرير فسره بالاستثناء، يقول: لَوْلَا تُسَبِّحُونَ يعني لولا تستثنون، تقولون: إن شاء الله، هذا تفسير ابن جرير.

قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ أَتَوْا بِالطَّاعَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَع، وَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْجع، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ أيْ: يَلُوم بَعْضهمْ بَعْضًا عَلَى مَا كَانُوا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْع الْمَسَاكِين مِنْ حَقّ الْجِذَاذ، فَمَا كَانَ جَوَاب بَعْضهمْ لِبَعْضٍ إِلَّا الِاعْتِرَاف بِالْخَطِيئَةِ وَالذَّنْب.

قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ أيْ: اِعْتَدَيْنَا وَبَغَيْنَا وَطَغَيْنَا، وَجَاوَزْنَا الْحَدّ، حَتَّى أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا.

عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ قِيلَ: رَغِبُوا فِي بَذْلهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: اِحْتَسَبُوا ثَوَابهَا فِي الدَّار الْآخِرَة، وَاَللَّه أَعْلَم.

بعضهم يقول: إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ أي: طالبون فيه الخير، راجون لعفوه.

وعدي هنا بـ"إلى": إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ دون "عن"، ما قال: إنا عن ربنا راغبون، لتضمينه معنى الرجوع، ما عداه بـ "عن" ولا عداه بـ "في"، ما قال: إنا في ربنا راغبون مثلاً، أو عن ربنا؛ لأن رغب تتعدى بـ"إلى" إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ فقدمه، فبعضهم يقول: لتضمين رغب معنى الرجوع، يعني التوبة والرجوع إليه: إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ.

ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ بَعْض السَّلَف: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْيَمَن، قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر: كَانُوا مِنْ قَرْيَة، يُقَال لَهَا: ضَروان عَلَى سِتَّة أَمْيَال مِنْ صَنْعَاء.

وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْل الْحَبَشَة، وَكَانَ أَبُوهُمْ قَدْ خَلَّفَ لَهُمْ هَذِهِ الْجَنَّة، وَكَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ يَسِير فِيهَا سِيرَة حَسَنَة، فَكَانَ مَا يَسْتَغِلّ مِنْهَا يَرُدّ فِيه مَا تَحْتَاج إِلَيْهِ، وَيَدَّخِر لِعِيَالِهِ قُوت سَنَتهمْ، وَيَتَصَدَّق بِالْفَاضِلِ، فَلَمَّا مَاتَ وَوَرِثَهُ بَنُوهُ، قَالُوا: لَقَدْ كَانَ أَبُونَا أَحْمَق، إِذْ كَانَ يَصْرِف مِنْ هَذِهِ شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّا مَنَعْنَاهُمْ لَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدهمْ، فَأَذْهَبَ اللَّه مَا بِأَيْدِيهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، رَأْس الْمَال والرِّبْح وَالصَّدَقَة، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْء.

قَالَ اللَّه تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ أيْ: هَكَذَا عَذَاب مَنْ خَالَفَ أَمْر اللَّه، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّه، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقّ الْمِسْكِين وَالْفَقِير، وَذَوِي الْحَاجَات، وَبَدَّلَ نِعْمَة اللَّه كُفْرًا: وَلَعَذَاب الْآخِرَة أَكْبَر لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أيْ: هَذِهِ عُقُوبَة الدُّنْيَا كَمَا سَمِعْتُمْ، وَعَذَاب الْآخِرَة أَشَقّ.

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۝ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ۝ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ۝ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ۝ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ۝ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ۝ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ ۝ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [سورة القلم:34-41].

لَمَّا ذَكَرَ الله تعالى حَال أَهْل الْجَنَّة الدُّنْيَوِيَّة، وَمَا أَصَابَهُمْ فِيهَا مِنْ النِّقْمَة حِين عَصَوْا اللَّه ، وَخَالَفُوا أَمْره، بَيَّنَ أَنَّ لِمَنْ اِتَّقَاهُ وَأَطَاعَهُ فِي الدَّار الْآخِرَة جَنَّات النَّعِيم، الَّتِي لَا تَبِيد وَلَا تَفْرُغ، وَلَا يَنْقَضِي نَعِيمهَا.

هذا يقال له: المناسبة، يعني وجه الارتباط بين هذه الآيات وما قبلها، لما ذكر أصحاب الجنة، وما حصل لهم، ذكر ما لأهل الإيمان والتقوى عنده في الآخرة، ما وجه الارتباط؟

لما ذكر حال أولئك في الجنة الدنيوية، وما أصابهم لما عصوا الله ، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم، التي لا تفنى ولا تنقضي.

ثم قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أيْ: أَفَنُسَاوِي بَيْن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَزَاء؟ كَلَّا وَرَبّ الْأَرْض وَالسَّمَاء.

ولهذا قال: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أيْ: كَيْف تَظُنُّونَ ذَلِكَ؟

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ۝ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ.

يَقُول تَعَالَى: أَفَبِأَيْدِيكُمْ كِتَاب مُنَزَّل مِنْ السَّمَاء تَدْرُسُونَهُ وَتَحْفَظُونَهُ وَتَتَدَاوَلُونَهُ بِنَقْلِ الْخَلَف عَنْ السَّلَف، مُتَضَمِّن حُكْمًا مُؤَكَّدًا كَمَا تَدْعُونَهُ؟

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ۝ أَمْ لَكُمْ أَيْمَان عَلَيْنَا بَالِغَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ أي: أَمَعَكُمْ عُهُود مِنَّا وَمَوَاثِيق مُؤَكَّدَة؟

إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ أي: أَنَّهُ سَيَحْصُلُ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَ وَتَشْتَهُونَ.

سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ أيْ: قُلْ لَهُمْ مَنْ هُوَ الْمُتَضَمِّن الْمُتَكَفِّل بِهَذَا؟ قَالَ اِبْن عَبَّاس: يَقُول: أَيّهمْ بِذَلِكَ كَفِيل؟

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء أيْ: مِنْ الْأَصْنَام وَالْأَنْدَاد فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ.

قوله -تبارك وتعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ كما قال الله -تبارك وتعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ [سورة السجدة: 18] فالتسوية بين هؤلاء أمر لا يمكن أن يقع، ولهذا أنكره عليهم: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ فهذا الحكم الجائر من أين لكم به؟ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ۝ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ.

يقول: أفي أيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه يقرر هذا: أن يسوى بين المؤمنين والكافرين في الجزاء، بين الأخيار والأشرار؟ هل عندكم كتاب في هذا منزل؟

هذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- من المعنى هو الذي قال به أيضًا ابن جرير: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ هل عندكم شيء من الله منزل -كتاب- يقرر هذا الحكم الجائر؟!

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ يعني يحتمل أن "إنّ" هنا معمولة لتدرسون: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ تدرسون ماذا؟ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ وكسرت الهمزة هنا لدخول اللام: لَمَا تَخَيَّرُونَ لوجود اللام، يعني لو أن اللام كانت غير موجودة لكان:تدرسون أنّ لكم فيه ما تخيرون، فهذا قال به بعض أهل العلم.

أو أن ذلك على سبيل الحكاية للمدروس، يعني جاءت الهمزة مكسورة على سبيل الحكاية: تَدْرُسُونَ تدرسون ماذا؟

فنقل النص الذي يدرسونه: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ.

وبعضهم يقول: هذا ابتداء كلام جديد أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ثم قال: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ما تدّعونه وتزعمون أن لكم عند الله -تبارك وتعالى- حظوة ومنزلة وجزاء.

أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يقول: هل عندكم من الله عهد بأن تكون لكم العاقبة والجزاء الحسن في الآخرة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ أن ذلك سيقع لكم ويتحقق.

فهنا هذه الأيمان البالغة جوابها: أيْ أيمانٌ بأن لكم ما تحكمون، فيكون هذا هو جواب هذه الأيمان، أو القسم.

سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ يعني مَن الكفيل والضمين الضامن الذي يضمن لكم بذلك؟ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء يعني من الأصنام والأنداد فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ.

وبعضهم يقول: يعني يشاركونهم في هذا القول، ويوافقونهم فيه، الدعوى العريضة.

وبعضهم يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء يجعلونهم بهذه المثابة كالمسلمين في الآخرة، يتصرفون مع الله -تبارك وتعالى، فيدخلونهم الجنة.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ۝ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ۝ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۝ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ۝ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [سورة القلم:42، 47].

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْد رَبّهمْ جَنَّات النَّعِيم بَيَّنَ مَتَى ذَلِكَ كَائِن وَوَاقِع، فَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة، وَمَا يَكُون فِيهِ مِنْ الْأَهْوَال وَالزَّلَازِل وَالْبَلَاء وَالِامْتِحَان، وَالْأُمُور الْعِظَام.

وَقَدْ روى الْبُخَارِيّ هَهُنَا عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيّ ﷺ يَقُول: يَكْشِف رَبّنَا عَنْ سَاقه، فَيَسْجُد لَهُ كُلّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُد فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَة، فَيَذْهَب لِيَسْجُد فَيَعُود ظَهْره طَبَقًا وَاحِدًا[2]، وَهَذَا الْحَدِيث مُخَرَّج فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي غَيْرهمَا مِنْ طُرُق، وَلَهُ أَلْفَاظ، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل مَشْهُور.

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ فسره جماعة من السلف: بالشدة، والعرب تعبر بذلك عن الشدة، وهو استعمال صحيح، تقول: كشفت الحرب عن ساق، يعني عن شدة، وهذا موجود في كلام العرب، في شعرهم ونثرهم، فهذا حينما تفسر الآية به من غير نظر إلى الحديث فغاية ما هنالك عند المخالف، يعني عند من فسره بالصفة، أي صفة الله الساق، يعني يكشف عن ساقه، كما دل عليه هذا الحديث، فغاية ما هنالك أن يقال: هذا من قبيل الخطأ في التفسير، يعني ليس ذلك من قبيل الخطأ في الاعتقاد، إذا كان يثبت الصفة لكن بدليل آخر، يعني لا يجعل هذه الآية من أدلة إثبات هذه الصفة، فهذا قال به جماعة من السلف، ولكن هذا الحديث حديث أبي سعيد : يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا[3].

هنا لم يذكر الآية، لكن وجه الارتباط بين الحديث والآية واضح، قال: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. فهنا: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ.

فهذا الحديث تفسر به الآية، فيكون: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي: يكشف الرب -تبارك وتعالى- عن ساقه، فيسجد أهل الإيمان، ولا يستطيع السجودَ الكفار والمنافقون، هذا مقتضى دلالة هذا الحديث، والله أعلم.

وَقَوْله تَعَالَى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: فِي الدَّار الْآخِرَة بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرهمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُود فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتهمْ وَسَلَامَتهمْ، كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتهمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة، إِذَا تَجَلَّى الرَّبّ ، فَيَسْجُد لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يَسْتَطِيع أَحَد مِنْ الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَسْجُد، بَلْ يَعُود ظَهْر أَحَدهمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدهمْ أَنْ يَسْجُد خَرَّ لِقَفَاهُ، عَكْس السُّجُود، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يعني ساكنة ذليلة تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تعلوهم، وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ.

بعضهم يقول: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني في الدنيا شرعًا أنهم أمروا بذلك، أنهم مأمورون به.

وبعض السلف كإبراهيم التيمي، قال: يُدعون بالآذان والإقامة، فيأبون، وجاء عن سعيد بن جبير: يسمعون حي على الفلاح، فلا يجيبون وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ والمقصود الصلاة.

وجاء عن كعب الأحبار قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات، وأثر ابن مسعود الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن[4]، إنما ينادى بهن في المسجد.

وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وبعضهم يقول: "يدعون" أمروا به شرعًا، فلم يمتثلوا.

وبعضهم يقول: بـ"حي على الفلاح" فلم يجيبوا المنادي.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي الْقُرْآن، وَهَذَا تَهْدِيد شَدِيد، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُ مِنِّي وَمِنْهُ أَنَا أَعْلَم بِهِ كَيْف أَسْتَدْرِجهُ، وَأَمُدّهُ فِي غَيّه، وَأُنْظِرهُ ثُمَّ آخُذهُ: أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ [سورة القمر:42].

فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن.

وبعضهم فسره: بالقيامة، وما يحصل فيها.

تفسيره بالقرآن يتضمن ذلك؛ لأن القرآن يتحدث عن القيامة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يعني كما يقول الزجاج: معناه لا يشتغل قلبك به، كِله إليّ، فأنا أكفيك أمره، وهذا فيه وعيد وتهديد.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ أي: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه كَرَامَة، وَهُوَ فِي نَفْس الْأَمْر إِهَانَة؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56].

وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44].

ولهذا قال هاهنا: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: وَأُؤَخِّرهُم، وَأُنْظِرهُم، وَأُمِدّهُم، وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي، وَمَكْرِي بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: عَظِيم لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي.

قوله -تبارك وتعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ الاستدراج ترك المعاجلة بالعقوبة.

بعضهم يقول: أصله النقل من حال إلى حال، هذا الاستدراج بما يعطيهم الله من النعم، ويدر عليهم من الأرزاق، مع ما هم فيه من الكفر والتكذيب، ولهذا كما قال بعض السلف: إن نعم الله حينما تتتابع على العبد وهو في حال من الإعراض، فإن ذلك يكون استدراجًا.

يقول: وَأُمْلِي لَهُمْ أصل الملاوة المُدة من الدهر، يعني أملى الله له أطال له في المدة.

وَأُمْلِي لَهُمْ يعني أن الله -تبارك وتعالى- يطول لهم في الأعمار، ونحو ذلك، لا يعاجلهم بالعقوبة، من أجل أن تكثر ذنوبهم وجرائمهم، فيلقون الله على أسوأ حال.

وقوله: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ هذا تعليل، "إنّ" تفيد التعليل هنا، فهذا من كيده -تبارك وتعالى- بهم، فالإيقاع بهؤلاء بطرق خفية يقال له: كيد.

إيصال المكروه بطرق تخفى عليه، فيكون ذلك من قبيل الكيد.

وكيده -تبارك وتعالى- وصفه هنا بأنه: مَتِينٌ.

وهذه الآية ذكر فيها الكيد مفردًا، يعني من غير مقابلة، الله يقول: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا  [سورة الطارق:15، 16].

وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الصفات تأتي للمقابلة، هكذا قيدوه، وهذا فيه نظر -والله تعالى أعلم.

فهنا جاء من غير مقابلة، يعني لم يقابله بكيدهم، فهذا لا يشترط فيه المقابلة، وإنما يكون صفة كمال إذا كان ذلك فيمن يستحق ذلك، ولهذا فإن صفة "الكيد" ثابتة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن حيث يكون ذلك كمالاً، فيثبت له من الصفات التي تقع على الوجهين، يعني ما يقع على وجه الكمال، وعلى وجه النقص، يثبت له من ذلك الأكمل والأتم، وهكذا "المكر": أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99] فلم يذكره على سبيل المقابلة، بينما قال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ [سورة الأنفال:30] فتقييد هذا بأنه إنما يكون بمقابلة مكرهم وكيدهم هذا ليس بشرط.

وأما تفسير من فسر ذلك بالمشاكلة فهذا غير صحيح، يعني المشاكلة اللفظية، أنه عبر به من باب التعبير بلفظ مشاكل لما عبر به عنهم: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا.

فسماه: كَيْدًا من باب المشاكلة، والمشاكلة نوع من المجاز، يعني أنه لا حقيقة لهذه الصفة، وهذا كلام غير صحيح، فليس هذا من باب المشاكلة.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّه ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّه تعالى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102][5].

وَقَوْله تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرهمَا فِي سُورَة الطُّور.

وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّك يَا مُحَمَّد تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه بِلَا أَجْر تَأْخُذهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثَوَاب ذَلِكَ عِنْد اللَّه تعالى، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتهمْ بِهِ بِمُجَرَّدِ الْجَهْل وَالْكُفْر وَالْعِنَاد.

قوله -تبارك وتعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ تسألهم أجرًا يعني في مقابل دعوتهم، فيثقلهم ذلك الأجر وبذله أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ، ثم قال: أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ.

أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ بعضهم فسره باللوح المحفوظ، فهم يكتبون من ذلك الغيب ما يريدون مما يخاصمونك به، أو يدّعونه.

وبعضهم فسر الغيب بكل ما غاب عنهم، يعني أنهم اطلعوا على الغيب، فجاءوا بهذه الدعاوى والخصومات التي يخاصمونك بها.

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ۝ لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ۝ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ۝ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [سورة القلم:48-52].

يَقُول تَعَالَى: فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّد عَلَى أَذَى قَوْمك لَك وَتَكْذِيبهمْ، فَإِنَّ اللَّه سَيَحْكُمُ لَك عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَل الْعَاقِبَة لَك وَلِأَتْبَاعِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

هنا أمرٌ للنبي ﷺ بالصبر لحكم ربه، يعني لقضائه الذي قضاه، وهذا القضاء الذي قضاه في سابق علمه: من أهل العلم من حمله على الإمهال، أنه يمهل هؤلاء، قد يتأخر النصر والظفر، فهو مأمور بالصبر.

وبعضهم يقول: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ يعني بما حكم به عليك من تبليغ الرسالة، ومقتضيات ذلك.

وبعضهم فسره: بما يلحقه ويناله من الأذى.

وهذا أمر من الله لنبيه ﷺ بأن يصبر على حكم الله، وقضائه وقدره، فلا يحصل منه استعجال ولا ضيق، ولا ينكسر، أو يتراجع أمام هذه التبعات والعقبات، والأذى الذي يلقاه من الناس، فإن هذا أمر لابد منه، وما قضاه الله -تبارك وتعالى- لابد أن يقع ويتحقق، والجزع لا يرده، ولكن إذا جزع الإنسان فإن ذلك يذهب أجره، وما قضاه الله لابدّ أن يكون، ومن ثَمّ فإن هذا الأمر للنبي ﷺ هو أمر أيضًا لأمته بالصبر والتحمل.

وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ يَعْنِي ذَا النُّون وَهُوَ يُونُس بْن مَتَّى حِين ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى قَوْمه، فَكَانَ مِنْ أَمْره مَا كَانَ مِنْ رُكُوبه فِي الْبَحْر، وَالْتِقَام الْحُوت لَهُ، وَشُرُود الْحُوت بِهِ فِي الْبِحَار، وَظُلُمَات غَمَرَات الْيَمّ، وَسَمَاعه تَسْبِيح الْبَحْر بِمَا فِيهِ لِلْعَلِيِّ الْقَدِير الَّذِي لَا يُرَدّ مَا أَنْفَذَهُ مِنْ التَّقْدِير، فَحِينَئِذٍ نَادَى فِي الظُّلُمَات: أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87].

قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:88].

وَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ۝ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة الصافات:143، 144].

وَقَالَ هَهُنَا: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالسُّدِّيّ: وَهُوَ مَغْمُوم.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ روى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول: أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى[6]، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.

وقال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ۝ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني أنه امتنع بقاؤه إلى يوم البعث في بطن الحوت لوجود التسبيح.

فَلَوْلَا هذه حرف امتناع لوجود، فهذا التسبيح كان لتفريج هذا الغم: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ و"الفاء" تدل على التعقيب المباشر، ولهذا فإن مثل هذا الذكر: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ هو مما يحصل به الفرج، وزوال الكرب.

وقوله -تبارك وتعالى: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ نقل هنا عن ابن عباس والسدي قال: مغموم.

وبعضهم فسره بقريب من هذا، يقول: المكظوم هو المملوء غيظًا وكربًا.

فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فسره بعضهم بالكاملين في الصلاح.

وبعضهم يقول: إن الله -تبارك وتعالى- اجتباه وقربه، وأعاد إرساله، فبعثه: إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۝ فَآمَنُوا [سورة الصافات:147، 148].

وابن جرير -رحمه الله- يقول: اصطفاه واختاره لنبوته، فجعله من المرسلين، يعني الذين يمتثلون أمر الله، ويجتنبون نهيه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.

فهنا: لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ هذه النعمة ما المراد بها؟

بعضهم يقول: النبوة، كما جاء عن الضحاك.

وبعضهم يقول: هي عبادته التي سلفت: تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ كما يقول سعيد بن جبير: يعني من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله[7].

وبعضهم يقول: هذه النعمة هي هذا السؤال، هذا النداء: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87] قاله ابن زيد.

فالله -تبارك وتعالى- يسمع دعاء عباده ونجواهم، ولو كان هذا الداعي في مثل هذا الموضع في بطن الحوت، في قعر البحر، في الظلمات، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام في هذا الموضع.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ وهاهنا سؤال نافع، وهو أن يقال: ما العامل في الظرف وهو قوله: إِذْ نَادَى ولا يمكن أن يكون الفعل المنهي عنه، إذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه"[8].

يعني قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، يقول ابن القيم بأن الله أثنى على يونس بهذا النداء، فليس بنهي للنبي ﷺ أن يكون مثله في تضرعه إلى الله، فالمنهي عنه هنا ما هو؟ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ في ماذا؟ في ندائه؟ هذا السؤال الذي أورده.

وقال -رحمه الله: "فأخبر أنه نجاه به، فقال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87، 88].

وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: دعوة أخي ذي النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[9].

فلا يمكن أن يُنهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه، وإنما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة، وهى مغاضبته التي أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم.

والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظًا وغضبًا وهمًّا وحزنًا، وكظم عليه، فلم يخرجه.

فإن قيل: وعلى ذلك فما العامل في الظرف؟

قيل: ما في صاحب الحوت من معنى الفعل.

فإن قيل: فالسؤال بعدُ قائم، فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى، فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال، أو هذا الوقت، كان نهيا عن تلك الحالة.

قيل: لما كان نداؤه مسببًا عن كونه صاحب الحوت، فنهى أن يتشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء، وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى، ولم يقل تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبًا فالتقمه الحوت فنادى، بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها، وما انتهت اليه.

فإن قيل: فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه؟ أي: لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظًا، وهمًّا وغمًّا، بل يكون نداؤك نداء راضٍ بما قُضي عليه، قد تلقّاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر، لا نداء كظيم.

قيل: هذا المعنى، وإن كان صحيحاً إلا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده، وإنما نهى عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضباً، حتى سجن في بطن الحوت، ويدل عليه قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، ثم قال: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ أي: في ضعف صبره لحكم ربه، فإن الحالة التي نُهى عنها هي ضد الحالة التي أمر بها.

فإن قيل: فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذى يقدره عليه وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ حيث لم يصبر عليه، بل نادى وهو كظيم لكشفه، فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.

قيل: منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف ما بهم من الضر، وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87، 88].

فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثني عليه ويمدحه به؟!.

وكذلك أثنى على أيوب بقوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأنبياء:83].

وعلى يعقوب بقوله: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ [سورة يوسف:86].

وعلى موسى بقوله: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24].

وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله، بقوله: اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي[10].

فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة، وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر، والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه، وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه، ولم يستكن له وقت البلاء؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [سورة المؤمنون: 76].

والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه، والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له، ويتضرع إليه، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه، ويحب من يشكو ما به اليه، وقيل لبعضهم: كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه؟ فقال: ربى يرضى ذل العبد إليه.

والمقصود: أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارًا، وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين"[11].

هذا جواب على سؤال، وهو أن فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أمر للنبي ﷺ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ فهنا النهي عن التشبه به هل هو في تضرعه وسؤاله ولجوئه إلى الله؟

الجواب: لا، ولكن فيما أوجب له هذه الحال، وهو قلة الصبر، فيقول: اختصر الكلام وطواه، فذكر هذه النتيجة وما صار إليه حاله من هذا التضرع، والدعاء، لمّا صار في بطن الحوت، هذا حاصل كلام ابن القيم.

وَقَوْله تَعَالَى: وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا: لَيُزْلِقُونَكَ لَيُنْفِذُونَك بِأَبْصَارِهِمْ أي: يُعِينُونَك بِأَبْصَارِهِمْ، بِمَعْنَى يَحْسُدُونَك لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ، لَوْلَا وِقَايَة اللَّه لَك، وَحِمَايَته إِيَّاكَ مِنْهُمْ.

قوله: لَيُزْلِقُونَكَ هنا فسره بالحسد، يعني الإصابة بالعين لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ وهذا المعنى قال به جماعة من السلف فمن بعدهم.

لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ يعني الإصابة بالعين، ولكن ليس هذا محل اتفاق، أعني تفسيره بالعين، فقد جاء عن جماعة من السلف كسعيد بن جبير والسدي والكلبي يعني يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.

وبعض أصحاب المعاني كالأخفش يقول: يفتنونك.

وجاء عن الحسن: يقتلونك بأبصارهم.

وقال الزجاج: يكادون لشدة بغضهم وعداوتهم أن يصرعوك بنظرهم، وبنحو هذا قال ابن قتيبة واختاره ابن جرير، يعني من شدة العداوة أن النظر إليه الذي يتطاير منه الشرر لمّا يسمعون القرآن، ينظرون إليه نظرًا يكاد أن يسقطه لشدة هذا النظر، النظر حينما يكون قويًّا موجهًا باعثه شدة العداوة فإن هذا النظر يكاد يسقط المنظور إليه، هذا الذي اختاره ابن جرير، وقال به الزجاج وابن قتيبة.

والمشهور: أن هذه الآية في العين، فهي تحتمل هذا وهذا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ من شدة عداوتهم، وقد يكون ذلك مرادًا به -والله تعالى أعلم- الإصابة بالعين، حسدًا، وأيضًا أنهم ينظرون إليه لشدة عدواتهم نظرًا قويًّا يكاد يسقط المنظور إليه، هذا يحتمل، والله تعالى أعلم.

وهذه الآية يقرؤها كثير من الناس على من أصيب في العين، وقد ذكرنا في عدد من المناسبات: أن الرقى من باب الطب، وأن الأصل فيه الإباحة، ما لم يشتمل على محرم، فإذا دلت التجربة على أن هذه الآية تنفع بإذن الله في رقية العين فلا إشكال في هذا، تُردد عليه.

وفي قوله -تبارك وتعالى- هنا: لَيُزْلِقُونَكَ هذه قراءة الجمهور، بضم الياء، من أزلقه أي: أزل رجله، وفي قراءة نافع: لَيَزْلِقُونَكَ انزلق عن موضعه إذا تنحى.

وَفِي هَذِهِ الْآيَة: دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَيْن إِصَابَتهَا، وَتَأْثِيرهَا حَقّ بِأَمْرِ اللَّه ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيث الْمَرْوِيَّة مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة كَثِيرَة.

حَدِيث بُرَيْدَة بْن الْحُصَيْب : روىَ أَبُو عَبْد اللَّه اِبْن مَاجَه عَنْ بُرَيْدَة بْن الْحُصَيْب قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَة.

الحُمَة هي ذوات السموم.

وقوله هنا: لا رقية إلا هذا أسلوب حصر، وحمله أهل العلم على الأنجع والأنفع في الرقية؛ لأن الرقية تنفع من الأشياء الأخرى، من الأمراض والعلل التي تصيب الإنسان، ولكنها أبلغ ما تكون في الفائدة والنفع في العين والحُمَة، يعني ذوات السموم.

إذا لُدغ الإنسان، لدغته عقرب أو حية، أو نحو ذلك يرقى، فيقوم كما لو أنه لم يصب بأذى.

هَكَذَا رَوَاهُ اِبْن مَاجَه، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ بُرَيْدَة مَوْقُوفًا، وَفِيهِ قِصَّة، وكذا رواه التِّرْمِذِي، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيث الْإِمَام الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن مَوْقُوفًا: لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَة[12].

ورواه مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ اِبْن عَبَّاس -رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيّ ﷺ قَالَ: الْعَيْن حَقّ، وَلَوْ كَانَ شَيْء سَابَقَ الْقَدَر سَبَقَتْ الْعَيْن، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا اِنْفَرَدَ بِهِ دُون الْبُخَارِيّ[13].

وعَنْ اِبْن عَبَّاس -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّه ﷺ يُعَوِّذ الْحَسَن وَالْحُسَيْن، يَقُول: أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ كُلّ شَيْطَان وَهَامَة، وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة[14].

من كل شيطان وهامة الهوام فسرت بذوات السموم، وبعضهم قيد ذلك بما يقتل منها، وما لا يقتل بعضهم يقول: سوام، أي هوام وسوام، وبعضهم فسره بما هو أوسع من هذا، كل ما يدب من هذه الحشرات يقال له ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ لكعب بن عجرة: أيؤذيك هوامُّ رأسك؟[15]، يعني القمل، سماه هوامًّا، فالحشرات ونحوها تسمى هوامًّا.

ومن كل عين لامة يعني العين التي تصيب بالسوء بإذن الله تعالى.

وَيَقُول: هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيم يُعَوِّذ إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل -عَلَيْهِمَا السَّلَام- أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ، وَأَهْل السُّنَن[16].

حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَسْعَد بْن سَهْل بْن حُنَيْف : روى اِبْن مَاجَه عَنْ أَبِي أُمَامَة أَسْعَد بْن   سَهْل بْن حُنَيْف قَالَ: مَرَّ عَامِر بْن رَبِيعَة بِسَهْلِ بْن حُنَيْف وَهُوَ يَغْتَسِل، فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْد مُخَبَّأَة، فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُول اللَّه ﷺ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا، قَالَ: مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ؟ قَالُوا: عَامِر بْن رَبِيعَة، قَالَ: عَلَامَ يَقْتُل أَحَدكُمْ أَخَاهُ؟ إِذَا رَأَى أَحَدكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا: أَنْ يَتَوَضَّأ، فَيَغْسِل وَجْهه، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَدَاخِلَة إِزَاره، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبّ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَان: قَالَ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ: وَأَمَرَ أَنْ يُكْفَأ الْإِنَاء مِنْ خَلْفه، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ طرق عَنْ أَبِي أُمَامَة: وَيُكْفَأ الْإِنَاء مِنْ خَلْفه[17].

قوله: "ولا جلد مخبّأة" يعني العذراء التي لم ترها الشمس، فتجدها في غاية الصفاء والنقاء، والبياض والرقة "ولا جلد مخبأة"، وهنا النبي ﷺ قال: إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعُ له بالبركة، يعني يقول: بارك الله لك، وبارك عليك، ونحو ذلك.

كثير من الناس يقول: قل: ما شاء الله، الصحيح أن يدعو له بالبركة: بارك الله لك، الله يبارك لك، الله يبارك عليك، أو نحو هذا، أو يقولون: قل ما شاء الله، تبارك الله، ليس هذا هو الذي يقال في هذا الموضع، وقد مضى الكلام على قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [سورة الكهف:39] هل هذا يقال لدفع العين، أو أنه قصد بذلك أنه يخرج من حوله وطوله، ويظهر فقره إلى الله -تبارك وتعالى، فلا يتعزز بهذه الجنة، مضى الكلام على هذا هل قصد بذلك أنه لا يصيب هذه الجنة التي يملكها بالعين، وذكرنا هناك: أن بعض أهل العلم قال بهذا إلا أن الأقرب أن ذلك للخروج عن الحول والقوة، فالله -تبارك وتعالى- هو المعطي المانع.

فالمقصود أنه يدعو بالبركة، يقول: اللهم بارك له، ونحو ذلك.

فيكون ذلك مانعًا من وصول السوء إلى الغير.

وأما قوله: "وداخلة إزاره" فالمقصود كما قال ابن القيم -رحمه الله: إن ذلك من المغابن، يعني المواضع الرقيقة في الجسد، يقول ابن القيم -رحمه الله: تتكيف النفس بكيفية معينة غيبية، فينبعث منها ذلك، فيصل إلى المعيون بإذن الله، هو يقول: يخرج من مَراقّ الجسد، المواضع الرقيقة، مثل هذه المواضع والمفاصل: باطن الركبتين، ونحو ذلك، وملتقى نهاية الفخذ، هذه المراق، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إنها تنبعث منها، والعلم عند الله ، لذلك يقول: أمر بغسل داخلة الإزار، وغسل المغابن، وهذه هي المغابن هذه المواضع الرقيقة.

حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ: روى اِبْن مَاجَه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ: "كَانَ رَسُول اللَّه ﷺ يَتَعَوَّذ مِنْ أَعْيُن الْجَانّ، وَأَعْيُن الْإِنْس، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا، وَتَرَك مَا سِوَى ذَلِكَ"[18]. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَسَن.

حَدِيث آخَر عَنْهُ: روىَ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي سَعِيد أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيّ ﷺ فَقَالَ: اِشْتَكَيْت يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك، ومِنْ شَرّ كُلّ نَفْس، أَوْ عَيْن حَاسِد اللَّه يَشْفِيك، بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك[19]، وَرَوَاهُ مُسْلِم، وَأَهْل السُّنَن إِلَّا أَبَا دَاوُد.

وروى الْإِمَام أَحْمَد أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيد أَوْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه: أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ اِشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيل، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك، مِنْ كُلّ حَاسِد وَعَيْن، وَاَللَّه يَشْفِيك[20].

حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة : روى الْإِمَام أَحْمَد عن أَبي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إن العين حق أَخْرَجَاهُ[21].

وروىَ اِبْن مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: الْعَيْن حَقّ تَفَرَّدَ بِهِ[22]. حَدِيث أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس: روى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عُبَيْد بْن رِفَاعَة الزُّرَقِيّ قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاء يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ بَنِي جَعْفَر تُصِيبهُمْ الْعَيْن أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْء يَسْبِق الْقَدَر لَسَبَقَتْهُ الْعَيْن[23]، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجه وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَسَن صَحِيح".

حَدِيث عَائِشَة -رضي الله عنها: روى اِبْن مَاجَه عَنْ عَائِشَة -رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَرِقِي مِنْ الْعَيْن" وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم[24].

حَدِيث سَهْل بْن حُنَيْف: روىَ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي أُمَامَة بْن سَهْل بْن حُنَيْف: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْو مَكَّة، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَّار مِنْ الْجُحْفَة اِغْتَسَلَ   سَهْل بْن حُنَيْف، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَض حَسَن الْجِسْم وَالْجِلْد، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِر بْن رَبِيعَة أَخُو بَنِي عَدِيّ بْن كَعْب وَهُوَ يَغْتَسِل، فَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْد مُخَبَّأَة، فَلُبِطَ سَهْل، فَأُتِيَ رَسُول اللَّه ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُول اللَّه هَلْ لَك فِي سَهْل؟ وَاَللَّه مَا يَرْفَع رَأْسه وَلَا يُفِيق، قَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَد؟ قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِر بْن رَبِيعَة، فَدَعَا رَسُول اللَّه ﷺ عَامِرًا، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُل أَحَدكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْت مَا يُعْجِبك بَرَّكْت، ثُمَّ قَالَ: اِغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهه وَيَدَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَاف رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَة إِزَاره فِي قَدَح، ثُمَّ صَبَّ ذَلِكَ الْمَاء عَلَيْهِ، فَصَبَّهُ رَجُل عَلَى رَأْسه، وَظَهْره مِنْ خَلْفه، ثُمَّ يُكْفَأ الْقَدَح وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْل مَعَ النَّاس لَيْسَ بِهِ بَأْس[25].

حَدِيث عَامِر بْن رَبِيعَة: روى الْإِمَام أَحْمَد فِي مُسْنَده عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَامِر قَالَ: اِنْطَلَقَ عَامِر بْن رَبِيعَة وَسَهْل بْن حُنَيْف يُرِيدَانِ الْغُسْل، قَالَ: فَانْطَلَقَا يَلْتَمِسَانِ الْخَمَر

الخَمَر يعني الموضع الذي يُستتر به من شجر أو جدار أو بناء أو شيء، يعني سيضعون ثيابهم.

قَالَ: فَوَضَعَ عَامِر جُبَّة كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ صُوف، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَأَصَبْتُه بِعَيْنِي

من المصاب؟ عامر على هذه الرواية عند أحمد، وأن الذي أصابه بالعين هو سهل بن حنيف عكس ما في الروايات الأخرى، ولهذا حكم أهل العلم على أن هذا من قبيل الوهم في هذه الرواية.

فَنَزَلَ الْمَاء يَغْتَسِل، قَالَ: فَسَمِعْت لَهُ فِي الْمَاء فَرْقَعَة

وضبطه بعضهم بالقاف قَرقعة يعني كأنه صوت من هو في موت ونزع.

فَنَادَيْته ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَتَيْت النَّبِيّ ﷺ فَأَخْبَرْته، قَالَ: فَجَاءَ يَمْشِي فَخَاضَ الْمَاء، فَكَأَنِّي أَنْظُر إِلَى بَيَاض سَاقَيْهِ، قَالَ: فَضَرَبَ صَدْره بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اِصْرِفْ عَنْهُ حَرّهَا وَبَرْدهَا وَوَصَبهَا قَالَ: فَقَامَ، فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إِذَا رَأَى أَحَدكُمْ مِنْ أَخِيهِ أَوْ مِنْ نَفْسه أَوْ مِنْ مَاله مَا يُعْجِبهُ فَلْيُبَرِّكْ، فَإِنَّ الْعَيْن حَقّ[26].

تأمل هنا أن النبي ﷺ دعا له، وما أمر الآخر بأن يتوضأ له، بعض أهل العلم قال: ربما يكون ذلك في واقعتين، أو أن النبي ﷺ قال ذلك وأمره بأن يتوضأ، لكن هنا لم يذكر الوضوء، وإنما ذكر فقط ما قاله النبي ﷺ من هذا الدعاء.

وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي: يَزْدَرُونَهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَيُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون أي: لِمَجِيئِهِ بِالْقُرْآنِ.

قال الله تعالى: وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ.

آخر تفسير سورة نون، ولله الحمد والمنة.

تأمل في أول السورة -في صدرها- قال: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وفي آخرها: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ فهذا نوع من المناسبات، يعني وجه الارتباط بين صدر السورة وخاتمتها، فالمناسبات أنواع، هناك مناسبات بين الآية والآية، ومناسبة بين المقطع والمقطع، هناك مناسبة بين الجملة والجملة، وهناك مناسبة -عند من يقول بأن ترتيب السور توقيفي، يعني عن النبي ﷺ بين السورة والسورة، وهذا فيه نظر، وهناك مناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، مثل هنا، وفي سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:2، 3].

ما هذا الغيب؟

في آخرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285] إلى آخره، فهذا من الإيمان بالغيب، وقد ألف فيه بعض أهل العلم مصنفات مستقلة.

  1. رواه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، رقم (2325)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (16).
  2. رواه مسلم، كتاب تفسير القرآن، باب: يوم يكشف عن ساق، رقم (4919).
  3. المصدر السابق.
  4. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، رقم (654).
  5. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد رقم (4686)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2583).
  6. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وهل أتاك حديث موسى [سورة طه:9] وكلم الله موسى تكليما [سورة النساء: 164] رقم (3395) ومسلم، كتاب الفضائل، باب في ذكر يونس ، رقم (2377) وأحمد، رقم (2167).
  7. رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، رقم (2516) وأحمد، رقم (2763)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (5302).
  8. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/ 34).
  9. رواه الترمذي، كتاب أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، رقم (3505)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (1826).
  10. رواه الطبراني في الكبير، رقم (181)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، رقم (1182).
  11. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/ 34-36)
  12. رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب ما رخص فيه من الرقى، رقم (3513)، وأصله في البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتوِ، رقم (5705)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم (220).
  13. رواه مسلم، كتاب الآداب، باب الطب والمرض والرقى، رقم (2188).
  14. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم (4737)، والترمذي، أبواب الطب عن رسول الله ﷺ، رقم (2060)، وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما عَوّذ به النبي ﷺ، وما عُوّذ به، رقم (3525)، وأحمد (2112)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وصححه الألباني في تخريج الكلم الطيب، رقم (146).
  15. رواه البخاري،  كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (4190)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، رقم (1201).
  16. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم (3371)، وأبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم (4737)، والترمذي، أبواب الطب عن رسول الله ﷺ، رقم (2060)، وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما عَوّذ به النبي ﷺ، وما عُوّذ به، رقم (3525).
  17. رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب العين، رقم (3509)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الضحايا، باب الاستغسال للمعين، (19616)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (4562).
  18. رواه النسائي، كِتَابُ الاستِعَاذةِ، باب الاستِعاذَة مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ، رقم (5494)، وابن ماجه، كتاب الطب، باب العين، رقم (3511)، وصححه الألباني.
  19. رواه مسلم، كتاب الآداب باب الطب والمرض والرقى، رقم (2186) والترمذي، كتاب أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التعوذ للمريض، رقم (972) وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما عَوّذ به النبي ﷺ، وما عُوّذ به، رقم (3523) وأحمد، رقم (11225)
  20. رواه أحمد، رقم (11710)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  21. رواه البخاري، كتاب الطب، باب العين حق، رقم (5740)، ومسلم، كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى، رقم (2187).
  22. رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب العين، رقم (3506)، وأصله في البخاري، كتاب الطب، باب: العين حق، رقم (5740)، ومسلم، كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى، رقم (2187).
  23. رواه الترمذي، كتاب أبواب الطب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرقية من العين، رقم (2059)، وصححه الألباني، رقم (4560).
  24. رواه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحُمَة والنظرة، رقم (2195).
  25. رواه أحمد، رقم (15980).
  26. رواه أحمد، رقم (15700)، وصححه الذهبي في تعليقه على تلخيص الحبير، رقم (7500)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، مع وهم فيه".

مواد ذات صلة