السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[11] من قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} الآية 89 إلى قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} الآية 104.
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 2682
مرات الإستماع: 2193

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ۝ قَالُواْ أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ۝ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة يوسف:89-92].

يقول تعالى مخبراً عن يوسف أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته وبدره البكاء فتعرف إليهم، وقال هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ أي: إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن يوسف ﷺ: هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ هذا الاستفهام فيه معنى التقرير، وفيه معنى الإنكار، وهذه الآية تدل على أنه حصل لأخي يوسف شيئاً من أذيتهم وتضييقهم، ومن ذلك تفريقهم بينه وبين يوسف، وقال بعض أهل العلم: أي: ما كان يناله بنيامين من الاحتقار والأذى والمعاملة التي فيها شيء من الشدة والقسوة.

ولم يذكر يوسف –عليه الصلاة والسلام- ما فعلوه بأبيهم تعظيماً وإجلالاً لمقام أبيه، ويحتمل أنه لم يذكره لأن ما حصل ليعقوب لم يكن مقصوداً وقد أراد إخوة يوسف أن يستأثروا بأبيهم.

قوله: إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون أي: إنما حملكم على هذا الفعل هو الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، ويحتمل أنه قصد بذلك الاعتذار لهم، يعني: أنكم فعلتم ذلك في حال جهلكم، ويحتمل أن يكون المعنى: أي لم تعملوا بمقتضى العلم، فإن العلم يقتضي العمل والخشية من الله .

وقال بعض أهل العلم: إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون أي: بما يصير إليه فعلكم هذا وما يكون من العواقب التي يئول إليها أمركم وأمر يوسف -عليه الصلاة والسلام، وهو ما يشاهدونه مما حصل ليوسف -عليه الصلاة والسلام- من الرفعة والمكانة، وهم يأتون إليه في حالٍ من الضعف والتذلل، وهذا هو اختيار ابن جرير –رحمه الله.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأُولييْن بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر فرج الله تعالى من ذلك الضيق كما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5، 6] فعند ذلك قالوا: أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ، وقرأ أبي بن كعب أَوَأَنْتَ يُوسُفُ وقرأ ابن محيصن إِنَّكَ لأنتَ يُوسُفَ

والقراءة المشهورة هي الأولى؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي.

وقوله: قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا أي: بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا الآية، يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخَلْق والخُلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضاً، وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.

معنى آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا أي: فضلك واصطفاك واختارك.

وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يقول: أي: لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال: يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

التثريب هو التأنيب والعتب، والمعنى لا تأنيب ولا عتب، ويطلق التثريب على التوبيخ والتعيير بالذنب، واللوم عليه.

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ۝ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ۝ قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:93-95].

يقول: اذهبوا بهذا القميص فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وكان قد عمي من كثرة البكاء وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي بجميع بني يعقوب وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي: خرجت من مصر قَالَ أَبُوهُمْ يعني: يعقوب لمن بقي عنده من بنيه إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ تنسبوني إلى الفند والكبر.

 روى عبد الرزاق عن ابن عباس -ا- قال: ولما فصلت العير قال: لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به.

وقوله: لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير: تُسَفّهون، وقال مجاهد أيضاً والحسن: تهرمون.

قوله: لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ أي: تضعفون عقلي وتسفهونني، وتتهمونني بالخرف وذهاب العقل.

وقولهم: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ قال ابن عباس -ا: لفي خطئك القديم، وقال قتادة: أي: من حُب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله ﷺ وكذا قال السدي وغيره.

المقصود بالضلال الذهاب عن حقيقة ما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام- أو الذهاب عن الحق في شأن يوسف، حيث قدم يعقوب هذا الواحد على هؤلاء المجموعة من الرجال الأقوياء، وليس المقصود الذهاب عن الحق مطلقاً؛ لأنهم لو قالوا هذا لكفروا.

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۝ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ۝ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة يوسف:96-98].

قال ابن عباس -ا- والضحاك: الْبَشِيرُ البريد، وقال مجاهد والسدي: كان يهوذا بن يعقوب، قال السدي: إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب فأحب أن يغسل ذلك بهذا فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيراً، وقال لبنيه عند ذلك أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي: أعلم أن الله سيرده إليّ، وقلت لكم: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ [سورة يوسف:94].

البشير في هذه الآية مبهم، ولا ينبغِ الاشتغال بمعرفة من هو هذا البشير الذي جاء، فقد قيل: إنه هو البريد، يعني أن يوسف -عليه الصلاة والسلام- أسرع بالبشرى فأرسل بها مع البريد، والبريد أسرع بكثير من القافلة.

فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له: يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ۝ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة يوسف:97، 98] أي: من تاب إليه تاب عليه، قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر.

قال بعض أهل العلم في قوله –تبارك وتعالى: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ أن يعقوب أرجأ الاستغفار لهم إلى وقت السحر، وقال بعضهم: إنه أرجأ الاستغفار لهم إلى وقت آخر، وقال بعضهم: أراد أن يستأذن من يوسف حتى يعفو عنهم، وهذه الأقوال لا دليل عليها.

وقد قال بعض السلف: هناك فرق بين طلب الشيء من الشيوخ وبين طلبه من الشباب، وذلك أن الله –تبارك وتعالى- أخبر عن يوسف أنه قال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة يوسف:92]، فقد استغفر لهم مباشرة، ولما طلبوا من أبيهم الاستغفار قال لهم: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ، وهذا غير صحيح؛ لأنهم لم يطلبوا الاستغفار من يوسف أصلاً، بخلاف أبيهم فقد طلبوا منه ذلك.

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ۝ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة يوسف:99، 100].

يخبر تعالى عن ورود يعقوب على يوسف وقدومه بلاد مصر لمَّا كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أُخبر يوسف باقترابهم خرج لتلقيهم وأمر الملِك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب ويقال: إن الملك خرج أيضاً لتلقيه، وهو الأشبه.

وقوله: وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ [سورة يوسف:99]، أي: قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: ادْخُلُواْ مِصْرَ، وضمَّنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين، أي: مما كنتم فيه من الجهد والقحط.

ذكر كثير من علماء التفسير أن يوسف خرج لتلقيهم فقال لهم: ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ، وقال بعضهم: إنه نصب خيمةً أو مكاناً أو سرادقاً وجلس فيه ينتظرهم، فدخلوا عليه فآوى إليه أبويه، ثم بعد ذلك قال لهم: ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ثم بعد ذلك حصل السجود حينما كان في مجلسه مستقراً على سرير ملكه.

وقوله: آمِنِينَ أي: مما كنتم فيه من الجهد والقحط، وقيل: كانوا لا يدخلون مصر إلا بشيء من الخوف والحذر؛ لأنهم ليسوا من أهلها فقال لهم: ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ من غير تخوف.

وقوله: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما كان أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت قديماً.

قالوا: إن أمه ماتت في نفاس بنيامين، وهذا الكلام لا دليل عليه، وهو خلاف ظاهر القرآن، بل بعضهم تكلف غاية التكلف وقال: لعل الله أحيا أمه فسجدت، وهذا أيضاً لا دليل عليه.

وقال محمد بن إسحاق، وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان، قال ابن جرير: ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها وهذا الذي نصره هو المتصور الذي يدل عليه السياق.

وقوله: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وغير واحد: يعني السرير، أي: أجلسهما معه على سريره وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا، أي: سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلاً، وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ، أي: التي كان قصها على أبيه من قبل إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [سورة يوسف:4] الآية.

وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى -عليهما السلام، فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود مختصاً بجناب الرب هذا مضمون قول قتادة وغيره.

وفي الحديث أن معاذاً قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله ﷺ فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله، فقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها[1].

والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً فعندها قال يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100] أي: هذا ما آلَ إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر.

وقوله: قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا أي: صحيحةً صدقاً، يذكر نعم الله عليه وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ، أي: البادية.

قوله: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ، التأويل هنا بمعنى تحقق الرؤيا، ويأتي التأويل بمعنى التعبير والتفسير ومنه قوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36]، ويأتي التأويل فيما يتعلق بالخبر بوقوع المخبر، وفيما يتصل بالأمر بفعل المأمور به، فمن تأويل الخبر بوقوع المخبر قوله -تبارك وتعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53]، يعني وقوع ما أخبر به، ومن تحقيق الأمر قول عائشة -ا: "كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن"[2] يعني: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [سورة النصر:3].

وقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [سورة يوسف:100] ذكر الخروج من السجن ولم يذكر الخروج من البئر، لئلا يجرح مشاعرهم ويؤذيهم؛ لأنهم هم الذين ألقوه في البئر وأما السجن فلم يكن لهم بذلك يد، أو أن المنة بالخروج من السجن أعظم من المنة بالخروج من البئر، فقد خرج من البئر للرق، وخرج من السجن للمُلك.

قال ابن جريج وغيره: كانوا أهل بادية وماشية، وقال: كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام.

وقوله: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ، أي: من البادية، وقال بعض أهل التفسير: كانوا يسكنون في قرية معروفة يقال لها بدى، فنسبوا إليها، ولم يكونوا يسكنون البادية، وقد قال الله –تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:109]

فاحتج بهذه الآية كثير من أهل العلم على أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا من أهل البوادي، وهذا الذي يجعل بعض العلماء يقولون: إن يعقوب وبنيه –عليهم الصلاة والسلام- كانوا من قرية يقال لها بدى، ولم يكونوا في البادية، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، والظاهر أنهم كانوا في البادية، ووجودهم فيها -والله أعلم- كان عارضاً ثم انتقلوا.

مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء [سورة يوسف:100] أي: إذا أراد أمراً قيض له أسباباً وقدّره ويسره.

مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ أي: أفسد، وهذا التفسير من جهة المعنى، فالشيطان يحرك الإنسان ويستثيره من أجل أن يوقعه في المحظور.

إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالح عباده الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده.

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة يوسف:101].

هذا دعاء من يوسف الصديق دعا به ربه لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منَّ الله به عليه من النبوة والملك سأل ربه كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة وأن يتوفاه مسلماً حين يتوفاه، قاله الضحاك، وأن يلحقه بالصالحين وهم إخوانه من النبيين والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا الدعاء يحتمل أنَّ يوسف قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول: اللهم في الرفيق الأعلى[3] ثلاثاً، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره.

قول من قال: إن يوسف –عليه الصلاة والسلام- تمنى الموت قول غير صحيح ولا دليل عليه.

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ۝ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [سورة يوسف:102-104].

يقول تعالى لمحمد ﷺ لما قص عليه نبأ إخوة يوسف وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام: هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك.

وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ حاضراً عندهم ولا مشاهداً لهم إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ أي: على إلقائه في الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ به ولكنا أعلمناك به وحياً إليك وإنزالاً عليك، كقوله: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ [سورة آل عمران:44] الآية، وقال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [سورة القصص:44]، الآية، إلى قوله: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [سورة القصص:46] الآية، وقال: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [سورة القصص:45] الآية.

يقول تعالى: إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ومع هذا ما آمن أكثر الناس، ولهذا قال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، كقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:8] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، أي: ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد مِنْ أَجْرٍ أي: من جعالة ولا أجرة على ذلك بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحاً لخلقه، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة.

  1. رواه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1 / 595)، برقم (1853)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (7 / 55).
  2. رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب التسبيح والدعاء في السجود (1 / 281)، برقم (784)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (1 / 350)، برقم (484).
  3. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ (4 / 1613)، برقم (4174)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة -ا، (4 / 1893)، برقم (2444).

مواد ذات صلة