بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [سورة التحريم:9، 10].
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بجهاد الكفار والمنافقين، هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم.
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي: في الدنيا وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: في الآخرة.
ثم قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ أي: نبيين رسولين، عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط.
فَخَانَتَاهُمَا أي: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدّقاهما في الرسالة، فلم يجدِ ذلك كله شيئاً، ولا دفع عنهما محذوراً؛ ولهذا قال تعالى: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لكفرهما وَقِيلَ أي: للمرأتين ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وليس المراد بقوله: فَخَانَتَاهُمَا في فاحشة بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور.
وقال العوفي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين.
وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن هذه الآيات كما أشرت في أول هذه السورة ترتبط بموضوعها الأول الذي نزل صدرها من أجله، وهو أن أزواج النبي ﷺ لما وقع منهن ما وقع، فغضب رسول ﷺ وآلى منهن شهراً، وحرم ما حرم، فلما حرم النبي ﷺ بسببهن هذا، وقال الله : إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا بيّن في آخر هذه السورة أن القرابة وحدها لا تنفع، فالقرب من رسول الله ﷺ أو من غيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يكفي وحده لتحقيق النجاة، فهذه امرأة نوح وامرأة لوط لم تنتفعا بقربهما من هؤلاء الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه.
وهكذا في المقابل: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] إذا كان الإنسان مؤمناً وكفرَ مَن كفر من أهل الأرض ولو كان أقرب قريب إليه فإن ذلك لا يضره.
أما ما يتعلق بقوله: فَخَانَتَاهُمَا فهذا القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو الذي لا يجوز العدول عنه، وما عداه فإنه من الأقوال الساقطة التي تؤخذ عن كفار بني إسرائيل، وإذا وقعت الفاحشة من امرأة نبي فإن ذلك يعود إليه بتدنيس شرفه، ويؤثر في مرتبته، وما إلى ذلك من الأمور المعلومة، وحاشا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من هذا، فهو أمر لا يختص بها، وإنما يرجع أثره إليه، فنساء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مصونات من هذا، وإن كان يقع منهن الكفر كحال هؤلاء النسوة، والله أعلم.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:11، 12].
وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأتَه كفرُ زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه.
وروى ابن جرير عن سلمان -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
ثم روى ابن جرير عن القاسم بن أبي بزة قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتُزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أي: خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم -رضي الله تعالى عنها.
وقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا أي: حفظته وصانته، والإحصان هو العفاف والحرية فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا.
ما يتعلق بامرأة فرعون كونها تحت فرعون هذا لا يقال الآن على أنه حُكم في هذه الشريعة، شريعة محمد ﷺ؛ لأن المرأة المسلمة لا تحل للكافر، وإذا كان زوجها على غير الإيمان فإنه لا يجوز لها البقاء معه، بل إذا كان فاجراً فاسقاً يقارف الفواحش وما أشبه ذلك فإنها تؤمر بمفارقته إذا لم يُجدِ معه النصح، ولم تصلح حاله.
فعلى كل حال تعرفون أن هذه الشريعة لها أحكام تختص بها، فما يتعلق بأحكام القرآن حينما ينظر في القصص قصص الأنبياء أو القصص التي ذكرها القرآن فإنه يؤخذ من شرع من قبلنا ما يوافق شرعنا، أو على الأقل ما لا يخالفه على القول الآخر، وهذه مسألة معروفة على كل حال.
وفي قوله تعالى هنا: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا قال: الإحصان هو العفاف والحرية، هذه بعض معاني الإحصان أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا أي: حفظته وصانته من مقارفة ما لا يليق، وإلا فالإحصان يأتي أيضاً بمعنى -كما سبق في الكلام على سورة النساء- الزواج، فَإِذَا أُحْصِنَّ [سورة النساء:25] أي: تزوجن فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [سورة النساء:25] يعني: الحرائر.
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ قال: بقدره وشرعه، باعتبار أن الكلمات هي الكلمات الكونية أعوذ بكلمات الله التامات[1] فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، وهي التي يحصل بها التكوين، وأما الكلمات الشرعية فهي مثل القرآن، وكلام الله في كتبه، يقال لها: الكلمات الشرعية وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: خط رسول الله ﷺ في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله ﷺ: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون[2].
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام[3] وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها، والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم -عليهما السلام- في كتابنا البداية والنهاية، ولله الحمد والمنة.
آخر تفسير سورة التحريم، ولله الحمد والمنة.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (4/ 2080- 54) (2708).
- أخرجه أحمد (4/ 409- 2668) وأخرجه أبو يعلى (2722)، والحاكم (3/ 185) من طريق يونس بن محمد المؤدب، بهذا الإسناد، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة.
وأخرجه عبد بن حميد (597)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (148)، وابن حبان (7010)، والطبراني (11928) من طرق عن داود بن أبي الفرات، به. وصححه الألباني في الصحيحة (1508). - أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون [سورة التحريم:11] إلى قوله: وكانت من القانتين [سورة التحريم:12] (4/ 158-3411)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1886- 70) (2431).