السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} الآية:12 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 8441
مرات الإستماع: 3949

بسم الله الرحمن الرحيم

وقوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا [سورة الجن:12] أَيْ نَعْلَمُ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ حَاكِمَةٌ عَلَيْنَا، وَأَنَّا لَا نُعْجِزُهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الْهَرَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [سورة الجن:13] يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَفْخَرٌ لَهُمْ، وَشَرَفٌ رَفِيعٌ، وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَوْلُهُمْ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ غَيْرُ سَيِّئَاتِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [سورة طه:112].

فَلا يَخافُ بَخْسا أي: يُنقَص، البخس: النقص من حسناته، والرَّهَق: أن يوضع عليه من غير سيئاته، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو اختيار ابن جرير، هكذا فسره -رحمه الله، لا يخاف نقصًا في ثوابه، ولا ظلمًا، فتوضع عليه سيئات غيره، لا يخاف مكروهًا يغشاه، وقد بينا أن الرَّهَق بمعنى: الغشيان، فإذا أردنا أن نربطه بأصل المعنى اللغوي: لا يخاف مكروهًا، أو ظلمًا يغشاه، فالبخس: النقص، والرَّهَق يقال لذلك، ويقال للطغيان، كما سبق.

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [سورة الجن:14] أي: مِنَّا الْمُسْلِمُ وَمِنَّا الْقَاسِطُ، وَهُوَ الْجَائِرُ عَنِ الْحَقِّ النَّاكِبُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُقْسِطِ، فَإِنَّهُ الْعَادِلُ: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: طَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ النَّجَاةَ: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [سورة الجن:15]  أي: وَقُودًا تُسَعَّرُ بهم.

تأمل هناك قال: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [سورة الجن:11] فهؤلاء يتفاوتون في مراتبهم في الصلاح، وغيره، وهنا في الإيمان والكفر: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ يعني الجائر عن الحق، الناكب له يقال له: قاسط.

فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا طلبوا لأنفسهم النجاة تَحَرَّوْا رَشَدًا يعني طلبوا الهدى، هذا معنى كلام ابن كثير -رحمه الله.

وقوله تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا [سورة الجن:16]، اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَدَلُوا إِلَيْهَا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا: لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا أي: كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: سِعَةُ الرِّزْقِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [سورة الجن:17] أي: لِنَخْتَبِرَهُمْ؛ كَمَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لِنَفْتِنَهُمْلِنَبْتَلِيَهُمْ مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الْغَوَايَةِ.

ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ:

روى الْعَوْفِيُّ نحوه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وكذا َقَالَ مُجَاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَتَادَةُ والضَّحَّاكُ.

وقال مقاتل: نزلت فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، حِينَ مُنِعُوا الْمَطَرَ سَبْعَ سنين.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: الضلال: لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًاْ أي: لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ استدراجًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الْأَنْعَامِ:44]، وَكَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56].

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بن حُميد، فإنه قال في قوله تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: طَرِيقَةِ الضَّلَالَةِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ كَيْسَانَ وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [سورة الجن:17].

قوله -تبارك وتعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ۝ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [سورة الجن:16، 17] هذا ليس من قول الجن، هذا من كلام الله -تبارك وتعالى، فهذا مما يسمونه: ما ظاهره الاتصال ومعناه منفصل، يعني أنه لمتكلميْن، لقائليْن، مع أن الظاهر في السياق أن ذلك في سياق كلام الجن: وأنا مِنَّا الْقَاسِطُونَ، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ۝ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ هنا إذا تبين هذا المعنى: أن هذا من قول الجن، فهو معطوف على قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّفهذا مما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لحصل لهم ما ذكر.

أُوحي إليّ: أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس عَلَى الطَّرِيقَةِ أو الإنس والجن.

والمقصود بذلك: اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِعلى أحد القولين اللذين ذكرهما ابن كثير: على الإسلام: لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا.

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا هنا كما سبق أن القراء اتفقوا على فتح الهمزة في هذا الموضع، يعني كأنه على إضمار يمين، قسم: والله وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم ونحو ذلك.

أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ وأوحي إليّ: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا، وبعضهم يقول غير هذا.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ۝ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فهذا الموضع هو: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ هو منشأ الخلاف الذي ذكره ابن كثير.

فهل المقصود: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني الإسلام والهدى، والحق الذي جاء به الرسول ﷺ؛ لجازاهم الله بذلك، فإذا كان هذا هو المعنى فكيف قال: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ؟

هذا موضع الإشكال عندهم، فلهذا قال بعضهم: إنه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني لو بقوا على كفرهم، واستمروا عليه، لاستدرجناهم، فأمددناهم بهذه الأمور التي هي من أجل مطالبهم الدنيوية؛ لأنه يحصل بسببها الخصب، ويكثر المال.

ويروى عن عمر -رضي الله تعالى عنه: أنه حيث كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة.

فعلى القول بأن ذلك بمعنى: أنه يوسع لهم الأرزاق استدراجًا لهم، فهذا كما قال الله تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] الآية.

وهكذا في الآية الأخرى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56] إلى غير هذا من الشواهد؛ كقوله تعالى في سورة الزخرف: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة الزخرف:33]، بعضهم يقول: على الكفر -كما مضى- لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الزخرف:33-35] يعني: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً على الكفر -على أحد القولين: لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا ذهبًا.

فكل هذا يكون من الذهب والفضة.

وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني على الكفر، فالله رحمة بالمؤمنين جعل بيوت هؤلاء الكفار من الخزف والحجارة والحديد، وما إلى ذلك، ومع ذلك الفتنة عظيمة بهم، كيف مُهدت لهم السبل، وذُللت لهم الحياة، وكانت الأمطار عليهم دارّة، فيُفتن خلق بهذا، أي كيف يكونون على الباطل وهذه حالهم؟ فكيف لو كانت بيوتهم من ذهب وفضة؟!

فالله رحم عباده، هذا على هذا المعنى.

فالآية تحتمل هذا المعنى: أن يكون ذلك على سبيل استدراج، والقرينة: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.

وعلى المعنى الآخر: أن ذلك بمعنى الإسلام: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني على الإيمان والهدى الذي بعث به الرسول ﷺ لأعطاهم الله، وأنزل لهم من البركات: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] فهذه تحصل بسبب الإيمان، لكن قوله -تبارك وتعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِما محمله على هذا القول؟

يكون محمله: يعني لنختبر شكرهم في هذا العطاء الذي نعطيهم، ولا شك أن ما يعطيه الله لعباده فإن هذا ابتلاء وامتحان: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35] فذكر الشر والخير معًا.

هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2] فهذه الحياة هي ابتلاء بما فيها، فيكون قوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يعني لنختبرهم: أيشكرون على هذه العطايا والنعم؟ والله أعلم.

على المعنى الأول: أن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام لأعطيناهم وأوليناهم، فيكون: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اختبارًا لهم.

هذا الذي أيضًا رجحه ابن جرير -رحمه الله- القول الأول، مع أن القول الآخر يحتمل، لكن كأن هذا هو الأقرب -والله أعلم؛ لأن الاستقامة إذا ذكرت فالمتبادر منها الاستقامة على الحق والطريقة، هكذا بهذا الإطلاق، الظاهر أن "أل" هنا عهدية -والله تعالى أعلم- الطريقة المعهودة التي رسمها الله، ووصفها في كتابه، وأمر عباده بسلوكها: الصراط المستقيم، الإسلام -والله أعلم.

يقول عن القول الثاني: "وله اتجاه، ويتأيد بقوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، هذه هي القرينة.

لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا والغدق ما المراد به؟

يعني الكثير الواسع مَاء غَدَقًا فهو كثير يتتابع، وهذا يقتضي توسعة عليهم في الدنيا والعطاء؛ لأن هذا الماء إذا تتابع صارت بلادهم كثيرة الخيرات، فهذا يعني السعة في معايشهم وأرزاقهم، وليس مجرد نزول المطر، وإنما ما يتبعه -كما هو معلوم- بل إن بعض أهل العلم -كابن قتيبة- يقول: ضرب ذلك مثلاً، وإلا فالمقصود ما هو أوسع من ذلك، لكن إذا نظرنا إلى هذا الملحظ في الارتباط: أن كثرة الأمطار حينما تصير بهذه المثابة: غَدَقًا فإن ذلك يعني كثرة الخيرات، تكون بلادهم كثيرة الأرزاق واسعة، فيحصل بها مطالبهم ومعايشهم، وتكون أقواتهم وأرزاقهم وافرة، والله يقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3].

فالتقوى سبب للرزق والبركة والخير، وكما سبق: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:10-12].

كل هذا يحصل بسبب: التقوى والإيمان -والله المستعان.

وبعضهم يقول: هذا أصلاً في الجن: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا يعني لو استقام أبوهم، وسجد لآدم، وأطاع الله حصل لهم ما ذكر، أن الله ينعم عليهم، وهذا بعيد، مع أن هذا ما قاله واختاره الزجاج -رحمه الله، لكن ظاهر السياق لا يدل عليه، والله أعلم.

وَقَوْلُهُ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا أي: عذابا مُشِقًّا شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: عَذَابًا صَعَدًا أي: مَشَقَّةً لَا رَاحَةَ مَعَهَا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: بئر فيها.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ ما المقصود بذكر ربه -تبارك وتعالى؟

ابن جرير -رحمه الله- حمله على القرآن، يُعرض عن استماعه، والعمل به.

فهنا يكون "الذكر" من قبيل إضافة المفعول إلى الفاعل؛ لأن الله هو الذي ذكر القرآن، وهو الذي تكلم به، فالرب فاعل، والقرآن مذكوره، تكلم به، فالله هو الفاعل: عَن ذِكْرِ رَبِّهِ.

ويحتمل أن يكون من قبيل: إضافة الفاعل إلى المفعول، يعني يكون الرب هنا -هذا اللفظ- في مقام يعرب مفعولاً به، يعني: يعرض عن ذكر ربه، لا يذكر ربه، بلسانه وقلبه وجوارحه.

ولو قيل: إن الآية تُحمل على هذا وهذا، يكون المصدر هنا مضافًا بمعنى إضافة الفاعل إلى المفعول، والعكس، فهنا من يعرض عن ذكر ربه -تبارك وتعالى، فلا يذكر ربه، بقلبه ولا لسانه ولا جوارحه، وكذلك أيضًا يعرض عن كتابه وكلامه، فلا يؤمن به ولا ينتفع، قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي [سورة طـه:124] أيضًا تحتمل المعنيين.

ذِكْرِي كتابي، كلامي، أو ذِكْرِي يعني لم يذكرني، لم يعبدني، الذكر يشمل هذا وهذا، وقد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات.

وقوله: وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا قال: مُشِقًّا شديدًا مُوجعًا، هذا الذي فسره به ابن جرير -رحمه الله، مع أن من أهل العلم من قال غير ذلك.

عَذَابًا صَعَدًا يعني شاقًا صعبًا.

ويَسْلُكْهُ قرأه بعضهم بالنون، وهي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى التي نقرأ بها قراءة الكوفيين بالياء: يَسْلُكْهُ.

هنا وصف العذاب بهذا: عَذَابًا ما صفته؟

صَعَدًا فإذا كان أصل الصَّعد هو المشقة، فوصف العذاب به بأي اعتبار؟

كأنه من باب المبالغة، باعتبار أنه يتصعد به المعذب، يلحقه بسبب ذلك ألم ومشقة ومعاناة، فهو يصعب عليه، ويشق ولا يطيقه.

مع أن بعض السلف كما روي عن عكرمة فسر الصعد هنا بصخرة في النار.

وفسر بعضهم ذلك بالصعود: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا فيصعد في النار وينزل، ويتعذب بذلك، فإذا بلغ أعلاها انحدر، وهكذا، ولهذا ابن كثير -رحمه الله- هنا قال عن ابن عباس: جبل في جهنم.

وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.

لكن إذا فسر هذا بالمشقة على كل حال هكذا فهو ما يلاقيه من معاناة في النار ومشاق -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.

وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ۝ وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ۝ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ۝ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً ۝ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ۝ إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ۝ حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً [سورة الجن:18-24].

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ: أن يوحدوه في محالّ عِبَادَتِهِ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ وَلَا يُشْرَكُ به، كما قال قتادة في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا قال: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَحْدَهُ.

وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا قال: قَالَتِ الْجِنُّ لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ ونحن ناءون -أي بعيدون عنك؟ وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.

قوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ كما بينا سابقا أن القراء اتفقوا في هذا الموضع على فتح الهمزة: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا يعني يكون معطوفًا على قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1] وأن المساجد لله أوحي إليّ: أن المساجد مختصة بالله -تبارك وتعالى، مع أن بعض أهل العلم -كالخليل- يقول: المعنى هكذا: ولأن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، المساجد ما المراد بها؟

الظاهر المتبادر: أنها المواضع التي بنيت للصلاة، بهذا فسرها بعض السلف فمن بعدهم.

وبعضهم عمم المعنى: أنها كل البقاع، فالنبي ﷺ يقول: وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا[1] فعمم المعنى.

فالأرض كلها مسجد بهذا الاعتبار، وهذا الذي فسرها به الحسن البصري، فهذا ليس باختلاف حقيقي، يعني الأرض بهذا الاعتبار كلها مسجد.

المقصود أن المواضع التي يُصلَّى فيها إلى آخره ينبغي أن يكون ذلك مما يوحد به الله -تبارك وتعالى، ولا يُتخذ شيء من ذلك لعبادة غيره.

وذهب آخرون إلى أن المقصود بالمساجد هي مواضع السجود، أن المساجد يقال لها: مساجد باعتبار أن الإنسان يسجد عليها، فهو يسجد على سبعة أعضاء، أو سبعة أعظم، وهذا الذي قاله سعيد بن المسيب -رحمه الله.

وأن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا يعني هذه أعضاء الله أنعم بها عليك، فلا توجه ذلك إلى غيره -جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيكون ذلك كفرًا به، وبنعمته على عباده.

وهذا معنى تحتمله الآية.

وبعضهم فسر المساجد بالصلاة نفسها: وأن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ يعني الصلاة، باعتبار أن السجود من جملة أركان الصلاة، وهذا أبعد هذه الأقوال، فالمتبادر منها: أن المساجد هي المواضع التي بنيت للصلاة، ويلحق ذلك حكمًا كل بقعة من الأرض يصلى فيها، فينبغي أن يكون التوجه في ذلك كله إلى الله -تبارك وتعالى.

وقول من قال: إن المقصود: وأن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ يعني: مواضع السجود ليس ببعيد، فلو قال قائل: إن ذلك داخل في الآية، فهي تشمل المواضع من الأرض، وتشمل أيضًا ذلك من الإنسان، فكل ذلك ينبغي أن يتوجه به إلى المعبود، دون ما سواه وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.

وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ ﷺ يَتْلُو الْقُرْآنَ، كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَدَنَوْا مِنْهُ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ، فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1] يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ"[2] هَذَا قَوْلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ .

وَروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قال: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابُهُ يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قال: عَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالَ: فَقَالُوا لِقَوْمِهِم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً.

وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ، كَادَتِ الْعَرَبُ تَلْبُدُ عَلَيْهِ جَمِيعًا.

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: وأنه لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قال: تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ ينصره ويمضيه، ويظهره على من ناوأه.

وهذا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وهو اختيار ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا أي: قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَمَّا آذَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ، لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، واجتمعوا على عداوته: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي أي: إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَسْتَجِيرُ بِهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.

هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ اللَّهِ يَدْعُوهُ.

وَأَنَّهُ كما سبق أن بينا أن قراءة الجمهور بفتح همزة أن: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ فيكون ذلك عائدًا على أوحي:

أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأوحي إليّ أنه: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا.

فـعَبْدُ اللَّهِ هنا المراد به النبي ﷺ، في هذه الأقوال الثلاثة، لكن: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا، مَن هؤلاء الذين كادوا يكونون عليه لبدًا؟

ذكر ثلاثة أقوال:

الأول -من غير نظر إلى ترتيب ابن كثير -رحمه الله: أن المقصود بذلك: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا يعني أن أصحابه حينما صلى بهم، فكانوا يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، وينقادون خلفه، فيكون ذلك من قول الجن، يصفون ما شاهدوا من صلاة النبي ﷺ مع أصحابه.

ولكن هذا قد يشكل عليه ما سبق من مرجع الكلام إلى قوله: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ فأوحي إليه: أنه لما قام عبد الله، كاد أصحابه يكونون عليه لبدًا؟!

لا، وإنما المقصود -والله أعلم- أن ذلك يحتمل أن يكون من قول الله : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ، فيكون المعنى الثاني: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ أي: النبي ﷺ يدعو إلى الله، يدعو إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله تلبّد عليه المشركون، اجتمعوا فرموه عن قوس واحدة، من الإنس، وعلى القول الآخر -وهو أوسع من هذا، ولا ينافيه: أنه تلبّد عليه الإنس والجن، على سبيل المضادة والمحادة والعداوة والصد عما يدعو إليه.

فهذه ثلاثة أقوال، يمكن أن تُجمع في قولين.

وإذا أردنا أن نجعلها ثلاثة يمكن أن نجعل الثالث: أن هؤلاء الجن اجتمعوا يستمعون من النبي ﷺ، حتى تلبدوا، بمعنى أنهم اقتربوا منه جدًّا، وتقاربوا وتزاحموا، من أجل أن يستمعوا، وذلك ببطن نخلة -كما سبق، وصاروا يستمعون قراءته، واقتربوا هذا الاقتراب، فهذا تحتمله الآية احتمالاً قريبًا، يعني كاد الجن أن يكونوا على النبي ﷺ بهذه المثابة والصفة: لِبَدًا يعني متراكمين من ازدحامهم وتقاربهم، من أجل سماع القرآن، يعني كأنه يركب بعضهم بعضًا.

وعلى المعنيين قبله: أن ذلك باعتبار عداوة الكفار، إما من الإنس أو من الإنس والجن، حَرَدًا على النبي ﷺ، تلبد عليه هؤلاء الأعداء من شياطين الإنس والجن، ليطفئوا نور الله -تبارك وتعالى، فهذا المعنى الذي مال إليه ورجحه الحافظ ابن كثير -رحمه الله، ولكن قوله لما ذكر القول الثالث: تلبدت الإنس والجن، قال: وهو اختيار ابن جرير، الواقع أن عبارة ابن جرير: كادت العرب أن تكون عليه جميعًا في إطفاء نور الله، العرب، فهو لا يتكلم عن الجن، فقول ابن جرير: إن ذلك في عداوة الإنس، وليس الإنس والجن، واضح؟ العبارة التي نقلها ابن كثير أنها الجن والإنس، وعبارة ابن جرير أضيق من هذا، فهو يتكلم عن الإنس، وهذه عبارته.

ابن جرير طبعًا يحتج على هذا المعنى، على هذا الترجيح: أن المقصود في العداوة، وليس المقصود أن أصحابه يسجدون خلفه مثلاً، ويركعون بركوعه، ونحو ذلك، أو أن الجن اقترب بعضهم من بعض، واقتربوا من النبي ﷺ: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا لماذا قال: العداوة؟

قال: القرينة أنه قبله قال مقررًا للتوحيد: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فقال: إن المساجد لله، يعني يُوحَّد بها ويعبد، ولا تكن لغيره، والنهي الصريح عن الشرك: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ثم قال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ يعني يدعو إلى توحيده: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا يعني رموه عن قوس واحدة، بالعداوة، يرى أن هذه قرينة، يقول: جاءت هذه الآية بعد هذه، فهي في الدعوة إلى التوحيد، فهؤلاء: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا وليس من أجل أن يستمعوا قراءته، ولا من أجل أنهم يصلون خلفه، ويستجيبون له هذه الاستجابة العظيمة، لا، وإنما نفروا غاية النفور، وواجهوه بالعداوة، هذه القرينة التي جعلت ابن جرير يختار هذا القول، وهي صالحة لقول من قال: إن ذلك في الجن والإنس، كما اختار ابن كثير -رحمه الله- أيضًا.

يعني المقصود العداوة، سواء قيل: الإنس عداوة العرب له مثلاً، أو قيل: الإنس والجن، ما هي القرينة؟

على هذا اختيار ابن جرير وابن كثير، يعني أن ذلك في العداوة، يعني أصل القول واحد، هو ما قبله من ذكر التوحيد والدعوة إلى التوحيد، والأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك، فهذه قرينة على أن المقصود العداوة، لما واجههم بهذا كاشروه بالعداوة: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا وهكذا كل داعية من أتباع الرسل إلى التوحيد، فإن الأعداء يتكالبون عليه، حتى يصير بهذه المثابة، بقدر ما عنده من الدعوة إلى هذا التوحيد، والصبر عليه، والبذل والنفع والانتشار، فيحاربونه ويجتمعون على حربه، بكل سبيل مستطاع: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا فهم لا يتركون أهل الحق، ولكن المخذول من خذله الله، والموفق من وفقه الله ، والناس: كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها[3] فمنهم من يكون في ركاب الشيطان، ومنهم من يكون في حزب الرحمن -والله المستعان.

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [سورة الإسراء:64] فكل راكب في مساخط الله فهو من خيله، وكل ماشٍ في ذلك فهو من رجله، وكل صوت في قناة فضائية، أو غيرها من أصوات اللهو والمعازف، وغير ذلك فهو أيضًا من صوت الشيطان.

واللِّبَد عرفناه، ولا زالت هذه اللفظة مستعملة عندنا إلى اليوم، فالشيء الملبَّد، وتلبّد يقال للشيء الذي التصق بعضه ببعض، تراكم، يقال له ذلك، وكذلك الشعر الكثيف الذي في عنق الأسد يقال له: لُبْدة.

وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا أي: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ، وَعَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ .

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، أَيْ لَوْ عَصَيْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِنْقَاذِي مِنْ عَذَابِهِ: وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَا مَلْجَأَ.

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي هذه على القراءة التي نقرأ بها: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي قراءة عاصم وحمزة، وفي قراءة الجمهور قال: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي بدون "قل" على سبيل الحكاية، والإخبار عنه.

وقوله هنا: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا قال مجاهد وقتادة والسدي: لا ملجأ.

وهذا الذي قاله ابن جرير أيضًا: إن المُلتَحد هو الملجأ، لن أجد مكانًا ألجأ إليه، ملتجأ ألجأ إليه.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ، وَيُخَلِّصُنِي، إِلَّا إِبْلَاغِي الرِّسَالَةَ الَّتِي أَوْجَبَ أَدَاءَهَا عَلَيَّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67].

يعني أن البلاغ هنا: إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ يقول: أنا لا أجد من دون الله ملجأ ألجأ إليه، حينما يريدني بعقوبة قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا يعني مَمالاً أو موضعًا أميل إليه، وملجأ ألجأ إليه، فهذا الاستثناء هنا: إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ بعض أهل العلم يقول: هذا الاستثناء من قوله -تبارك وتعالى: لَا أَمْلِكُ يعني: لا أملك ضرًّا ولا رشدًا إلا التبليغ عن الله -تبارك وتعالى، فهذا فيه أعظم الرشد، أو أن يكون هذا الاستثناء من قوله: وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۝ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ يعني لن أجد من دونه إلا التبليغ، وذلك الذي يجيرني من عذابه فقط.

وبعضهم يقول غير هذا إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ يقول: لكنْ أبلغكم، يعني أنه من قبيل الاستثناء المنقطع، كما يقول الفراء: أنا لن أجد من دون الله ملجأ ألجأ إليه، لكن أبلغكم ما أرسلت به فقط، يعني هذا غاية ما هنالك، وإلا فالبلاغ لا يوجد، وإنما ينجو من سلّمه الله -تبارك وتعالى، إلى غير ذلك من الأقوال.

وقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أي: أَنَمَا أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، فَمَنْ يَعْصِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ جَزَاءٌ عَلَى ذَلِكَ نَارُ جَهَنَّمَ، جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أي: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ منها.

وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا أي: حَتَّى إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا يُوعِدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا هُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَحِّدُونَ لله تعالى، أي بل المشركون لَا نَاصِرَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا من جنود الله .

قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا يقول: حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة.

ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة، يعني بمعنى: أنهم لا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر، والعداوة للنبي ﷺ، حتى إذا رأوا الذي يوعدون به، فعندئذ سيعلمون: مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا فيكونون في حال من الحسرة والخذلان، وتتبين لهم، وتتكشف الحقائق.

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ۝ عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ۝ إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ۝ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [سورة الجن:25-28].

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ ﷺ: أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِوَقْتِ السَّاعَةِ وَلَا يَدْرِي أَقَرِيبٌ وَقْتُهَا أَمْ بَعِيدٌ: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا أي: مُدَّةً طَوِيلَةً.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ كثير من الجهلة من أنه -عليه الصلاة والسلام- "لَا يُؤَلِّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ"[4] كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ.

معنى أنه: "لا يؤلِّف تحت الأرض" أنه لا يكمِّل ولا يتجاوز الألف، يعني هؤلاء يتنبئون أو يخبرون أو يتكلمون بناءً على حساب الجمل، الحروف المقطعة أو غير ذلك مما يزعمونه، مدة عمر الأمة، ويحتجون ببعض الأحاديث المكذوبة في عمر الدنيا: أنه سبعة آلاف سنة، وأن النبي ﷺ لا يتجاوز الألف، يعني في أمته، ومدة بقاء هذه الأمة التي هي آخر الأمم يقولون: لا تتجاوز الألف، لا يؤلِّف تحت الأرض، وهذا معناه، وهذا كذب، ولا يصح فيه شيء، والساعة لا يعلم وقتها إلا الله -تبارك وتعالى.

وقد مضت هذه المدد التي يزعم هؤلاء، ويتخرص بها متخرصون، وللأسف لا زال كثيرون يصدقون مثل هذا الكلام، وبعضهم فيما يسميه بـ"الإعجاز العددي" وهو باطل، يذكرون أشياء من عمر الأمة، وقيام الساعة لربما، ويذكرون أشياء في نهاية دولة إسرائيل وغير إسرائيل، ولربما تقرأ للواحد من هؤلاء كتابًا كاملاً، طويلاً عريضًا، في عمليات حسابية معقدة، تظن أن تحتها شيئًا، ولربما يغتر بذلك كثيرون، حينما يقرأون مثل هذا الكلام.

وقد حدد بعضهم لقيام الساعة سنة 2012م، وكتب كتابات رأيت بعض من صدقها؛ لأنه أخذهم من هنا وهناك، وتلاعب بهم، حتى إن بعضهم جاء بهذا، وقال: هذا الكلام الذي يقوله مدعم بأشياء كثيرة، وشواهد، قلت له: هذا كذب من أصله، ما يحتاج أني أقرأه، فلما رأيت إلحاحه، وكيف تأثر بمثل هذا الكلام اضطررت أني أطالع في هذه المذكرة الطويلة، وإذا بالرجل يبني بنايات على أمواج الماء، يبني بنايات كبيرة على الموج، على لا شيء، فذكرت له أشياء قبل قيام الساعة، وأنها لم تحصل، ولن تحصل في سنتين.

المهم أنا أقول: مضت سنة 2012م، واتضح أن هذا كذاب كبير له قرون، لكن الناس ينسون، ويأتي كذاب آخر، ويقول لهم: سنة ألفين وكذا، وهكذا، ويأتي ويجد من يصدقه، حدثني بعض طلبة العلم والمشايخ في إندونيسيا، وأروني مجلاتٍ وجرائد، وصورًا وأشياء، وكتابات وكتباً، عندهم من يدعي الألوهية: أنه الله، وله أتباع في كل المحافظات تقريبًا، وعندهم من يدعي أنه رسول، وله أتباع في كل المحافظات، وعندهم من يدعي أنه المهدي، وله أتباع، وعندهم قديانية الذين يسمونهم "الأحمدية" ولهم أتباع في جميع المحافظات، وكل ناعق لباطل يجد من الأتباع، وكل ساقطة -كما قيل- لها لاقطة، القول أحيانًا يكون في غاية الوهاء، ومع ذلك تجد من يصدقه، ويعتنقه، ولله في خلقه شئون، فالحمد لله على نعمة الإسلام والسنة.

وَقَدْ كَانَ ﷺ يُسْأَلُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ فَلَا يُجِيبُ عَنْهَا، وَلَمَّا تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ كَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَخْبِرْنِي عن السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَمَّا نَادَاهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّهَا كَائِنَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُعِدَّ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ[5].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [سورة الْبَقَرَةِ:225].

وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ، وَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مما أطلعه تعالى عليه، ولهذا قَالَ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وَهَذَا يَعُمُّ الرسول الملكي والبشري.

ثم قال تعالى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا أي: يخصه بِمَزِيدِ مُعَقِّبَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيُسَاوِقُونَهُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ.

الضمير في قوله: وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [سورة الجن:27] عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ يعني ما يظهره من الغيوب بالوحي يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، يحتمل أن يكون هذا الوحي الذي يوحِي به من الغيوب إلى رسله -عليهم الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون ذلك عائدًا إلى الرسول.

وبين المعنيين ملازمة، فإذا كان يحوط الرسول: مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا مما يحميه الله به من الشياطين ومن استراقهم، فإن ذلك يقتضي حماية الوحي، وحماية الوحي تقتضي أيضًا حماية حامل الوحي من هؤلاء الشياطين واستراقهم.

هذان المعنيان متلازمان، لا يحتاجان إلى ترجيح.

وَلِهَذَا قَالَ: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ إِلَى مَن يعود؟ فقيل: إنه عائد إلى النبي ﷺ.

قوله: رَصَدًا الرصد هنا ما المقصود به؟

هنا قال: الرصد من الملائكة، يعني أصل ذلك الرصد يقال لما يرصد من الحرس، أو نحو ذلك، ويستوي فيه الواحد والجمع، والمؤنث والمذكر، فيقال: جعلت له رصدًا، يعني يترصدون به، يرصدونه، ويرقبونه، ونحو ذلك، هذا الرصد: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ.

وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا قَالَ: أَرْبَعَةُ حَفَظَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ جِبْرِيلَ لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ  ﷺ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً[6] وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قَالَ: لِيَعْلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفِظَتْهَا، وَدَفَعَتْ عَنْهَا[7] وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَرَأَ يَعْقُوبُ: لِيُعْلَمَ بِالضَّمِّ، أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ ، وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي زَادِ الْمَسِيرِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يَحْفَظُ رُسُلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ رسالاته، ويحفظ ما ينزله إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ: لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم ويكون ذلك كقوله تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143]، وكقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ[سورة الْعَنْكَبُوتِ:11] إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.

آخر تفسير سورة الجن، ولله الحمد والمنة.

قوله -تبارك وتعالى: لِيَعْلَمَ "اللام" هذه بعض أهل العلم يقول: متعلقة بقوله: يَسْلُكُ، أي يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا۝ لِيَعْلَمَ.

ومن الذي يعلم؟ هل هو الله، أو الرسول ﷺ، أو الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟

فهذه أقوال لأهل العلم، بعضهم يقول: لِيَعْلَمَ أي محمد ﷺ، يعلم ماذا؟ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ من الذين أبلغوا؟ الضمير يرجع إلى من؟

بعضهم يقول: هؤلاء الرصد، يرجع إلى الرصد، جبريل، إذا فسر بجبريل، أو الملائكة معه، لِيَعْلَمَمحمد ﷺ أنه أبلغ إليه رسالات الله محفوظة، لم يحصل فيها تبديل ولا تغيير، أن الله جعل له ذلك ليعلم، وهذا قال به بعض السلف، كسعيد بن جبير، أن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا يعني هؤلاء الرصد، إذا فسر بجبريل أو الملائكة.

أو لِيَعْلَمَ النبي ﷺ أن الرسل قبله حينما يرسلهم الله -تبارك وتعالى- فإنه يحوطهم بهذا الحفظ والرصد، فيعلم النبي ﷺ أن هؤلاء الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم على الوجه الصحيح، وعلى التمام والكمال، من غير تغيير ولا تبديل، ولا تحريف.

وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الجن، يعني لِيَعْلَمَ الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أُنزل إليهم، وليس ما يسترقونه من السمع هو الذي يحصل به، فليسوا هم بالمبلغين لما يسترقونه من السمع، وإنما يأتي الوحي صافيًا نقيًّا من غير شوب؛ لأن الله قد حفظه من هؤلاء الشياطين، فهو يأتي للنبي ﷺ، وما تنزلت به الشياطين، لِيَعْلَمَ يعني الجن، هذا قال به ابن قتيبة، ولكنه دون الأول، وأضعف مما قبله.

وبعضهم لا يخص ذلك بالجن، وإنما يقول: لِيَعْلَمَ من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، بما جعل الله لهم من هذا الحفظ والحياطة.

والذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك يرجع إلى الله : لِيَعْلَمَ أي: الله أن رسله قد بلغوا رسالاته، وكأن الأقوال الأخرى مع بُعد بعضها، كقول من قال: لِيَعْلَمَ أي: إبليس أن قد أبلغوا رسالات ربهم، كأن هؤلاء أرادوا أن يتحاشوا هذا المعنى؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون، ومالم يكن لو كان كيف يكون، وكيف قال: لِيَعْلَمَ والله يعلم كل ما كان؟

فالمقصود بالعلم هنا: أي علم المشاهدة، وإلا فالله عالم بكل شيء، فهذا كقوله -تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [سورة البقرة:143].

الله يعلم، لكن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء في آية القبلة، تحقق الوقوع، وهكذا في نظائره، فإنه محمول على هذا المعنى، ونحوه، ولا إشكال، ولا ينافي أن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً [سورة التوبة:47].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين لما وعدوا اليهود بالنصر، وقالوا: إن قُتلتم سنقاتل معكم، إلى آخره، قال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ [سورة الحشر:12] يعني هذا علم ما كان، هو يخبر عن قولهم، وما لم يكن لو كان كيف يكون، علم ما كان وما لا يكون، وما لو كان كيف يكون: لَا يَنصُرُونَهُمْ وهذا الذي حصل: وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ طبعًا هذا لم يكن، فإنه ستكون النتيجة الهزيمة المنكرة، فهذا المعنى الأخير اختاره الزجاج، وهو الذي يُحمل على هذا المعنى الذي ذكرته آنفًا، ونظائره في القرآن واضحة -والله تعالى أعلم.

ابن كثير -رحمه الله- هنا جعل ذلك باعتبار أنه يعود إلى النبي ﷺ، وهذا الذي اختاره ابن جرير، ولكن كأن ما ذكر أخيرًا أقرب، والله تعالى أعلم.

لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ بعضهم يقول: يعني بما عند الرصد من هؤلاء الملائكة، أو بما عند الرسل وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا.

لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ نقل عن قتادة قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها، ودفعت عنها، يعني على هذا: التقدير أخبرناه بحفظنا الوحي لِيَعْلَمَ أن الرسل قد أدت وبلغت البلاغ المبين، وكانوا على حالته، أو على مثل حالته من التبليغ -والله أعلم.

هذا ما يتعلق بهذه السورة، وأسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

  1. رواه البخاري، في أول كتاب التيمم، رقم (335)، ومسلم، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).
  2. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 257).
  3. رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم (223).
  4. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ص (693).
  5. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، رقم (2639).
  6. جامع البيان في تأويل القرآن (23/ 673)، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/ 3378).
  7. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 259).

مواد ذات صلة