الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(005-ب) من قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله..) الآية 50 – إلى قوله (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الآية 59
تاريخ النشر: ٠٦ / صفر / ١٤٣٩
التحميل: 603
مرات الإستماع: 605

قول الله تعالى:

"وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة:49] عطفٌ على الكتاب في قوله: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [المائدة:48] أو على الحق في قوله: بِالْحَقِّ [المائدة:48] وقال قومٌ: إن هذا وقوله قبله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة:48] ناسخٌ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: ناسخٌ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قومٍ من اليهود طلبوا من رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم، فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقتضي أن يحكم بينهم".

قوله هنا بأن قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة:48] ناسخٌ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ سبق ذكر قول من قال من أهل العلم بأن سورة المائدة آخر ما نزل، ولم يُنسخ منها شيء، وهذا مروي عن جماعة من السلف، وكما ترون أنه وُجد دعاوى للنسخ في هذه السورة، فقد جاء عن ابن عباس -ا- قال: آيتان نُسختا من هذه السورة، الأولى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فكان رسول الله ﷺ مخيرًّا إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فأُمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم على كتابنا[1]، هكذا جاء بهذا اللفظ، وفي رواية: آية القلائد، يعني المنسوخ آية القلائد، وهي: وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ [المائدة: 97] وقوله: فَإِنْ جَاءُوكَ[2]، وهذا الأثر عن ابن عباس -ا- مصرح بسبب النزول، ومثل هذا -كما سبق- له حكم الرفع، وهذه الرواية عن ابن عباس -ا- صححها الحاكم[3]، ووافقه الذهبي، وكذلك قال النحاس: إسناده مستقيم[4]، وهذا الإسناد ظاهره الصحة، والله تعالى أعلم.

فعلى هذا يكون قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ناسخًا لــفَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ولكنه ليس محل اتفاق، فالذين يقولون بأن قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ آية محكمة، يقولون: هذه بمعنى: إن حكمت فاحكم بينهم بما أنزل الله.

"أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ توبيخٌ لليهود، وقُرئ بالياء إخبارًا عنهم، وبالتاء خطابًا لهم".

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قُرئ بالياء يَبْغُونَ على سبيل الإخبار، وهي القراءة التي نقرأ بها، وهي قراءة الجمهور[5]، وعلى قراءة ابن عامر: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ)[6]، والمعنى واحد، ويُراد بهم اليهود.

"لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قال الزمخشري: اللام للبيان[7]: أي: هذا الخطاب لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكمًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ سببُها: موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود بني قينقاع، وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم[8]، ولفظها عام، وحكمها باقٍ، ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه".

سبب النزول هذا الذي ذكره لا يصح، إنما هي مرويات من المراسيل، عن محمد بن شهاب الزهري[9]، وتعرفون أنه من صغار التابعين، توفي سنة مائة وأربعة وعشرين، فمراسيله ليست بتلك، وكذلك عطية العوفي[10]، وعبادة بن الوليد[11]، وهذا السياق ذكره هنا مختصرًا، وحاصل ذلك:

أنه بعد غزوة بدر قال المسلمون من حلفاء يهود بني قيُنقاع وكانوا حلفاء للخزرج: أسلموا قبل أن يوقع الله بكم يومًا كيوم بدر، فرد اليهود بأن المسلمين لقوا قومًا لا عهد لهم بقتال، وأنهم لو قاتلوهم لعرفوا، والشاهد: أن عبادة بن الصامت وهو سيد الخزرج لما سمع هذا أتى النبي ﷺ، ونبذ حلف اليهود، وتبرأ منهم، وقال: أبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء، إلا أن عبد الله بن أٌبي أبى ذلك، فَقَبِلَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نبذ عبادة، وأقرّ ابن أُبي على حلفهم، فرضي عبد الله بن أبي بذلك، هكذا ورد، لكن هذه الرواية لا تصح في كونها سبب النزول، فهذا لا علاقة له بذلك.

"فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تغليظٌ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه، ومن خالفهم في اعتقادهم، وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق العقوبة".

ابن جرير يقول في قوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم؛ يعني من أهل دينهم وملتهم[12]، وللعلماء كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- أيضًا كلام في هذه الآية، يعني في معنى فَإِنَّهُ مِنْهُمْ هل معنى ذلك أنه على دينهم، أو أن ذلك بمعنى أن له حكمهم؟ أم ماذا؟[13].

ويقول الشنقيطي -رحمه الله- في هذه الآية الكريمة: إن من تولى اليهود والنصارى فإنه يكون منهم بتوليه إياهم[14]، وبيّن في موضعٍ آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوفٍ وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور[15]، وهو قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:29] فيقول: بأن هذه الآية الأخيرة فيها بيان لكل الآيات الأخرى التي تذكر المنع من موالاتهم مطلقًا، وأن ذلك محمله في حال الاختيار، بخلاف الخوف والتقية، يعني بقدر ما يُدفع أذاهم، إلى آخر ما ذكر.

فيقول: "فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه، ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق العقوبة" يعني: لا أنه يكون كافرًا بذلك. 

"فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، والمراد هنا: عبد الله بن أبي بن سلول، ومن كان معه، يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود ويستكثرهم [وفي النسخة الخطية: ويستكثر بهم] ويقول: إني رجل أخشى الدوائر[16]".

نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ معنى الدائرة: يعني أن يدور عليهم الدهر بمكروه، وأصل هذه المادة: الدال والواو والراء، يدل على إحداق الشيء بالشيء من حواليه، يعني لو حصل للكفار ظهور وغلبة، فيقول: بحيث يكون لي يد عندهم، فهذا المراد، والله أعلم.

"فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الفتح هنا: هو ظهور النبي ﷺ والمسلمين".

والسدي يقول: الفتح: فتح مكة[17]، وقال بعضهم: فتح بلاد المشركين، وقال بعضهم: ظهور النبي ﷺ على الكفار، ومن ذلك قريظة والنضير.

"والأمر من عنده [وفي النسخة الخطية: والأمر من عند الله] هو هلاك الأعداء بأمراضٍ عنده [وفي النسخة الخطية: هو هلاك الأعداء بأمرٍ من عنده]".

كأن "بأمرٍ من عنده" أوضح من "بأمراضٍ" بحيث لا يكون فيه تسبب لمخلوق، يعني مثلًا يُنزل عليهم آفة من عنده، فتُهلكهم، يعني لا يكون ذلك بأيدي المؤمنين.

"والأمر من عنده هو هلاك الأعداء بأمرٍ من عنده، لا يكون فيه تسبب لمخلوق، أو أمر من الله لرسوله -عليه الصلاة والسلام- بقتل اليهود".

هذا معنًى آخر غير الأول، يعني هذا قول وهذا قول آخر، هذا بالنسبة لمن قال بأن ذلك في اليهود، يعني الذين قال المنافقون ما قالوا في شأنهم، وبعضهم يقول: بما يكون يعني أن يأتي الله بالفتح، أو أمرٍ من عنده في حق المنافقين، بفضحهم، وبيان مخازيهم، ونحو ذلك، وذكر السدي بأن المعنى: ضرب الجزية على اليهود والنصارى[18]، وبعضهم يقول: بما يندفع به صولة اليهود ومن معهم، وبعضهم يقول: الخصب والسعة للمسلمين؛ بأن يوسع الله للمسلمين ويغنيهم من فضله، ونحو ذلك.

"فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ الضمير في فَيُصْبِحُوا للمنافقين، والذي أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين، وإضمار العداوة للمسلمين، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قُرئ: يقول: بغير واو، استئناف وإخبار، وقُرئ بالواو والرفع، وهو عطف جملةٍ على جملة".

قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، بدون واو، وقراءة الجمهور بالواو[19].

"وقُرئ بالواو والرفع، وهو عطف جملةٍ على جملة، وبالواو والنصب "عطفٌ على يأتي الله، أو عطفٌ على فَيُصْبِحُوا، أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [المائدة: 53] الإشارة إلى المنافقين؛ لأنهم كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين".

وبعضهم يقول: عطف على الفتح.

"وانتصب جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة: 53] على المصدر المؤكد".

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أي: مجتهدون في الحلف، أو أن ذلك كناية عن أغلظ الأيمان، يقول: "وانتصب جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ على المصدر المؤكد" فيكون ناصبه أَقْسَمُوا فهذا ليس من لفظه، يعني أقسموا إقسامًا، وإنما قال: أقسموا جهد أيمانهم يعني جاهدين، فيكون المصدر من غير لفظه، وهو من معناه، يعني أقسموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين، وقيل غير هذا.

"حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من كلام الله، ويحتمل أن يكون دعاءً، أو خبرًا".

"من كلام المؤمنين، أو من كلام الله" يعني من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنًى، كما هو معروف، يعني يكون سياق الكلام كأنه لمتكلمٍ واحد، بينما هو لمتكلمين، وهذا أنواع:

منه ما يكون بحسب القراءة، ومنه ما يكون ظاهرًا، ومنه ما يكون على أحد الأوجه في التفسير، ومنه ما يكون مستبعدًا.

وقوله: "ويحتمل أن يكون دعاءً، أو خبرًا" يعني: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يحتمل أن يكون دعاء عليهم بحبوط الأعمال، أو يكون من قبيل الإخبار، ويرد على القول بأنه دعاء بأن الله  هل يدعو على أحد؟ الدعاء هو الطلب، والله بيده الأمر، وإنما يُدعى، فهو يحكم عليهم بذلك مباشرةً، فلا يكون من قبيل الدعاء، وإنما يُدعى الله، فيكون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إخبارٌ عنهم بذلك، والحبوط قلنا: بمعنى البطلان، كما ذكرنا هذا في مناسبات سابقة.

"أن يكون من كلام المؤمنين، أو من كلام الله" إذا كان من قبيل الدعاء يكون على أنه من كلام المؤمنين.

"وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين، فهو إخبارٌ بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع، فارتدّ في حياة رسول ﷺ بنو حنيفة، وقوم مسيلمة الكذاب، وبنو مُدلِج، وقوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة، وقُتِلَ في حياة رسول الله ﷺ، وبنو أسد؛ قوم طليحة بن خويلد، الذي ادّعى النبوءة، ثم أسلم وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله ﷺ، حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق ، وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله ﷺ سبع قبائل: بنو فزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم قوم جبلة بن الأيهم؛ الذي تنصر من أجل اللطمة".

في القصة المعروفة لما جاء وطاف بالكعبة، فوطئ على طرف ثوبه، أو ردائه أعرابي، فالتفت إليه جبلة ولطمه، فشكا إلى عمر، فأراد عمر أن يقتص للأعرابي من جبلة، وجبلة بمنزلة الملك بالنسبة لقومه، فعظُمَ ذلك في نفسه، وطلب من عمر الإمهال، ثم بعد ذلك كان قد قدم على عمر معه نحو ما يقرب من ستمائة فارس، أو قريب من هذا العدد، ثم رجع وتنصر[20].

"فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله ﷺ قرأها، وقال: هم قوم هذا[21]، يعني أبا موسى الأشعري، والإشارة بذلك -والله أعلم- إلى أهل اليمن؛ لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد: أبو بكر الصديق وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكرٍ الصديق من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين خالفه في ذلك بعض الناس، فاشتد عزمه حتى وافقوه، وأجمعوا معه، فنصرهم الله على أهل الردة، ويقوي ذلك أيضًا أن الصفات التي وُصِفَ بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وكان أبو بكر ضعيفًا في نفسه، قويًّا في الله، وكذلك قوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ إشارةٌ إلى من خالف أبا بكر، ولامه في قتال أهل الردّة، فلم يرجع عن عزمه".

قوله هنا: "روي أن رسول الله ﷺ قرأها، وقال: هم قوم هذا[22]، يعني أبا موسى الأشعري" هذا جاء عن أبي موسى ، والرواة فيه عن شعبة بن الحجاج اختلفوا في وصله وإرساله، فاثنان من هؤلاء الرواة رووه موصولًا عن أبي موسى ، وثمانية من الرواة رووه مرسلًا، وكأن الأقرب -والله أعلم- أن هذه مرسلة، وأن ذلك لا يصح في سبب النزول.

وجاء بإسنادٍ حسن عن جابر أن النبي ﷺ سُئل عنها فقال: هؤلاء قومٌ من اليمن، ثم من كندة، ثم السكون، ثم تجيب[23].

يقول: "وقيل: المراد: أبو بكر الصديق، وأصحابه".

وهنا نقل في الحاشية عن ابن عطية قال: "فيها الحسن بن أبي الحسن، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، وقتادة: نزلت الآية خطابًا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين لم يأتِ الله بهم إلى أبي بكر الصديق، وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول: ابن جريج وغيره"[24].

لكن الآية عامة، ولا تختص بأبي بكر ، ولا شك أن أبا بكر ممن يدخل في ذلك.

قال: "باعتبار أن هذه الأوصاف..." إلى آخره.

قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذل يقابل العز، والمراد هنا: اللين والسهولة والرحمة مع المؤمنين، والشفقة والرأفة بهم، والحنو على أهل الإيمان، والشدة والغلظة على أعداء الله .

"أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] وإنما تعدّى أَذِلَّةٍ بــعَلَى لأنه تضمن معنى العطف والحنوّ".

لم يقل: مع المؤمنين، وإنما قال: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ باعتبار أن المعنى: أنهم أصحاب حنو وشفقة على المؤمنين.

"فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ فالجواب: أنه محذوف، تقديره: من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ مكانهم، أو بقومٍ يقاتلونهم".

يقول: "أين العائد من الجزاء إلى الشرط؟" الجزاء: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ والشرط: مَنْ يَرْتَدَّ فأين العائد؟ يقول: تقديره: "مكانهم" فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ مكانهم بِقَوْمٍ.  

"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفرادًا لله تعالى بها، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول -عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قال: إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع.

وَهُمْ رَاكِعُونَ قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب ، فإنه سأله سائل وهو راكعٌ في الصلاة، فأعطاه خاتمه[25]، وقيل: هي عامّةٌ، وذكر الركوع بعد الصلاة؛ لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال، وعلى الثاني للعطف".

هنا القول بأن ذلك نزل في علي ، لا يصح بحالٍ من الأحوال، وقد ضعَّف جميع الروايات الواردة في هذا الحافظ ابن كثير[26]، وجاء هذا عن ابن عباس[27]، وعمار[28]، وسلمة بن كُهيل[29]، ومجاهد[30]، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بأن ما ورد من أن ذلك في علي ، وأنه تصدق بخاتمه في الصلاة، موضوع، باتفاق أهل العلم على هذا[31]، وقال ابن كثيرٍ في موضعٍ آخر: بأنه لا يصح نزول شيء من الآيات في خصوص عليٍّ [32]، لا هذا ولا غير هذا مع فضائل علي .

يقول: "وقيل: هي عامّةٌ، وذكر الركوع بعد الصلاة؛ لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال" يعني يكون في حال الركوع على القول الأول "وعلى الثاني" أن ذلك في عموم أهل الإيمان، وأن ذلك من جمل صفاتهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ... وَهُمْ رَاكِعُونَ فهذا من جملة الأوصاف، يكون للعطف، فلا تختص بعلي .

"فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر، معناه: فإنهم هم الغالبون".

"إقامة الظاهر" المقصود به: اسم الجلالة، يعني وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني لم يقل: فإن حزبه هُمُ الْغَالِبُونَ مع قرب ما قبله، والأصل أن الضمائر تختصر الكلام، فأظهره في هذا الموضع الذي يصح فيه الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار يكون لنكتة، وهي هنا التعظيم والتفخيم، ونحو ذلك، وقد يقصد هنا بالإظهار أيضًا في قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ ولم يقل مثلاً: فإنهم هم الغالبون، وإنما قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ تنويه بهم، وإبراز لما اتصفوا به، وهذه السمة التي كانت لهم.

"وَالْكُفَّارَ بالنصب عطفٌ على الَّذِينَ اتَّخَذُوا وقُرئ بالخفض عطفٌ على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ[33]، ويعضده قراءة ابن مسعود: ومن الكفار[34]، ويراد بهم المشركون من العرب".

قوله: "وَالْكُفَّارَ بالنصب" هذه في قراءة أبي عمرو والكسائي بالجر، وقراءة الجمهور بالنصب، قال: "بالنصب عطفٌ على الَّذِينَ اتَّخَذُوا" يعني التقدير: لا تتخذوا المستهزئين ولا الكفار أولياء، "وقرئ بالخفض عطفٌ على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أي: لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء، فيكون الكفار خارجين عن وصف المستهزئين، فيحتمل أن يكون النهي عن اتخاذ المستهزئين أولياء، وكذلك الكفار، أو يكون المعنى: النهي عن اتخاذ المستهزئين أولياء، وبيّن أن المستهزئين صنفان: أهل كتاب، وكفار عبدة أوثان.

يقول: "ويعضده" يعني العطف "قراءة ابن مسعود: "ومن الكفار" وهذه القراءة هي كما في ابن جرير عن أبي بن كعب[35]، وما ذكر بعده: "ويراد بهم المشركون من العرب" هذا لا علاقة له بالقراءة، هو كتب بخط محبر بنفس الطريقة التي كتب بها القراءة، ولم يضع قوسًا، فالقراءة: "ومن الكفار" وما بعده: "يراد بهم المشركون من العرب" من كلام ابن جزي.

ونقل هنا في الحاشية:

عن ابن عطية أن قراءة ابن مسعود: "من قبلكم ومن الذين أشركوا"[36]، وهنا قال: "من قبلكم من الذين أشركوا" بدون واو، وهي: "ومن الذين أشركوا" بالواو، وهذه أيضًا ذكرها ابن جرير -رحمه الله-[37]، فصارت قراءة ابن مسعود: "من قبلكم ومن الذين أشركوا"، وقراءة أبي: "ومن الكفار"، والمعنى واحد، والله أعلم.

"وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ... الآية: روي أن رجلًا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمدًا رسول الله، قال: حرَّق الله الكاذب، فوقعت النار في بيته، فاحترق هو وأهله، واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن".

هذه الرواية لا تصح، فهي من قبيل المرسل عن السدي[38]، لكن قول المؤلف -رحمه الله-: "واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن" يعني قوله: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ المقصود به: الأذان، فتكون هذه إشارة إلى الأذان بالقرآن، ومعلوم أن الأذان ثبت في السنة، فهذا وروده في القرآن.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين".

 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/128).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/332).
  3. المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم: (3217).
  4. الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:397).
  5. حجة القراءات (ص:228).
  6. حجة القراءات (ص:228).
  7. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/642).
  8. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/396).
  9. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/396).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/395).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/397).
  12. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/400).
  13. أحكام أهل الذمة (1/499).
  14. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/412).
  15. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/413).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/403).
  17. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/405).
  18. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/406).
  19. السبعة في القراءات (ص:245) ومعاني القراءات للأزهري (1/333).
  20. حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (1/355).
  21. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (1016) وابن أبي شيبة برقم: (664) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7/1103): قلت: وهذا إسناد صحيح متصل.
  22. سبق تخريجه.
  23. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (1392) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7/1105): وعلى كل حال فالإسناد جيد، رجاله كلهم ثقات؛ غير معاوية بن حفص- وهو الشعبي الحلبي-.
  24. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/207).
  25. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/425).
  26. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/139).
  27. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/138).
  28. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/139).
  29. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1162) وتفسير ابن كثير ت سلامة (3/138).
  30. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/426).
  31. فضل أبي بكر الصديق (13/1238).
  32. البداية والنهاية ط إحياء التراث (7/395).
  33. حجة القراءات (ص:230).
  34. معاني القرآن للفراء (1/70).
  35. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/431).
  36. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/209).
  37. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/431).
  38. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/210) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/107).

مواد ذات صلة