الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
تأملات في سورة الحشر (3) من قوله تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 6332
مرات الإستماع: 17939

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9]، ثم عقب الله ذلك بقوله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9]، لما أثنى على هؤلاء وذكرهم بهذه الصفة الحميدة، وهي الإيثار جاء التعقيب بعده بقوله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فدل ذلك على هذه الأوصاف التي ذكرهم الله  بها: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا [سورة الحشر:9] فنفوسهم لا تتطلع إلى ما يعطاه المهاجر من إخوانهم دونهم، فلا يحسدونهم ولا يتحاملون عليهم.

وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ فهم فوق ذلك يعطون ما في أيديهم، ويقدمون غيرهم على أنفسهم في الحظوظ الدنيوية، وهذا لا يتأتى ولا يحصل إلا لمن وقاه الله وخلصه من الشح: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالشح وصف ذميم، فمن أهل العلم من يقول: إنه أثر من آثار البخل، فالبخل صفة نفسانية والشح أثره، يتأثر عن هذه الصفة وينتج عنها الإمساك.

ومنهم من يقول: البخيل هو الذي يبخل بما في يده، والشحيح أعظم منه فهو يتطلع إلى ما في أيدي الناس ويطمح ويطمع بما في أيديهم، بل لربما ينزعج ويضيق صدره إذا رأى أحداً من الناس يتبرع ويتصدق ويحسن إلى الآخرين، فيضيق وينقبض قلبه قال –تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى [سورة العلق:9-12] فهو لا يكتفي بإمساك بما في يده بل أيضاً لا يريد من الآخرين أن يبذلوا وأن يقدموا.

ومن أهل العلم من يقول: إن الشح هو أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه من النفقات كالزكاة الواجبة، فالذي يبذل ما وجب عليه في المال يكون قد تخلص من الشح.

وعلى كل حال لاشك أن الشح أشد من البخل، يقال: فلان بخيل وفلان شحيح، فالشحيح بخيل وزيادة، فالبخل على درجات أو إن شئت أن تقول: دركات؛ لأنه في العد النازل، كما أن الكرم درجات والبذل درجات والإحسان درجات، فالبخل دركات، فمن دركاته الشح، وهو أشده، وشدة الحرص تحمل الإنسان على فعل ما لا يجمل ولا يليق، فيقطع الرحم، ومستعد أن يصارع وأن يعارك وأن يقاتل على أتفه الأشياء، لا يفوت حقاً ولا يعفو عن قليل ولا كثير وإنما ينقر حقه تنقيراً، بل تمتد نفسه وتتطلع إلى ما عند غيره وتتشوف لحيازته، هذا هو الشحيح، فالله يقول: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فاستعمال اسم الإشارة الذي هو للبعيد لرفعة منزلتهم وعظيم فضلهم، وضمير الفصل بين طرفي الكلام "أولائك المفلحون" وضع بينهما "هم" مما يشعر بالحصر، كأنه لا مفلح إلا هؤلاء، فهؤلاء هم المفلحون الفلاح الحقيقي الذي هو الفلاح الأعظم والأكبر، وحقيقة الفلاح هي إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب، وهو مطلب لكل الناس المؤمن والكافر لو فتشت ونظرت في مطالبهم في هذه الحياة الدنيا لماذا يسعون؟ لأن يحصلوا الرغائب الأشياء المرغوبة أو يدفعوا المكاره، كل عمل الناس وكل سعي الناس في الدنيا والآخرة يدور حول هذين الأمرين، لكن كيف يتصورونها هذه مسألة ثانية، الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يظن أن القضية تحصيل المال والشهوات والمتع بدفع الأمراض والأوصاب والعلل التي تصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا والمشكلات وما شابه، أما المؤمن فالفلاح الأكبر والأعظم هو نيل رضا الله والسعادة الأخروية والجنة والنجاة من النار، فهنا الله يقول: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كيف علق الفلاح بالخلاص من هذه الصفة الذميمة؟

الإنسان إذا ابتلي بالشح يحصل له كل قبيح ومرذول من الأقوال والأفعال، فالشح هذا يحمله على كثير من المشكلات والمشاجرات وقطيعة الرحم والإساءة إلى الجيران والمعارف، هو باب مفتوح للمشكلات من كل ناحية؛ لأنه لا يفوت حظا من حظوظ نفسه، مستعد أن يقاطع الجميع وأن يفاصل بدريهمات قليلة؛ ولهذا حذر النبي ﷺ من الشح وأخبر أنه سبب الهلاك لمن قبلنا، وأنه أمرهم بالقطيعة فقطعوا أرحامهم، فهو سبب للعداوات، وسبب لارتكاب الدنايا والمدنسات فيتلطخ عرضه ويتدنس.

فالدنايا مثل جيفة الكلب تماماً -أعزكم الله، إذا نزل الإنسان هبط معها، هناك أناس الدنيا هي أعظم مطالبهم، فلربما تعاملت معه بمعاملة فلا تستطيع أن تستخرج حقك منه إلا بارتكاب أمور مدنسة للعرض، لا يليق أن ينزل الإنسان ويدخل مع هؤلاء في مهاترات وأشياء بسبب الشح.

والشح هو الذي يجعل الإنسان يطفف في المكاييل والموازين من أجل أن يربح قليلاً خلسة في بيعه وشرائه، فإذا عرف الناس منه هذا فلن يتعاملوا معه؛ لأنهم لا يحبون التعامل مع من يخدعهم، ولو كان بشيء قليل.

وقد كان عبد الله بن أبيّ بن سلول رئيس المنافقين رجل شحيح، وكان له جاريتان أسلمتا، وكان يرغمهما على الزنا، وفيه نزل قول الله -تبارك وتعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النور:33] فكان يكرههما من أجل أن يحصل دراهم قليلة، يتاجر بهذه الجواري، وهذا الفعل يفعله من لا خلاق له.

ونسمع هذا واقعاً للأسف عند بعض الناس -نسأل الله العافية للجميع- يقحم بنته فتعمل في مكان فيه رجال وتخبره هذه البنت: أن هؤلاء الرجال يتناوشونها ويبتزونها ويكلمونها ويطلبون منها أموراً مدنسة ويراودونها عن نفسها، ويكتبون لها عن طريق الوسائل المعروفة، وتخبر أباها بهذا، ويصر على أنها تعمل، قد تكون هذه الوظيفة بثلاثة آلاف وتخبره أنها مهددة بعرضها وهو يصر على هذا العمل، المهم عنده العمل، والعرض ليس له أهمية، فأين الدين؟ وأين الرجولة وأين الغيرة التي جعلها الله حتى في الحيوانات؟

فهذا الشح هو الذي يحمل الإنسان على تضييع عرضه، وعلى بذل كل ما عنده من مقومات الدين والأخلاق، ما له من رصيد في نفوس الناس، ومن أجل تحصيل شيء قليل من عرض الدنيا، ولذلك قال تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالذي يوق شح نفسه يترفع ويحلق عالياً، لا ينزل مع النازلين، يترفع عن المدنسات، لا يأتي شيئاً مما حرمه الله لا يقارف عملاً ولو كان مباحاً إذا كان هذا العمل مما يخل بالمروءات ولو كان يكتسب فيه؛ ولهذا كره النبي ﷺ كسب الحجّام وأخبر أنه خبيث، وقل مثل هذا اليوم في أنواع المكاسب في المضاربات والمساهمات وغير ذلك مما يأكله كثيرون ولو كان محرماً.

ثم وصف الله -تبارك وتعالى– المهاجرين والأنصار بأعظم الأوصاف، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحشر:10].

والمقصود هم من أسلم بعد المهاجرين والأنصار، فصارت القسمة في أهل الإيمان ثلاثية: مهاجرون، أنصار، الذين جاءوا من بعدهم، فقد ذكر الله صفة المهاجرين، فقد تركوا كل شيء ابتغاء ما عند الله ، وصدقهم الله بهذا وأثنى عليهم وأثبت إخلاصهم، ثم ذكر الأنصار بهذه الأوصاف، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9].

بقيت الطائفة الثالثة وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ، جاءوا بعد المهاجرين والأنصار ممن أسلم بعد ذلك، سواء كانوا في زمن النبي ﷺ فلا هجرة بعد الفتح، أو ممن جاء بعد ذلك بقرون إلى يومنا هذا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فنحن اليوم ممن جاء مِن بعدهم، فلسنا من المهاجرين ولا من الأنصار، ووصفهم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَاا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحشر:10] فهم يستغفرون لهم، ويدعون لهم، ويدعون الله ألا يجعل في صدورهم غلًّا لأولئك الذين سبقوهم بالإيمان.

فهذا الدعاء يدل على أنهم على منهاجهم وطريقتهم، فلو كانوا على غير منهاجهم وطريقتهم ودينهم لما استغفروا لهم ولما أحبوهم، ولما أثنوا عليهم ولما دعوا لهم، فدل على أنهم على الطريق نفسه، وأنهم على منهاجهم وسنتهم وطريقتهم ودينهم، هذا الذي يدل عليه دعاء اللاحق للسابق، فهم متبعون لهم، كما أنه يتضمن تعليماً من الله لنا، ولكل من جاء بعدهم أن يكون هذا هو هديه وخلقه وحاله وعمله وديدنه مع أولائك الذين سبقوه بالإيمان، يذكرهم بخير، يدعو لهم، يسلم قلبه من الغل لهؤلاء، وقد عبر تبارك وتعالى بفعل المضارع يَقُولُونَ، الذي يدل على التكرار والاستمرار.

وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا فوجود الغل في قلب المسلم لإخوانه المسلمين أمر لا يجوز، فغل القلب كغل العنق، الرباط الذي يجعل في العنق يقاد به الإنسان، هذا رباط يربط به القلب -نسأل الله العافية- فيقوده إلى المعاطب.

وثقوا أيها الأحبة أن أول من يكتوي بنار الغل هو صاحبه، نار تضطرم في قلبه، كأنه في قِدر يفور يغلي، ولا تسأل عما يصيبه من الآلام، ويشيب قبل أوانه، ويحصل له من أعراض الشيخوخة والأمراض المستعصية بسبب هذا الضغط النفسي، ومن كان في قلبه غل ثقوا أنه لا يمكن أن يسعد ولا يأنس، إذا تذكر هذا الإنسانَ الذي يتحامل عليه حتى ولو كان في أعظم لحظات الأنس بدأ القلب يتحرك مباشرة اشتعلت النار اضطرمت، إذا كان يتهيأ للنوم وجلس يعيد شريط الذكريات، يتنغص وتتنغص حياته كلها.

وسلامة الصدر تحتاج إلى عفو وصفح وتجاوز وإعراض، وألا يرى لنفسه حقاً على الآخرين بحيث إذا خرج حضرتُه يطلب من الآخرين دائماً أن يقدموه ويعظموه ويكرموه ويضعوه في صدر المجلس ويعطوه درعاً، وإلا سيتحامل -أعانهم الله عليه، سيتخذ من هذا موقفاً، فهذا ما نوّه باسمه، وهذا ما ذكره في كذا، وهذا ما قام وسلم عليه، يعني سلم وهو جالس، وهذا ما وضعه في صدر المجلس، وهذا ما ذكره حينما ذكر المشروع، -حسبنا الله ونعم الوكيل، تصفيات حسابات، والناس لربما لا يخطر في بالهم هذا الكلام، ويتصرفون بعفوية.

فلا تجعل لنفسك حقاً على أحد، اعرف حقوق الناس واخرج إليهم بهذا القلب، ومن أخطأ عليك التمس له العذر، فإن لم تجد عذراً فتذكر قول الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النــور:22] فما الحاجة لجعل القلب صندوقاً يُملأ بهذه المواد المحرقة؟ تحرق القلب وتحرق البدن وتحرق الروح والنفس، الإنسان إذا امتلأ من الغيظ والغل اسود وجهه ويظهر هذا فيه؛ ولذلك تجد من كانت هذه سجيتهم وأخلاقهم يظهر ذلك في وجوههم، إذا رأيتَ رأيتَ السواد، إذا رأيته انقبضت، اللهم حوالينا ولا علينا، وإذا رأيت الإنسان الذي يحمل مشاعر طيبة للمسلمين تستريح برؤيته وبالجلوس معه وبسماع أحاديثه ورؤية وجهه، لكن صاحب الغل لا، ونسأل الله العافية.

وقد أخذ الإمام مالك –رحمه الله– من قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحشر: 10] أن من كان يبغض أحداً من أصحاب النبي ﷺ كالرافضة أو كان في قلبه عليهم غل أو على أحد منهم أنه ليس له حق في فيء المسلمين؛ لأن الكلام في قسمة الفيء، ذكر المهاجرين وذكر الأنصار وذكر الذين جاءوا من بعدهم، وكان عمر يرى أن هذه الآية أيضاً في الفيء، ويرى أن الذين جاءوا من بعدهم لهم حظ؛ ولهذا كان يقول: إذا عشتُ سيأتي هذا المال إلى راعي الغنم في جبل في صنعاء دون أن يسعى إليه، فيعطى للجميع على قدر بلائهم وسابقتهم ونفعهم في الإسلام، ويعطى لكل واحد، الصغير والكبير والرجل والمرأة، يصرفها من بيت المال كل بحسب بلائه ونفعه، وكان الصحابة يقسمون المال بهذه الطريقة، كل بحسب سابقته.

وجاء عن عائشة -ا: أُمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية.

وابن أبي ليلى من التابعين يقول: كان الناس على ثلاث منازل: المهاجرون الأولون، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين جاءوا من بعدهم، وأحسن ما يكون أن نكون بهذه المنزلة.

ولهذا قال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمراً، فإن لم تستطع فكن كوكباً مضيئاً، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيراً، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا الكلام: كن مهاجرياً، فإن قلت: لا أجد -وهذا غير ممكن- فكن أنصارياً -وهذا غير ممكن، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله .

وقد قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص -رحمه الله: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان المهاجرون والأنصار وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت وهي: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [سورة الحشر:10].

وقال علي بن الحسين زين العابدين من التابعين: لما جاءه رجل قال: يا ابن بنت رسول الله ﷺ ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت ممن قال الله فيهم: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ [سورة الحشر: 8] قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة الحشر:9]، قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل هذه الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام. يعني: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة الحشر:10] فما بقي إلا المنافقون، لأن أهل الإيمان على هذه الطوائف الثلاث.

وجاء عن علي بن الحسين: أنّ نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر -ا- ثم عثمان فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ قالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا قوموا فعلَ الله بكم، وأخرجهم من مجلسه.

وعلى كل حال هذه الآية تدل على وجوب محبة أصحاب النبي ﷺ، وهذا من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة، والكلام في هذه المسألة كثير، يجب أن نتولاهم وأن نحبهم وأن نستغفر لهم وأن نقتدي بهم وأن نقدمهم على غيرهم .

قوله: رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ في كثير من الأدعية في القرآن -كما تلاحظون: "ربنا"، وهو دعاء الأنبياء في الغالب، سواء بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع، وسر ذلك -والله تعالى أعلم- أن العطاء والمنع والتدبير والتصريف والرزق والهداية كل ذلك هو من معاني الربوبية، فالرب هو الرازق المعطي الهادي، فيحسن إذا دعا أن يقول: ربي.

وقد جمع –تبارك وتعالى- بين الرأفة والرحمة، والرأفة رحمة رقيقة، يعني: هي رحمة لكنها أخص من مطلق الرحمة.

وهذا يدل على أن التخلص من الغل يحتاج إلى جهد ومجاهدة ودعاء واستعانة بالله وأن مَن لطفَ الله به ورحمه فإنه يخلصه من الغل.

هذه المعاني ألَا نعتبر بها ونحن نسمعها في كتاب الله ؟ فالمرحوم هو الذي خلص من هذا العذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ ولهذا لما ذكر الله نعيم أهل الجنة قال: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [سورة الحجر: 47]؛ لأن الجنة لو كان فيها غل لتنغص وتكدر النعيم الذي فيها، لكن يُنزع ذلك وتهذب تلك النفوس ويرتفع ما بها، فالصحابة مع ما وقع بينهم -بسبب اجتهادات اجتهدوها طلباً للحق- كان عليٌّ يقول: أرجو أن أكون أنا وطلحة وعثمان ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ.

ثم ذكر هذه الطائفة الرابعة وهي الأسوأ من الطوائف وهم أهل النفاق: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الحشر:11].

الله يعجب نبيه ﷺ من فعل هؤلاء المنافقين حيث وقفوا مع اليهود ووعودهم بالنصر، بل قالوا: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ فهذه اللام تدل على قسم محذوف مقدر، والتقدير، والله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ.

وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا لا نسمع فيكم عذل عاذل ولا لوم لائم، إنما المصير متحد، الدم نشترك فيه معكم، والإخراج نشترك فيه معكم، والهدم نشترك فيه معكم، نتحد معكم في المصير.

وانظر إلى قول الله -تبارك وتعالى: يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ فهذه أخوّة في الكفر، فهم يتآخون وهم إخوان لأنهم مشتركون في الكفر بالله ومعاداة أهل الإيمان، فإذا كان العدو هم أهل الإيمان، فهؤلاء إخوة يتفقون ويتواطئون ويتآمرون، فهم بهذه المثابة، وهذا أمر يثير العجب.

هؤلاء أيها الأحبة مجموعة من المنافقين كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، ويذكر من أصحابه هؤلاء رفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيضي ووديعة بن أبي قوتل وسويد وداعس وغير هؤلاء، فعبد الله بن أبيّ أمرهم أن يثبتوا، وألا يخرجوا، وألا يستجيبوا للنبي ﷺ، وألا يتركوا ديارهم وأموالهم، وكانوا في البداية قد مالوا إلى التسليم، ولكنه قوّى قلوبهم ووعدهم بأن يستعين بحلفائه، ووعدهم بنحو أربعة آلاف مقاتل، وأربعةُ آلاف مقاتل في ذلك الوقت يعتبر جيشاً كبيراً، فتحصنوا واستعدوا للقتال، ووضعوا المتاريس وحصنوا الطرق، ورجعوا عما كانوا عزموا عليه من التسليم للنبي ﷺ، فحاصرهم ﷺ وجعلوا ينتظرون المدد، ولما بعثوا -كما يذكر بعض أهل السير- إلى عبد الله بن أبيّ من يذكره بوعده وجده يتعشى، فقال: سأبعث إلى حلفائنا ولم يفعل.

يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ عبر بالمضارع عن أمر مضى، استحضارا للصورة كأنك تشاهدها، واللام للتبليغ، يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ولسنا بحاجة إلى أن ننبه إلى أن أهل الكتاب كفار، والنصوص على هذا متضافرة، ولكننا ابتلينا بهذا الزمان بقوم لا خلاق لهم، يجادلون في كفر أهل الكتاب، ويزعمون أنهم يصيرون إلى الجنة، ويغضب الواحد منهم ويغار على هؤلاء إذا قيل: هؤلاء كفار، فيقول: قل: أهل الكتاب، قل: الآخر، لا تقل: كافر، فالله المستعان.

لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الحشر:11].

هذه المقولة لم تصدر عن صدق، وإنما قالوا ذلك ووعدوا بهذا الوعد ولكنهم أجبن من أن يفوا به، وهذا يقوله علام الغيوب الذي يعلم ما تكنه الصدور، وهو الذي خلق هذه النفوس فيعلم ما تنطوي عليه، فيخبرنا عن هذه الحقائق، بل يخبرنا عما لم يكن، وأنه لو كان كيف يكون، فقال الله -تبارك وتعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ [سورة الحشر: 12] يعني: ينهزمون.

ثم قال: لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ إشارة إلى معنى الخفاء، وذلك أن هذه الرهبة أمر كامن في صدورهم قد لا يظهر لأهل الإيمان، يُخفونه في صدورهم، ولكن الله كشفه وبينه، فأنتم أشد إخافة في صدور هؤلاء المنافقين من الله، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ؛ لأنهم لا يعرفون الله حقيقة المعرفة، لو عرفوه معرفة لائقة بجلاله وعظمته لخافوه، وتعاظم هذا الخوف منه في قلوبهم وهان المخلوق في أعينهم، لكن هؤلاء لا فقه لهم، وقد عبر بالفقه، فقال: لَّا يَفْقَهُونَ، ولم يقل: لا يعلمون، والفرق بين العلم والفقه ظاهر، وهو أن الفقه يقال للأشياء التي من شأنها أن تخفى، ما تقول: أنا والله فقهت أن الشمس طالعة، تقول: علمت أن الشمس طالعة، علمت أن زيداً قد تزوج، ما تقول: فقهت أن زيداً قد تزوج، إنما يكون الفقه للأمور التي من شأنها أن تخفى، وفي الأشياء الدقيقة.

فهؤلاء غفلوا عن قوة الله –تبارك وتعالى- فقلوبهم عامرة بالغفلة والجهالة، ومعرضة عن ربها وخالقها ومعبودها، لا تنظر إلا إلى الأشياء الظاهرة فيتعاظم المخلوق في أعينهم، وتجد رهبة عندهم شديدة من المخلوقين، لا يخافون من الله ولا يراعون حدوده ولا يقفون عند أوامره، وإنما دائماً يلاحظون الخلق؛ لأن المقاييس عندهم مقاييس مادية، ينظر كم عدد الرجال، كم عدد الدبابات، كم عدد الطائرات، فيتعاظم هذا المخلوق في نفسه، فلو كانوا يفقهون لعظموا الله وخافوه وهان عندهم شأن الخلق.

ثم قال تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] ظاهر السياق أن هذه الآية في المنافقين؛ لأن الحديث عن المنافقين، فلشدة رهبتهم صاروا بهذه المثابة لا يجرءون على المواجهة؛ ولذلك لا يعرف في التاريخ أن المنافقين وقفوا في جيش يحاربون المسلمين، بل هم أذل وأخزى، الكفار الذين عندهم إرادة جازمة وعندهم اعتزاز بمبادئهم الباطلة وقفوا وماتوا دونها، اشتركوا في غزوات ومعارك تلو معارك، أما أهل النفاق فهم مع من غلب، لما انتصر النبي ﷺ في بدر قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: أرى هذا الأمر قد توجّه فادخلوا فيه سرًّا، فدخلوا يكيدون له، فإذا سئلوا عن شيء حلفوا: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة المنافقون:2]؛ ولهذا سبق التعليق على هذه المسألة عند الكلام على آيات الأحزاب عند قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14].

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، إذا فسر لَا يُقَاتِلُونَكُمْ أي: مجتمعين كجيش كما هو شأن الجيوش التي تحارب أو الجيوش المتحالفة، فهنا يكون الاستثناء منقطعاً، بمعنى: لكن، والمعنى: لكن في قرى محصنة؛ لأنهم لا يستطيعون المواجهة فهم يقاتلون في بيوتهم، ومن داخل البيوت، من الحصون والرمي من بعيد دون مواجهة للرجال.

ويحتمل أن يكون قوله -تبارك وتعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًابمعنى: كلهم، أي: اليهود والمنافقون لما وعدوا اليهود بالنصر والمدد، قال الله لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ فهم جبناء؛ ولذلك لم يحصل في كل الغزوات أن اليهود وقفوا في جيش، سواء بانفرادهم أو مع المنافقين، مع أن هذه الآيات تتحدث عن المنافقين، لكن قوله: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يحتمل أن يكون أراد به اليهود مع المنافقين على هذا المعنى، فيكون الاستثناء متصلاً، يعني: لا يشتركون في قتال إلا في قرى محصنة، لكن هذا قد يكون فيه شيء من البعد؛ لأن الله ذكر أنهم لا ينصرونهم، إلا إذا قال قائل: المقصود به في هذه الغزوة، لأنه قد يكون في بعض الصور -على هذا المعنى- أن يُحاصَر بلد وفيها منافقون ويهود فيشتركون معهم، فهم لا يستطيعون أن يقاتلوا على كل حال معاً إلا بهذه الصفة، وعلى هذا يكون الاستثناء حقيقياً: إلا في قرى محصنة، فيها قلاع وأسوار، أو مِن وَرَاء جُدُرٍ وفي القراءة الأخرى المتواترة: أو من وراء جدار والأولى هي قراءة الجمهور: مِن وَرَاء جُدُرٍ والمعنى واحد.

ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم قال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14] افتتحت هذه الجملة بذكر البأس، للاهتمام بالإخبار عنه؛ لأنه بينه بهذه الصفة.

من أهل العلم من قال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: أن عداوتهم فيما بينهم شديدة، هم يجتمعون لحربكم ويتعاضدون ويتآمرون، ولكن بينهم من الشر والخلاف ما الله به عليم، يعني: المنافقين واليهود، أو إذا قلنا: إن الحديث لا زال عن المنافقين فيكون بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌيعني: المنافقين أنفسهم لأن المنافق أصلاً ليس من طلاب الآخرة، ولا يمكن أن يتنازل عن حقه، ولا يمكن أن يتأدب، ولا يتخلق بأخلاق، وإنما يُهارِش ويقاتل على أتفه الأشياء، فقلوبهم متفرقة متشتتة، ويحتمل أن يكون ذلك مع اليهود بأسهم بينهم، فبينهم خلافات، وبينهم مشاكل، ولكنهم يجتمعون للتآمر على أهل الإسلام.

المنافق أصلاً ليس من طلاب الآخرة، ولا يمكن أن يتنازل عن حقه، ولا يمكن أن يتأدب، ولا يتخلق بأخلاق، وإنما يُهارِش ويقاتل على أتفه الأشياء، فقلوبهم متفرقة متشتتة، ويحتمل أن يكون ذلك مع اليهود بأسهم بينهم، فبينهم خلافات، وبينهم مشاكل، ولكنهم يجتمعون للتآمر على أهل الإسلام.

فقوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌيعني: بالكلام والوعيد، فتسمع جعجعة من هؤلاء المنافقين لا حقيقة لها، إذا جاءت الحقيقة فهي كما يقال مثل انتفاشة الهِر -أعزكم الله- التي تنتهي ببول، كلام كبير ما تحته شيء، هكذا قال بعض أهل العلم: بالوعيد وبالتهديد، وقال بعض أهل العلم: يعني: لا يتفقون على أمر واحد، وهذا يرجع إلى القول الأول.

وبعضهم يقول: إذا لم يلقوا عدواً نصبوا لأنفسهم البطولات، وهكذا إذا انتهت المعركة كل واحد يضيف إلى نفسه أنه فعل، وتبدأ تظهر البطولات الكاذبة المزيفة، أو حينما لا يكون قتال، كالهِر يحكي انتفاضة أو انتفاشة الأسد، يضيفون لأنفسهم، فتجد الواحد منهم لربما يتحدث عن نفسه أنه يستطيع أن يقاتل عشرة معاً ويستطيع، أو أنه يذكر أشياء مفبركة وكاذبة لا حقيقة لها أنه لقي رجلاً فطعنه طعنة قطعته نصفين أو ضربه بالسيف فقطعه أربع قطع، وما أدري كيف تطلع أربع قطع من ضربة واحدة؟!.

فالشاهد: أنه يضيف إلى نفسه بطولات وأشياء وهمية، أشياء كاذبة، لكن إذا جاء الجد كما قال الله رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، ففي حال السلامة والعافية تسمع أشياء تتبخر إذا جاء الجد.

ويظهر -والله أعلم- أن المراد بقوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌأنه إخبار من الله بأن قلوبهم تنطوي على التفرق والاختلاف، وبينهم من العداوات والمشكلات ما لا يقادَر قدره، وهذه حقيقة أخبر الله بها عن هؤلاء الأعداء، فينبغي على أهل الإيمان أن يدركوا ذلك، وألا يرهبوا حينما يرون هؤلاء الأعداء يجتمعون عليهم، فهم بينهم من الشر ما الله به عليم، كما أنه ينبغي أن يُستغل ذلك في تفكيك تلك القوى وتمزيقها وتفريقها لأنها جاهزة لذلك.

ثم قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14] هم في الظاهر، وهكذا الأعداء، يعني انظروا ما ذكره الله في خبر موسى والسحرة في سورة طه، لما قال لهم موسى ﷺ تلك الكلمة الصادقة: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [سورة طـه:61] هذه الكلمة أثرت فيهم وحصل تشقق في الصف وتصدع، فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [سورة طـه:62] بدأ يدب بينهم الاختلاف، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى من أجل ألا يطلع موسى ﷺ على ذلك فيتقوى جانبه، ثم ظهروا بشعار واحد اتفقوا عليه وعبارة يقولونها: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ۝ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [سورة طـه:63-64].

كما حاول المشركون أن يتفقوا في شأن النبي ﷺ على أمر ومقولة متحدة، وهكذا الأعداء يحاولون أن يتفقوا بوصم المسلمين مثلاً بالإرهابيين، وأنفقوا المليارات على نشر هذه الدعاية الكاذبة لوصْم الإسلام بهذا، ولكن الله يبطل كيدهم؛ ولهذا تجد بعض كبار هؤلاء يصرح ويقول: لا يمكن أن يُتغلب على الإسلام ولو اجتمعت جيوش الدول الغربية كلها؛ لأن هذا الإسلام يتجدد، خلال ألف وأربعمائة وثلاثين سنة لا زال يتجدد، وهذا صحيح ومشاهد.

فقوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى بعضهم يقول: هذه في اليهود والمنافقين، وبعضهم يقول: في المنافقين؛ لأن السياق في المنافقين، وبعضهم يقول: في المشركين وأهل الكتاب، لكن ينبغي أن يكون المراد بالمشركين هنا أن يعم المنافقين؛ لأنهم مشركون في الباطن، والحديث عن المنافقين؛ فلا يمكن أن ينتزع ذكرهم من هذا السياق.

ثم علل تفرقهم بقوله: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر:14]، وكذلك لما ذكر الله وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المنافقون:7]، لما قال: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] هذا عبد الله بن أبيّ، لا تتبرعوا لا تدفعوا من أجل أن يبحثوا عن بلد آخر ينتقلون إليه.

فهذا أمر يحتاج إلى فقه، فالمحجوب قلبه عن الله لا يدرك هذا المعنى، فهو يمسك ما في يده؛ ولهذا قال الله عن المنافقين في سورة براءة في هذا الباب: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [سورة التوبة:98] فهو إذا أنفق وهو كاره فإنه يَعتبر هذا مغرماً، يعني: مقطوعاً من قلبه، ذهب بلا رجعة ولا عوض، لا يؤمن بالعوض في الآخرة، ويتربص بكم الدوائر.

فذكر العقل في قوله – تبارك وتعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ؛ لأن معرفة مآل التشتت والتنازع يدركه كل أحد، والله يقول: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، فعبر بالفاء التي تدل على التعقيب المباشر وتدل على التعليل وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالتنازع سبب للضعف والفشل، ولا يخفى ذلك على العقلاء.

ثم قال الله كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة الحشر:15] يعني مثل المنافقين، وبعضهم يقول: مثل هؤلاء اليهود من بني النضير وما جرى لهم، وبعضهم يقول: مثل المنافقين مع اليهود من بني النضير؛ لأنهم اشتركوا في هذه القضية وحصلت لهم في النهاية والمآل هذه الهزيمة الساحقة، كمثل أولائك الذين كانوا من قبلهم.

قال: قَرِيبًا بعض العلماء يقول: هم بنو قينقاع من اليهود أُخرجوا، وبعضهم يقول: هذه الآيات نزلت بعد النضير، إذن فهذا خطاب لليهود الذين بقوا، والنضير خرجوا، فهذا خطاب يعظ الله به من بقي، فبنو النضير قبل قريظة، وهذا لا يخلو من البعد.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني: النضير، وبعضهم يقول: هذه في قريش وما وقع لهم في بدر، وبعضهم يقول: هو عام في كل من انتقم الله منه قبل هذه الوقعة، لكن ليس في كل الأمم وإنما عما قريب؛ لأن الله قال: قَرِيبًا وهذا الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ  يعني: جزاء كفرهم، يعني: نالهم عقاب الله على كفرهم به، وأصل الوبال هو وخامة المرعى، المرعى المستلذ الذي تطلب له الماشية وتقبل عليه لخضرته وحسنه ونحو ذلك قد يحتوي على نباتات سامة، فترتع فيه هذه المواشي من الإبل وغيرها فيقتلها، فيقال: كلأ وبيل ومرعى وبيل؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وإن مما أنبت الربيع ليَقتلُُ حبَطَاً أو يُلِمُّ[1] والحَبَط هو أن ينتفخ بطن الدابة إذا أكلت كثيراً ثم بعد ذلك تموت، يقتل حبطاً.

  1. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (5/ 2362)، برقم: (6063)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (2/ 727)،  برقم: (1052).

مواد ذات صلة