بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47]، كما قال تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، وقال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]، وقال لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان:16]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[1].
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عائشة -ا: أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم- جلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله ﷺ: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ﷺ ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: ماله لا يقرأ كتاب الله وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء -يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم[2].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ، قراءة الجمهور مِثْقَالَ بالنصب، ومثقال الشيء هو ميزانه، وقرأ نافع بالرفع مِثْقَالُ.
قوله: وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ، الحسب هو العد والإحصاء، يعني: وكفى بنا مُحصين، وفسرها بعض أهل العلم بالعلم، والمعنى: كفى بنا عالمين، فإن هذا من باب الملازمة، فإن من أحصى شيئاً وحسبه فإنه يكون عالماً به كما لا يخفى.
قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة الأنبياء 48-50].
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد -صلوات الله وسلامه عليهما، وبين كتابيهما؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ قال مجاهد: يعني الكتاب، وقال أبو صالح: التوراة، وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل.
وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية؛ ولهذا قال: الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَأي: تذكيراً لهم وعظة.
قوله - تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن الفرقان هو الكتاب الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وبيّن فيه الحلال والحرام.
وقال بعض المفسرين: إن الفرقان هو النصر على الأعداء، وقد سمى الله -تبارك وتعالى- يوم بدر بيوم الفرقان، فقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [سورة الأنفال:41]، وقد فرق الله بين موسى -عليه الصلاة والسلام- وبين فرعون، فأهلك فرعون وأغرقه.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالفرقان هو الحق الذي فرق الله به بين موسى وفرعون يوم أن التقى موسى مع السحرة، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف 118]، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله- واحتج له بأن الله عطف بعد ذكر الكتاب بالضياء فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ، فهذا العطف يقتضي المغايرة، فالضياء: التوراة، والفرقان هو الحق الذي أظهره الله على يد موسى ﷺ وبه تبيّن بطلان ما عليه فرعون.
فإذا فسر الفرقان بالكتاب يكون قوله: وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ من أوصاف التوراة، والعطف يقتضي المغايرة، لكن هذا ليس دائماً، فأحياناً ينزل تغاير الأوصاف منزلة تغاير الذوات، فتأتي الأوصاف لموصوف واحد تارة بالعطف بالواو، وتارة من غير عطف، ومن أقرب الأمثلة قوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1، 2] من غير عطف، ثم قال: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3، 4] بذكر حرف العطف.
وعلى كل حال الآية تحتمل الأقوال كلها، وقد سمى الله –تبارك وتعالى- القرآن بالفرقان كما سمى التوراة فرقاناً، وقد قال الله تعالى: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [سورة آل عمران:2- 4].
قوله: الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ، قال بعض أهل العلم في معنى الغيب، أي:يخشونه في حال غيبتهم عن الأنظار، فكما أنهم يراعون حقوق الله وحدوده في حال الشهادة بمرأى من الناس، فكذلك هم يخافونه في حال خلوتهم، وهو أحد المعنيين في قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3]، وقال بعض أهل العلم: الله من الغيب والملائكة والجنة والنار، فالمؤمنون يؤمنون بهذا كله.
ثم قال تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة الأنبياء:50] يعني: القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أي: أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [سورة الأنبياء:51-56].
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [سورة الأنعام:83] والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي من قبل ذلك.
قال كثير من المفسرين: إن قوله: مِن قَبْلُ يعني: قبل النبوة، وإن تكسيره للأصنام وقع في صغره، وهو في السادسة عشرة من عمره، وقال بعضهم: في السادسة والعشرين، والقول بأن إبراهيم –عليه الصلاة والسلام– كسر الأصنام قبل النبوة هو قول عامة المفسرين.
وقال بعض أهل العلم إن الله لما ذكر خبر موسى وهارون ذكر إبراهيم ﷺ، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أي: قبل موسى وهارون، فإنه متقدم عليهما كما هو معلوم، وهذا الذي اختاره ابن جرير وابن القيم، ولعله أقرب؛ لأنه لا يوجد دليل يدل على أن إبراهيم ﷺ كسر الأصنام وهو في الصغر.
قول ابن كثير في قول الله – تبارك وتعالى : وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ "أي: وكان أهلا لذلك"، وقال البغوي: أهل للهداية والنبوة، وقول ابن كثير لا يقتضي هذا، ومعناه أن الله عالم به أنه أهل لإيتائه الرشد قبل النبوة.
وقال بعض أهل العلم: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَيعني: أهل لإيتائه الرشد، وقال بعضهم: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَأي: بأوصافه وأحواله وكمالاته، وما أعطاه الله فهو أهل لما منحه الله من النبوة، والخلّة، ولا شك أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم أكمل قومهم، وقد اصطفاهم الله من بين سائر الناس، فقال : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة الحـج:75] فالنبوة منحة إلهية، وفضل من الله يوليه من شاء من عباده عن علم وبصر، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، خلافاً لقول الفلاسفة: إن النبوة تحصل بالعلم والعمل، يعني بالتهذيب والتزكية للنفس حتى يصل الإنسان إلى مرتبة عالية يستحق معها النبوة، وهذا لا شك أنه كفر، ولا يجوز، ولما قال الإمام ابن حبان -رحمه الله: النبوة العلم والعمل، فقد كاد أن يقتل؛ لأنه فُهم منه أنه يقول بقول الفلاسفة وهو لا يقصد هذا.
التماثيل معروفة، وهي ما يصنع من المصنوعات بالأحجار والأخشاب والمعادن وغير هذا مما يحاكى به صنع الله ، والوثن أعم من ذلك، سواء كان ممثّلاً أو كان شجرة أو قبراً أو حجراً.
قوله تعالى: الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ اللام في "لها"، للاختصاص على قول بعض أهل العلم، والتقدير "عاكفون لها"، وقدم الجار والمجرور للاختصاص.
وقال: لَهَا عَاكِفُونَ ولم يقل: عليها عاكفون؛ لأن كلمة عكف تتعدى بعلى، عكف على كذا.
وعَاكِفُونَ مضمن معنى عابدون.
مجادلة إبراهيم –عليه الصلاة والسلام– لقومه ودعوته لهم إلى توحيد الله، وتأييد الله –تبارك وتعالى– له بمعجزة عظيمة حيث ألقي في النار ولم يحترق، كل ذلك يدل أن هذا حصل بعد النبوة، ولم يكن عمره ستة عشر عاما كما قال بعضهم، ويؤيد هذا قوله –تبارك وتعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة العنكبوت26].
قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ [سورة الأنبياء:57-63].
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم، أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين، أي إلى عيدهم.
وكان لهم عيد يخرجون إليه، وقال أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس قال: وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ فسمعه ناس منهم.
قوله: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْالذكر يفهم بحسب السياق، فتارة يكون الذكر بالخير وبالثناء، وتارة يكون بالسوء والعيب، وذكره لأصنامهم هو قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم.
وقد أجروا على آلهتهم ما يجرى على العقلاء من الضمائر، فقالوا: يَذْكُرُهُمْ.
وقوله: بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، أي: على العيد، وبعضهم قال: تولوا مدبرين من عبادتها، فيَخلو المكان.
والمجادلة التي حصلت بين إبراهيم –عليه الصلاة والسلام– وبين قومه كانت قوية، أما من قبل فكان كلام إبراهيم ﷺ في غاية اللطف والرفق.
فالرفق من الداعية يكون في مواطن، حيث ينفع الرفق ويُرجى القبول، وإلا فلا بأس من استعمال الشدة، ولهذا تلطف موسى -عليه الصلاة والسلام- مع فرعون، وأمره الله بهذا فقال: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44]، ثم لما لم ينفع معه اللين ويئس منه، قال له: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [سورة الإسراء:102].
الجذاذ القطع والكِسَر المحطمة، فقد تحولت الأصنام إلى قطع متناثرة.
إلا كبيراً لهم يعني: إلا الصنم الكبير عندهم، كما قال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [سورة الصافات: 93].
وقوله: لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها.
الضمير في قوله –تبارك وتعالى: لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَيرجع إلى كبير الأصنام، وقد وضع إبراهيم ﷺ القدوم عند كبير الأصنام من أجل أن يبين لقومه أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها، فيرجعون إلى كبير الأصنام فيسألونه عن سبب تكسير الأصنام.
وقال بعضهم: الضمير في قوله: لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَيرجع إلى إبراهيم ﷺ.
وقال بعضهم: الضمير يرجع إلى الله، وهذا بعيد، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الضمير يرجع إلى الصنم الكبير وهو أقرب مذكور.
يستدل القائلون بأن إبراهيم –عليه الصلاة والسلام– ألقي في النار قبل النبوة -وكان صغيراً وقتها- بقوله تعالى: سَمِعْنَا فَتًى، وقالوا إن الفتى هو الشاب الصغير، ولكن هذا غير لازم؛ لأن العرب تعبر بالفتى عن الرجل المكتمل القوى، ومنه قول الشاعر:
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلُهم | ببطن مكةَ لمّا أسلموا زُولوا |
وهذا كثير في كلام العرب، في شعرهم ونثرهم، ولهذا يقال أيضاً عن المملوك: إنه فتى، ومنه قول النبي ﷺ: ولا يقل أحدكم: عبدي أمتِي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي[3].
والنبي ﷺ يقول: يجري هلاك هذه الأمة على يديْ أغيلمة من قريش[4]، وليس المقصود بالأغيلمة أنهم صبيان صغار، بل رجال كبار، ولكن قيل ذلك تحقيراً لهم، وأكثر أهل العلم على أن المقصود بهذا "يزيد" وغيره، ولهذا كان أبو هريرة يستعيذ بالله من أن يدرك سنة ستين، فمات سنة ثمان وخمسين وقيل: تسع وخمسين.يضا
قوله –تبارك وتعالى: قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ أي: على مرأى منهم، وعلى رءوس الأشهاد.
قوله:لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قال بعض أهل العلم: لعلهم يشهدون عقوبته، فيكون ذلك رادعاً لكل من تسول له نفسه أن يفعل فعله.
وقال بعضهم: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي: يشهدون عليه بأنه الذي كسر الأصنام، وقال بعضهم: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَأي: يشهدون عليه بأنه ذكرها، والآية تحتمل كل المعاني المذكورة.
لما جعل الكفار آلهتهم بمنزلة العقلاء، قال لهم إبراهيم –عليه الصلاة والسلام: فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَمن باب المجاراة لهم، والمخاطبة للسامع بحسب اعتقاده،ومن المفترض أن يقول لهم: "فاسألوها إن كانت تنطق"، فهذا يقال لغير العقلاء.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة –- أن رسول الله ﷺ قال: إن إبراهيم لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات: 89]، قال: وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة، إذ نزل منزلاً فأتى الجبارَ رجلٌ فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إليّ، فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأُخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له، فأُرسل فأهوى إليها، فتناولها فأُخذ بمثلها أو أشد، ففعل ذلك الثالثة، فأُخذ فذكر مثل المرتين الأوليين، فقال: ادعي الله فلا أضركِ، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها، انفتل من صلاته، وقال: مَهْيَم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر[5].
قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء.
يا بني ماء السماء، قال بعضهم: يعني العرب؛ لخلوص نسبهم وصفائه، وقال بعضهم: المراد بذلك العرب؛ لأنهم أهل مواشٍ فيتبعون القطر فترعى دوابهم مما تنبته الأرض ، فقيل لهم ذلك، وقال بعضهم: قصد بذلك الأنصار نسبة إلى جدهم عامر بن حارثة، فالأوس والخزرج جميعاً يرجعون إلى عامر بن حارثة، وكان يلقب بماء السماء.
قوله:فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء: 64-67].
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال: فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ أي: بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم، فقالوا: إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ أي: في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها، ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ.
قول العلامة ابن كثير –رحمه الله– في معنى قوله –تبارك وتعالى: فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ "أي: بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم" محتمل، ويحتمل معنى آخر ولعله الأقرب -والله أعلم- أن "الفاء" تدل على التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعوا إِلَى أَنفُسِهِمْأي: أدركوا أن هذه لا تنفع ولا تضر ولا تصرف عن نفسها، ولا تدفع، فكيف تصلح للعبادة؟ فأفاقوا، وحصل مقصود إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- لما ترك الكبير، فأدرك الكفار الخطأ الذي وقعوا فيه، من عبادة هذه الأصنام، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فيكون هذا مرتباً على ما قبله.
قوله:فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ يعني: مخطئون، وكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم.
قوله: ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ، القول بأن معنى هذه الآية: ثم أطرقوا في الأرض، أي نَكّسوا رءوسهم متفكرين فيه بعد والله أعلم؛ لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: ثم نَكَّسوا رءوسهم، أو نَكَسوا رءوسهم، لكنه قال: ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ وهذا يعبر به عمن رجع إلى غيه، وكابر، وعاند، ولم يقف عند دلائل الحق، فرجع إلى جهالته، فشبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه، فتحولوا هذا التحول وانقلبوا، رجعوا بعدما حصلت لهم الإفاقة، وكابروا وعاندوا ورجعوا إلى جهلهم، فأرادوا أن ينتصروا لهذه الآلهة، لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ.
- رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته (6 / 2459)، برقم: (6304)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4 / 2072)، برقم: (2694).
- رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة الأنبياء (5 / 320)، برقم: (3165)، وأحمد (43 / 406)، برقم: (26401)، وصححه الألباني.
- رواه البخاري، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي (2 / 901)، برقم (2414)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (4 / 1764)، برقم: (2249).
- رواه أحمد (16 / 431)، برقم (10737)، من حديث أبي هريرة ، وحسنه محققو المسند.
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا (3 / 1225)، برقم: (3179)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل ﷺ (4 / 1840)، برقم (2371).