الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
من قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ" إلى قوله "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ" الآيات [17-30]
تاريخ النشر: ١٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٥
التحميل: 925
مرات الإستماع: 1298

قال تعالى: يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۝ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ۝ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ۝ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 27- 33].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الإخوة فهذه الآيات التي قرأها الشيخ على مسامعكم تتحدث عن جملة من القضايا الوقائية، التي من شأنها أن تحفظ المجتمع، بإذن الله من الوقوع في الريب والفواحش، ومن كل أسباب ذلك، والطرق التي توصل إليه.

هذه الآيات ذكر الله فيها جملة من الأمور التي من شأنها أن تُجنِّب النفوس سبل الإغراء والغواية، حيث ذكر الله آداب البيوت، والدخول إلى هذه البيوت، وما يتعلق بذلك من الاستئذان على أهلها، كما تحدث الله فيها عن غض الأبصار، وأمر به، كما نهى عن إبداء الزينة لغير المحارم، وفصّل ذلك تفصيلاً بديعًا.

كما حض الله على إنكاح الأيامى، وهم من لم يتزوج، سواء كان ذكر أم أنثى؛ وذلك تكثيرًا للعفاف، وحذّر الله -تبارك وتعالى- من دفع الفتيات إلى البغاء، وكل هذه من الأسباب الوقائية التي من شأنها أن تعصم المجتمع بإذن الله من الوقوع في الفواحش والرزايا، والأمور المخلة بالشرف والعفاف.

والإسلام كما ذكرنا -أيها الإخوان- من قبل دينٌ لا يعتمد العقوبة في القضاء على مثل هذه الفواحش، وإنما الإسلام يُعنى بتربية النفوس، وبتكثير العفاف، وبقطع الطريق إلى هذه المنكرات والفواحش، وبوضع السياج دون هذه الموبقات، فلا يصل إليها الإنسان إلا إذا تخطى ذلك جميعًا.

فالإسلام يربي أتباعه على كثير من الأمور التي من شأنها أن تعصمهم بإذن الله ، فهذا من جملة الوقاية التي تُبعد المجتمع والأفراد بإذن الله من الوقوع في مثل هذه الفواحش.

وقد ذكرنا لكم أن الإسلام لا يحارب الدوافع الفطرية المكنونة في نفس الإنسان، ولكنه يصرفها التصريف الصحيح، ويهيئ لها الأجواء النظيفة السليمة، بعيدًا عن الأمور المثيرة التي تحرك الغرائز، ثم بعد ذلك يصعب إطفاؤها؛ لأن هذه الغرائز إذا تحركت واشتعلت في القلوب فإنه يصعب بعد ذلك أن تُصد، وأن يوصد الباب أمامها، وإلا فإن ذلك يورث الإنسان عقدًا مضنية، وعللاً وأمراضًا وكبتًا؛ لأن من شأن الإنسان إذا حرك غريزته وأثارها، ثم لم يصرّف هذه الغريزة، فإن ذلك ينعكس على نفسه، ويعود عليه بالضرر، ويشتت شمله، ويفرق قلبه، كما هو معلوم.

ولكن الإنسان مطالب بأن يبتعد عن جميع أسباب الإثارة، وأن يتقي الله في نفسه، وأن يبحث عن سبل العفاف: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء[1].

والمقصود: أن الله في هذه الآيات -كما سمعتم- جعل للبيوت حرمة، لا يجوز المساس بها، بحيث لا يُفجئ الناس بالداخل عليهم، يفجؤهم هكذا من غير إشعار، أو استئذان، فيدخل الغرباء في البيوت، ويرون أمورًا وتتكشف لهم أشياء من ألوان العورات، ومن خفايا البيوت، التي يحرص الناس على إخفائها وسترها؛ لئلا يراها أحد، فقد تقع عينه على شيء من العورات الجسدية، فتتحرك عند إذن الغرائز، وتلتهب الشهوات.

فالله قد أمره أن يستأذن قبل أن يدخل؛ لئلا يقع ذلك المحظور، فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النــور:27].

فالوقفة الأولى: مع هذه الآية، فالمناسبة بينها بين هذه الآيات، والآيات التي قبلها، هو أن الله لما فرغ من الزجر عن الزنا، والقذف، والزجر عن هذه الأمور التي لا تليق، زجر بعد ذلك عن دخول البيوت بغير استئذان؛ لما يفضي إليه ذلك من الاطلاع على العورات.

لقد جعل الله البيوت للناس سكنًا ومثوى يفيئون إليها، فتسكن بها نفوسهم وأرواحهم، ويستروحون بها، وتطمئن قلوبهم، ويأمنون بها على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون فيها أعباء الكلفة والحرج من الآخرين، فتنبسط نفوسهم، ويستروحون في هذه البيوت، فلا يبقى الواحد منهم حذرًا مترقبًا ينتظر الآخرين يدخلون عليه في كل لحظة، وإنما هذا البيت هو حق خاص له، لا يشاركه فيه غيره من غير الساكنين فيه، فالآخرون يجب عليهم أن يستأذنوا، وأن يُشعِروا صاحب هذا البيت بدخولهم، فيتهيأ للقائهم، فإن إذن فبها، وإن لم يأذن رجعوا غير متحرجين من ذلك الامتناع من الإذن لهم.

الحرص -أيها الإخوان- والترقب الدائم والحذر، لا شك أنه أمر يرهق أعصاب الإنسان، ولكنه إذا أخلد في بيته، واطمئن أن الآخرين لن يدخلوا عليه هدأت نفسه، وارتاح ضميره، وبقي مستروحًا غير مترقب، هذه قضية يدركها الإنسان، ولا تخفى على أحدٍ منا.

الناس لهم أحوالهم في هذه البيوت، التي لا يحبون أن يطلع الآخرون عليها، وأن يتعرفوا على أسرارهم، لا يحب أن تتكشف هذه الأمور وهذه الخبايا والخفايا من ألوان العورات أمام الآخرين، كل أمر يتخوف من جهته، يقال له: عورة، كما قال المنافقون: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] والمقصود: أنها مكشوفة أمام السراق والعدو، فهي ليست مصونة حصينة، وإنما يمكن الوصول إليها؛ ولهذا يقال للثغور وهي المحال التي تكون قُبالة العدو في الأرض المتاخمة لأرض الأعداء: العورات، ويقال لإسرار الأمة وأسرار المسلمين التي لا يحبون أن يطلع عليها العدو: عورات المسلمين؛ ولهذا يقال: لا يجوز لأحد أن ينقل للعدو عورات الأمة، وأن يكشف ذلك لهم، وأن يطلعهم عليه، فكل أمر يتخوف من جهته، ويحتاط له، ويمنع الآخرون من الاطلاع عليه، فإنه يكون عورة؛ ولذلك لا تختص العورات بعورات الأجساد، فاستباحة حرمة البيوت من هؤلاء الذين يدخلون من غير استئذان من شأنه أن يجعل أعينهم تقع على عورات مختلفة، تلتقي بجملة من الأمور الفاتنة المثيرة التي من شأنها أن تحرك الغرائز، وأن تهيئ الفرصة للغواية، والوقوع في الفاحشة.

وكذلك أيضًا من شأنها أن تشغل القلب، وأن تشغل الإنسان بهذه الأمور التي شاهدها، فيشتغل هذا الإنسان بهذه المشاهدات، وتتحرك نفسه تجاهها، ويتعلق قلبه بها، ويفكر بها، فيبقى متعلقًا بهذه الأمور التي شاهدها في داخل البيوت، ومن يرضى -أيها الإخوان- أن يكون بهذه المثابة أمام أعين هؤلاء الذين قد شخصت أبصارهم في داخل بيوت الناس، فوقعت على محارمهم، قد تكون المرأة متكشفة مبتذلة، وقد يكون الرجل متكشفًا، وكذلك قد تكون النفوس في حالاً غير مهيأة لأن يراها الناس، فقد يكون الإنسان في حزن، أو في جزع، وقد يكون يعاني مرضًا وآلامًا لا يحب أن يطلع الآخرين منه على ذلك، وقد يكون في ثياب قد تبذل فيها في مهنته، لا يحب أن يطلع عليها الآخرين، وهو يلبس مثل هذه الثياب التي لم يتجمل للآخرين بها.

وقد يكون هناك عورات مختلفة، كعورات الأثاث التي لا يحب الناس أن يقف الضيوف عليها، وقد تكون عورات الآنية، أو عورات الطعام الذي لم يرفع بعد، أو عورات أخرى تقع في بيوت الناس، لا يحبون من أحد أن يشاهدها، فإذا استئذان عليهم، فإنهم يتهيئون لمقابلته، بحيث إنهم يتجملون له بأثاثهم ولباسهم، وبسترهم للعورات المختلفة، فلا يرى منهم إلا ما يليق، وما يحسن ويجمل، ويستروحون لرؤيته، فتزول الوحشة من نفوسهم، فلا يكون ذلك واقعًا على أمر يكرهونه.

الوقفة الثانية: مع قوله -تبارك وتعالى-: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النــور:27].

فما هو المراد بهذا الاستئناس الذي أمرنا الله به قبل أن ندخل بيوت الآخرين لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا؟

الاستئناس يأتي لمعنيين اثنين، والعلماء يتكلمون على هذه اللفظة كلامًا كثيرًا طويلاً، ولكنه يمكن أن يلخص، وأن تجمع أطرافه المتفرقة، وأن يلم الخلاف فيه بخلاصة يمكن أن يقال فيها: إن الاستئناس أصله في كلام العرب يأتي لمعنيين اثنين:

الأول: ما يقابل الاستيحاش، وما علاقة ذلك بموضع الاستئذان؟

يقال: لأن المستأذن لا يدري أيؤذن له أم لا يؤذن له؟ لا يدري بماذا سيقابل؟ ولا يدري من سيخرج عليه؟ وبماذا سيرد عليه؟ وهو لا يدري عما سيفاجئه؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أُذِن له استأنس، وزال عنه ذلك الاستيحاش، والإنسان حينما يطرق باب الناس يبقى وهو في شيء من الانقباض، فإذا خرجوا إليه، ورحبوا به، وأذنوا له استروحت نفسه، واستأنس لأذنهم، وزالت عنه الوحشة والانقباض، هذا معنى.

وكيف يحصل هذا الاستئناس؟ يحصل هذا الاستئناس بالأذن، إذا أذنوا له استأنس، فإذًا صار هذا الاستئناس من لوازم الإذن، يعني: أنه ناتج عنه، إذا أُذن له حصل له الاستئناس، فأطلق اللازم، وأريد الملزوم، ما هو اللازم؟ الذي هو النتيجة الأُنس، نتيجة لماذا؟ للاستئذان، فأطلق هذا، وأريد به هذا، إذًا هذا الاستئناس نتيجة للإذن، فأطلقت النتيجة على السبب؛ لأن سبب ذلك هو أذن هؤلاء الناس، فإذًا: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي: تزول الوحشة بإذن هؤلاء، إذًا نحن مطالبون بالاستئذان، هذا معناها.

وكثير من السلف قال: تَسْتَأْنِسُوا بمعنى: "تستأذنوا" لكن ذلك لا يطابق معناها في اللغة، ولكن للملازمة بين الأمرين، فإن الإنسان كما ذكرت يبقى مستوحشًا، فإذا حصل له الأذن يزول عنه الاستيحاش، فلما كان الأمر متلازمًا بهذه الطريقة عبّر عن الاستئذان بالاستئناس، والمعنى على هذا: حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا قوله -تبارك وتعالى-: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53].

وقوله: فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النــور:28] وبالاستئذان قرأها ابن عباس، وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير[2].

وفي مصحف عبد الله بن مسعود : "حتى تسلموا على أهلها، وتستأذنوا"[3]، فلم يذكر الاستئناس، فإذًا قوله: "حتى تسلموا على أهلها" التسليم موجود في القراءة المتواترة: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] إذًا كلمة: "تستأذنوا" صارت تقابل الاستئناس في القراءة المتواترة، وممن فسرها بالاستئذان: ابن عباس[4]، وسعيد بن جبير[5]، والإمام مالك[6]، والقرطبي[7]، وابن كثير، وجماعة.

وعرفتم وجه الملازمة بين الأمرين، وإن كان نفس الاستئناس ليس بمعنى الاستئذان في لغة العرب، وقريبًا من هذا المعنى ما قاله مجاهد[8]، وابن زيد[9] -رحمهما الله-: حتى تُؤنسوا أهل البيت بالتنحنح، وشبهه، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم، وكان ابن مسعود إذا دخل الدار استأنس، وتكلم ورفع صوته، إذًا كلامه بمعنى الاستئذان.

المعنى الثاني الذي تأتي له كلمة (الاستئناس): هو الاستعلام والاستكشاف، هذا أصله في لغة العرب يأتي لمعنيين الاستعلام والاستكشاف، من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا، أو علمه، كما قال الله عن موسى أنه قال: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طـه:10] والله يقول عن الأيتام: فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أي: علمتم منهم رشدًا، والمعنى على هذا: حتى تستأنسوا أي: حتى تستعملوا، وتستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أو لا يؤذن لكم؟ وهذا الذي رجحه الشيخ العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[10]، وقد اختاره قبله الخليل بن أحمد الفراهيدي[11].

وتلاحظون أن المعنيين يدوران على الاستئذان، فسواء قلنا: الاستئناس لازم عن الاستئذان، أو قلنا: الاستعلام والاستكشاف هو كيف يستعلم ويستكشف إلا بالاستئذان، يقول: أأدخل؟ هذا هو الاستئذان، فهو لا يمكن أن يستعلم: أيأذنون له أو لا يأذنون؟ إلا إذا استئذان.

فصارت هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد، وهو الاستئذان؛ ولهذا لسنا بحاجة أن نرجح بين هذه المعاني، وهذه خلاصة لكلام طويل، يذكره المفسرون، وأهل اللغة، في معنى هذه اللفظة.

وقد جمع كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله- بين هذه المعاني بقوله: والصواب أن الاستئناس هو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرًا بذلك من فيه، وهل فيه أحد؟ بمعنى: الاستعلام والاستكشاف...؛ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك تزول عنه الوحشة[12].

لحظتم دقة عبارات المفسرين، بهذا تستطيع أن تعرف كيف تتعامل مع عبارات هؤلاء الأئمة الكبار، مثل ابن جرير الطبري، وابن كثير، وأمثال هؤلاء من الأكابر، فقد جمع لك هذه المعاني بعبارة ربما ما يلاحظها الإنسان لأول وهلة إلا إذا دقق النظر، وجمع أقوال السلف، ثم بعد ذلك ينظر إلى عباراتهم يجد أنها عبارة كتبت بأغلى من ماء الذهب، فرحمهم الله رحمة واسعة.

يقول في بقية كلامه: فليأنس إلى أذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم، وقد حُكي عن العرب سماعًا: اذهب فاستأنس، هل ترى أحدًا في الدار؟ بمعنى: استعلم، وانظر هل ترى فيها أحدا؟ هذا كلام ابن جرير الطبري، فإذا تعاملنا مع عبارة المفسرين بهذه الطريقة ينفتح علينا من أبواب الفهم في التفسير الشيء الكثير.

فالمقصود -أيها الإخوان- أن الله يخاطب أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النــور:27]، فلاحظ هذا التعبير بالاستئناس إضافة إلى ما ذكرنا، فهو يوحي بلطف الاستئذان أيضًا، ولطف الطريقة التي يأتي بها الطارق، فتحدث في نفسه، وفي نفوس أهل البيت أنسًا بهذا الإنسان، واستعدادًا لاستقباله، فهذه لفتة لطيفة ينبغي التنبيه لها، مراعاة لأحوال الناس في بيوتهم، فلا يكون الاستئذان بطريقة تفزعهم، وربما -كما سمعت- أن بعض الناس ربما استأذنوا، فلم يُؤذن لهم فجعلوا صغارهم يتسلقون من فوق الأسوار ليفتحوا لهم الباب.

وإذا عرفنا أن المقصود هو الاستئذان لا بأس أن نذكر جملة من الآداب المتعلقة بهذا التوجيه القرآني:

الله أمرنا بالاستئذان، فقال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ظاهر الآية أن الذي يقدم الاستئذان، ثم بعد ذلك السلام، فمعنى هذا أنهم إن كانوا بمسمع منك، فتقول لهم: أأدخل؟ السلام عليكم، إذا سمعت صوتهم مثلاً، وهل هذا هو المقصود؟ وهل هذه هي السنة؟

هذا ظاهر هذه الآية، لكن عامة أهل العلم، والجماهير من السلف والخلف يقولون: الذي يقدم هو السلام لا الاستئذان؛ لماذا؟ لأن السنة دلت على ذلك، طيب وظاهر هذه الآية؟ قالوا: ظاهر هذه الآية هذا من المقدم الذي حقه التأخير، وإلا فالترتيب في الأصل، فيما يقع مما طلبنا به شرعًا، حتى نسلم، ثم نستأذن.

وبعض أهل العلم أخذ بظاهرها، كالحافظ ابن كثير[13]، فقال: الاستئذان يقدم.

وبعضهم فرق، فقال: حسب الحال، فإذا وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلا فالاستئذان.

طيب في واقعنا اليوم إذا طرق الجرس، فماذا يقول؟ وماذا يصنع؟ إذا طرق الجرس فإن رد عليه أحد، يبدأ بالسلام، لكن إن كان ذلك من غير هذه الطريقة، بمعنى لو كان مثلاً في خيمة، أو في مكان يريد الدخول عليهم فيه، وهم يسمعون صوته، ولا يجد شيئًا يطرق فيه الباب مثلاً، فماذا يقول؟ يقول: "السلام عليكم" لأنهم سيطرق سمعهم السلام "أأدخل" أو "السلام عليكم، هذا فلان"، "السلام عليكم أنا فلان" وما أشبه ذلك.

فصفة الاستئذان إذن هي أن نقدم السلام في الأصل، فنقول: السلام عليكم، ثم نأتي بعد بالاستئذان، يدل على هذا: الحديث المخرج في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه لما استأذن على عمر قال: السلام عليكم، هذا أبو موسى[14]، هذا الاستئذان الأول، فما رُد عليه، ثم قال: السلام عليكم هذا الأشعري، فما رُد عليه، فهذا يدل على أنه يحسن بالإنسان أن يغير الاسم، ويأتي بالأسماء المعروفة، ولا يبهم على الناس في الاستئذان، وفي تعريفهم بنفسه، فلا يأتي بكنية غير معروفة، أو باسم غير معروف، أو بكنية كثيرة التكرر، لا يتميز هو بها، كأن يقول مثلاً: معكم أبو عبد الله، من أبو عبد الله؟ لا يعرف، فهذا ليس من الأدب، والنبي ﷺ قد قال كما ذكر أبو موسى لعمر؛ لأن عمر عاتبه وسأله: لماذا رجعت؟ فأخبره أن النبي ﷺ قال: إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له فليرجع[15]، وفي بعض الروايات أن أبا موسى قال: يستأذن أبو موسى، يستأذن الأشعري، يستأذن عبد الله بن قيس[16]، ففي كل مرة غير الاسم، وهذا أدعى إلى أن يُعرف.

وقد استأذن رجل من بني عامر على النبي ﷺ وهو في بيتٍ، فقال الرجل: أألج؟ فقال النبي ﷺ لخادمه: أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، قل له قل: السلام عليكم، أأدخل[17]،  لاحظ أألج نفس معنى أأدخل، فماذا علمه النبي ﷺ؟ القضية الزائدة هو السلام، فالسلام أولاً، وهذا حديث صحيح في سنن أبي داود.

وجاء عبد الله بن عمر إلى فسطاط امرأة من قريش، وقد أرهقته الرمضاء، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟[18]، فهذا من فعل أصحاب النبي ﷺ.

وكم عدد مرات الاستئذان؟ تكون ثلاث مرات، كما في حديث أبي موسى السابق، وكذا حين استأذن النبي ﷺ على سعد بن عبادة، فإن النبي ﷺ قال: السلام عليكم ورحمة الله[19]، ثم أعادها ثانية، ثم أعادها ثالثة، ثم رجع، أخرجه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح.

إذًا يستأذن ثلاث مرات، طيب لو لم يسمعوا كلامه واستئذانه، فماذا يصنع؟ بعض أهل العلم يقول: إن علم أنهم لم يسمعوا فإنه يزيد، كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "لا أحب أن يزيد على ثلاث إلا من علم أنه لم يسمع"[20]، طيب وفي غلبة الظن تنزل غلبة الظن منزلة اليقين، وكذلك لو كان على موعدٍ معهم، أو كان يعرف أن صوت الجرس أنه بعيد عنهم، وأنهم يعانون من عدم سماعه، ففي هذه الحال يمكن أن يعيد، إلا إذا غلب على ظنه أنه أسمعهم ففي هذه الحالة يتوقف، فلا يكون مؤذيًا لهم.

فإن أجابوه، فقالوا له: من؟ فماذا يقول؟ هل يقول: أنا؟ كما يفعل كثير من الناس؟ الجواب: لا، فقد أخرج الشيخان من حديث جابر قال: استئذان على النبي ﷺ فقال: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال النبي ﷺ:أنا أنا[21]، يعني: كأنه كره ذلك، والحديث مخرج في الصحيحين.

وفي أثر عن علي بن عاصم الواسطي، قال: قدمت البصرة، فأتيت منزل شعبة بن الحجاج، الجبل الإمام في السنة، وفي حديث رسول الله ﷺ وحفظه، يقول: فدققت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، فقال: يا هذا ما لي صديق يقال له: أنا[22]، يعني: هذا إبهام؛ لماذا تقول: أنا؟.

 وحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه، فقال: من ذا؟ فقال الطارق: أنا، يقول: أنا هَمٌ دق[23]، يعني: كأنه يمتعض من سوء رده وجوابه.

ويبقى كل قوم لهم عرفهم في الاستئذان، وفي العبارة التي يستخدمونها.

أبو هريرة لما دعته أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فجاء مع غلامها، أو خادمها، فوقف على الباب، فقال: أندر؟ فقالت له: أندرون[24]، وأصل هذه العبارة مشرقية أعجمية، كأنها جاءت عند أهل المدينة بعد الفتوحات، فاختلط بهم بعض العجم، فصاروا يتكلمون بمثل هذه الألفاظ التي هي أعجمية في أصلها، ولم تكن عربية، وأظنها لا زالت مستعملة في أرض الحجاز إلى اليوم، لكن يبدو أنهم يستعملونها في عكس هذا المعنى (أندر) بمعنى (أخرج) أليس كذلك؟ فهم يستخدمونها بمعنى أخرج، وهي معناها (أدخل).

وعن أحمد بن صالح قال: كان الداروردي، الإمام المعروف، من أهل أصبهان، جاء ونزل في المدينة، فكان يقول للرجل إذا استأذن عليه أحد، وأراد أن يدخل، قال له: (أندرون)[25]، فلُقب بـالداروردي، هذا سبب هذا اللقب.

الله في هذه الآية يقول: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النــور:27] فهذا نهي، والأصل أن النهي يقتضي التحريم؛ ولهذا يقال: لا يجوز للإنسان أن يدخل غير بيته حتى يستأذن، فيحرم عليه، فليست المسألة مسألة استحباب، لا بد من الاستئذان، فهو شيء واجب، ويدل على ذلك: ما أخرجه الشيخان عن النبي ﷺ أنه قال: لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح[26]، فإذا كان فقط في النظر، وفقئت عينه، فهي هدر، فما بالك لو دخل بعينه وجسده، فوجدته في وسط الدار، وقال: ها قد دخلت؟ هذا أشد.

وكذلك حديث أنس: أن رجلاً اطّلع من بعض حجر النبي ﷺ فقام إليه رسول الله ﷺ بمشقص، قال: "فكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يختله ليطعنه"[27]، والحديث صحيح الإسناد، في سنن أبي داود.

وفي حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا: من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فقد هدرت عينه[28]، يعني: ما لها دية، ولا يلحقهم تبعة في ذلك، والحديث أصله في الصحيحين؛ وذلك لأن الاستئذان من أجل النظر، كما في حديث هزيل، قال: جاء رجل فوقف على باب النبي ﷺ يستأذن، فقام على الباب، أي: قبالة الباب مباشرة، مستقبلاً الباب، فقال له النبي ﷺ: هكذا عنك، أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر[29].

وكذلك حديث عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله ﷺ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر ويقول: "السلام عليكم، السلام عليكم؛ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستر"[30].

الوقفة الثالثة: مع قول -تبارك وتعالى-: غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27] هذا يدل بمفهوم المخالفة على أن الإنسان لا يجب عليه أن يستأذن إذا دخل بيته، لكن هل هذا يعني أنه لا يطالب بالاستئذان، أو لا يشرع الاستئذان في حقه؟

الجواب: لا، الاستئذان مستحب، حتى لو دخل الإنسان بيته، فإن هذا من كمال الأدب، لكنه لا يجب عليه الاستئذان، لكن لو كان هذا البيت لا يوجد فيه غيره، فإنه لا يجب عليه الاستئذان، لكن لو معه أحد كالزوجة مثلاً والأبناء، فماذا يصنع؟ نقول: يستحب له أن يستأذن.

وكان ابن مسعود إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق[31].

وقال الأمام أحمد -رحمه الله-: "إذا دخل الرجل بيته، أستحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه"[32]، بمعنى: أن يشعر على الأقل أهل البيت، هو لا ينتظر يستأذن، ويتوقف أن يأذنوا له، ويقولون: ادخل، لأن هذا بيته، لكنه يشعر من بداخل البيت أنه قد وصل مثلاً، أحيانًا يكون على الباب الداخلي في البيت جرس، فإنه يطرق هذا الجرس؛ ليشعر أنه قد شرع في الدخول، أو يتكلم بكلام يعرفونه، فيشعرون بدخوله عليهم.

وعن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا[33]، ومقصوده: أنه لا يجب عليه الاستئذان، كما قال الحافظ بن كثير -رحمه الله-: "وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله، ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها"[34]، هي تحب أن يلقاها زوجها، وهي في حالٍ مرضية، فربما تكون في حال لا تحب أن يراها الزوج، فينفر منها، فعند ذلك يشعرها بدخوله.

لكن لو كان في البيت غير الزوجة من المحارم كالأم والأخت والعمة والخالة، وما أشبه ذلك، فهل يجب عليه الاستئذان على هؤلاء؟ يقال: إذا كان هؤلاء في بيوت مستقلة، فإنه يجب عليه الاستئذان عليهم، وإذا كان هؤلاء في شقة في الدار، أو دور مستقل، أو نحو هذا، فإنه يجب أن يستأذن إذا أراد أن يصعد.

وإذا كان هؤلاء معهم في دارهم، ولكن لهم حجرة تختص بهم، فإنه يستحب إذا أراد أن يدخل الدار التي يملكها هو أن يشعر بدخوله، لكن إذا أراد أن يدخل على هؤلاء حجرتهم الخاصة بهم، فيجب عليه أن يستأذن على هؤلاء المحارم من العمة والخالة والأم والأخت، وما أشبه ذلك.

وابن عباس -رضي الله عنهما- لما سأله عطاء، وقال: أنا عندي أخوات يتيمات، وفي كنفي، ماذا أصنع؟ يشق علينا الاستئذان، فقال له: أتحب أن تراها عريانة؟[35].

وابن مسعود يقول: "عليكم الإذن على أمهاتكم"[36]، ويقول طاووس: "ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم"[37]، وكان يشدد في ذلك.

والإمام مالك -رحمه الله- يقول: "ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما"[38].

والتفصيل الذي ذكرته يُبين لك وجه القضية من الناحية العملية إذا كانوا معه في البيت مختلطين، أو لهم ما يختص بهم من حجرة، أو شقة، أو دور، أو نحو هذا، مما يختصون به.

 طيب إذا دُعي الرجل هل يكون ذلك إذنًا له؟

إنسان دُعي، هل يكون هذا إذن؟ هو بحسب القرائن، وحديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي ﷺ قال: رسول الرجل إلى الرجل إذنه[39]، هذا حديث واضح أن هذا إذن، هذا متى؟ إذا جاء مع الرسول، أو جاء مباشرة، قال: فلان يدعوك، فجاء إليه، أما إذا قال: فلان يدعوك تأتيه في الوقت الذي يناسبك، فجاءه بعد يومين، أو نحو هذا، نقول: ما يستأذن؟ لا بد أن يستأذن.

 لو حدد له موعدًا، دعاه إلى طعام، أو نحو ذلك، قال له: الأسبوع القادم ليلة الأحد أنت مدعو عندي بعد صلاة العشاء مباشرة، أو الساعة الفلانية؟ فهل يستأذن؟ نقول: بحسب القرينة، فإن وجد الباب مشرعًا، فإنه يشعر بدخوله، ولا يحتاج أن يقف حتى يؤذن له، ولكنه لو وجد الباب مغلقًا، فماذا يصنع؟ يتسور؟ لا، لو وجد قرائن، كأن شعر أن هناك أهل الدار من النساء، ونحو هذا، أو سمع أصواتهن، لم يتهيئوا لاستقبال الضيوف، كأن جاء مبكرًا، أو نحو هذا، فإنه لا يدخل حتى يستأذن.

وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: إذا دعي أحدكم إلى طعام، فجاء مع الرسول، فإن ذلك له إذن[40]، فهو صحيح الإسناد، في سنن أبي داود.

الوقفة الرابعة: الله يقول: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النــور:28] أنت لا تمتحن الآخرين إن يُدخِلوك، وقد جاء عن أنس أن رجلاً من المهاجرين، قال: "لقد طلبت عمري كله في هذه الآية، فما أدركتها: أن أستأذن على بعض أخواني، فيقل: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط؛ لقوله: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ"[41].

هذه هي التربية القرآنية: ألا يستثقل الإنسان اعتذار هؤلاء عن استقباله، فالناس لهم ظروفهم، ولهم أشغالهم، ولهم ملابستهم، ولهم ما يمنعهم من استقبالك في هذه اللحظة، والنفس إذا كانت غير مهذبة، فإن الإنسان يتبرم بهذا الاعتذار، ويستثقله، وربما يكبر ذلك في نفسه، وتكون شناعة، ويتكلم في المجالس عند الآخرين، ويسمي ذلك بغير اسمه، يقول: أتيت إلى فلان فطردني من عند الباب، هذا نفسه لم تروض، ولم تهذب على آداب القرآن، وربما فسر ذلك بتفسيرات أخرى، ربما قال: فلان يريد أن يجعل من نفسه شيئًا كبيرًا، فهو يمتنع ويعتذر من استقبال الضيوف إلا بموعد، نقول: هذه هي التربية القرآنية.

أقول -أيها الإخوان-: شر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء شره، الإنسان الذي يعرف الآخرون أنه قد رباه القرآن، وتهذبت نفسه، لا يتحرجون أن يعتذروا منه، لكن إذا عرفوا من إنسان سوء الخلق، وضعف النفس، وأنه لم تتروض نفسه على هذه الآداب فيضطرون إلى الإذن له، على كراهية وتثاقل وتبرم، فمن منا -أيها الإخوان- يحب أن يدخل على الآخرين وهو أثقل على قلوبهم من الجبل؟ وينتظرون الساعة التي يخرج فيها، ويقابلونه -كما يقال-: بابتسامات صفراء، هذا أمر لا يحبه الإنسان، ولا يرضاه لنفسه، فإذا قيل لك: ارجع؟ فأرجع من غير غضاضة، ومن دون أن تستشعر أن هذه إساءة وجهت إليك من قِبل هؤلاء الناس، فتنفر منهم، الناس لهم أسرارهم، وأعذارهم، وينبغي أن نترك لهم وحدهم تقدير هذه الأعذار والأشغال.

وبهذا نعرف -أيها الإخوان- أن القرآن منهج حياة، ينظم أحوال الأمة بجميع شؤونها العبادات والعادات، والسياسة والاقتصاد، وأمور الجيش والحرب، ومواجهة الأعداء، وينظم أيضًا قضايا الأخلاق والآداب، حتى في هذه الجزئيات، والأمور الدقيقة، كيف تستأذن؟ ثم بعد ذلك ما موقفك لو أن هؤلاء الناس لم يأذنوا لك؟

فالقرآن منهج يعالج جميع شؤون الحياة، أما رأيتم قول الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]... إلى آخر ما ذكر من طريقة مشيتهم، والله يقول: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37] لا تمش مختالاً متبخترًا مفتخرًا متغطرسًا مترفعًا بمشيتك، فهذه آداب شرعها الله ، فكلما كان الإنسان بذلك أعلق، وأكثر أخذًا كانت نفسه أعظم تهذيبًا وتربيةً وترويضًا، ومن ثم يحصل للناس السكن في البيوت والراحة والطمأنينة، وتكون علاقاتهم وزياراتهم على وجه من المحبة والمؤانسة بهذا الضيف، ويتقبلونه ويستقبلونه بصدر منشرح، وتحفظ لهؤلاء الناس أسرارهم، ولا تنكشف شيء من عوراتهم، التي لا يحبون أن يطلع عليها أحد من الناس.

الوقفة الخامسة: يقول الله : لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ [النــور:29] البيوت المسكونة لا يجوز أن ندخلها إلا باستئذان، هذا أمر قد عرفناه، وما الذي يقابلها؟ يقابلها البيوت غير المسكونة؛ وذلك يشمل نوعين من البيوت:

الأول: المهجورة التي لا يوجد فيها مجيب، ولا يوجد فيها أحد.

والنوع الثاني: وهي البيوت المأهولة غير المسكونة، وهل هناك فرق بين البيوت المأهولة، والبيوت المسكونة؟ يقال: نعم، البيوت المسكونة التي فيها ساكن، هذا بيت فلان، يسكن فيه، وتسكن فيه عائلته، فهو مختص به، فيه أسرارهم، وفيه عوراتهم، فلا يجوز لأحد أن يدخل إلا باستئذان، والبيوت المأهولة هي التي يأهلها الناس، وكلمة بيت بمعناها الأوسع يدخل فيها الفنادق، والمستشفيات، والأسواق، والمعارض، والورش، والمصانع، يدخل فيها كل ذلك، هل هذه البيوت مهجورة؟ لا، هل المصانع مسكونة؟ لا، غير مسكونة، وإنما هي مأهولة، فما الذي يجب علينا أن نستأذن فيه؟

البيوت المسكونة، وأما غير المسكونة من البيوت المأهولة والمهجورة، فإننا ندخل من غير استئذان، والبيوت التي فيها متاع لنا، مثل الفنادق، طبعًا ليس معنى هذا أن تدخل على غرفة إنسان في الفندق، وتقول: هذه مأهولة، لا، هذه الغرفة مسكونة، لكن تدخل في صالة الاستقبال، وفي الممرات، ونحو ذلك، هذا ما يحتاج استئذان، فلا تقف على باب الفندق في الخارج، ثم تطرق، وتقول: تأذنون لي أدخل وإلا لا تأذنون؟ هذا لا يحتاج، وكذا المستشفى لا تحتاج تقف عند باب المستشفى، وتقول: هل تأذنون؟ أو: لو سمحتم، أو السلام عليكم، أأدخل؟ هذا لا يطلب منك، وإنما مباشرة تدفع الباب وتدخل، فهذه مأهولة، وليست مسكونة.

وكذلك الأسواق، والمحال التجارية، إنما وضعت من أجل الاتجار، وكذا المطاعم، وصالات الأفراح، فهذه غير مسكونة، فأنت مباشرة تأتي وتدخل، وكذلك المدارس والإدارات، وما أشبه هذا، كله يدخله الإنسان من غير استئذان، فهذه مأهولة، وليس مسكونة، فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] داخل تشتري، أو تعالج، أو تسكن في الفندق، وما إلى ذلك.

وكذلك غير المسكونة ولا المأهولة: الأماكن المهجورة، الخربة، بيت تحت الإنشاء، ما فيه أحد، ولا سكن أحد، لا زالوا في طور الإنشاء، هل يجوز لك أن تدخل وتستظل؟ يجوز، فإذا كنت مارًا في الطريق في قرية، أو مدينة، ووجدت عمارة، وضع الدور الأول، والثاني، وأنت تبحث عن ظل، هل يجوز لك تدخل وتتغدى فيها؟ يجوز، ما المانع من هذا؟ تريد أن تقيل؟ ما المانع؟

وجدت كذلك مكانًا خربًا، يمكن أن يذهب إليه إنسان لقضاء الحاجة في الطرق، وأماكن مهجورة، خربة ما المانع؟ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] قضاء الحاجة، والظل، والنوم والقيلولة والراحة والمبيت، ووضع المتاع فيها، وقد يكون الذين يسافرون كثيرًا كأصحاب الشاحنات، يضعون بعض الأمتعة، كفرات، وأشباه ذلك، وفي السابق العلماء يقولون: يضعون الرحل، فيدخل ليأخذه، أو ليضعه، أو ليحفظه في هذا المكان، الآن ممكن توضع أشياء تتعلق بالسيارات والنقليات، وما أشبه ذلك، فيمكن الإنسان أن يستفيد من هذه الأمكنة.

الوقفة السادسة: مع قوله -تبارك وتعالى-: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ۝ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31] فهذا الأدب الذي أمر الله به من غض الأبصار، ذكره الله -تبارك وتعالى- بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول إلى البيوت، وهو أيضًا من الأمور الوقائية التي من شأنها أن تحفظ الإنسان والمجتمع من الوقوع في الفواحش، التي من شأنها أن تقي بإذن الله من أسباب الفتنة، فالإسلام يقطع الطريق على هذه الفواقر والفواحش، فيمنع من النظر الحرام.

فهذا التوجيه: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ لأن الإسلام يهدف إلى إقامة المجتمع الطيب النقي النظيف، الذي لا يكون معتركًا للشهوات، ولا توجد فيه الإثارة لهذه الغرائز، في كل لحظة، ولا تستثار الغرائز في هذا المجتمع بالأجساد المكشوفة العارية، والشعور التي قد أبديت، والمفاتن التي قد تزينت؛ وذلك أن هذه الأمور وغيرها مما يثير النفوس، لا يورث إلا سُعارًا مضنيًا، ويورث تلهفًا لتحقيق ما تطمح إليه النفس، مما تفرغ فيه هذه الغرائز التي قد ركبت فيها.

وقد ذكرت في مرة مضت أن الإنسان قد ركبت فيه هذه الشهوات، فهي كامنةً فيه كمون النار في الزناد، فهي ليست بحاجة إلى تحريك وإثارة، فإذا حركت اضطرمت اضطرامًا أعظم من اضطرام النار في الهشيم.

وهذه الأمور المثيرة إذا وجدت في مجتمع من المجتمعات، صار ذلك المجتمع مسعورًا، يتلهف ليس له شغل إلا البحث عن اللذة، وتفريغ الشهوة، لا ترى إلا تلك النظرات الخائنة، والزينة التي قد تعرضت للناظرين، والتهتك، والحركات المثيرة، وهذه تزيد النار ضراوة في نفس الإنسان، فإما أن تورث تفريغًا فوضويًا لهذه الغرائز، ومن ثم يضيع الشرف والفضيلة، وتختلط الأنساب، ويفشو الفساد، والأوجاع والطواعين التي لم توجد في الأسلاف، وإما أن يؤدي ذلك إلى علل مستديمة -كما ذكرت- من كبت لهذه الشهوات من غير تفريغ صحيح لها، فكثير من المنحرفين، ومن الذين تتلمذوا على اليهود والنصارى، ودرسوا بعض النظريات كنظرية (فرويد) وهي من أكذب النظريات، ولك أن تتخيل كيف تفسد هذه العقائد، التي يسمونها نظريات عقول الناس، وتؤثر فيهم أثارًا بليغة؟!

حيث إنه يصور أن جميع تصرفات الإنسان تدور حول هذه القضية: البيع والشراء والأكل والنوم والمشي، وحتى الطفل وهو يرضع من ثدي أمه، فهو من أجل هذا المعنى، قبحه الله، هكذا يصور.

فإذا كانت الأمور تصور بهذا الشكل، ويتقبلها بعض الجهلة من أبناء المسلمين، فماذا تتصور؟ كيف يفسرون الأشياء؟ وكيف يتعاملون مع هذه الغرائز؟ وكيف يرون الطريقة الصحيحة في علاجها وتصريفها؟

ولذلك فإن مثل هؤلاء يقولون: إن الكبت يوجد من المنع؟ نقول: ليس هذا بهذه الصورة التي تصورونها، انظر إلى تلك الشعوب البائسة الذين قد تهتكوا، وخلعوا ربقة الحياء، وعروا الأجساد، وصارت هذه الأمور مبذولة لكل طالب، هل انتهى هذا السعار عندهم؟ وهل ارتوت نفوسهم؟ وهل انتهت حالات الفجور؟ وهل انتهى النظر إلى تلك الأجساد العارية؟ وهل انتهى الاغتصاب الذي يعد بالثواني في تلك البلاد؟ أبدًا، لم يزدهم ذلك إلا سعارًا، ولم تزدد شهواتهم إلا تلهبًا واشتعالاً، فهؤلاء يكذبون حينما يقولون: إن الطريق الصحيح هو أن يخلط الرجال بالنساء، والشباب بالفتيات، فلا تحجب الوجوه والأجساد عن الناظرين، من أجل أن يفرغ هذه الشحنات التي في النفوس، كيف تفرغ وبماذا تفرغ؟ بإفساد الأنساب والأعراض والشرف؟!

وهذه تجارب موجودة، وتلك الشعوب هل تفرغت غرائزهم أم لا زالت ملتهبة؟ والجريمة عندهم بأعداد وبأرقام فلكية؟ فهؤلاء -أيها الإخوان- يكذبون، وقد يكون بعضهم قد ضلل، ولُبِّس عليه، فهذا عقله، فينبغي أن يوقف عند حده، ويردع، وينكر عليه، ويحتسب على ما يكتبه في الصحف، حيث ينادي بالاختلاط، وأنها قضية طبيعية.

في أمريكا الآن في بعض المدارس قدموا دراسات وبدأوا يفصلون الشباب عن الفتيات في المدارس الثانوية والمتوسطة، وأقاموا دراسات، فوجدوا أن النتائج في المدارس المنفصلة تفوق النتائج في المدارس المختلطة، ووجدوا أن النفوس أكثر استقرارًا، وأما في المدارس المختلطة، فالجريمة أكثر، والجريمة لا تقف عند حد، كما يقول بعض دهاقنتهم في لقاء أجري معه: إن حركات جسم الإنسان عددها ما أدري كم؟ يقول: هذه إذا ضربت كذا في كذا معناها، يعني تنتهي الحركات، فمعنى ذلك أن الإنسان ربما يملّ، فيبحث عن أشياء جديدة، فصارت الآن الموضة عندهم هي تقطيع الضحية التي يفجر بها، والتلذذ برؤية الدم، والضحية ممزقة الثياب، مضرجة بدمائها من أجل التجديد، ملوا من كل شيء؛ ولذلك لجأوا إلى الشذوذ -أعزكم الله ومن يسمع- المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل، وصار لهذا منظمات، وأتباع بالملايين، وتسمعون أخبارهم، حيث إن بعض البلاد صارت تصرح لهم الزواج، وأمور يندى لها الجبين من القذر والنتن الأخلاقي، الذي تعج به مجتمعاتهم، ولم تسلم منهم حتى الحيوانات، هل انتهى هذا السعار؟

فأقول: هؤلاء يكذبون في هذا، كما يكذبون حينما يقولون: إذا عملت المرأة، وخرج نصف المجتمع، فإن ذلك يؤذن بالتقدم والتطور، هذه الدول العربية مجتمعة من أولها إلى آخرها الدخل المحلي يعادل دولة واحدة أوربية، ليست من كبار الدول الأوربية، كإسبانيا التي ليست عندها موارد تذكر، جميع الدول العربية في أجمال الدخل المحلي لها توازي دولة واحدة من أوربا، وفي الدول العربية المرأة تعمل، وفي كثير منها تخرج متبرجة، فهل تقدموا وتطوروا؟

وحينما يطالبون بقيادة المرأة للسيارة، ويقولون: يجب أن يوجد هذا من أجل أن نتخلص من السائقين؟ انظروا ما حولكم من البلاد، وفي دول الخليج المرأة تقود السيارة، فهل استغنوا عن السائقين؟ لم يستغنوا عن السائقين! فكل بيت فيه أكثر من سائق، فهؤلاء -أيها الأخوة- يكذبون.

ورأينا تلك البلاد في بلاد المسلمين فيما يسمى بالبلاد العربية، في رابعة النهار في الضحى الشباب والفتيات على الأرصفة، ليس عندهم عمل، وفي الحدائق، وفي المقاهي، ونسب ضخمة من البطالة، خرجت النساء يعملن، ثم ماذا؟ منذ أكثر من مائة سنة، فهل صاروا في مصاف الدولة المتقدمة؟

هؤلاء -يا إخوة- يكذبون، فالمرأة مكانها في البيت، تعمل في بيتها، تربي الأولاد، وتقوم على شئون الزوج، فيأتي الزوج وقد هيأت الدار، وأرضعت الصغير، وقامت على المريض خير قيام، فهي تعد النشء؛ ليتخرج منهم العلماء والمجاهدون، وماذا ترجو من أمة محطمة تربي ناشئتها الخادمات؟ ماذا تنتظر منهم ومن أخلاقهم؟

ومن معاني العزة التي تعلمونها الرجل مشغول في عمله وتجارته، ومع أصحابه، والمرأة مشغولة في وظيفتها، والخادمة هي تتولى التربية، ماذا يكون حال الجيل؟! جيل مدمر ومحطم، لا ينتفع به.

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النــور:30] المرأة هي محل نظر الرجل، والله قد فطر الرجال على الميل إلى النساء، وفطر النساء إلى الميل على الرجال، هذه الفطرة توجه بالزواج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، يصبر، كما سيأتي في قول الله : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النــور:33] فهذه فطرة الله، فإذًا يجب على الإنسان أن يغض بصره، ولا يستطيع أحد أن يقول: أنا أنظر وقلبي سليم، لا، المرأة هي محل نظر الرجل، يميل إليها بفطرته، فإذا نظر إليها تحركت نفسه، ولا يمكن أن يبرأ من هذا، إلا إنسان فاقد لرجولته في هذا الباب، أو هو كذاب؛ ولهذا يقول ميمون بن مهران: "لأن أؤتمن على بيت مال، أحب إلي من أن أؤتمن على امرأة"[42].

فإذن هذا الميل ميل فطري، أوجده الله في النفوس، من أجل امتداد الحياة، وبقاء النسل، وتحقيق الخلافة في الأرض، فهو ميل دائم، يزداد فترة، ويسكن فترة، فيحتاج إلى ترويض، وإبعاد كل المثيرات من أجل أن يبقى في حاله الطبيعية، فهذا هو الطريق المأمون، وهو تربية القرآن: إزالة جميع أسباب الفاحشة، والأمر بغض الأبصار؛ لأن الرجل لو رأى المرأة متحجبة فإن نفسه تنازعه للنظر إليها، وهذه قضية معلومة، فهو مأمور بغض البصر، فكيف إذا كانت متبرجة مبدية لزينتها؟ فإذا حصل غض البصر فإن النفوس تبقى هادئة مطمئنة مرتاحة، غير متشنجة، وغير مشغولة الخاطر بهذه الأمور التي تشاهدها.

وهذا لا شك أنه ترفع وكمال من هؤلاء الذين استطاعوا أن يغالبوا النفوس، ويوصدوا هذه الأبصار، فلا تمتد إلى ما حرم الله ، وهذا هو استعلاء الإيمان، حينما يرتقي الإنسان على شهواته ورغباته ونزواته، فينتصر على نفسه، بصد هذه النافذة الأولى، والخطوة الأولى، التي توقع في الفاحشة؛ ولهذا قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فحفظ الفرج ذكره الله ثانيًا بعد غض البصر؛ لأنه الثمرة الطبيعية؛ ولأنه النتيجة لغض البصر، هو الخطوة التالية للتحكم في الإرادة، وإذا أطلق الإنسان لنفسه مناها فإنه يقع فيما لا يليق، ويقارف ما لا يليق من الفواحش، وإذا غض بصره عند ذلك انسد الباب على الشر والشيطان حينما يغريه بالوقوع في هذه الأمور غير اللائقة.

ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ أطهر لمشاعرهم، وأضمن لعدم تلوثها بهذه الانفعالات الشهوانية؛ ولعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني، الذي تكون فيه هابطة منسفلة.

فالله حينما يأمر بذلك، ويشرع هذه الأمور يشرعها بعلم، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ فهو الذي خلق النفوس، وهو الذي يعلم ما يصلح النفوس، وليس لأحد أن يأتي بعد ذلك ويقترح، ويقول: إن غض الأبصار يورث شيئًا من الكبت، نقول: لا، التربية القرآنية هي الصحيحة، وهي الطريق السليم الذي ينبغي للمسلم أن يسلكه.

وهكذا المرأة، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] فلا ترسل النظرات الجائعة المتلصصة إلى الرجال، سواء كان ذلك من عيون قد خرجت من ذلك النقاب، كأنها الرماح، أو كان ذلك من وراء حجابها، فإنها مأمورة بغض البصر، بمعنى أنها لا تنظر متفرسة بشهوة، فهذه قضية ينبغي أن يتنبه لها، والعلماء مختلفون في نظر المرأة، هل هو كالرجل، بحيث أن الرجل له الأولى، وعليه الثانية؟ فالمرأة لها الأولى وعليها الثانية، أو أن المرأة يجوز لها أن تنظر؟

والأقرب: أنه يجوز لها أن تنظر إلى الرجل، والدليل على ذلك هو أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تنظر إلى الحبشة لما كانوا يلعبون بالحراب في المسجد، من وراء ظهر رسول الله ﷺ، فما منعها من ذلك، فنظر المرأة أوسع من نظر الرجل، لكن ما الذي يحرم؟!

يحرم نظر المرأة إذا كان بتمعن وتفرس، وأكثر ما يكون الخطر حينما تكون المرأة أمام الشاشة، تنظر إلى المذيع، وإلى صاحب البرنامج، وقد تزين، وظهر بصورة ربما قد تعرضت فيها لألوان المكياج قبل أن يخرج، فتقارن بينه وبين زوجها، وتتفرس في كل تقاطيعه وملامحه، فهذا لا شك أنه يحرك النفوس، ويؤثر، فيقال للرجل الذي يغار على امرأته: لا تسمح لها أن تجلس أمام هذه الشاشات، التي ترى فيها هؤلاء الذين يختارون بعناية لوسامتهم لعنايتهم الزائدة بأجسامهم، ولباسهم، وهيئتهم، والزوج ربما يكون متبذلاً غافلاً، فهذه المرأة ليست قطعة من حجر، ليس لها مشاعر، بل لها مشاعر، فهي تعرف وتفهم وترى وتحس وتقارن، شاءت أم أبت، فالحر لا يسمح يغار، وهكذا هن مطالبات أيضًا بحفظ الفروج.

والحديث له بقية -إن شاء الله-.

والأسئلة نتركها -إن شاء الله- في الدرس القادم الذي هو الأخير.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ لأنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)) وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟ برقم (5065) ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم (1400).
  2. تفسير القرطبي (12/213).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/146).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/146).
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/146).
  6. تفسير القرطبي (12/213).
  7. تفسير القرطبي (12/213).
  8. تفسير القرطبي (12/213).
  9. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/149).
  10. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/492).
  11. تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (7/84).
  12. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/149).
  13. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/40).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الآداب، باب الاستئذان برقم (2154).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً برقم (6245) مسلم في الآداب، باب الاستئذان برقم (2153).
  16. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان برقم (5181) وقال الألباني: "حسن الإسناد".
  17. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب كيف الاستئذان برقم (5177) وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (819).
  18. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/38).
  19. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان برقم (5185) وقال الألباني: "ضعيف الإسناد".
  20. شرح الزرقاني على الموطأ (4/576).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا برقم (6250) ومسلم في الآداب، باب كراهة قول المستأذن: أنا إذا قيل: من هذا؟ برقم (2155).
  22. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/163).
  23. تفسير القرطبي (12/217) وتفسير القرطبي (12/217).
  24. تفسير القرطبي (12/218).
  25. تفسير القرطبي (12/218).
  26. أخرجه البخاري في كتاب الديات برقم (6902).
  27. أخرجه البخاري في كتاب الديات برقم (6900) ومسلم في كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره برقم (2157).
  28. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في الاستئذان برقم (5172) وصححه الألباني.
  29. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في الاستئذان برقم (5174).
  30. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان برقم (5186) وصححه الألباني.
  31. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/148).
  32. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/40).
  33. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/148).
  34. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/39).
  35. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/148).
  36. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/148).
  37. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/148).
  38. تفسير القرطبي (12/219).
  39. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في الرجل يدعى أيكون ذلك إذنه برقم (5189) وصححه الألباني.
  40. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في الرجل يدعى أيكون ذلك إذنه برقم (5190) وقال الألباني: "صحيح لغيره".
  41. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/41).
  42. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/77).

مواد ذات صلة