السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(2) تتمة قوله تعالى "وقل لهما قولا كريمًا الآية 23
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 3029
مرات الإستماع: 2685

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:  

فاليوم البِرُّ الناس فيه على مراتب ودرجات، وقد يُظن أن العقوق هو أن يؤذي الإنسان أبويه أذى صريحاً واضحاً بالضرب أو الشتم أو نحو ذلك، لا، لا، هناك أشياء غير هذا، لا يدركها كثير من الأبناء، قد لا يشتم ويترفع من هذا ويأنف منه، ولا يضرب، لكنه قد يكون مع ما هو عليه من دين وصلاح في الظاهر إلا أنه يغتاب أباه عند زملائه، يغتابه أنه يقتِّر عليه، أنه بخيل، أنه شديد، أنه يدقق في أمور لا يجب التدقيق فيها، أو غير ذلك من ذكره بما يكره، هذه غيبة، وغيبة لمَن؟، لأولى الناس بالإحسان والبر والصلة، والبنت قد تغتاب أمها عند صديقاتها وزميلاتها، أين هذا من البر؟ هذا الذي يغتاب أباه، وقد يكون ذلك في صور لا يشعر بها كثير من الأبناء والبنات، أبوه يقول: لا تذهب إلى المكان الفلاني، لا تصاحب فلاناً، لا تستعمل الجهاز الفلاني، قد يصيب وقد يخطئ، وقد يصيب في التقدير، فيبقى هذا الولد بزعمه أنه بار ولا يريد أن يعصي أباه، فلا يزال به حتى يقلقه ويؤرقه فيضيق ذرعاً بهذا الولد فيقول: اذهب افعل ما شئت، يقول: راضٍ، وهو قد خرج من طوره وخرج من عافيته، هذا بر؟! هذا عقوق.

ينبغي للولد أو البنت أن ينظر ما الذي يحبه أبوه وأمه فيفعل ويبادر ولا يحتاج إلى نخس ودفع، افعل، كل شيء افعل، قد يترفع الأب أو الأم ويمل، كل شيء بأمر، وكل شيء بطلب، وكل شيء بإلحاح، والولد استجابته بطيئة، طيب، طيب، طيب، ليش مستعجل؟!، ليش مستعجل؟! اللائق أن يبادر قبل أن يُؤمر، تعرف أنه يحب هذا الشيء لا تنتظر حتى يقوم هو ليعمل هذا بنفسه ثم تسحب هذا من يده بزعمك أنك بار، هذه مراتب، أن ننظر فيما يكره الوالد أو الوالدة، ما هو الشيء الذي يضيق منه، لا يحب أن يعمله الولد، خلاص ابتعد عنه، ابتعد، لا تفعل هذا الشيء، هناك مراتب من البر لا يدركها كثير من الأولاد والبنات، المعاشرة والملاطفة لا يمكن أن تجتمع مع حال نشاهدها.

الأولاد والبنات حضور؟ نعم، يزورون هذا الوالد أو الوالدة إذا كانوا يسكنون في بيت آخر، ولكن إذا جاءوا وحضروا كل واحد مشغول بجهازه، والأم جالسة ساكتة تنظر، والأب جالس، لربما جلسوا الساعات جلوساً مملا وهؤلاء الأولاد عند أنفسهم أنهم بررة يأتون للزيارة في كل يوم، أو ثلاثة أيام في الأسبوع أو غير ذلك، لكن هل هذا من البر وهذا من الإحسان الذي أمر الله به وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؟ [سورة الإسراء:23]، أين هذا من الإحسان؟!

لو أنك زرت إنسانًا وتركك مشغولًا بجهازه طول الوقت وجلست عنده ساعة كاملة، أول ما دخلت كيف حالك؟ طيب، الحمد لله، ثم أقبل على شيء، معه جهاز، معه كمبيوتر، أي شيء وانشغل به وتركك، كيف يكون أثر هذا عليك؟ لا شك أنك لن تتقبل هذا، فما بال الأب أو الأم حينما نتعامل معهما بنفس هذه الطريقة؟!

هناك مراتب من الإحسان لا يدركها الكثيرون، هذا التهميش للأبوين، في ثوب البر، هذا الأب قد يتقدم به السن، هذه الأم كذلك، تهميش كامل يمارسه هؤلاء الأولاد، وحجْر على هذين الأبوين في جميع المزاولات إذا أراد أن يمد يده على شيء، اجلس مكفي، ما تصبر، لا، وأكثر من هذا اجلس على سجادتك، ودع عنك هذه الأشياء، هذا معناه أنه قد انتهت مدة صلاحية الإنسان كما يقال، وينتظر الموت، ويكون كأنه من متاع الدار، لا رأي ولا مشورة، ولا أمر ولا نهي، هذا لا يصح ولا يجوز، هذا الأب يريد أن يزاول أعمالا، يريد أن يمارس بعض الدور، كان يمارس كل الأدوار، شيئاً فشيئًا تُسحب منه الصلاحيات حتى يصير في النهاية تُحفة في هذا المنزل فقط للفرجة، يتفرج عليه هؤلاء الأولاد، طيب هو يريد أن يعمل، هو يريد أن يشعر أن له دوراً.

تصور أنك مع فريق من الناس في مكان، في عمل ويعملون وكل واحد له دور وأنت الوحيد الذي لا دور لك، تنظر إليهم تنتظر تريد أن تُكلف بأعمال، لا يوجد، ما هو شعورك؟ تشعر أنك لا قيمة لك، أنك لا تصلح لشيء، فهنا تتطاول الأيام والساعات على هذا الوالد أو الوالدة، فيبقى مكلوماً يشعر أنه ما بقي عليه إلا أن يموت، هذا خطأ.

لابد أن نُشعر هذين الأبوين بقيمتهما، وليس فقط في قُبلٍ تكون على الرأس واليد، لا، بأدوار أدوار حقيقية، أول ذلك الرجوع إليهما، الاستشارة، الاستفادة من خبرتهما، الاستئذان قد يكون الولد له عيال وكبير ولكن لماذا لا يستأذن من أبويه وهما في حضرته إذا أراد أن يذهب أو يجيء أو يسافر؟

أحد العلماء جاوز السبعين، ولربما بلغ الثمانين، نسأل الله أن يمدَّ بعمره على طاعته، ما كان يذهب يلقي حاضرة، أو دورة، أو درساً في مكانٍ آخر، يقول: أمي تمنعني، أنا سمعت هذا منه، أمي لا تأذن لي، كبير يقارب الثمانين يقول: أمي لا تأذن لي، أمه تريد أن يكون دائماً عندها، لا تأذن لي بالسفر، فما كان يسافر وهو عالم معروف ولو سميته لعرفتموه جميعاً، متى يشعر الإنسان إذاً أنه قد شب عن الطوق وليس بحاجة إلى الاستئذان؟

سمعت من بعض الآباء شكوى يتألم ويخفيها على أولاده، يقول: يذهبون ويسافرون فإذا فقدتهم سألت أين هم؟ أين فلان؟ قالوا: مسافر، ما أخبرك؟ هذا يليق! وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وهكذا حينما يكون الأب أو الأم بحاجته يكون قريباً منهما، بل الجهاد في سبيل الله مع علو مرتبته وعظيم شأنه، فإنه لا يجاهد إلا بإذنهما، حديث عبد الله بن عمرو -ا- يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد[1]، وفي لفظ: "جاء رجل عند النبي ﷺ يبايعه على الهجرة"، -الجهاد والهجرة من أعظم الأعمال- ترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما[2]، جهاد وهجرة، وإن كانا مشركيْن، سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: "وإن كانا مشركيْن، لا يخرج إلا بإذنهما"[3]، هذا بعض حق الوالد، هذا نزر يسير من كثير مما يمكن أن يقال.

من تمام البر للأبوين أن يصل أهل ودهما، كما في الصحيح من حديث ابن عمر -ا، أن النبي ﷺ قال: إن من أبرِّ البر صلة الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي[4]، هذا يدل على تجذر وتمكن البر في نفس هذا الولد، يصل الأصدقاء للوالد أو الوالدة.

وفي حديث أبي أسيد يقول: "كنت جالساً مع النبي ﷺ فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ والدي من بعد موتهما شيء؟ قال: نعم، خصال أربعة: الصلاة عليهما، -يعني: الدعاء لهما- والاستغفار لهما، -ربي اغفر لي ولوالدي، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قِبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما[5].

والنبي ﷺ كما في حديث كعب بن عُجرة : لما قال: احضروا المنبر، قال: فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قالوا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عرض لي فقال: بعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعُد من ذُكرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعُد من أدرك أبويه الكِبرُ عنده أو أحدَهما فلم يدخلاه الجنة، قلت آمين[6]، أدركهما في حال الكِبر.

وفي حديث عبد الله بن عمرو -ا- عند مسلم: إن من الكبائر شتم الرجل والديه[7].

وفي حديث ابن مسعود: لما سُئِل النبي ﷺ: أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين[8]، الذين يبحثون عن الأعمال الصالحة، الأعمال المقربة إلى الله -، بر الوالدين بعد الصلاة على وقتها، بر الوالدين هذا كنز، هذا تجارة مع الله ، فيكون للإنسان فيه نية صالحة يريد ما عند الله -تبارك وتعالى، كما سيأتي، يكفي أن الله قرن بين حقه وحق الوالدين: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة النساء:36]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة البقرة:83]، أخذ عليهم العهد بعبادته وحده والإحسان إلى الوالدين إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى.

بعدما قرر هذا الأصل وهو الإحسان المطلق من كل وجه، خص حالة الكِبر: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23-24] إِمَّا يَبْلُغَنَّ، هذا قرأه عامة قرَّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين يَبْلُغَنَّ، على التوحيد، على توجيه ذلك على أحدهما؛ لأن أحدهما واحد، وجعلوا قوله: أَوْ كِلاهُمَا، معطوفاً على الأحد، إما يبلغن، يعني: واحد منهما عندك الكِبر، وقرأه عامة الكوفيين إمّا يبلغان عندك الكِبر، على أنه خبر عن الوالدين، ويكون قوله: أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا كلام مستأنف.

لاحظ، لماذا خص حالة الكِبر إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ؟ يجب البر بالوالدين سواء كان الوالد أو الوالدة من الشباب أم من الشيب، لكن لماذا خص حالة الكِبر؟ خص حال الكِبر لعدة أسباب؛ منها:

أنه في حالِ الكِبر تكون حاجة الأبوين أكثر؛ لضعفهما، يحتاج من يعينه على حاجاته، ولربما أخص الحاجات، كلما ازداد الوهن والضعف زادت الحاجة، فإذا زادت الحاجة عظُمت المشقة، فهنا يحتاج إلى تأكيد إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

لاحظ الوالد أو الوالدة إذا تقدم بهما السن صارت المشاعر أرق، رقيقة، وقد يكون أيام الشباب يتحمل، لا تؤثر فيه كلمة عابرة يسمعها من هنا أو هناك، لكن إذا صار في حالٍ من الضعف فإن هذه التصرفاتِ والكلماتِ تؤثر فيه تأثيراً بليغاً، فيحتاج إلى مزيد من الحفاوة والعناية والمراعاة.

الوالد أو الوالدة إذا تقدم به السن صار فارغاً لاسيما مع هذا التهميش الذي يزاوله كثير من الأولاد، الأم لو أرادت أن تصب لأولادها القهوة تلّ الولد ذلك من يدها وقال: أنا أكفيك، حتى هذا! هي تحب هذا، انظر ما تحب، هذا الأب يحب أن يكون له مُزدرع، أن يحرث، أن يعمل شيئاً يجد فيه سلوة، أنه يمثل دوراً، يأتي هذا الولد: أنت مكفي، إذا ما يكفي عامل نأتي بعشرة، معناها اجلس إلى أن تموت، هذا معناها ليس لها معنى آخر، لكنها في ثوب البر.

نحتاج إلى فقه في البر، مراعاة للمشاعر، فهنا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا، إذا تقدمت به السن وضعُف عن العمل صار فارغاً، وإذا صار فارغاً لربما يكثُر اشتغاله بما لا يعنيه، ما عنده شيء، فإذا سمع صوت الباب: مَن؟ سمع صوت أحد يتكلم: من؟ سمع الهاتف: من؟ ثم تأتي الأسئلة عقِب ذلك، ماذا يريد؟ ماذا يقول؟ ماذا أحضر فلان؟ من أين أتى؟ أين ستذهب؟ من الذي اتصل عليك؟ ماذا كنت تقول لفلان؟ من الذي كان واقفًا معك عند المسجد؟ وأسئلة كثيرة طويلة لا حاجة إليها، لكن لأنه لا عمل له فصار يسأل، ولربما كان الولد هو المتسبب في هذا أنه جعله بهذه المثابة، كان اللائق أن يزوده أولاً بأول بمهمات ما يجري، يعرف العالم حوله، لا يبقى مهمشاً فإذا جلس مع الضيوف تحدث عن البَعَارين قبل سبعين سنة، والمعلومات التي عنده متوقفة، قبل عشرات السنين ما في برمجة جديدة، لا توجد معلومات جديدة، الناس يتحدثون عن أشياء تدور في المجتمع، تدور في العالم، هو لا يعرف عنها شيئاً، فإذا جلس أعاد عليهم، ما عنده إلا ثلاث أو أربع حكايات يعيدها كلما جلس.

وقد رأيت أحد الأولاد العاقين أسكت أباه في المجلس، وقطع عليه حديثه، وشرع الولد في حديث آخر، يقول: ما عندك إلا هذه السالفة تعيدها علينا كلما جلسنا، الأب مسكين ما عنده، مُهمش، فما عنده إلا هذه القضية أو قضيتان أو ثلاث يتحدث فيها، قديماً حينما كان يزاول أعمالا ويسافر ويذهب وتمر عليه أحداث وأحداث، فيتحدث بها، كلما اجتمع الناس وتكابر المجلس كما يقال حدث بهذا، فهذا الولد يشعر بالضجر والضيق والحرج ويقاطعه ويبدأ يغمز لأصحابه، هذا من العقوق، هذا عقوق له قرنان -نسأل الله العافية، إذا لم يكن هذا هو العقوق فما هو العقوق؟! تُهمشه ثم بعد ذلك تُعنفه بهذه الطريقة، ثم تضيق ذرعاً حينما يسأل ويسأل ويسأل عن أشياء تقول: إنها لا تعنيه، أنت المتسبب بهذا، إذا أردت أن تشتري أرضاً شاوره، قد يبادر ويقول: يا ولدي، أنا ما أعرف، أنت الخير والبركة، تقول: لا، لا غنى لي عن رأيك، نذهب سويًّا تركب معي، هذا مُخطَّط وهذاك مخطط وذاك مُخطط، هذه أرض صفتها كذا معروضة بكذا، وهذه أرض، ما رأيك في هذا أرشدني، أنت الخير والبركة وأنت صاحب الخبرة؟ انظر كيف ترتفع المعنويات أعلى، لكن إذا كان لا يدري إلا إذا قيل له: هيا اركب، أين؟ اركب نريد أن ننتقل، وهو يذهب من فراش إلى فراش، هذه حياة، هذا بر، وهذا إحسان! من البداية، وإذا أردت أن تُخطط هذه الدار تأتي له بعرض تقول: ما رأيك؟ كم مساحة المجلس؟ كم نضع مساحة الغرفة الفلانية؟ أين نضع كذا؟ هو سيبادر، ويقول: أنا ما أعرف، أنت الذي تعرف، وأنت الذي ما شاء الله، تقول: لا، أنا لا غنى لي، أنا الذي تعلمته من أين؟ تعلمته منك، أنت الذي علمتني هذا، أنت الذي ربيتني، وانظر أثر هذا عليه، ترتفع المعنويات.

الكثيرون من الآباء والأمهات تعتريهم الأمراض والأوجاع فهو من مرضٍ إلى مرض، ومن ألمٍ إلى علةٍ يعتل بها، والسبب أنه جالس طول الوقت يترقب النهاية والضعف والتلاشي، ويتلامس ويتحسس، من الذي فعل به هذا؟ فعل به هذا لربما عقوق في ثوب البر، يريدون الإحسان بزعمهم، فهذا خطأ يقع به كثير من الأولاد،، يقع فيه كثير من الأبناء والبنات.  

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا لاحظ أحدهما أو كلاهما، لماذا أعاد ذلك بهذه الصيغة؟ أعاد ذلك بهذه الصيغة لأن حق الوالد أو الوالدة كل ذلك ثابت على سبيل الاستقلال، ولا فضل لك، أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا، قد يستطيع الإنسان أن يقوم بحق أبيه إذا كانت الأم ليست على قيد الحياة، فيقوم بحق واحد، أو بحق الأم إذا كان الأب ليس على قيد الحياة، لكن حينما يجتمع اثنان يكون الجهد مضاعفاً، لا فضل لك.

أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا يجب أن تقوم بالبر وافياً، مكمَّلاً على أحسن الوجوه، والفضل لله وحده، ثم لهؤلاء الآباء، هم الذين ربوك، وكانوا ينتظرون فقط متى تبتسم ومتى تضحك؟ ومتى تبدأ تتحرك أعضاؤك؟ ومتى تبدأ تحبو وتمشي، ويفرحون بهذا، وإذا مرضت مرضوا معك، ولكن قد يكون الشعور يختلف إذا عُكست القضية.

أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا، قد يكون قيامه بالبر بأحد الأبوين من أجل الآخر، هو يبر الأب من أجل أن الأم تأمره بهذا، العلاقة فيها جفوة مع الأب أحياناً، أو البنت بينها وبين أمها جفوة، فأبوها يأمرها بالبر بأمها، لا، لا يكون هكذا، بل هذا حقٌ ثابتٌ من غير أمرٍ من الطرف الآخر.

أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا، كل واحد له حقه من البر، لا تقم ببرِّ الأب من أجل الأم، أو ببر الأم من أجل الأب، الأم لها برٌ مستقلٌ وثابت، والأب له بر مستقل وثابت، تفعل هذا عبودية لله ، ودينًا تدين الله به، هذا هو الولد الأصيل، هذا الولد المتربي تربية حقيقية، هذه تربية القرآن، رأيتم كيف يفعل التدين بأهله، التدين الحقيقي وليس التدين المزيف.

كثيراً ما نفهم التدين على غير حقيقته، التدين لربما في أشياء معينة، لكن النقص كبير، وكبائر تقترف وبزعمه أنه متدين، أخلاقٌ سيئة، أمانةٌ مُضيَّعة، عقوقٌ، ويقول: أنا متدين.  

ولهذا أقول: الله -تبارك وتعالى- لما ذكر حالة الكِبر هذه قال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، "أُف" هذه كلمة تدل على التضجر، ذكر فيها صاحب القاموس أربعين لغة، يعني: تُنطق أُفَّ وأُفِّ وأُفًّا وأُفٌّ وما إلى ذلك من اللغات، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، كلمة أُف هذه لا يشعر بمدى تأثيرها وأذاها إلا الوالد أو الوالدة حينما يسمعها من الولد، كلمة أُف هذه لا يشعر بمدى تأثيرها وأذاها إلا الوالد أو الوالدة حينما يسمعها من الولد.

هذا الولد عند نفسه أنه بارٌ لا يريد من أبيه أو من أمه أن يفعلا شيئاً، أنا أكفيكم، إذا قالوا له: أخوك أحضره من المدرسة لا تتأخر عليه، قال: طيب، ثم يجر كلمة أُف وهو طالع، أُف هذه كأنه يسحب الوالد على وجهه، الوالد وده يذهب يحبو ويُحضر الولد، أو يحضر هذه الحاجة، أو يقضي هذا الأمر، ولا يسمع هذه الكلمة، كلمة مؤذية كأنه آخذٌ مشرطًا ويشرّح، لا يشعر بأثر هذه إلا الوالد أو الوالدة، سحبها الولد أُف وهو طالع، هو لا يشعر بها، لكن هناك كثير من الأشياء لا يشعر بها الناس، ولكنها تصدر عنهم، ويكون لها أبلغ الأثر أُف، أنا أكفيك هذا كله ولا أسمع هذه الكلمة، فكيف بما هو أشد من هذا؟

إذا كان التأفيف الذي هو أقل الأشياء نُهينا عنه والنهي للتحريم، والأمر للوجوب، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، يجب عليك، ليس بفضل أن تحُسن إلى الوالدين، وهنا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، التأفيف حرام، يعني: أنه عقوق ومعصية لله ، فكيف بما هو فوق ذلك؟! الضرب والشتم والزجر والغيبة، كيف هذا؟! -نسأل الله العافية.

يقول مجاهد: "حينما يبولان ويخرأان فلا تقل ذلك تقذراً"[9]، هذا مثال وصورة ذكرها الإمام مجاهد -رحمه الله، يعني: هو يلي منهما كل شيء، وأصعب شيء على الأبوين حينما يصلان إلى حالٍ من الضعف أنه لا يستطيع أن يذهب إلى حاجته، هذه أصعب الحالات، ولذلك تجد دائماً أنهما يدعوان الله أن لا تصل الحال بهما إلى هذا، أن يتوفاهما الله قبل أن يصلا إلى هذه الحال، من حالي إلى قبري، هذا الدعاء الذي دائماً يُردد، أن لا يكون عالةً وعبئًا على الآخرين، فإذا حصل هذا الأمر الذي فيه من الضغط النفسي والأذى ما فيه ومع ذلك يحصل معه تأفف من الولد فهذا هو الأذى الذي لا أذى بعده، يكفي ما هم فيه، هو يشعر بحرجٍ كبير أن يكون بهذه المثابة، يلي منه الأولاد كل شيء، لا يستطيع أن يذهب إلى الخلاء -أعزكم الله، فإذا سمع مع هذا كلمة تدل على تذمر، على ضيق، فهذا يتمنى الموت معه ولا يصير عالة وعبئًا على هؤلاء الأولاد.

فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، الأُف شيء يسير، بعضهم يقول: هو وسخ الأظفار، ما هو وسخ الأظفار؟ شيء يسير، وبعضهم يقول: وسخ الأُذن، المقصود أنه شيء لا يُذكر، لا تقل لهما أُفٍّ، لا تقل لهما أُفَّ، لا تقل لهم أُفِّ، ثلاث قراءات وهي لغات للعرب معروفة ومعناها واحد، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

إذن ما فوق التأفيف من باب أولى أنه يُنهى عنه، وليس ذلك فقط وَلا تَنْهَرْهُمَا، الولد قال: أنا ما قلت أُف، ولا قلت كلمة لربما تكون غير مرضية، كلمة غير موزونة فضلاً عن السب أو الشتم، لا، وَلا تَنْهَرْهُمَا.

يقول عطاء: "لا تنفض يدك على والديك"[10]، أحياناً الولد يتكلم ويقول: إن شاء الله، إن شاء الله، ويحرك يده حركة فيها اندفاع قوي للبطش، فهي تُعبر عن نفسٍ مشحونة -أبعد الله العقوق، النهر والانتهار الزجر بغلظة، قد يقول كلمة لطيفة في مبناها: عيوني، أبشر، حاضر، إن شاء الله، لكنه يؤديها بطريقة مُكهربة، الحروف فيها تضطرب خرجت من نفسٍ محمومةٍ مشحونةٍ فتجد هذا الإنسان يقول: أبشر لكن بطريقة -نسأل الله العافية- يعني يتمنى الأب أنه ما سمعها، ويقول: أنا ماذا قلت؟، أنا قلت: أبشر، هو في الواقع يقول: أبشر، لكنه يؤديها بطريقة كاللطم في الوجه، فهذا هو النهر وَلا تَنْهَرْهُمَا، فقد يحصل هذا بعبارات حسنة في ظاهرها ولكنها تؤدى بطريقة غير حسنة، وقد يصاحبها حركة باليد أو بالعين ونظرها، فينظر إليهما نظراً حادًّا يتطاير منه الشرر، فهذا لا يليق ولا يجوز ولا يحل، أسْمِعهما الكلام الحسن اللطيف.

وانظر دائماً مَن أفضل الناس ممن تؤدي إليه المعاملة الحسنة من أصدقاء، من مسئولين، من معارف، كيف تتعامل إذا خرجت من بيتك مع الناس؟ اجعل للوالدين أعظم من هذا، وألطف من هذا، كيف تتلطف مع أصدقاءك؟ كيف تتلطف مع الكبراء والوجهاء؟ فإن الأبوين أحق، ودائماً إذا أردت أن تتكلم معهما تذكّر أيّ موقف لك كنت تتكلم فيه بطريقة لطيفة مع الآخرين أيًّا كانت مرتبتهم واجعل للأبوين ما هو أعلى وأجلّ وأعظم من ذلك وأضعافه، وإذا ما كان عندك إلا إمكانات قليلة في التعامل تصرفها لهذا أو ذاك فقط اجعلها للأبوين.      

تصور هذه الطريقة لو أن أحداً يتعامل مع رجل كبير في جاهه، في ولايته، في منصبه إلى غير ذلك بنفس الأسلوب، لا يمكن أن يُقبل هذا منه، ويُعد هذا استخفافًا بهذا الإنسان، الناس يتكلمون مع هؤلاء بطريقة بعبارات مُخْملية -كما يقال- في غاية التلطف، فما بال الأب أو الأم؟! لماذا التعامل معهم بالفظاظة والغلظة؟! وللآخرين باللطف والابتسامات والضحك والأحاديث الجميلة، فإذا ضحكوا ضحكت، وإذا ابتسموا ابتسمت، وإذا تحدثوا أصغيت؟!

واحد يجلس عند أحد من الكبراء ومعه جواله وجالس طول الوقت تاركه، ومشغول برسائل ويرسل في تويتر ويقرأ، ويقرأ في الواتس آب، لو فعل هذا مع هؤلاء لعدوا ذلك استخفافاً بهم، ولا يمكن أن يُتقبل منه، فما بال إذاً الأب؟ ما بال الأم؟ لماذا يكون الوالد مُصغي الإناء ويُتعامل معه بهذه الطريقة؟!

وليس ذلك فحسب قد يقول: أنا ما أقول كلمة معيبة، ولا أؤديها بطريقة زجر، أعوذ بالله وأتوب إلى الله إن كان صدر شيء من هذا، لا يكفي، قد يبقى الولد لا يقول: أُف ولا يتكلم بطريقة فيها شيء من التعنيف أو الزجر لكنه ساكت لا يتكلم إذا دخل، لكن عند أصحابه ما شاء الله إنسان آخر، هذا ليس من البر، لا.

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، لا تبقى في حال من الصمت المُطبق، أو الاشتغال بهذا الجهاز الذي ينبغي أن تضعه قبل أن تدخل في مكانٍ آخر فتتفرغ للوالدين وتحدثهم بالأحاديث الجميلة.

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، القول الكريم هنا يشمل اختيار الألفاظ، الكلمات، أجمل ما تجد من قاموس اللغة، فإن الوالدين أحق بذلك، أجمل ما تجد، تخير الألفاظ الجميلة واجتهد، وأيضاً في الأسلوب كيف تؤديها، القول الكريم كيف تنطق بهذه الألفاظ، كيف تُعبر بها وتواجه الأبوين بالمخاطبة، فهذا كله داخل في القول الكريم، ألفاظ غير موحشة بل راقية كريمة، الكريم من كل شيء هو النفيس الذي له شأن، وكذلك أيضاً أسلوب الأداء.

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، القول الكريم هو السالم من كل عيب، ومن هنا يقول النبي ﷺ: رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكِبر أحدَهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة[11] هذه فرصة للبر، فرصة للتجارة مع الله بأوفر البضاعة.

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، فيكون الإنسان في مخاطباته مع أبويه بحالٍ من الرُّقيِّ في العبارات، الكلمات، المخاطبات، أحياناً نتصرف ونتكلم من غير وعي ولا فقه، هذه الأم رقيقة، هذا الأب رقيق، فمع ما هو فيه من التعطيل من سائر الأعمال والتهميش أيضاً يكون موضعاً لكل ما هو مجلبة للأحزان، هو يعاني من ضعف ولربما أمراض، فتجد هذا الولد يأتيه بأخبار مؤلمة في مشاهدات، في أخبار، حصل كذا، حصل كذا، حصل كذا، فيقع لهذا الوالد أو الوالدة من الهم والغم والألم ما الله به عليم، ولربما جاءت البنت وكملت الناقص، هذه رسالة مجهولة المصدر في الواتس آب قصة غريبة، كيف إن زوجة الولد فعلت بأم الزوج كذا وكذا، خبر مؤلم وقد يكون مكذوباً، والباقي يُكمل تقرؤه الثالثة من الجريدة، حوادث، مصائب، رزايا، بلايا، فيكون قلب هذه الأم أو قلب هذا الأب محلاً لما يجلب الهم والغم والحزن والألم والحسرة كآبة مستمرة، لماذا؟

لماذا لا نأتي بالأخبار والمعلومات التي تقوي القلب وترفع المعنويات، وتبعث على الانشراح والسرور؟ لماذا لا نجنِّب هذين الأبوين كل ما يؤثر عليهما، ويسبب لهما الضيق والكآبة؟  

نسأل هذا الولد أو هذه البنت أنت حينما تورد هذا الخبر الآن، ما الفائدة منه؟ كلما شاهدتَ شيئًا مؤلمًا، سمعت خبراً مؤلماً جئت مباشرة، هل علمتِ ماذا حدث؟ حصل كذا، وحصل كذا، وفي واحد حصل له كذا، وتجلس دموعها تسيل، لماذا؟ هذا من العقوق، كل هذه الأشياء التي تؤثر عليهما ينبغي أن تُجتنب.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم (3004)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2549).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، برقم (2528)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2281).
  3. تفسير القرطبي (10/ 240).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما، برقم (2552).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (16059)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة حال علي بن عبيد، فقد انفرد بالرواية عنه ابنه أسيد بن علي، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقال الذهبي في "الميزان": لا يعرف، وقال ابن حجر في "التقريب": مقبول، وبقية رجاله ثقات".
  6. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (7256)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (1471)، وقال الألباني: "إسناده صحيح بشواهده"، في تحقيق فضل الصلاة على النبي ﷺ (ص: 33).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (90).
  8. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85).
  9. تفسير الطبري (14/ 545).
  10. انظر: تفسير الطبري (14/ 548)، وتفسير ابن كثير (5/ 64).
  11. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر، فلم يدخل الجنة، برقم (2551).

مواد ذات صلة