الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[3] قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} الآية 5.
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 2702
مرات الإستماع: 2375

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2]، أي: لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.

وقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة الأنفال:3] ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى، وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.

وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي ﷺ هذا إقامتها، والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2] معنى التوكل أن يفوض العبد أمره إلى ربه ثقة به، فيركن إلى جنابه ولا يرجو غيره ولا يخاف غيره.

وتقديم الجار والمجرور في قوله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2] يفيد الحصر، فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله، ومن هذه الآية وأمثالها من الآيات أخذ طائفة من أهل العلم أن التوكل من الأمور المختصة بالله ولا يجوز أن يتوجه بها إلى غير الله، فلا يجوز أن يقول العبد: أنا متوكل عليك يا فلان، ولا يجوز له أن يقول: أنا متوكل على الله ثم عليك.

قوله –تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة الأنفال:3] في جميع مواضع القرآن حينما يذكر الله الصلاة ويأمر بها يقول: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45] ولم يقل: يؤدون الصلاة، فالصلاة المؤثرة المطلوبة التي يثنى على صاحبها هي الصلاة التي يقيمها المصلي، فيأتي بما يجب لها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات.

قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة الأنفال:3] "مِن" للتبعيض باعتبار أن الإنفاق لا يكون لكل المال، وإنما يكون لبعضه، وإنفاق جميع المال يختلف بحسب حال الإنسان، فمن الناس من يُقبل منه أن ينفق كل ما يملك كما قبل النبي ﷺ من أبي بكر ومن الناس من لا يقبل منه هذا، فالذي ينفق كل ماله ثم يتعلق قلبه بالناس ويتطلع إلى ما في أيديهم لا يجوز له أن ينفق كل ماله، ومن كان إيمانه قوياً وتوكله على الله –تبارك وتعالى- كبيراً ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس فلا بأس أن ينفق جميع ماله.

وقوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [سورة الأنفال:4] أي: المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان.

الفصل بين طرفي الكلام بضمير الفصل "هم" يفيد تقوية مدلول هذه الجملة، والإشارة بالبعيد "أُوْلَئِكَ" يشعر بمنزلة المؤمنين وعلوّهم ورفعتهم.

وقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الأنفال:4] أي: منازل ومقامات ودرجات في الجنة، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة آل عمران:163]، وَمَغْفِرَةٌ أي: يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات.

تنكير المغفرة في قوله: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال:4] دليل على أنها مغفرة عظيمة، وهذا يدل على أن من حقق الإيمان وتوكل على الله وأنفق في سبيل الله فإن الله يغفر له الذنوب ويرفع منزلته ودرجته في الجنة، وهذا دليل على أن الحسنات تمحو السيئات، والله يقول: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114] وقد قال النبي ﷺ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها[1].

وقول ابن كثير -رحمه الله: "ويشكر لهم الحسنات"، ليس من معنى المغفرة؛ لأن العبد إذا نادى ربه "يا رب اغفر لي" فإنه يطلب من ربه أن يستره، وأن يقيه شؤم المعصية فلا يعذب عليها، وكلمة الغفر تدل على هذين المعنيين، ومنه سمي المغفر بهذا الاسم؛ لأنه يستر رأس لابسه ويقيه الضرب بالسلاح.

وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم؟، فقال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين[2]، وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَماً.[3].

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ۝ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ۝ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ۝ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [سورة الأنفال:5-8].

قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5]، فقال بعضهم: شُبّه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله، ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله ﷺ فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، رشداً وهدى ونصراً وفتحاً، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216].

قال السدي: وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لطلب المشركين.

قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] اختلف علماء التفسير في الجالب لهذه "الكاف" التي في قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه ﷺ من بيته بالحق.

فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك أن الله يقول: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدًا ﷺ من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له، وهذا كلام ابن جرير –رحمه الله- في هذه الآية وقد ربطها بقوله –تبارك وتعالى- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:1].

وهذا الكلام فيه مغايرة لكلام ابن كثير –رحمه الله- فقد قال: "ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله ﷺ فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد"

فمعنى كلام ابن كثير –رحمه الله- أن انتزاع الغنائم من أيديكم وقسم الله وقسم رسوله ﷺ خير لكم، كما أن إخراجكم لقتال عدوكم ذات الشوكة لكم على كره منكم خير لكم، فلو خيروا بعد المعركة بين العير والفتح المجيد، لاختاروا النصر والفتح.

وقال بعض أهل العلم: معنى قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] الأنفال ثابتة لكم مثل إخراج ربك لك من بيتك بالحق، أي: خروجاً متلبساً بالحق.

وقال بعضهم: قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] قسم وتقديره والذي أخرجك، والكاف بمعنى الواو، و"ما" اسم موصول بمعنى الذي، وهذا وإن قال به بعض أهل اللغة إلا أنه أبعد من سابقيه وخلاف الظاهر المتبادر، والله أعلم.

وقال بعضهم: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:1]، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [سورة الأنفال:5] فلا تدرون العواقب فليس لكم إلا أن تطيعوا وأن تذعنوا وتسلموا، والله يصرفكم بما فيه الخير.

وقال بعضهم: قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5]، متعلق بقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال:4] يعني: هذا الوعد ثابت حق للمؤمنين كما أخرجك ربك، وهذا هو اختيار أبي عبد الله القرطبي -رحمه الله.

ويحتمل أن يكون المقصود التشبيه بحال كراهتهم للتنفيل، ككراهتهم للخروج ابتداءً أو ملاقاة الجيش.

وقولا ابن جرير وابن كثير هما أقرب الأقوال.

  1. رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس (4/355)، برقم (1987)، وأحمد (35 / 284)، برقم (21354)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3 / 102).
  2. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (3/1188)، برقم (3083)، ومسلم، كتاب الجنة وصفتها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء (4/2177)، برقم (2831).
  3. رواه ابن ماجه (1 / 37)، برقم (96)، والترمذي (5 / 607)، برقم (3658) وأحمد (18 / 422)، برقم (11939)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1 / 168).

مواد ذات صلة