بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين، وبعد:
قال المؤلف -رحمه الله:
وقوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ [سورة الأنبياء:106] أي: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد ﷺ لَبَلاغاًلمنفعة وكفايةً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان، وشهوات أنفسهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًااسم الإشارة راجع إلى القرآن، وهذا هو قول الحافظ ابن كثير وسبقه إلى ذلك ابن جرير الطبري -رحمهما الله– وقال بعض أهل العلم: إن اسم الإشارة يرجع إلى أقرب مذكور، باعتبار أن "هذا" يشار به للقريب، و "ذاك" للمتوسط، و "ذلك" للبعيد، والآية تحتمل المعنيين.
قوله: لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، المقصود بالبلاغ الكفاية، وخص العابدين بالذكر؛ لكونهم يحصل لهم البلاغ والكفاية، وإلا فالقرآن فيه بلاغ للعالمين لو أنهم أقبلوا عليه وانتفعوا به، وقد قال الله -تبارك وتعالى– عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] مع أنه هدى للجميع، لكن لما كان المتقون هم المنتفعون به خصهم بذلك.
وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:107] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ﷺ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم، فمَن قبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:28، 29]، وقال تعالى في صفة القرآن: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44]، وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال: إني لم أبعث لعّاناً، وإنما بعثت رحمة[1] انفرد بإخراجه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله ﷺ، فجاء حذيفة إلى سلمان، فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله ﷺ كان يغضب فيقول، ويرضى فيقول، لقد علمت أن رسول الله ﷺ خطب فقال: أيما رجل من أمتي سببتُه سَبّةً في غضبي، أو لعنتُه لعنة -فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، إنما بعثني الله رحمة للعالمين- فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة[2]، ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة، فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:107]، قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ فعَمّ الله -تبارك وتعالى- ببعثه وإرساله العالم بأسره فهو رحمة مهداة ﷺ.
وعبارة ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره جيدة وجامعة، وفي ضمنها جواب عن هذا السؤال الذي ذكره بعده، فقد قال: "يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ﷺ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة".
فالنبي ﷺ رحمة للعالمين، فمن الناس من دنا من الرحمة وأقبل عليها فانتفع، ومن الناس من ابتعد فلم ينتفع، فالمطر رحمة، فمن الناس من ينتفع به فيزرع، ومن الناس من لا ينتفع به بل قد يحصل له الضرر، وعن جابر بن عبد الله -ا، قال: جاءت ملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد ﷺ، فمن أطاع محمدا ﷺ فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا ﷺ، فقد عصى الله، ومحمدٌ ﷺ فرق بين الناس[3].
ألا ترى أن من الناس من لا ينتفع بالأطباء ودوائهم، بل لا يذهب إليهم، وإذا أصابه الداء فإنه لا يتطبب، وقد قال النبي ﷺ: ما أنزل الله من داء إلا جعل له دواء علِمه من علِمه وجهِله من جهِله[4]، فوجود هذا الدواء هو نعمة من الله .
والله تبارك وتعالى يخبر أن العسل فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [سورة النحل:69]، ولكن من الناس من لا ينتفع بالعسل ولا يقبل عليه، ولا يتداوى به ولا يطعمه.
وكذلك أخبر عن هذا القرآن أنه شفاء لما في الصدور، وأخبر عن المجرمين والظالمين والمكذبين والكافرين أنه عليهم عمى، وأن الآيات التي تنزل تزيدهم ضلالا، يقول: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125]، وذلك لأن الكفار أعرضوا عن القرآن ولم ينتفعوا بها.
وقال بعض أهل العلم: إن النبي ﷺ حصل بسببه الانتفاع، فالمنافقون استفادوا حقن الدماء، وأحرزوا أموالهم في الدنيا، وحصل لهم ما يحصل من الأموال والغنائم إذا حضروا القتال، وأما الكفار فإنه لم تنزل بهم العقوبات المستأصلة التي نزلت في الأمم السابقة، والله يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الأنفال:33]، فبعثه ﷺ رحمة للعالمين، فلم ينزل العذاب المستأصل بهذه الأمة ، كما نزل في الأمم السابقة.
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [سورة الأنبياء:108-112].
يقول تعالى آمراً رسوله -صلواته وسلامه عليه- أن يقول للمشركين: إنما يُوحَىَ إِلَيّ أنما إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له فَإِن تَوَلّوْاْ أي: تركوا ما دعوتهم إليه فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سواء أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم براء مني، كقوله: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس:41]، وقال: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء [سورة الأنفال:58]، أي: ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا ههنا فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سواء أي: أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
قوله -تبارك وتعالى: فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ [سورة الأنبياء:109]، الإيذان أصله الإعلام، ومنه الأذان، والمعنى: أعلمتكم بأنكم عدو لي وأنا عدو لكم، لا مجال للمقاربة بيني وبينكم، وقد قال الله : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم:9]، يعني: تتنازل عن بعض الحق فيتنازلون عن بعض ما عندهم، وقال: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [سورة الإسراء:73]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى، وما يوده هؤلاء الكفار من إزاغة أهل الإيمان عن إيمانهم وعن الحق الذي هم فيه، وأخبر الله عن شدة حسدهم للمؤمنين كما هو الشأن في اليهود، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54].
قوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَقال بعض أهل العلم في معنى هذه الآية: هذا الذي توعدونه من ظهور الإسلام وغلبة المسلمين على الكفار، ومنهم من يقول: أي هذا الذي توعدونه في الآخرة، وما يحصل فيها من جزاء وحساب؛ ولهذا قال الله : وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [سورة يونس:53]، ويقول: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، ويقول: قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ [سورة سبأ:30] ولعل هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَأي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.
إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ أي: إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل.
وقوله: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى، وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم.
هو هذا الإمهال، فهم يستعجلون ذلك اليوم الذي وُعدوا، فالله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه ﷺ: قل لهم: لا أدري لعل هذا الإمهال فتنة لكم ومتاع إلى حين، فيحصل لربما عندهم شيء من الشك والتكذيب ويزداد من يزداد منهم من الكفر كما قال الله : إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة آل عمران:178].
قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ هذه قراءة حفص عن عاصموهي قراءة متواترة تدل على أن النبي ﷺ قد قال ذلك وامتثل، فحكاه الله عنه.
وقرأه عامة السبعة قُلْرَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ، وقد ذكرنا أن تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات، فيكون المعنى أن الله -تبارك وتعالى- أمر نبيه، ثم استجاب النبي ﷺ للأمر، وهذا من إعجاز القرآن، ومن الحِكَم من نزول القرآن على سبعة أحرف، فتتنوع القراءات وتجد هذه القراءة تدل على الأمر، وهذه تدل على الامتثال.
ومعنى احْكُم بِالْحَقِّ أي: افصل بيننا، ومنه قوله -تبارك وتعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:89] فالحكم يقال له فتاحة، والحاكم يقال له: فاتح وفتاح.
وقوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19]، أي: إن تطلبوا الفتح والحكم، فقد جاءكم الحكم والفصل بما حصل في يوم بدر.
عن زيد بن أسلم: كان رسول الله ﷺ..، هذا من قبيل المرسل.
كثيراً ما يأتي التعبير بلفظ "الوصف" في القرآن ويكون المراد به الكذب، ومنه قوله: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [سورة الأنبياء:18] يعني من الكذب، وقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [سورة النحل:62]، وقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:139].
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (4 / 2006)، برقم (2599).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ (4 / 347)، برقم (4661)، وأحمد (39 / 110)، برقم: (23706).
- رواه البخاري (6/ 2655)، برقم: (6852).
- رواه الحاكم في المستدرك، كتاب الطب، (4 / 218)، برقم (7424).
- تفسير ابن كثير (3 / 248).