السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(005-أ) من قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها..) الآية 46 – إلى قوله (فاستبقوا الخيرات) الآية 49
تاريخ النشر: ٠٦ / صفر / ١٤٣٩
التحميل: 703
مرات الإستماع: 647

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

"وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] (كتبنا) بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض والإلزام، والضمير في عَلَيْهِمْ لبني إسرائيل، وفي قوله: فِيهَا للتوراة".

الكتْب يأتي بمعنى الكتابة، ويأتي بمعنى الفرض والإلزام شرعًا، كقوله -تبارك وتعالى- هنا على هذا الاعتبار: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] وكقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] وكذلك أيضًا يأتي الكتْب بمعنى: قدّر، كقوله -تبارك وتعالى-: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] فالكتب هنا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أي في التوراة، يشمل المعنيين: أن ذلك مكتوب في التوراة، وأن هذا الحكم فرض لازم، فرضه الله -تبارك وتعالى- عليهم، فلا يحتاج إلى ترجيح في المعنى.

سؤال: الكتابة في وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ شرعية يا شيخ؟

نعم كتابة شرعية، وليست قدرية، باعتبار أنها غير ملزمة، من حيث الوقوع.

"أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] أي: تقتل النفس إذا قتلت نفسًا، وهذا إخبار عما في التوراة، وهو حكم الله في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عام، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: "لا يُقتل مؤمن بكافر" للحديث الوارد في ذلك، ولا يُقتل حر بعبد؛ لقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178] وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة". 

ذكر في الحاشية هنا حديث أبي جحيفة في الصحيح، لما سأل علي : هل خصكم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بشيء؟ قال: لا، والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله رجلاً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة، وذكر ما في الصحيفة لما سأله قال: "العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر"[1].

"وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب النون، [وفي النسخة الخطية: والقراءة بنصب العين] وما بعده عطف على النفس، وقُرئ بالرفع، ولها ثلاثة أوجه:

أحدها: العطف على موضع النفس؛ لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس.

والثاني: العطف على الضمير الذي في الخبر، وهو بالنفس.

والثالث: أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء".

القراءة في قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ سواء كان ما ذكره ابن جزي: بنصب النون، آخر الحرف من العين، أو كان ذلك بنصب العين، كل هذا سواء لا إشكال فيه، وهذه القراءة: (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) على قراءة الرفع: قرأ بها الكسائي، وقراءة الجمهور هي التي نقرأ بها: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ[2]، فعلى قراءة النصب يكون معطوفًا على النفس، وهذا واضح، ولا إشكال فيه، وعلى قراءة الرفع: (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ)، فهذه ذكر لها ثلاثة أوجه، وهذه الأوجه التي ذكرها ذكرها قبله أبو علي الفارسي[3].

الأول: العطف على موضع النفس، يقول: لأن المعنى: قلنا لهم: النفسَ بالنفس، هذا باعتبار أن قوله: (أن) يمكن أن يُستغنى عنه على وجه يصح معه الكلام، لو لم تذكر لكان الكلام هكذا: وكتبنا عليهم فيها تقول: النفس بالنفس مثلاً، فدخلت عليها (أن) فكانت منصوبة، فمحلها الرفع بهذا الاعتبار، وهذا ليس محل تسليم عند بعض أهل العلم.

والثاني: العطف على الضمير الذي في الخبر، وهو: بالنفس، التقدير: أن النفس بالنفس (هي) فهذا هو الضمير الذي يشير إليه، باعتبار أنه مرفوع، (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) عطفًا عليه، وهذا اعترض عليه أيضًا بعض أهل العلم.

الثالث: أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) العين: مبتدأ، وبالعين خبره، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ انتهى، ثم يبدأ كلام جديد في الأعضاء (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ بِالْأُذُنِ وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ)

"وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] بالنصب عطف على المنصوبات قبله".

على قراءة الرفع، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر[4]، بخلاف قراءة الجمهور بالرفع على الأوجه الثلاثة.

"بالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يُخاف على النفس منها".

المقصود عموم الجروح، لكنه لا يكون القصاص في الجروح التي لا ينضبط القصاص فيها، والتي قد يتعدى، ويسري إلى النفس، ونحو ذلك، فمثل هذا لا يكون فيه القصاص، وأصل القصاص مقابلة الفعل بمثله، هذا أصل معناه.

فهو في أصله اللغوي: تتبع الشيء والأثر، بكل استعمالاته يرجع إلى هذا الأصل، ومن هذا اشتق القصاص في الجراح؛ لأنه يفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره.

"فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] فيه تأويلان:

أحدهما: من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص، وعفا عنه، فذلك كفارة له، يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه".

قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني صاحب الحق إذا تنازل، فهو كفارة لذنوبه هو، أي: للعافي، وهذا مروي عن جماعة من السلف: كابن مسعود، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وهو رواية عن إبراهيم النخعي، وبه قال الحسن، وقتادة، والشعبي[5]، وهو اختيار ابن جرير[6]، ورجحه ابن العربي[7]، والقرطبي[8]، وشيخ الإسلام ابن تيمية[9]، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[10]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[11]، وعزاه للجمهور، وابن العربي[12] وعزاه لأكثر الصحابة.

فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فهو كفارة له، باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو المتصدق، فهذا قول أكثر أهل العلم.

"والثاني: من تصدّق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح [وفي النسخة الخطية: فهو كفارة للقاتل أو الجارح] بعفو الله عنه، [وفي النسخة الخطية: يعفو الله عنه في ذلك] لأن صاحب الحق قد عفا عنه، والضمير في له على التأويل الأوَّل: يعود على (من) التي هي كناية عن المقتول، أو المجروح، أو الولي.

وعلى الثاني: يعود على القاتل أو الجارح، وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه.

والأوَّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو (من) ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل، أو الجارح إذا عفي عنه".

ولا يخفى أن الصدقة تكفر ذنب المتصدق فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45].

وفي حديث عبادة مرفوعًا: ما من رجل يجرح من جسده جراحة، فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه، مثل ما تصدق به[13]، أخرجه الإمام أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر[14]، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمهما الله-[15].

فهذا الحديث أشبه ما يكون بتفسير الآية، وأن ذلك يرجع إلى المتصدق، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ [المائدة:45] يعني تنازل عن حقه، فذلك يكون كفارة لهذا المتصدق.

والمعنى الآخر: أنه يكون كفارة للجاني، باعتبار أن صاحب الحق قد تنازل عنه، وقد روي ذلك عن ابن عباس -ا- من طريق ابن أبي طلحة: أنه كفارة للمطلوب وأجر للطالب[16]، يعني لصاحب الحق.

ومن المعاصرين من جمع بين المعنيين، فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] المراد: الجاني، والمجني عليه، وممن قال بذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-.

فصاحب الحق إذا تنازل فإن ذلك يكون كفارة له، ويكون أيضًا كفارة للجاني؛ لأنه قد سقط الحق بإسقاط صاحبه له، بهذا الاعتبار.

لكن ظاهر الآية أن الضمير يرجع إلى مذكور قبله، ويكون معنى ذلك: أن صاحب الحق إذا تنازل عنه كان ذلك كفارة لصاحب الحق، المتنازل والعافي، ويكون ذلك ترغيبًا له في العفو.

ومثل هذا من الجنايات: هل إذا تنازل صاحب الحق يسقط الإثم مطلقًا؟ فالحقوق -كما هو معلوم- منها ما يكون حقًا لله -تبارك وتعالى-، مثل الصلاة، والصيام، ونحو ذلك، ومنها ما يكون مشتركًا: فيه حق لله، وحق للعبد، مثل الزنا، لو أنه غصب امرأة، أو نحو ذلك إذا تنازلت: هل يسقط عليه الإثم؟ يبقى حق الله .

ومن الحقوق ما هو متمحض لله، ومنه ما هو متمحض للمخلوق، مثل لو أنه ضربه، أو شتمه، أو نحو ذلك، ثم تنازل وعفا هذا الذي ظُلم، فيكون ذلك كفارة لصاحب الحق، ويكون أيضًا ذلك كفارة للجاني.

لكن إذا كان من الحقوق ما فيه شائبة حق لله، وحق للمخلوق، فهنا إذا سقط حق المخلوق، فيبقى حق الله.

فإذا قتل عمدًا، فالله -تبارك تعالى- يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] هذا كله في حق هذا الجاني عقوبة من الله -تبارك وتعالى-، وهو غير حق المخلوق، فحق المخلوق هو القصاص، فإذا تنازل أولياء الدم فهل يسقط حق المخلوق في هذه الحال؟ فالعلماء يقولون في مثل هذا: إن هذا الإنسان الذي حصل التنازل من قبل ولي الدم، فالمقتول ذهبت نفسه، ولم ينتفع بشيء، حتى لو قبلوا الدية، ولو اقتص منه، هو لم ينتفع ولم يتشف، وإنما حصل التشفي بالقصاص لأولياء الدم، وإذا أخذوا الدية فإنهم وحدهم من ينتفع بها، فهل يبقى له حق عند الله فيأخذ هذا من حسناته يوم القيامة؟ ويبقى حق الله فيما ذكر من الوعيد بالغضب واللعن والعذاب الأليم، فلا يسقط حق الله  إذا تنازل عنه أولياء الدم، بل لو تنازل صاحب الحق نفسه قبل أن يموت، فيبقى حق الله .

وذكر السلف في القاتل كلامًا شديدًا وذكرنا وجهه ومحمله، في مناسبات سابقة، لكن من أهل العلم من يرى أن القاتل يخلد في النار، وأنه استثناء، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] قال: لأن الآية مصرحة بالخلود، لكن أجبنا عن ذلك.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر بأن من ابتلي بمثل هذا، ولو حصل عفو أو قصاص، فإنه ينبغي أن يُكثر من الحسنات، والأعمال الصالحة؛ لأن ذاك المجني عليه قد ينتثل حسناته، فيأخذ منها حتى يرضى.

وبعض أهل العلم يقول: إذا تاب وصاحب الحق تنازل، أو اُقتص من هذا، صحت توبته، فإن الله -تبارك وتعالى- قد يرضي المجني عليه يوم القيامة بما شاء، من رفع درجات، وتكفير السيئات، حتى يرضى.

فالمقصود: أن الحقوق ليست ذات حكم واحد، وإنما ما كان متمحضًا للمخلوق إذا عفا سقط، وما كان متمحضًا لله فالتوبة، وهو تحت المشيئة.

ويبقى ما كان فيه شائبة من هذا وهذا، فإذا عفا المخلوق بقي حق الخالق، وعفو المخلوق في بعض الصور كما ذكرنا مثل القتل، إذا تنازل أولياء الدم، فماذا استفاد المجني عليه؟ فبعضهم يقول: حتى لو تنازل أولياء الدم فيبقى حقه في الآخرة، وهذا له وجه.

ولكن يقال في الجملة: بأن هذا الجاني ينبغي أن يقدم نفسه ليُقتص منه، أو تُقبل الدية، أو يُعفى عنه، هذا بالنسبة ما يمكن أداؤه للمخلوق، ويبقى حق الله ، فعليه أن يتوب توبة نصوحة، ويكثر من الحسنات؛ لأن النبي ﷺ ذكر أن كل ذنب يرجو أن يعفو الله عنه إلا القتل.

وفيما يتعلق بالجراح، ونحو ذلك، هذا يمكن أن يقال: بأنه إذا عفا صاحب الحق سقطت المؤاخذة، وأما ما فيه حد مما يتعلق بحدود الله ، فقد صح عن النبي ﷺ أن ذلك يكون كفارة للجاني إذا أقيم عليه الحد.

فيبقى حد الحرابة -كما سبق- إذا أقيم عليه هذا؛ لأن الله توعده بالعذاب الأخروي مع هذه العقوبة في الدنيا، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33] هذا إذا لم يتب، فإذا تاب صحت توبته.

وأيضًا فيما يتعلق بمسائل القصاص، وحقوق العباد، حتى في الحرابة أن الحقوق الخاصة للمخلوقين لا تسقط، ومضى الخلاف في هذا، وفي الجنايات عمومًا: القصاص، فما دون النفس: الذي يظهر أنه يسقط بإسقاط صاحب الحق، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] وظاهر الآية في العموم.

لكن إذا قلنا على قول الجمهور: بأن ذلك يرجع إلى صاحب الحق فيبقى الجاني بمنأى عن هذا، فيبقى حق الله ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]

س:...

ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البروج:10] هؤلاء كانوا كافرين، والإسلام يجُب ما قبله.

س: القائلون بأن القاتل يخلد قولهم هذا أليس فيه شبه من قول الخوارج؟

ليس كذلك؛ لأنهم لا يعممون الكبائر، أو المعاصي، الخوارج يعممون هذا، لكن هؤلاء يخصونه بما جاء فيه الدليل خاصة؛ لأن الله صرح بأنه خالد في النار؛ بهذا الاعتبار، وبهذه المسألة خصوصًا فقط، لتصريح الشارع بذلك، لكن الجواب عن هذا سبق في بعض المناسبات، ولكن نصوص الوعيد هذه كما ذكرت في أيضًا مناسبات أخرى: أن بعض أهل العلم كالإمام أحمد -رحمه الله-، وجماعة من السلف قبله: يرون أن لا يُتعرض لها بتأويلات؛ لئلا يذهب وقعها، وما سيقت له من الزجر[17]، فتُحمل على محامل تخف على النفوس، لكن حينما يحتاج إلى هذا؛ لئلا يسلك الناس مسالك منحرفة في فهم النصوص، فعند ذلك يحتاج هذا إلى بيان، فإذا كان هذا قد يُؤدي إلى فهوم فاسدة من قول الخوارج مثلاً، فهنا يحتاج إلى بيان؛ دفعًا لهذا الانحراف في الفهم، والله أعلم.

"مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [المائدة:46] قد تقدم معنى: مُصَدِّقًا في البقرة".

وذكر ثلاثة أوجه هناك: أنه يشهد في صدقها صراحة، وأن هذه الكتب من عند الله، ويشهد لهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالنبوة والرسالة، وكذلك أيضًا جاء موافقًا لما جاء فيها، فذلك تصديق لها، وكذلك أيضًا فإنه جاء مصدقًا لما فيها من العقائد والأحكام، ونحو ذلك، يعني هي أخبرت عنه، فجاء كما أخبرت، وكذلك نزل عليه من العقائد وتوحيد الله ، والأحكام، ونحو ذلك، ما يصدق ما في تلك الكتب، ولا يناقضها، يعني في الأصول، فذلك تصديق لها.

فيراجع كلامه والأوجه الثلاثة التي ذكرها صفحة (212).

"لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: التوراة؛ لأنها قبله، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل؛ لأنهما قبله، ومُصَدِّقًا عطف على موضع قوله: فِيهِ هُدًى وَنُورٌ لأنه في موضع الحال".

يعني وَمُصَدِّقًا حال، وهو معطوف على موضع قوله: فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وفِيهِ هُدًى وَنُورٌ هذا أيضًا في محل نصب حال، والتقدير: حال كونه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [المائدة:46].

س:...

عيسى -عليه الصلاة والسلام- من أنبياء بني إسرائيل، وليس بخارج عنهم، والنصارى متعبدون بالتوراة، فلم تُنسخ في حقهم، فهي كتاب الشريعة، ولكن ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى [الحديد:27] يعني هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله يحكمون بالتوراة، وكان الأنبياء كثير في بني إسرائيل يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44].

وجاء بعدهم عيسى ، وهو من جملتهم يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة:44] فمن جملة من يحكم بالتوراة عيسى ، وكذلك أيضًا زكريا ويحيي، قال الله : وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] فقيل: الحكم هو أن الله  علمه التوراة، وأحكام التوراة منذ الصبا، فالشاهد: أن هؤلاء كانوا يحكمون بالتوراة جميعًا، لكن الله خص عيسى باعتبار مكانته من جهة، وباعتبار أن هؤلاء اليهود كفروا به، وأكثر بني إسرائيل لم يؤمنوا بعيسى ، وقالوا فيه قالة السوء، فخصه من بين هؤلاء الأنبياء الذي يدخل في جملتهم يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة:44] والله أعلم.

"وَمُهَيْمِنًا [المائدة:48] ابن عباس: شاهدًا[18]، وقيل: مؤتمنًا".

المهيمن، قال ابن عباس: شاهدًا، وهذا قال به آخرون كمجاهد، وقتادة، والسدي[19]، وقيل: مؤتمنًا، وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس -ا-[20].

ولفظه: المهيمن الأمين[21]، وهو المعنى الذي ذكره ابن جزي، يعني أنه أمين على هذه الكتب، وعند ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة: قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله[22]، وجاء نحو هذا المعنى، يعني من كونه أمينًا: عن جماعة من السلف: كعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخرساني، والسدي، وابن زيد[23]، ولا منافاة بين المعنيين، يعني الرواية الأولى عن ابن عباس ومن وافقه: أنه بمعنى شاهد، والثاني: أنه بمعنى مؤتمن، فلا منافاة بين هذه المعاني، وهكذا قول من قال: بأن المهيمن يعني الرقيب، أو قال: الغالب المرتفع، وكذلك من قال: الحافظ، ومن فسره بأنه شاهد لصحتها، فكل هذا صحيح، فهؤلاء فسروه ببعض معناه، فكلمة (المهيمن) أعم وأوسع وأشمل من ذلك كله، والسلف قد يفسرون ببعض المعنى، ولا يقصدون خصوصه، فيقال: كل هذه المعاني فهو شاهد بصحتها، مقرر لما فيها مما لم ينسخ، وناسخ لما خالفه فيها، وهو رقيب أيضًا عليها، حافظ لها، وحافظ لما فيها من أصول الشرائع والعقائد، ونحو ذلك، وهو غالب لها لكونه المرجع في المُحكم منها والمنسوخ، ومؤتمن عليها؛ لكونه قد اشتمل على ما هو معمول بالقرآن من هذه الكتب "التشريع الذي لم ينسخ"، وهو المحكم، وأما المنسوخ فإنه يُبين ذلك، فهذا كله داخل في معنى (المهيمن).

فعبارات السلف: فهو شاهد، ورقيب، ومؤتمن، وأمين، وحاكم، مشتمل على ما اشتملت عليه وزيادة، مع نسخه لبعض ما جاء فيها، فهو حاكم عليها، فما شهد له منها بالصدق قُبل، وإلا فهو مردود.

وابن جرير -رحمه الله- يفسر هذا: بأنه مصدق للكتب قبله، وأنه شهيد عليها أنها حق من عند الله، أمين عليها، حافظ لها، وذكر أن أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب.

وابن جرير -رحمه الله- جمع جملة من هذه المعاني، وكل هذه المعاني صحيحة؛ لا تحتاج إلى ترجيح، وهذا الذي يسمونه اختلاف التنوع، أن يُعبر كل واحد من المفسرين عبارة تدل على معنى في المسمى.

فكلمة (الهيمنة) فمن اسم من أسماء الله (المهيمن) فهذا -والله أعلم- لا تفي بها عبارة واحدة في تفسيرها، وما يُذكر من مثل هذا، فإنما هو جزء من معناه، ولذلك تجد كلام أهل العلم -كما سبق- في الأسماء الحسنى في تفسير (المهيمن) عبارات متفرقة ومتعددة، كما سمعتم هنا في وصف القرآن.

والواقع: أن مجموع هذه العبارات هي التي يفسر به المهيمن، وما رأيتُ عبارة في تفسير أسماء الله تفي وحدها ببيان مجموع معناه، يعني تمام المعنى، وإنما يُؤخذ ذلك من عباراتهم المتعددة، وهؤلاء أهل اللغة والسلف من الصحابة، فما يذكرونه من المعاني هي معاني صحيحة، إذا صح ذلك عنهم، فهي معتبرة، فتكون جميعًا مما يدخل في معناه.

"عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] تضمن الكلام معنى: لا تنحرف -أو لا تنصرف-؛ ولذلك تعدى بــ(عن)".

وسبق في بعض المناسبات ذكر التضمين، وأنه مذهب البصريين من النحاة، وأنه أبلغ من مذهب الكوفيين؛ لأنهم يقولون بتضمين الحروف، وتضمين الحرف معنى الحرف لا يضيف معنى جديدًا، لكن تضمين الفعل وما في معناه: أبلغ، يقول: "تضمن الكلام معنى: لا تنصرف" عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.

فقوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ نهي عن اتباع أهوائهم، مضمن: لا تنصرف؛ لأن وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ لا يتعدى بــ(عن) وإنما مضمن معنى، لا تنصرف عن كذا، عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ فيكون ذلك قد اشتمل على معنى أوفى، وهو المصرح به، من قوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ نهي عن اتباع الأهواء، إضافة إلى المعنى الجديد، وهو عدم الانصراف عن الحق، فيكون المعنى هنا أوفى، كما ذكرنا في أمثلة منها: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6] فقلنا: إن الشرب لا يكون معدى بالباء، وإنما بــ(في) لأن العين ليست بإناء يشرب به، وإنما يشرب منه، فالكوفيون يقولون: عينًا يشرب منها، فالباء هنا بمعنى (من).

والبصريون يقولون: إن الفعل يشرب مضمن معنى (يرتوي) لأنه يتعدى بالباء، يرتوي بها، أو (يلتذ بها) فصار هنا عندنا الشرب ينضاف إليه الارتواء والالتذاذ، فهذا أبلغ في المعنى، والله أعلم.

"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] قال ابن عباس: سبيلاً وسنة[24]، والخطاب للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، أو الأمم، والمعنى: أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام والفروع.

وأما الاعتقاد: فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده، وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة".

قوله -تبارك وتعالى-: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والمنهاج في غاية التقارب في المعنى؛ ولهذا فإن بعض من يقول بوجود الترادف في القرآن يقول: الشرعة والمنهاج واحد، وأن ذلك من باب التوكيد، وهذا بخلاف القاعدة المعروفة، وهي أن التأسيس مقدم على التوكيد، يعني إذا دار الكلام بين التأسيس والتوكيد، فالأصل: التأسيس، باعتبار أن التأسيس يضيف معنىً جديدًا غير الأول، وهذا هو الأصل، ويحصل معه التوكيد.

فهنا الشرعة: من فرَّق بينهما اختلفت عباراتهم في ذلك، وبعضهم يذكر في هذا ما يذكره الآخر باللفظة الأخرى، والعكس، فالشرعة فُسرت بالسنة والطريقة الظاهرة، والمنهاج: يقولون: هو الطريق المستمر الواضح، وهذا تفريق قريب، والله تعالى أعلم.

فالشرعة: تدل على ظهور، فهي سنة وطريقة ظاهرة، والمنهاج: طريق مستمر واضح، يقول: "قال ابن عباس: سبيلاً وسنة" يعني الشرعة: هي السبيل، والمنهاج: السنة، فهذا غير المعنى الأول الذي ذكرته.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- فسَّر ذلك: بأن السبيل هو المنهاج، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا يعني عكس ما قاله ابن عباس فيما يظهر، فهو يقول: السبيل هو المنهاج، والسنة هي الشرعة، وهي تفاصيل للسنة والمنهاج[25].

وقال بعضهم: بأن الشرعة في الأصل هي الطريقة الظاهرة، التي يُتوصل بها إلى الماء في أصلها في اللغة، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده، فهذه الشرعة والتشريع.

والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة، وبعضهم يقول: الشرعة هي ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر.

وذكر أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: أن ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة[26]، فالشريعة قيل لها ذلك لشروع أهلها فيها، والمنهاج: الطريق الواضح.

فعلى قول ابن جرير: أن الشريعة من الشروع، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا شروع المكلفين، والمنهاج: هو الطريق الذي يسلكونه في هذه الشريعة، وكأن المقصود -والله تعالى أعلم- من قال: بأنها سنة وطريقة، أو الطريق المسلوك، أو الأحكام العملية، وتفاصيل الشريعة، ونحو ذلك: فهذا كله كأنه يرجع إلى شيء واحد، والله أعلم، فالمعنى في غاية التقارب.

ومجموع ذلك: الشرعة والمنهاج يدخل فيه أحكام الشريعة التي تختص بكل أمة، وما رسم الله لهم من الطريق الذي أمرهم بسلوكه، والله تعالى أعلم.

فهذه من المواضع التي تُذكر فيها ألفاظ في غاية التقارب، وقد يصعب التفريق بينها، وذكرنا أمثلة لذلك في بعض المناسبات، كمثل: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] فالعفو والصفح هناك فروق دقيقة بينها، فهي ترجع إلى أصل واحد، كما ذكرت في المترادفات -إن وجدت في القرآن- وشيخ الإسلام يقول: بأنه في اللغة قليل.

وذكرت: أن أبا هلال العسكري -رحمه الله- في كتابه (الفروق اللغوية) كان يتبنى مذهبًا، وهو أنه لا يوجد ترادف أصلاً في اللغة، ومن ثم يتكلف كثيرًا في بعض المواضع في إيجاد الفروق، وكتابه مفيد ونافع، لكن في بعض المواضع يصعب التفريق، وذكرتُ في هذا الباب أن المعنى الأصلي قد يتفق، ولكن تختلف فيما بينها في المعاني التكميلية، والمعاني الخادمة، والمعاني الثانوية، فهذه تختلف فيما بينها.

ومن الأمثلة لذلك أيضًا من القرآن: الرأفة والرحمة وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27] فلا شك أن المعنى الأصلي: الرحمة، ولكن الرأفة: رحمة رقيقة، أخص من مطلق الرحمة.

الخوف والخشية: والفرق بينها أن الخشية أخص من مطلق الخوف، فالخشية: خوف مع علم بالمخوف منه، فحينما تقول: هذا الصبي خائف، فلا يدري مما يخاف، فهذا لا يقال له: خشية، الخشية لا تُقال إلا فيما يُعلم، يكون معه العلم من المخوف منه، فيقال لها: خشية، أخشى الله.

وكذلك القسط والعدل، وأيضًا الشك والريب: يقولون الريب: شك مع قلق، وأيضًا المغفرة، وتكفير الذنوب، المغفرة: ستر مع وقاية، وتكفير الذنوب، أصل الكفر بمعنى الستر والتغطية.

والبغي والعدوان، والإثم والبغي، الإثم هو الذنب، ونتيجة الذنب والمؤاخذة، والإثم والعدوان فيه تعدي، فالعدوان: فيه نوع من الآثام، يكون فيه تعدي، الإثم والعدوان، لكن البر والتقوى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ما الفرق بين البر والتقوى؟ يصعب التفريق، لكن من أهل العلم من قال: بأن البر هو ما يكون من طاعة الله ، ومحابه، ومراضيه.

والتقوى: إذا اجتمعا البر والتقوى -كما يقول ابن القيم- فتكون التقوى: بمعنى توقي الآثام والمحذورات والمحرمات بخصوصها، والبر: العمل الطيب الصالح الذي يحبه الله ، وإذا ذُكر البر دخلت فيه التقوى، وإذا ذكرت التقوى دخل فيها معنى البر، فهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى.

وكتب أحد طلبة العلم رسالة -أظنها ماجستير- في الألفاظ المتقاربة في الآية الواحدة، وبذل فيها جهدًا طيبًا، وجمع كلام أهل العلم، بصرف النظر عن النتائج الذي توصل إليها في كل موضع، لكن الرسالة مفيدة، وطُبعت أيضًا مجموعة كتب، منها رسالة للعنزي، حول هذه المعنى، كأنها بعنوان: الألفاظ المتقاربة أو المتشابهة في الآية الواحدة، وهي في مجلد، أظنها في جامعة الملك سعود.

يقول: "والخطاب للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-" يعني في قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] "أو الأمم" القول بأن الخطاب في لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً للأمم، هو اختيار الحافظ ابن كثير[27]، وجاء عن الضحاك: أنها أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-[28]، يقول: "والمعنى: أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا" والخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة، معروف، ومن قال: بأنه شرع لنا، قيده: ما لم يُنسخ.

يقول: "وذلك في الأحكام والفروع، أما الاعتقاد فالدين فيها واحد، هو الإيمان بالله..." إلى آخره.

"فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48] استدل به قوم على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي: أن تقديمها في أوَّل وقتها أفضل[29]، وعكس أبو حنيفة[30]، وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل[31]، واتفقوا على أن تقديم المغرب أفضل".

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48] قال ابن كثير: وهي طاعة الله، واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه[32].

والاستدلال بها على تقديم الواجبات ذلك أفضل، فهذا صحيح من حيث الأصل، إلا ما ورد الدليل بأفضلية تأخيره، مثل الإبراد في شدة الحر بصلاة الظهر، فهذا أفضل، وكذلك تأخير صلاة العشاء؛ لأن النبي ﷺ لما أخرها قال: أنه لوقتها[33]، ولكنه خشي أن يشق على أمته -عليه الصلاة والسلام-، فتأخير العشاء أفضل، وتأخير الظهر في شدة الحر أفضل، وما عدا ذلك فكما صح عن النبي ﷺ بأن أفضل العمل الصلاة لوقتها[34]، وفي رواية: لأول وقتها[35] فهذا أفضل.

وذكر بعض أهل العلم هذا في قوله -تبارك وتعالى- عن موسى : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] قالوا: المبادرة والمسارعة أفضل، والله أعلم.

 

  1. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم برقم: (111).
  2. السبعة في القراءات (ص:244) ومعاني القراءات للأزهري (1/330).
  3. الحجة للقراء السبعة (3/223).
  4. السبعة في القراءات (ص:244) ومعاني القراءات للأزهري (1/330).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/124).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/369).
  7. أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/136).
  8. تفسير القرطبي (6/208).
  9. كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (30/362).
  10. التحرير والتنوير (6/216).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/408).
  12. أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/136).
  13. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (22701) وقال محققو المسند: "صحيح بشواهده".
  14. عمدة التفسير (1/688).
  15. صحيح الترغيب والترهيب (2/640) وسلسلة الأحاديث الصحيحة (5/343).
  16. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1145).
  17. جاء في السنة لأبي بكر بن الخلال (3/579): عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عن قول النبي ﷺ: ((من غشنا فليس منا))، و((من حمل السلاح علينا فليس منا؟)) قال: "على التأكيد والتشديد، ولا أكفر أحدًا إلا بترك الصلاة".
  18. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/128) بلفظ: شهيدًا.
  19. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/128).
  20. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/378).
  21. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/379).
  22. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/379).
  23. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/17).
  24. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/388).
  25. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:81).
  26. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/384).
  27. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/129).
  28. زاد المسير في علم التفسير (1/555).
  29. تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (1/430).
  30. الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة (ص:27).
  31. في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/101): وأما وقتها المرغب فيه والمختار، فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات، وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر، وروي مثل ذلك عن مالك، وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد.
  32. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/130).
  33. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها برقم: (638).
  34. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب وسمى النبي ﷺ الصلاة عملاً، وقال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) برقم: (7534) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم: (85).
  35. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، برقم: (170) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة