الإثنين 09 / جمادى الأولى / 1446 - 11 / نوفمبر 2024
صور من تصحيح فهم الصحابة لبعض آيات القرآن 2
تاريخ النشر: ٠٢ / رمضان / ١٤٢٥
التحميل: 3541
مرات الإستماع: 3597

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن من هذه الفهوم التي صوبها النبي ﷺ لأصحابه في بيان المراد من كلام الله ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أم مُبشر الأنصارية، وهي امرأة زيد بن حارثة ، أنها سمعت النبي ﷺ يقول عند حفصة: لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها، كما في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فهمت من هذه الآية أنه لا يُستثنى أحد لا أهل الشجرة ولا أهل بدر ولا غير هؤلاء، فقال النبي ﷺ: قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[1]، فهذا الورود المراد به العبور على الصراط المنصوب على متن جنهم وليس المقصود به أن الإنسان يدخل النار ويقاسي حرها وألمها، ومن الناس من يعبر على هذا الصراط كالبرق، ومنهم من يعبر دون ذلك، فيتفاوتون بحسب أعمالهم نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يجتازه كالبرق.

الورود المراد به العبور على الصراط المنصوب على متن جنهم وليس المقصود به أن الإنسان يدخل النار ويقاسي حرها وألمها، ومن الناس من يعبر على هذا الصراط كالبرق، ومنهم من يعبر دون ذلك، فيتفاوتون بحسب أعمالهم نسأل الله   أن يجعلنا وإياكم ممن يجتازه كالبرق.

وجاء في الصحيحين أيضاً أن النبي ﷺ قال: من نوقش الحساب عُذب، فقالت عائشة -ا: أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۝ وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:7-9]، فقال: إنما ذلك العرض[2]، بمعنى أن الإنسان تُعرض عليه ذنوبه وأعماله وخطاياه وسيئاته عرضاً من غير مناقشة، فإذا نوقش فمعناها أنه سيعذب، ففرق بين العرض وبين مناقشة الحساب، فهي فهمت من قوله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]، أن ذلك ينافي قول النبي ﷺ: من نوقش الحساب عُذب، وقال ﷺ: وليس أحد يُحاسب يوم القيامة إلا هلك[3].

وكذلك أصحاب النبي ﷺ قد وقع لبعضهم شيء من اللبس أو وقع لمن هم في زمانهم من التابعين، فصححوا ذلك الفهم وصوبوه، وبينوا المراد، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عروة بن الزبير -رحمه الله تعالى- وهو من التابعين: "أنه سأل عائشة -ا- عن قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ففهم منها أن السعي بين الصفا والمروة ليس بلازم، ليس بواجب، فمن سعى بين الصفا والمروة فليس عليه حرج، "فلا جناح" ورفع الجناح بمعنى رفع الحرج والإثم، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا، أي: لا حرج عليه، وإن لم يفعل فلا حرج عليه، ففهم أن السعي غير واجب، ومعلوم أن السعي في الحج ركن من أركانه، وهو ركن من أركان العمرة.

فالمقصود أنه قال لها ذلك، وقال: "فوالله ما على أحد جناح أن يطوف بهما، فقالت: بئس ما قلت يا ابنأختي"[4]، هو ابن أسماء أخت عائشة، "بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت على ما أوّلتَها -لو كانت على ما فهمتها وفسرتها- لكانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، لا تكون لا جُناح عليه أن يطوف بهما، لكانت أن لا يطوف بهما، لو كان على ما فهم، قالت: "ولكنها أُنزلت في الأنصار"، بينت له سبب النزول وذلك أن الأنصار كانوا قبل أن يُسلموا يُهلّون لمناة الطاغية"، صنم، معبودهم في الجاهلية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل، المُشلَّل بين مكة والمدينة قرب الساحل عند قُديد، فالحاصل أنهم كانوا يُهلّون لها، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فلما أسلموا سألوا النبي ﷺ عن ذلك، فأنزل الله أن هذه الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج أو اعتمر فلا ينبغي أن يتحرج من السعي بين الصفا والمروة، وفي بعض الروايات: "أنه كان على الصفا صنمان: إساف ونائلة، فكان أهل الجاهلية يطوفون بالصفا والمروة، ويعظمون هذه الأصنام، فلما أسلموا خافوا أن يكون ذلك من شعائر الجاهلية"[5]، أنهم إن طافوا وسعوا بين الصفا والمروة أن هذا تعظيم لإساف ونائلة التي كانوا يعظمونها في الجاهلية، فأخبر الله أن ذلك ليس من عمل الجاهلية في شيء، ولا علاقة له بالأوثان، وإنما هي من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فليس عليه حرج، ولا داعي أن يتحرز من السعي بين الصفا والمروة.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه أبو داود وغيره عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: "غزونا من المدينة نريد القسطنطينية"، وهذه سيأتي الكلام عليها -إن شاء الله، ويكثر الغلط في فهم هذه الآية، يقول: "وعلى الجماعة -يعني: الأمير- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة -القسطنطينية، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مهْ، مهْ، وفي بعض الروايات أنه خرج غير دارع، يعني: ليس عليه درع"[6]، والعادة أن المقاتل يلبس الدرع ليتقي به ضرب السيوف وطعن الرماح فلا تنفذ إلى جسده، "فخرج حاسراً غير دارع وليس عليه المِغفر، فقال الناس: مهْ، مهْ"، وهي كلمة للزجر يزجرونه عن هذا التصرف، "لا إله إلا الله يُلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري ، وهو من أصحاب النبي ﷺ فقال: إنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا: هلمّ نقيم أموالنا ونصلحها"، لاحظوا ما هي التهلكة وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، هم فهموا أن المراد أن الإنسان يغير على العدو من غير درع، فبين لهم أبو أيوب أن التهلكة هي ترك العمل بطاعة الله  والجهاد في سبيله، قال: "نزلت فينا، وذلك أننا لمّا نصر الله الإسلام وأعز دينه، قلنا -يعني قال الأنصار فيما بينهم: هلُم نقيم في أموالنا ونصلحها"

فهموا أن المراد أن الإنسان يغير على العدو من غير درع، فبين لهم أبو أيوب أن التهلكة هي ترك العمل بطاعة الله والجهاد في سبيله، قال: "نزلت فينا، وذلك أننا لمّا نصر الله الإسلام وأعز دينه، قلنا -يعني قال الأنصار فيما بينهم: هلُم نقيم في أموالنا ونصلحها"

، يعني: خلاص كثُر المسلمون والناصرون لدين الله ، ونحن نتفرغ لزروعنا وحروثنا التي أهملناها سنوات طويلة، فأنزل الله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، يقول أبو أيوب : "فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد في سبيل الله"، بل إن ابن عباس -ا- ذكر معنى أدق من هذا كله وهو: أن الناس إن تركوا النفقة في سبيل الله تعطل الجهاد فقوي العدو فغلب على المسلمين فأخذ ما بأيديهم، أنفِقوا في سبيل الله نصرة لدينه وإعزازاً لكلمته ورِفداً لهؤلاء المجاهدين، وإلا فإنكم إن امتنعتم من هذه النفقات كانت النتيجة أن العدو يقوى والمسلمون يضعفون ثم يُغير عليكم العدو، ويطمع فيكم، ويأخذ ما بأيديكم فلا يُبقي ولا يذر من مال ودم، وعرض، فتبقى خراباً يبابًا، ليس فيها إلا غراب ينعق.

هذا، وأسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يعز دينه، ويُعلي كلمته، ويرزقنا وإياكم الفقه في الدين والفهم لكتابه العظيم، وأن يرفع راية الجهاد وينصر المجاهدين، وأن يصلح أحوالنا جميعاً شباباً وشيبًا، ويتقبل منا ومنكم.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان ، برقم (2496).
  2. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سمع شيئا فلم يفهمه فراجع فيه حتى يعرفه، برقم (103)، وبرقم (6536)، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب.
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، برقم (6537).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجُعل من شعائر الله، برقم (1643)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، برقم (1277).
  5. التخريج السابق.
  6. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، برقم (2512)، والحاكم في المستدرك، برقم (2434)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2269).

مواد ذات صلة