السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} الآية 81 إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} الآية 88
تاريخ النشر: ١٧ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 2766
مرات الإستماع: 6424

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تتمة تفسير قوله تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [سورة الأنبياء:81] الآية.

وقوله: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة، تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا يعني: أرض الشام، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجُند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض،  فينزل وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ [سورة ص:36]، وقال تعالى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سورة سبأ:12].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى:  وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً العاصفة يعني شديدة الحركة والسرعة، وهذا لا يعارض قوله -تبارك وتعالى:  فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ فهي من حيث القوة عاصفة، ومن حيث كون هذه الريح طيعة فهي كما قال الله : رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، ومن أهل العلم من يقول: بأنها تكون عاصفة في أولها من أجل أن ترفعه ثم بعد ذلك تكون بالصفة الأخرى رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، وأما ما ذكر من أن له بساط من خشب، ونحو هذا، ومثل هذا غالبًا يكون مما تلقي عن بني إسرائيل، فالله تعالى أعلم.

 وقوله:  وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ [سورة الأنبياء:82] أي: في الماء يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ أي: غير ذلك.

قوله: دُونَ ذَلِكَ يعني غير ذلك، مثل يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سورة سبأ:13].

كما قال تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ۝ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [سورة ص:37، 38]، وقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره، لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ يعني: من أن ينالوه بسوء، تحتمله الآية، وتحتمل أن يكون المراد بذلك أن الله قد حفظ أعمالهم وأعدادهم وكلما يتعلق بهم، ويحتمل أن يكون الله -تبارك وتعالى- أراد بذلك أنه قد حفظ هؤلاء فلا يخرجون عن أمره، ولا يتمردون عليه، ويحتمل أنهم لا يفسدون ما عملوا، وقد قيل: بأنهم كانوا يبنون له، بأن، بحيث أنهم لا يبنون له في النهار ثم يخبرون ما بنوا بالليل لو تركوا، وإنما الله -تبارك وتعالى- يمنعهم من هذا، فلا يفسدون ما عملوه، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكرها أهل العلم، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن الله قد حفظ أعدادهم وأعمالهم وأحصاها، وكل هذه المعاني محتملة، -والله أعلم.

وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:83-84].

يذكر تعالى عن أيوب ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية، فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه، سوى زوجته كانت تقوم بأمره، ويقال: إنها احتاجت، فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي ﷺ: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل[1] وفي الحديث الآخر: يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه[2].

وقد كان نبي الله أيوب غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك، وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب بذهاب الأهل والمال والولد، ولم يبق شيء له أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إليّ، أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخلت ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني، قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا، قال: وقال أيوب : يا رب إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك، وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها، وأقول لنفسي: يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم[3].

قوله -تبارك وتعالى: وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ، هذا ليس من باب الشكاية وقلة الصبر والتضجر من المرض وإنما يدعو ربه، وهذا من باب إظهار الافتقار إلى الله ، وإلا فهو كما قال الله : إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [سورة ص:44] وهذا الضر في كتب التفسير أقوالًا كثيرة جدًا في هذا المرض الذي أصابه، ومدته، وتفاصيل ذلك، وذلك مما تلقي عن بني إسرائيل، ولا حاجة للتطويل به، والمدد التي يذكرونها، المدة التي قضاها يذكرون أقوالًا في غاية التباين، وعلى كل حال كما أخبر الله أنه مسه الضر، وفي الآية الأخرى: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [سورة ص:41]، وهذا لا يعارض الآيات والنصوص الدالة على أن الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا، فإنه لا يتسلط على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- التسلط الذي يضلهم به، والله يقول: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [سورة النحل:100]، أما ما يقع على الأجساد من المرض واللأواء والأذى ونحو ذلك، فهذا يمكن أن يقع وأن يتسبب به الشيطان، ولا إشكال في هذا، فيمكن أن يتسلط عليها شياطين الإنس أو شياطين الجن فيحصل له التأذي والمرض بسبب هذا، ولا حاجة للقول: بأن المقصود مسه الشيطان يعني بالوسوسة والخواطر السيئة، أو نحو ذلك.

قوله: إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: قد جرب أنه من قال هذا سبع مرات كشف الله ضره، لا سيما مع المعرفة، بالله -تبارك وتعالى- وأنه الذي يكشف الضر وأنه أرحم الراحمين، لكن لم يرد هذا العدد في الكتاب ولا في السنة، وهذا يكون ذلك من باب الرقية أو الدعاء المجرب، والدعاء لا يشترط أن يكون واردًا، والرقية هي من باب الطب، والطب الأصل فيه الإباحة، فإذا لم يشتمل على محرم فلا إشكال، إذا دلت التجربة على صحته، وفائدته، أما إذا كان يشتمل على محظور فلا، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره وقد صححه الشيخ الألباني والشيخ أحمد شاكر الذي يقول فيه النبي: دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له[4].

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه، قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك[5]، أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.

وقوله: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قد تقدم عن ابن عباس -ا- أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضًا، وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن وقتادة، وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم؟ قال: لا بل اتركهم لي في الجنة، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.

قوله: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فيه القولان المشار إليهما، هلك ماله وهلك أهله ولم يبق له إلا امرأته، فالله يقولوَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، بعض أهل العلم يقول: إن الله أحياهم له، وردهم عليه، وبعضهم يقول: بأن من مات منهم فإنه لم يرجع، وإنما الله -تبارك وتعالى- ما أبقى منهم من بقي كامرأته فهي أهله، وأعطاه الله وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ زاده، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.

قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ أي: وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.

قال الله تبارك وتعالى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وقال في سورة ص: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ [سورة ص:43]، والعلماء -رحمهم الله- يقولون في هذا: بأن التعقيب هنا في سورة الأنبياء بقوله: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وفي سورة ص وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ، إذا جمعت بينهما فإن النتيجة تساوي أن العابدين هم أولو الألباب، أصحاب العقول، وبعضهم يرتب على هذا بعض المسائل يقول: لو أوصى رجل بماله لأعقل أهل البلد فإنه يعطى أعبد أهل البلد؛ لأن العابدين هم أولو الألباب.

والمعنى الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بقوله: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ أي: ”وجعلنا في ذلك جعلناه قدوة لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا“، وهذا معنى عظيم، وهو أنما وقع لأيوب ﷺ من هذا البلاء الشديد فيه ذكرى للعابدين، ولأولي الألباب، وما يقع لأولياء الله من الشدائد والمكاره والمصائب أن ذلك ليس لهوانهم عليه ، وإنما هو ابتلاء ترفع فيه درجاتهم، ويكفر عن سيئاتهم، ويمحصهم الله به لا لهوانهم عليه، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، والنبي ﷺ يقول: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذا كقوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22].

فالمراد بهذا كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهو من أحسن ما قيل في تفسيرها: أنهم قصدوا بذلك هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ البلاء الذي يعقبه النصر، وذلك أن الله قال: لَتُبْلَوُنَّ [سورة آل عمران:186]، قال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] الآية.

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ ۝ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ [سورة الأنبياء:85-86]

وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل -عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذا إدريس ، وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال آخرون: إنما كان رجلًا صالحًا، وكان ملكًا عادلًا، وحكمًا مقسطًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.

قوله: ”وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء“، ذو الكفل قال بعض العلماء إن ذو الكفل هو إلياس، وبعضهم يقول: هو يوشع بن نون، واختلفوا فيه هل هو نبي أو ليس بنبي، وأكثر المفسرين الجمهور يقولون: إنه ليس بنبي، وأنه رجل من الصالحين، وبعضهم يقول: إنه كان على حال غير مرضية ثم تاب إلى الله، فقبل الله توبته، وبعضهم يقول: إنه كان رجلًا من الصالحين، قيل له ذلك لأنه تكفل إما لنبي أو لملك من الملوك الصالحين، كان يعمل عملًا فتكفل ذلك به من بعده، تكفل بالقيام بهذا العمل فقام به على الوجه المطلوب، فقيل له ذلك.

وقول الحافظ -رحمه الله- هنا: ”وتوقف ابن جرير“، غير صحيح، فكلام ابن جرير -رحمه الله- واضح أنه ليس بنبي، ولا يظهر من كلامه أنه توقف في ذلك، لكن ابن جرير توقف هل قيل له ذلك؛ لأنه تكفل لنبي أو تكفل لملك من الملوك الصالحين بالقيام والنهوض بعمل كان يقوم به ذلك الملك أو ذلك النبي، هذا الذي ابن جرير لم يجزم به، لكنه يقول: ليس بنبي، والأقرب -والله أعلم- أنه نبي وهذا اسمه، أو عرف بهذا؛ لأن الله ذكره ضمن هؤلاء الأنبياء فالأصل أنه منهم، والقول: بأنه يوشع بن نون أو إنه إلياس يحتاج إلى دليل، فإن الله ذكر إلياس بهذا الاسم، ويوشع بن النون هو الفتى الذي كان مع موسى ﷺ الذي ذكر الله خبره في سورة الكهف.

وقوله -تبارك وتعالى: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا بعضهم يقول: هي الجنة، أدخلهم الله الجنة، وبعضهم يقول: المراد بالرحمة هنا النبوة، وبعضهم يقول: الخير، ولا شك أن الجنة هي رحمة الله أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء[6]، والنبوة أيضًا رحمة كما قال الله : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32].

وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87، 88].

هذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة الصافات وفي سورة ”ن“، وذلك أن يونس بن متى ، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، ورغت الإبل وفُصْلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [سورة الأنبياء:89].

وأما يونس فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات:141] أي: وقعت عليه القرعة فقام يونس وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود- حوتًا يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا، فإن يونس ليس لك رزقًا وإنما بطنك تكون له سجنًا.

الله أخبرنا أن الحوت التقم يونس ، والأثر الذي نقل عن ابن مسعود أن الحوت جاء من البحر الأخضر أو أن الله قال له: لا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا، يحتمل أن يكون مما أخذ عن بني إسرائيل، ولا حاجة إليه، فهو بقي حيًا بأمر الله في بطن هذا الحوت، والله ذكر خبره فقال: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات:139-141] فقوله: إِذْ أَبَقَ يدل على أنه خرج بغير إذن الله ، والله قال: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ [سورة القلم:48]، فنهاه أن يكون مثله، والله -تبارك وتعالى- هنا قال: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًاذهب مغاضبًا، قال بعض العلماء: ذهب مغاضبًا لربه -تبارك وتعالى، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وقال به جماعة من السلف كالحسن وسعيد ابن جبير.

ومن أهل العلم مثل النحاس ومن المعاصرين الشنقيطي يوجه هذا يقول: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا الذين قالوا: مغاضبًا لربه، قصدوا بذلك أنه مغاضبًا من أجل ربه، لا أنه غاضب ربه، وإنما ذهب مغاضبًا من أجل ربه -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: ذهب مغاضبًا لقومه وهذا قال به طائفة، وبعضهم يقول: ذهب مغاضبًا لملك في ذلك الزمان، وهذا أضعف هذه الأقوال، وبعضهم يقول: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا بمعنى أنه أصابته الأنفة مما حصل لقومه حينما أبوا أن يستجيبوا له، ثم بعد ذلك تركهم دون أن يأذن الله له.

والذي يحصل به المقصود في فهم الآية هو أنه كما أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه ذهب مغاضبًا، واستعجل في هذا الذهاب قبل أن يأمره الله بمفارقتهم والخروج عنهم؛ لأن الله قال: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، والله  يقول: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، ولذلك الله يقول: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [سورة الصافات:142] يعني قد فعل ما يستحق عليه اللوم، وهذا دليل على أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر التي لا تحط من قدرهم، ويمكن أن يمثل بمثل قصة آدم في الأكل من الشجرة، ولكن لا يصرون عليه، وإنما يتوبون فيرفعهم الله ، وتكون حالهم بعد الذنب أفضل من حالهم قبله، والعلم عند الله .

وقوله: وَذَا النُّونِ يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.

قول الله : وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ يفسر قوله: وَذَا النُّونِ والنسبة عادة تكون لأدنى ملابسة، فقد ينسب الإنسان للبلد التي يقيم فيها وقد ينسب لشيء آخر لأدنى ملابسة، فلما التقمه الحوت قيل له ذلك، فيقال مثلًا: أصحاب الجنة، أصحاب النار، أصحاب الأعراف، وقوله -تبارك وتعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، نسبهم إليهم وأثبت لهم هذه الأخوة، فإن كانوا من المؤمنين اشتراكهم في القبيلة أو البلد الواحد.

وقوله:  إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا قال الضحاك: لقومه.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرجح أنه ذهب مغاضبًا لقومه، وهذا هو الأليق والأقرب، إذ كيف يقع من نبي من الأنبياء أنه يذهب مغاضبًا لربه -تبارك وتعالى، ولكن سبق توجيه بعض أهل العلم لهذا أنه ذهب مغاضبًا من أجل ربه، وبعضهم يقول: إنه قوله: مُغَاضِبًا هنا بمعنى أنه غاضب؛ لأن أصل المفاعلة تكون بين طرفين فأكثر تقول: المقاتلة، والمحادثة والمحاورة، والمحاجة، والمخاصمة، وما أشبه ذلك، لكن هذا ليس دائمًا، فبعضهم يقول: هذا من هذا القبيل ذَهَبَ مُغَاضِبًا حينما يقال: إنه ذهب مغاضبًا لربه -تبارك وتعالى، هذا الغضب واقع من طرف واحد، فيقولون: المقصود به أنه ذهب غاضبًا، والأقرب -والله أعلم- أن المقصود به أنه ذهب مغاضبًا لقومه، وخرج قبل أن يأذن الله له.

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نضيق عليه في بطن الحوت، يروى نحو هذا عن ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[سورة الطلاق:7].

هذا قول الجمهور من المفسرين، أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: لن نضيق عليه، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضيق عليه رزقه، وذهب طائفة من أهل العلم ومنهم أئمة في اللغة مثل الفراء والزجّاج وثعلب، وقال به بعض السلف أيضًا: بأن قوله: أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ من التقدير بمعنى أن لا نقضي عليه بالعقوبة، ويعبر فيه بمثل هذا، والله يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]، أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نقضي عليه بالعقوبة، ومهما يكن لا يجوز أن تفسر الآية بالقدرة، وإن قال به بعضهم إلا أنه لا يجوز القول بهذا، كيف يكون نبي من الأنبياء يظن أن الله لا يقدر عليه، يعني من القدرة، أن الله لا يتمكن منه، فهذا إذا وقع من آحاد الناس فهو كفر، كيف يقع من نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم أعرف الناس بالله .

والمشهور أن المراد بقوله: أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: أن لن نضيق عليه، وجاء في قراءة للزهري وعمر بن عبد العزيز نقدِّر وهذا يؤيد القول الآخر، وأن المقصود نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نقضي من القضاء عليه بالعقوبة، والقراءة الآحادية تفسر القراءة المتواترة، وجاء في قراءة أخرى قرأ بها بعض السلف أن لن يُقدَّرَ عليه، وهذا أيضًا من يحتمل معنى التقدير، وفي قراءة أخرى أن لن يُقدرَ عليه وهذه لا يفهم منها القدرة، لكن يُقدرَ تأتي بمعنى يضيق عليه، بالبناء للمجهول، يُقدرَ، وتحتمل معنىً آخر.

وقولهفَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن مسعود -: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر، قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدًا في موضع لم يبلغه أحد من الناس.

وقوله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ أي: أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات، وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ أي: إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء -عليه الصلاة والسلام، روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين قال: لا وما ذاك؟ قلت لا، إلا أني مررت بعثمان آنفًا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام، قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه، فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال: ما فعلت، قال سعد: قلت بلى حتى حلف وحلفت، قال: ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفًا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله ﷺ، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله ﷺ ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله ﷺ فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إلي رسول الله ﷺ فقال: من هذا، أبو إسحاق؟، قال: قلت نعم يا رسول الله، قال: فمه، قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك، قال: نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له[7]، ورواه الترمذي، والنسائي في اليوم والليلة.

وروى ابن أبي حاتم عن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: من دعا بدعاء يونس استجيب له، قال أبو سعيد: يريد به وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ[8].

  1. رواه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند برقم (1481)، وقال محققوه: إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (996).
  2. رواه أحمد في المسند برقم (1481)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في تحقيقه كتاب الإيمان للشيخ الإسلام ابن تيمية (62).
  3. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/334)، برقم (14559).
  4. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3505)، وأحمد في المسند برقم (1462)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5695).
  5. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/336)، برقم (14565)، وأحمد في المسند برقم (8038)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [سورة ق:30]، برقم (4569)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، برقم (2846).
  7. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3505)، وأحمد في المسند برقم (1462)، وقال محققوه: إسناده حسن، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (656).
  8. رواه الحاكم في المستدرك برقم (4127)، وأبو يعلى في مسنده برقم (707).

مواد ذات صلة