بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طـه:124-126]
قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ قال مجاهد وأبو صالح والسُدي: لا حجة له، بمعنى أن العمى هنا ليس عمى البصر، وإنما العمى عمى الحجة التي يتخلص بها من عذاب الله -تبارك وتعالى، وقال عكرمة: عُمي عليه كل شيء إلا جهنم، فهذا القول بمعنى أنه عمى البصر، لا يرى شيئًا ولا يبصر إلا جهنم، فهذان قولان في تفسير العمى في هذه الآية.
واختلف المفسرون في المراد بالعمي في قول الله تبارك وتعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [سورة الإسراء:97]، فقال بعضهم: إنهم يحشرون في هذه الصفة حقيقة، يعني: لا إبصار، ولا سمع ولا نطق، وبعضهم يقول: إن المراد أنهم لا يرون ما يضرهم، ولا يسمعون ما يضرهم، ولا يتكلمون ولا يعتذرون بعذر يقبل منهم، فالآية الأخرى التي فسر بها ليست محل اتفاق على أن العمى فيها هو عمى البصر.
لكن يوجد في الآية قرينة ترجح أحد القولين، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال عن هذا الذي يحشر في هذه الصفة: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا يعني في الدنيا، فلو كان المراد أنه أعمى عن حجته فإنه لم يكن بصيرًا في الدنيا بهذا الاعتبار، فلو كان عنده بصر حقيقي في الدنيا بمعنى بصر القلب فإنه يُقبل على الهدى الذي بعث الله به رسوله ﷺ، فهذه قرينة مرجحة لأحد هذين القولين.
وهذا القول ذهب إليه طائفة من أهل العلم ورجحه من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، ومن أهل العلم من حملها عليهما وقال: لا مانع من ذلك يحشر يوم القيامة أعمى عن حجته، ويحشر أيضًا أعمى البصر، فلا حجة ولا بصر، والمفروض أنه يورد هذا الكلام ولا يحذف في المختصر.
فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قد رجح أحد القولين، وذهب إلى ما ذهب إليه ابن جرير، وهذا لم يذكره المُختصِر وهو موجود في الأصل، فيكون قول ابن جرير وابن كثير واحدًا، وقد يرد سؤال: الله قال هنا: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [سورة الكهف:53] هم رأوها، وفي الآية الأخرى التي فسر بها وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا، وقال الله -تبارك وتعالى-عنهم: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [سورة مريم:38] يعني ما أسمعهم وما أبصرهم، ما أشد سمعهم، فإما أن يقال بأن يوم القيامة يوم طويل، ففي بعض الأحوال لا يسمعون ولا يبصرون، وبعضهم يقول: إنه حين يقول الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] تصيبهم من الحسرة ما يدهشهم ويذهلهم فلا يسمعون، نسأل الله العافية، وبعضهم يقول: إن العمى ليس المقصود به عمى البصر أصلًا، ومن ثَمّ فلا نحتاج إلى الجمع بينه وبين الآيات التي أثبتت لهم السمع والبصر، والله تعالى أعلم.
قال الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله: "وقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر، والذين قالوا: هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [سورة مريم:38]
وقوله: لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22]، وقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ [سورة الفرقان:22]، وقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [سورة التكاثر:6-7].
ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة، كقوله تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45]، وقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [سورة الطور: 13-15]، وقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه؛ لقوله: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، وهو لم يكن بصيرًا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول: وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا؟ وكيف يجاب بقوله: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى؟
بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله، فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره ترْكه في العذاب، وقال تعالى: وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا[الإسراء:97]
وقد قيل في هذه الآية: إنه عمي وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون، ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم: هو عمًى وصمم وبكم مقيد لا مطلق، فهم عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه، ولهذا قد روى عن ابن عباس -ا- قال: لا يرون شيئا يسرهم، وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك، فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك، ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذا مروي عن الحسن، وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق حين يقول لهم الرب -تبارك وتعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، فحينئذ ينقطع الرجاء، وتُبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميًا بكمًا صمًا لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق وهذا منقول عن مقاتل"[1].
لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فليس المقصود بالنار.
وقال -رحمه الله: "والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُميٌ عنها"[2].
يعني: المقصود أنهم لا حجة لهم، وليس المقصود أن لهم حجة لكنهم عَموا عنها، وفرق بين من له حجة وجاء عند القاضي مثلًا فذهل عن حجته، ما تفطن لها ولو أنه تطفن لها لربما حكم له بذلك القاضي، لكنه عمي عن حجته، فرق بين هذا وبين من ليس له حجة أصلًا، وهنا لا حجة لهم أصلًا.
وقال -رحمه الله- أيضًا: "بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا، فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه، وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر وأنه عمى البصر، فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانًا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا، فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة؛ لقول النبي ﷺ: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرْلًا[3]، ولقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [سورة التكوير:5]، ولقوله تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر، فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة، وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [سورة مريم:85]، وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:22-23]، فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة الصافات:20، 21].
ثم قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ، وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا، فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته، فالقرآن يصدق بعضه بعضا، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا"[4].
النسيان في هذه الآية قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، بمعنى الترك، والإعراض، وليس بمعنى الذهول عن المعلوم، أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ، أي: تُترك، يُنسى من رحمة الله ، ينسى في النار، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: "فأما نسيان القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلًا في هذا الوعيد"، صحيح، الإنسان إذا نسي الآيات ونسي السور لا يقال له يوم القيام كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ أي: في النار، وإنما المقصود هنا الكافر الذي أعرض عن ذكر الله وعبادته فلم يرفع لذلك رأسًا، أما نسيان القرآن نسيان الآيات يقول: "وإن كان متوعدًا عليه"، فالأحاديث الواردة في هذا لا تخلو من ضعف.
ولكن يقال: الأحاديث الواردة في الأمر بتعاهد القرآن، والعمومات في هذا الباب، وما يضاف إلى هذا مما يكون من التفريط إذا كان النسيان بسبب التفريط والتقصير والهجر لقراءة القرآن فإن هذا يكون مذمومًا، ولهذا يقال: إن نسيان الآيات على نوعين: نسيان يعذر فيه الإنسان، ونسيان لا يعذر فيه.
أما النسيان الذي يعذر فيه فهو إذا كان يتعاهد القرآن ومع ذلك ينسى، أو يكون هذا الإنسان قد شغل بما سبب له هذا النسيان، فنسي بعض القرآن الذي حفظه، شُغل شغلًا يعذر فيه، كإنسان مثلًا ولي خلافة وانشغل برد المظالم للناس، وبالقيام عليهم بالعدل والإصلاح ونحو ذلك فشغله ذلك عما كان يتوفر له من الأوقات في المراجعة، فصارت مراجعته فيها ضعف، فإذا أردت أن السور تكون حاضرة عندك تقرؤها ولا تكاد تخطئ فتحتاج أن تمر على الحفظ كل عشرة أيام، وهذا يحتاج إلى أوقات طويلة، إلا إذا عود الإنسان نفسه المراجعة في الصلاة وفي خارج الصلاة، صلاة النوافل، والفرائض، وهكذا لو أنه شغل مع مجاهدته وحرصه بأمور يعذر فيها، كأن يمرض الإنسان مرضًا لا يتمكن معه من التعاهد والقراءة كما ينبغي، فقد يعذر.
أما النسيان الذي لا يعذر فيه فهو ما كان بسبب التفريط والإهمال والإعراض عن القرآن، لكن نصوص الوعيد لا يصح منها شيء.
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدّ وَأَبْقَىَ[سورة طه:127]
يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [سورة الرعد:34]، ولهذا قال: وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدّ وَأَبْقَىَ، أي: أشد ألمًا من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله ﷺ للمتلاعنين: إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة[5].
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لأولي النّهَىَ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مّسَمّى فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ[سورة طه:128-130]
يقول تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها، إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لأولي النّهَىَ.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ بمعنى أفلم يتبين لهم؟ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ، يعني يمشي هؤلاء الأحياء الذين أرادهم القرآن، يمشون في مساكن المُهلَكين المعذبين ولا يتعظون ولا يعتبرون.
قوله: النُّهَىَ جمع نُهية؛ لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق، ينهاه عما يشين لا يجمل ولا يحسن، وأصحاب العقول ينهون غيرهم عن المنكر وعن فعل ما لا يحسن.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مّسَمّى: "لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه"، يعني: لكان العذاب لازمًا، يقول: "والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة"، فابن كثير -رحمه الله- جمع بين المعنيين.
ومن أهل العلم من يقول: إن "الكلمة" في قوله: وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ، هي تأخير العذاب عنهم، أي: أن الله قضى وقدر أن لا يعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم والأقوام الذين قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، فإن الله -تبارك وتعالى- قضى أن لا يعاجل هؤلاء بالعقوبة وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ، في قضائه الذي قضاه أن يؤجل هؤلاء، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة".
وابن جرير -رحمه الله- يفسر الكلمة التي سبقت من الله بأنها كل من قضى الله له أجلًا فإنه لا يخترمه قبل بلوغ أجله، وهذا القول لا ينافي قول من قال بأن الله -تبارك وتعالى- لا يعذبهم، قضى وقدر أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، فالمقصود وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ، أي: أنه ما حان هلاكهم فهم ينتظرون حتى يأتي قضاء الله الذي قضاه بإهلاكهم وأخذهم، وإن لم يكن هذا الإهلاك عامًا، فالمقصود أن تكذيبهم هو مقتضٍ لتعذيبهم وأخذهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- جعل لهم أجلًا ولا يأخذ أحدًا قبل حلول أجله، فكان هذا سببًا للإمهال فلم يعاجلهم بالعقوبة.
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا، أي: لكان العذاب والأخذ والإهلاك لزامًا؛ لأنهم جاءوا بما يقتضيه، قد صدر منهم ما يتسبب عنه العذاب، فصار المانع من العذاب أمرين: ما سبق في الكلمة أنه لا يَهلك أحدٌ قبل الأجل الذي حدده الله له، أو على قول ابن كثير -رحمه الله: "إنه لا يعذب أحدًا قبل قيام الحجة عليه"، فبعث إليهم رسوله ﷺ؛ ليقيم الحجة، وهكذا الأجل المسمى الذي أجله الله، فلا يؤخذون قبل بلوغهم إياه، والله أعلم.
هذا كقوله تعالى –أيضًا: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45]، وقوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ [سورة المزمل:2، 3] ثم قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [سورة المزمل:5]، فيستعان بها على القيام بأعباء الدعوة، وما يحصل من الأذى والتكذيب وما إلى ذلك، وهكذا على أعباء الدنيا والكبَد الذي يلقاه الإنسان فيها، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قال: "صلاة الفجر"، وقَبْلَ غُرُوبِهَا قال: "يعني صلاة العصر".
كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا عند رسول الله ﷺ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا[6] ثم قرأ هذه الآية.
وروى الإمام أحمد عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها[7] رواه مسلم.
وقوله: وَمِنْ آنَاءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ، أي: من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء، وَأَطْرَافَ النّهَارِ في مقابلة آناء الليل، لَعَلّكَ تَرْضَى كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5]، وفي الصحيح: يقول الله تعالى: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك[8].
قوله: وَمِنْ آنَاءِ الْلّيْلِ قال: "أي: من ساعاته"، و"آناء" جمع إناء، وهي الساعة يقال لها إناء، وَمِنْ آنَاءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ، وهذا الذي عليه عامة السلف: سبَّحَ بمعنى صلي، والصلاة يقال لها تسبيح، وابن عمر لما رأى أناسًا يصلون السنة في السفر، قال: لو كنت مسبحًا لأتممت، ويقال مثلًا: سُبحة الضحى، يعني: صلاة الضحى، قال: فَسَبّحْ، أي: من ساعاته فتهجد به.
وبعضهم حمله على المغرب والعشاء وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، آناء الليل: صلاة المغرب -باعتبار أنها تعد من الليل؛ لأن الليل يبدأ من غروب الشمس- وصلاة العشاء، وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، قال: في مقابلة الليل، وأطراف النهار بعضهم قال: المقصود بها الظهر والمغرب، باعتبار أن الظهر هو آخر الطرف الأول؛ لأن النهار ينقسم إلى قسمين: إلى الزوال وما بعد الزوال، يعني: الصباح والمساء، والظهر هو منتهى الطرف الأول ومبتدأ الطرف الثاني، والمغرب هو نهاية الطرف الثاني، وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فسرت بهذا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: إن الظهر أشار إليه بقوله: وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فإن قوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، قبل الغروب يدخل فيه الظهر والعصر وهما صلاتا العشي.
وبعضهم يحمل هذا أصلًا على غير الفرائض يقول: المقصود به التطوع، كالصلاة في الليل، وفي أطراف النهار، وقد يرد على هذا أن ما قبل الغروب وقت النهي؛ لأنه وقت العصر، ولكن لقائلي هذا القول أن يقولوا: ما قبل وقت النهي، قال: لَعَلّكَ تَرْضَى، أي: تنال ما تَرضى به نفسُك، وذلك بدخول الجنة، وحصول النعيم المقيم، وفي القراءة الأخرى في قراءة متواترة قرأ بها الكسائي وهي رواية عن عاصم: لَعَلّكَ تُرْضَى، أي: يرتضيك ربك، لَعَلّكَ تُرْضَى تكون مرضيًا عند ربك -تبارك وتعالى، والقراءتان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فإذا فعل ذلك لَعَلّكَ، أي: من أجل أن تَرضى، يحصل له الرضا، وهو يكون مرضيًا عند ربه -تبارك وتعالى، وهذا يدل على أهمية هذه الصلوات، وأنها تكون سببًا لرضا العبد بما يحصل له من الجزاء والثواب، وتكون سببًا لكونه مرضيًا عند الله .
وفي الصحيح: يقول الله تعالى: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا[9]، وفي الحديث الآخر: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم خيرًا من النظر إليه، وهي الزيادة[10].
وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ [سورة طه:131-132]
يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: أَزْوَاجًا مّنْهُمْ، يعني: الأغنياء، فقد آتاك خيرًا مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله ﷺ في الآخرة أمر عظيم لا يُحد ولا يوصف، كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5] ولهذا قال: وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ.
قوله:إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا ليس المقصود الأزواج والزوجات وإنما المقصود الأصناف منهم، زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وذلك ما فيها من البهرج، والمتاع الزائل الذي تنجذب إليه النفوس ثم ما يلبث أن يضمحل كما هو مشاهد، يعني: يعجب الناس به مدة من الزمان ثم بعد ذلك يتلاشى كالسراب تمامًا، نحن نشاهد هذا بأمّ أعيننا ولكن كثيرًا من الناس لا يعقلون، تأمل وأنت في الطريق السيارات القديمة تنظر إليها حتى كأنها نازلة، وكأنها صغيرة، لكن حينما كانت جديدة ما كانت هكذا، كانت تستهوي الناظرين وتشدهم، ولها من الرونق والجمال والبهاء، لكن ما كانت هكذا يوم كانت جديدة، فكل ما تحت أيدينا هذا مصيره، وانظر إلى ما نلبسه من اللباس أو نجلس عليه من الأثاث في أيام جدته له رونق ثم بعد ذلك يزهد فيه الإنسان، ويتغير، وهكذا في كل شيء من هذه الحياة.
المشربة: مكان غرفة في الدور الثاني، العلية.
وقوله: "على رُمال"، بضم الراء، رُمال حصير، والرُّمال ما رُمل يعني نسج، تعرفون الحصير، يعني وليس عليه غطاء، بحيث إنه ليس عليه شيء يقي الجالس أو ما اضطجع عليه من قسوته حتى لا يؤثر في جلده، الحصير لا يعتبر من الفرش الوطيئة، سرير حصير أو نسج من العيدان أو من السعف، ولم يكن عليه غطاء، رُمال حصير، وليس في البيت إلا صُبرة، الصُبرة الشيء المجموع، تقول: صُبرة من طعام، صُبرة من ثياب، قال: إلا صُبرة من قَرَظ هو ما يدبغ به، المادة التي يدبغ بها يقال لها قرظ، هناك شجر يقال له: القرظ، مادة صمغية، وهكذا يدبغ بأشياء مختلفة، يدبغ بقشر الرمان كما هو معروف، ويدلك به الجلد من باطنه فيذهب ما به مما يحصل به العفن، الشاهد أنه ليس فيه إلا صُبرة من قرظ وأُهُب معلقة، والأُهُب جمع إهاب وهو الجلد، وبعضهم يقول: الجلد الذي لم يدبغ.
يعني كسرى وقيصر على أسرّة من ذهب وعلى الأرائك، والنبي ﷺ في هذا المكان على الحصير، ليس في هذه الغرفة إلا مجموعة من القرظ، وأُهب: جلود معلقة، ليس فيها شيء آخر.
روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض[12]، وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا، يعني: زينة الحياة الدنيا، وقال قتادة: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم.
وقوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [سورة طه:132]، أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [سورة التحرير:6]، وروى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويَرفأ، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم، فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله، وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا.
فإذا استيقظ أقام أهله وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ، لكن الأثر بهذا السياق الذي أورده به الحافظ ابن كثير غير واضح، ليس من جهة الدلالة لكن من جهة بعض الإجمال والترتيب، ولفظه عند ابن جرير أوضح، فعند ابن جرير: كان يبيت عند عمر بن الخطاب من غلمانه أنا ويَرفأ، لاحظ هذا أوضح مما أورده هنا: كان يبيت عنده أنا ويرَفأ، وهكذا أيضًا إلى قوله: "وكان له ساعة من الليل يصلي فيها"، عند ابن جرير: فإذا قلنا لا يقوم من الليل كما كان يقوم، يعني: لسبب أنه سهر أو تعب، فإذا قلنا: لا يقوم من الليل كما كان يقوم يكون أبكر ما كان قيامًا، وربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليل، فعند ابن جرير: فإذا قلنا لا يقوم من الليل كما كان يقوم يكون أبكر ما كان قيامًا، يعني: بالعكس، حيث نتوقع أنه لا يقوم يبكر أكثر من العادة في القيام.
قوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، قال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ ما قال: صلِّ، وإنما أمره بأن يأمر أهله، وأمره الله بالصلاة أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [سورة الإسراء:78]، وهكذا قبله، لما ذكر هذه الأوقات قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وغير ذلك، وهو أيضًا داخل ضمنًا، إذا أمره بأمر أهله بالصلاة فكذلك هو أيضًا مأمور بها، قوله: واصطبر –أيضًا- عليها داخل في هذا، الأمر بالصبر على الصلاة، يتضمن الأمر بها، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فهذا فيه مزيد من الصبر.
من هنا أخذ بعض أهل العلم أن إقامة الصلاة سبب لسعة الرزق، ولهذا قال الله : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11]، في وقت حاجة وقحط وجاءت هذه العير عير يحيى الكلبي من الشام فبدءوا ينسلون من المسجد والنبي ﷺ يخطب حتى ما بقي إلا اثنا عشر رجلًا، فالله يعاتبهم: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ، ثم قال: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فبقاؤكم لسماع الخطبة في المسجد خير من هذا الذي خرجتم إليه، ورزقكم محفوظ عند الله -تبارك وتعالى- فهو خير الرازقين، فالتضييع والترك والإعراض لا يستجلب به الرزق إنما الرزق عند الله ، فتُحفظ حدوده، ويقوم العبد بما فرض الله عليه، وما كتب له من الرزق سيأتيه ويكون ذلك سببًا للرزق، بل إن العبد قد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، كما قال النبي ﷺ، وهذا من المعاني التي يحتاج الإنسان أن يتأملها ويقف عندها لأن الكثيرين قد يظنون أن طلب الدنيا والسعي في طلب الرزق يقتضي التخفف من الدين، فقد تجد الإنسان ينشأ نشأة طيبة وصالحة ثم ينهمك في التجارة ثم ما يلبث أن يتحول إلى حالة أخرى، ممكن أن يكون الإنسان تاجرًا ومحافظًا على دينه، فلا يوجد تعارض.
كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ... إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات:56-58] ولهذا قال: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ.
وقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك[13]، وروى أيضًا عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة[14].
وقوله: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن اتقى الله، وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع، وأنّا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب[15].
هذا نوع من الرطب في المدينة منسوب إلى رجل من أهل المدينة يقال له ابن طاب، أخذها من دار عقبة بن رافع، عقبة: أن العاقبة لهم، والرفعة: رافع، رطب ابن طاب: أن الدين قد طاب، واكتمل: يعني: تجاوز الآفة وتجاوز -كما يقال- القنطرة أو سَلِم.
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى[سورة طه:133-135]
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار في قولهم: لَوْلاَ، أي: هلا يأتينا محمد بآية من ربه، أي: بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله؟ قال الله تعالى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الأُولَىَ.
لولا هذه للتحضيض، وأحيانًا تأتي للتبكيت كما هو معروف، مثل: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116]، يعني: إذا كان الأمر لا يمكن استدراكه فهي للتبكيت.
قوله: بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الأُولَىَ، قال: "يعني هو القرآن"، وبعضهم يقول: هو التصريح بنبوته ﷺ في الكتب السابقة، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الأُولَىَ بما فيها من التصريح بنبوته -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الأُولَىَ هو إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فكيف يطلبون الآيات؟ والمقصود هنا بالآيات المعجزات والخوارق التي يقترحونها وإلا فقد جاءهم آية انشقاق القمر، وأشياء منها هذا القرآن، لكن آيات يقترحونها: يحول لهم الصفا ذهبًا، ويزيح عنهم جبال مكة، أو مثل الآيات التي جاء بها الأنبياء كناقة صالح -عليه الصلاة والسلام- وعصا موسى، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الأُولَىَ، بعضهم يقول: هو إهلاكنا لأولئك الذين جاءتهم هذه الآيات حيث لم يؤمنوا بها، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أن أولائك الذين اقترحوا الآيات ثم لم يؤمنوا بها جاءهم العذاب المستأصل، والحافظ ابن كثير يفسره بالقرآن، وكذلك الشنقيطي -رحمه الله- رجح أنه القرآن، قال: لأنه برهان قاطع على صحة جميع الكتب من هذه الحيثية، وصدّق ما جاءت به باعتبار أنه مهيمن على الكتب كلها، وهو هذا القرآن الذي يقرر أنها من عند الله وأنها وحي منه -تبارك وتعالى، فهذا القرآن بينة على صدقها، وصحتها.
حتى الشنقيطي -رحمه الله- يفسر الآية تلك بهذه الآية، أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [سورة طه:133]، ما يكفيهم هذا؟! وهو هذا القرآن.
وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة[16]، وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها ، وهو القرآن، وإلا فله من المعجزات ما لا يُحد ولا يحصر، كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، أي: لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا: رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا قبل أن تُهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [سورة يونس:97]، كما قال تعالى: بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ [سورة الأنعام:157]، وقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [سورة فاطر:42] الآية، وقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [سورة الأنعام:109] الآيتين، ثم قال تعالى: قُلْ، أي: يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ [سورة طه:135]، أي: منا ومنكم، فَتَرَبَّصُوا، أي: فانتظروا.
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، أي: منا ومنكم بما يقع ويحصل للآخر من الدوائر، كل واحد ينتظر بالآخر ماذا تكون نهايته ومصيره وعاقبة ما ينزل به؟
فَتَرَبَّصُوا، أي: فانتظروا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ، أي: الطريق المستقيم وَمَنِ اهْتَدَى إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سورة الفرقان:42]، وقال: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ[سورة القمر:26].
آخر تفسير سورة طه، ولله الحمد والمنة، ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء، ولله الحمد.
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزية (1/ 44-45).
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزية (1/ 45).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة:117]، برقم (4349)، من حديث ابن عباس -ا، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859)، من حديث عائشة -ا، بمعناه.
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزية (1/ 45-46).
- رواه مسلم، كتاب اللعان، برقم (1493)، من حديث سعيد بن جبير .
- رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (529)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، برقم (633).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم (634)، وأحمد في المسند برقم (17220)، وقال محققوه: حديث صحيح رجاله ثقات.
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6183)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، برقم (2829).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6183)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، برقم (2829).
- رواه الطبراني في الأوسط بهذا اللفظ برقم (756)، وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، برقم (472).
- رواه البخاري، كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها، برقم (2336)، من حديث ابن عباس ، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [سورة التحريم:4]، برقم (1479).
- رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 308)، وهو عند البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6063)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم (1052).
- رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2466)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم (4107)، والحاكم في المستدرك برقم (7926)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1359)، وفي صحيح الجامع برقم (2714).
- رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدينا، برقم (4105)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (950).
- رواه مسلم، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي ﷺ، برقم (2270).
- رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، برقم (4696)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ، برقم (152).