الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
توظيف الطاقات
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٤
التحميل: 20484
مرات الإستماع: 15448

لماذا الحديث عن توظيف الطاقات؟

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، والحمد له حيث جعلنا خلائف الأرض، وفاوت بيننا في الأرزاق، والمعايش، والقُدَر، والإمكانات، والطاقات، فهو الذي جعلنا خلائف الأرض، ورفع بعضنا فوق بعض درجات ليبلونا فيما آتانا، فله الحكمة البالغة، وله المنَّة، والفضل على جوده، وعطائه، وكرمه والصلاة، والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فإن حديثنا في هذا الدرس عن توظيف الطاقات في فروض الكفايات، وسيكون الحديث منحصراً - إن شاء الله تعالى - في سبع قضايا:

الأولى: لماذا هذا الموضوع؟

والثانية: ما هي الأعمال التي نقصدها في هذا الحديث؟

والثالثة: في بيان أن تفاوت القُدَر، والإمكانات من سنة الله الكونية في خلقه.

والرابعة: في بيان شمول الشريعة، وسعتها، وكثرة جوانب الخير فيها.

والخامسة: في أن كل إنسان ميسَّر لما خلق له.

والسادسة: في بيان دور المربين في هذا الموضوع المهم، وماذا يتعين عليهم إزاء هذه القضية؟

والسابعة: في ذكر بعض المحاذير التي يجب التوقي منها.

أولاً: لماذا هذا الموضوع؟:

إنني سأتحدث في هذا الموضوع لأسباب متعددة، أولها: أن ثَمّة طاقات مبددة مبعثرة، والأمة أحوج ما تكون إليها، وسنعرض لك بصورة حسابية، فنقول: لو أخذنا مثلاً مليوناً من الناس - من الرجال، والنساء - وقلنا: ليتبرع كل واحد بساعة في اليوم الواحد لهذه الأعمال الطيبة الخيرة، فكم ساعة ستكون عندنا في اليوم الواحد؟ سيكون عندنا بكل بساطة مليون ساعة، وسيكون عندنا في السنة ثلاثمائة، وستون مليون ساعة، وهي تساوي خمسة عشر مليوناً من الأيام، وهي تساوي في السنوات قرابة واحد، وأربعين ألفاً، وستمائة، وست، وستين سنة.

ولو تبرع كل واحدٍ ساعةً واحدةً في أسبوعه لكان عندنا من السنوات من هذا الكم من الناس ما يعدل خمسة آلاف، وتسعمائة، واثنتين، وخمسين سنة تقريباً، وكم عمر الإنسان؟ يصل عمر الإنسان إلى ستين سنة، إلى سبعين سنة.

سيكون لدينا خمسة آلاف، وتسعمائة، واثنتان، وخمسون سنة تقريباً إذا تبرع كل فرد من المليون شخص بساعة واحدة في الأسبوع، فلاحظ كم هناك من الطاقات، والجهود، والأوقات المهدرة التي يمكن من خلالها أن نبني أمة!.

الألمان بعد الحرب العالمية لم يبق لهم إلا التراب؛ حيث خربت ديارهم، وهدمت على رءوسهم، ودمرت البنية التحتية، وقد اعترف زعماؤهم أنه لم يبق لهم رصيد سوى الإنسان، والعلم الذي يحمله هذا الإنسان، فاتفقوا على أن يتبرع كل إنسان بساعتين في اليوم الواحد، فما مضى على ذلك إلا عشر سنوات حتى صاروا يزاحمون الأمم المتقدمة في الصناعة!.

وأما المسلمون فكم مضى عليهم بعد أن خرج الاستعمار من ديارهم؟ وماذا أحرزوا من التقدم؟! وما مدى سرعتهم في هذا التقدم؟ وما هي الإنجازات التي حققوها على مستوى الأمة؟!

كذلك لو نظرنا أيضاً إلى مستوى الساحة الدعوية فسنجد تقصيراً كبيراً ظاهراً في هذه الجانب؛ والمشكلة أن الكثيرين يتفرجون، والقلة هم الذين يعملون، ويجتهدون، ويقرنون الليل بالنهار في سبيل نشر الدعوة إلى الله وتكثير المعروف، وتقليل المنكر في سبيل تحقيق مهمة الرسل - عليهم الصلاة، والسلام -.

القلة القليلة هم الذين يبذلون، والبقية تتفرج، وهذا الأمر أدى إلى مفاسد لا تخفى، إذ كثرت البطالة، والكسل، والقعود عن طاعة الله وأُرهق آخرون فشُغلوا شغلاً كثيراً مما أدى إلى تأثير ذلك على إنتاجهم، وجودة هذا الإنتاج في قوة التربية، والبرامج التي تقدم للناس سواء كان ذلك عبر الدروس، والمحاضرات، أو غير ذلك، فصار الإنتاج فيه ضعف بسبب أن هؤلاء الذين يعملون لربما يُطالَبون بكل شيء، فهو الذي يقوم بحل المشكلات في الحي، وهو الذي يعظ الناس، وهو الذي يعلِّم، وهو الذي يقوم على تعليم الخلق في المسجد، وهو الذي يشرف على بعض المشاريع الدعوية، وهكذا في أشياء كثيرة يضيق عنها الزمان، ولا شك أن هذا يؤثر في جودة العمل، والإنتاج، ويؤثر في إتقانه، والله يحب إتقان العمل، ومن ثَمَّ تتخرج نوعيات يظهر عليها الضعف فيؤثر ذلك في مدى الأجيال بالنظر البعيد.

ومن جهة أخرى نحن بحاجة إلى طرح هذا الموضوع؛ لأن الإنسان طاقة هائلة، وقد لا يدرك الإنسان حقيقة ما عنده من الإمكانات، والقُدَر، ولكن لو أنه تأمل، ونظر في حاله في بعض شئونه لأدرك ذلك، فلو قلنا مثلاً: إن الإنسان ليُحصِّل علماً معتبراً يحتاج أن يقرأ ما لا يقل عن عشر ساعات في اليوم لربما استكثر الناس ذلك، ورأوا أنه من ضرب الخيال، ولكن لو أن الإنسان نظر في حاله في أيام الاختبارات على مدى أسبوعين متواصلين فإنه يقرأ مئات الصفحات - ولربما المجلدات - في أيامه، ولياليه، ولربما لا ينام إلا ساعتين فقط، ويتحمل، ويصبر، ولو كانت الطاقة محدودة بيوم، وليلة لانكسر، وضعف، ولم يستطع المواصلة، لكنه يواصل في هذه المدة جميعاً، وهو متماسك، وهذا يدل على أنه يملك قدرة هائلة من الصبر عن النوم، وعن الطعام، والشراب، والراحة، والصبر على الأتعاب، والصبر على طلب العلم، والصبر على العمل الدءوب، والصبر على المشقات بجميع أنواعها، والأمر كما قيل: "على قدر النية تكون الإعانة".

فالإنسان يملك قدرات هائلة قد تظهر له في حال المصائب، ولكنه في حال العافية قد لا يكتشف هذه الطاقات، والإمكانات؛، والمشكلة أن هذه الطاقات إن لم تفرّغ فيما ينفع الإنسان فإنها تتحول إلى ما يضره، وفي أقل الأحوال تتحول إلى أمور لا طائل تحتها من الاشتغال بأنواع الفضول، من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول الأكل، وفضول الشرب، وفضول النوم، وفضول المخالطة، فيُضيع أوقاته بما لا يعود عليه بنفع بل قد يضره، فيجلس المجالس الطويلة من غير حاجة من أناس لا ينتفع بمجالستهم، فهو يضيع الأيام، والليالي في أمور من الفضول تعود عليه بضرر محقق في دينه، ودنياه، وقد يفرغ هذه الشحنة من الطاقة الهائلة في أمور تعود عليه بالوبال في دنياه، وفي أخراه، فيشتغل بما يضره، ويكون سعيه، وتحصيله، وكده، وجده، واجتهاده، وتفكيره، وسهره، وقيامه، وقعوده في أمور فيها ضرر محقق، ولذلك فإن من الذكاء، ومن الحكمة لمن يعنيهم مصالح الناس، وقيام شئونهم في دينهم، ودنياهم على الوجه المطلوب أن يفتحوا المجال على مصراعيه لاستيعاب جموع الناس - لاسيما الشباب - في البرامج الدعوية، وتفريغ ما عندهم من شحنة، وطاقة؛ ليُفرَّغ ذلك في المجال الصحيح الذي يعود على الناس بالخير، والنفع، والمعروف، فهذه هي النصيحة الحقيقة، وليست النصيحة الحقيقة ما يقوله كثير ممن لا خلاق له بأن البرامج الدعوية هي بُؤَر للانحراف الفكري، والإرهاب.

نحن حينما نفتح قلوبنا، ونفتح مشاريعنا الدعوية التي ينتشر عبرها عملُ الخير، وتفرغ طاقات الناس في هذه الأمور فإن هذا يعود بالنفع على الجميع، وهذا شيء يعود عليهم بالبناء الصحيح لإقامة دينهم، وإقامة دنياهم.

ومن جهة ثالثة نحن نحتاج إلى طرح هذا الموضوع من كثرة الطاقات المتميزة المعطلة التي لا تقدم شيئاً مع ما عندها من الإمكانات في مجالات مختلفة، وإنما يكون قيام الأمة بتضافر جميع الجهود الخيِّرة، فيكون البناء مشتركاً من قبل الجميع، والمسئولية مسئولية الجميع، وليست المسئولية ملقاة على عاتق نفر يعملون، ويسهرون من أجل مصلحة الآخرين، إنما هذه المسئولية يجب أن نشترك فيها جميعاً، فهي لا تختص بأحد دون أحد؛ لأن الجميع ينتسب إلى هذا الدين، ويعنيه مصلحته، فيجب أن يقوم لله قَومةً صادقة في العمل بمرضاته، وفيما ينفع به إخوانه، ويتحقق به إعزاز الدين، وإنهاض الأمة مما هي فيه من حرج، وكبوة، حيث، وصلت إلى حالٍ لربما أشفق عليها العدو قبل الصديق.

إن الطاقات المنتجة العاملة ممن يملكون القدرة على العمل، والإنتاج، وهم يعملون حقيقة في الميدان حينما نقارن بينهم، وبين نظرائهم من القاعدين ممن يملكون الإمكانات نفسها، أو أفضل منها نجد بوناً شاسعاً، ولو أن تلك الإمكانات استغلت، وأنتجت لكان الإنتاج، والعمل الصالح مضاعفاً عما هو عليه الآن.

إذا كانت هذه الطاقات القليلة التي تعمل أنتجت هذا الإنتاج الباهر؛ فكيف سيكون حال الأمة لو تضافرت جميع الجهود؟ وكيف يكون حال المجتمع؟ وكيف حال المدرسة التي فيها عشرات المدرسين، والذي يعمل بجدٍّ، واجتهاد، وإخلاص في نصح الطلاب، ويفتح صدره لهم، ويرعاهم مع أنه قد لا يكون إلا فرداً واحداًًً، والبقية لا يهمهم إلا آخر الشهر، حيث يأخذ مرتبه، ومصالح الطلاب، وتوجيه الكوادر التي تقوم عليها الأمة لا تعنيه، فهو يقوم بعمل ممل بالنسبة له، وكأن مصالح الأمة لا تعنيه، وكأنه ليس من أفرادها، ولو كان ذلك في مصلحة قريبة تتعلق بشخصه لربما، واصل الليل، والنهار؛ ليحقق تلك المصلحة، ويحصِّل ذلك الطمع.

ومن الناحية الكمية نلاحظ أعداداً كبيرة معطلة، وطاقات مكدسة لا يُنتفع بها، ومن الناحية الكيفية أيضاً نلاحظ أعداداً من أصحاب التخصصات، والملكات لا ينتفع بها، فتجد الواحد منهم كغيره من الناس ممن لا يملك هذه الطاقة، والقدرة، فهو كجاره العامي الذي لم يدرس شيئاً، ولم يحصّل هذه المعارف، والعلوم، فلا فرق بينه، وبينه إطلاقاً، هذا لا ينتفع بعلمه، وذاك لا ينتفع في هذا الجانب لعدم تحصيله لهذه الإمكانات، فاستوى مع الآخر ممن كان عالماً لها، فأي خير في هذا العلم؟ وأيُّ خير في هذا الذكاء الذي لم ينتفع به لا في قليل، ولا في كثير؟!

كم من طلبة العلم في مجتمعاتنا الإسلامية ممن لا يقومون بما أوجب الله عليهم، ولربما كان بعضهم لا يمانع من المشاركة، ولكن يحتاج إلى من يوجه هذه الطاقة التي عنده، فكم نحتاج إلى مثله، وكم يتذمر الناس، وهم لا يجدون من يجيب على أسئلتهم، ولا يفرغ وقتاً لحل مشكلاتهم، ولربما عبروا عن ذلك بألوان التعبيرات التي تنبئ عن امتعاضهم، وضيقهم، وضجرهم من هذا الواقع الذي لا يجدون فيه أحداً يلجؤون إليه لحل هذه المشكلات، والجواب عن هذه الأسئلة الملحة التي لربما كانت تحتاج إلى جواب في لحظتها، وساعتها، فكم من إنسان وقعت له مشكلة في طلاق، أو في غيره، وامرأته معه في السيارة لا يدري كيف يتصرف، وكم من مسألة فاتت فيها المصالح، أو وقعت بسبب تأخيرها مفاسد لا يعلمها إلا الله فحصل ما حصل بسبب أنهم لم يجدوا أحداً يسألونه في ذلك الحين، فأين طلاب العلم، وهم كثر؟

بعض الناس يحتاج إلى شيء من التوجيه، فمثل هؤلاء لو استُغِلوا، ووجهوا لربما سدوا كثيراً من هذه الثغرات، فهذا يُحسن الإجابة عن الأسئلة، وهذا يحسن حل المشكلات الاجتماعية، وآخر يحسن حل المشكلات الأسرية، وآخر يحسن توجيه الشباب، وآخر لربما يحسن الرد على الهاتف باستقبال المكالمات، ثم تحويلها إلى هذا العالم، أو طالب العلم، والآخر لربما يحسن أن يحضّر الإجابات التي تحتاج إلى بحث، ومراجعة، ودراسة من المصادر، فهو يحسن جمع، وتحرير المعلومات، وأقوال أهل العلم في المسألة، ثم الآخر هو الذي يفتي بها بعد أن ينظر فيها، ويجيب الناس بناءً على ما ترجح لديه.

وليس حديثي عن العلم، ولا عن طلاب العلم، وإنما هذا مثال واحد لطاقات مهدرة مضيعة نحن أحوج ما نكون إليها.

كم من الجهل في القرى، والهجر، بل كم من الجهل في كثير من بلاد المسلمين يحتاج  الناس فيها إلى من يقف بجانبهم ليعلمهم، وعندنا أناس لا ينتفع بهم، كأنهم ليسوا من طلاب العلم، فلماذا كانت هذا الطاقات مهدرة؟ وهي طاقات نحن أحوج ما نكون إليها؛ لأنها تتعلق بجوانب شريفة تتصل بدين الأمة مباشرة، ثم هؤلاء لهم من القبول، والمنزلة في المجتمع - في قلوب الناس - لما يحملونه من هذا العلم الشريف، ومع ذلك كم نفرط، ونضيع مثل هذه الإمكانات، ومثل هذه الطاقات.

هناك طوائف من الفضلاء ممن كان لهم قدم صدق في الدعوة إلى الله لما رأوا أجيالاً ممن جاءوا بعدهم قاموا بكثير من أعباء الدعوة لربما كان ذلك سبباً في تكاسلهم فصاروا من القاعدين، فهم بحاجة إلى تحريك، وبث للحياة فيهم من جديد، وتجديد الدماء في عروقهم؛ لينتفع من خبراتهم، وإمكاناتهم، ونظراتهم الثاقبة، فالدعوة تحتاج لأهل الخبرة، ولا يكفي أن يقوم بها من جمع بين حداثة السن، وقلة العلم مع قلة الخبرة، بل لابد من الاستفادة من خبرات الذين عافسوا الأمور، وعايشوها، وعرفوها فننتفع بما عندهم، وما أولاهم الله - تبارك، وتعالى - به.

وهناك آخرون من الأخيار ممن هو صالح في نفسه لكنه لا يعمل شيئاً لدين الله فهو يحتاج إلى شيء من التوجيه، فيثمر ذلك ألوان الأعمال الصالحة، والمشاريع الطيبة التي نحن أحوج ما نكون إليها.

وهناك آخرون من هذه الأمة ممن فيهم صلاح، وخير، ويحبون الله، ورسوله، وإن كان عندهم تقصير، وإن لم يكونوا بدرجة كافية من التدين، والصلاح في ظاهر حالهم لكنهم من المسلمين، ويهمهم أمر هذا الدين، لكن لا يجدون المجال مفتوحاً أمامهم، بل ربما شعروا بشيء من الوحشة منهم، أو النفرة منهم، أو لربما توهموا ذلك، واستوحشوا من غيرهم من الصالحين اعتقاداً منهم أنهم لا يمكنونهم في هذه المشاريع، والأعمال الصالحة.

والحقيقة أن الأمة تحتاج إلى هؤلاء جميعاً، والعمل لا يختص بأناس دون أناس، وبفئة دون فئة، فالعمل، والواجب أضخم بكثير مما نتخيل، والساحة واسعة لابد فيها من توظيف جميع هذه الطاقات؛ من أجل النهوض المنشود الذي نسعى إلى تحقيقه في إعداد أمتنا، ونقلها من حالها من هذا الضعف، والتخلف حيث صارت طمعاً لكل آسر، وكاسر، فإنها لا تنهض إلا بالاستعانة بالله  والرجوع إلى دينه، وإلى صراطه المستقيم، وأن تتضافر جهود جميع المخلصين على العمل لدين الله - تبارك، وتعالى -.

نحن بحاجة إلى طرح هذا الموضوع؛ لاستيعاب كافة الإمكانات المتاحة التي لا غنى بنا عنها بحال من الأحوال، نحن بحاجة إلى طرح هذا الموضوع بدلاً من إلقاء اللوم فيما بيننا على القاعدين، والمتخاذلين، والمتقاعسين عن العمل لهذا الدين، فبدلاً من أن نلقي اللوم على إخواننا يجب أن نفتح المجال أمامهم، والمشاريع في العمل الصالح لنستوعبهم فيها كلٌّ بحسبه، وبما أعطاه الله وما يسره له، وإذا لم نفكر بهذه الطريقة، ولم نطبق ذلك في أرض الواقع حصلت تلك المفاسد التي أشرت إليها، وحصل هذا الإبطاء الذي نشاهده في إنهاض الأمة، وإعادتها إلى مجدها الذي كانت عليه.

 
ماذا نعني بهذه الأعمال التي يجب أن تتوزع في مختلف طوائف الأمة، وأفرادها؟

هذه الأعمال هي فروض الكفايات؛ لأن الفروض العينية يجب على الجميع، أو من تعينت عليه أن يقوم بها، ولا يُعفَى أحد حينما يتخلى عنها، أو يفرط فيها، فالصلوات الخمس واجبة على الجميع، وصيام رمضان واجب على الجميع، ولكنّ ثَمّة أموراً تجب على الكفاية على بعض الأمة؛ فإذا قام بها هؤلاء سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم بها أهل القدرة فإنهم يأثمون جميعاً؛ لأن الفرض الكفائي هو ما طلب الشارع إيقاعه بغض النظر عن فاعله، فإن وجد من يقوم به على الوجه المطلوب بَرِئتْ الذمة، وحصلت السلامة للأمة، وصاروا في حل، وسَعَةٍ من الله - تبارك، وتعالى - وأما إذا حصل التفريط فيه، أو الإهمال، والتضييع، والتقصير فإن الإثم يتوجه على جميع القادرين، وإنما يكون ذلك في الأمور التي لا تتكرر مصلحتها بتكرارها، فهذه هي حقيقة الفروض الكفائية، فإنقاذ الغرقى، ودفن الموتى، والصلاة على الجنائز، وإغاثة الملهوفين، ونصر المستضعفين هذا كله من فروض الكفايات، فإذا قام به بعض الأمة فإنه لا مصلحة بتكراره في المحل نفسه للفئة نفسها؛ إذ قد حصل المقصود، وهذا بخلاف فروض الأعيان؛ فإن الله تعالى أوجب علينا الصلاة، والمصلحة أن نكررها كلما دخل الوقت، وأن يقوم بذلك كل أحد ممن توجه إليهم التكليف، فهو من أهل هذا الفرض.

وحينما نقول: إن فروض الكفايات تتوجه إلى جميع القادرين فإذا قام بها البعض على الوجه المطلوب سقط الإثم عن الباقين فإن هذا التوجه يتفاوت فيه الناس، فقد يكون في حق البعض آكد منه في حق البعض الآخر، والعاجز يسقط عنه ذلك، وأهل الولايات يلزمهم من ذلك أعظم مما يلزم غيرهم من عامة الناس، وإذا لم يتحقق ذلك، ولم يقم به المسلمون على الوجه المطلوب فإنه يجب أن تتضافر الجهود جميعاً على إقامته، وتحقيقه.

وقد يكون ذلك متعيناً في بعض الأحيان على فئة معينة؛ لأنه لا يحسنه سواهم، وهذا بحسب الزمان، والمكان، فقد يكون في هذا البلد لا يحسن أحد تغسيل الجنازة إلا شخص واحد، فيتعين عليه تغسيل الجنائز، وقد يكون في هذا البلد لا يحسن أحد التعليم إلا فلان فيجب عليه أن يُعلّم، وقد يكون في هذا البلد لا يحسن أحد استعمال هذا النوع من السلاح في الجهاد في سبيل الله إلا فلان فيتعين عليه هذا الجهاد، وهكذا في كل شأن من هذه الشئون التي قد يتوجه الخطاب فيها إلى فئة معينة؛ لأنهم هم الذين قد تأهلوا لذلك دون غيرهم.

وإذا تزاحمت هذه الفروض الكفائية، وتكاثرت، وضاق الأمر على الناس ما الذي يقدمونه منها؟ يجب عليهم أن يقدموا الأهم، والآكد، وقد أحسن من قال:

إنّ اللبيبَ إذا بدا من جسمِهِ مرضانِ مختلفانِ داوى الأخطرا

فلتُحصَّل أعظم المصالح، ولتُدفَع أكبر المفاسد، أما حينما يُترك الواجب الكفائي الآخر الذي لم تتمكن الأمة من القيام به من غير تقصير منها فإن تركه في هذه الحال - حين التزاحم - لا يكون تركاً لواجب، ولا تأثم الأمة إن لم يكن ذلك بسبب تقصيرها، وهذا أمر يُحتاج إلى معرفته لاسيما في أزمنة الغربة.

وأما الضابط الذي يحصل به سقوط هذا الفرض عن الناس فهو غلبة الظن، فإذا غلب على ظنهم أن طائفة من الناس قاموا بهذا الواجب فإنه عندئذٍ يسقط عنهم، ولا يجب عليهم أن يتحققوا من أنه قد تحقق، ووجد.

أيهما أفضل الواجب الكفائي أم الواجب العيني؟

بعض أهل العلم كالنووي يقول: الواجبات الكفائية أفضل، وأعظم عند الله  لأن أهلها يقومون بالتعبد عن أنفسهم أصالة، وأسقطوا التبعة عن سائر الأمة، وهذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يرى أن الواجبات العينية أفضل؛ لأن الله طالب بها الجميع، فصلاة الفريضة أعظم، وأهم من صلاة الجنازة مثلاً.

 
تفاوت القدرات

تفاوت القدرات أمر لا ينكر، وهو سنة إلهية موجودة في الخلق اقتضتها حكمة الله حيث خلق الخلق في غاية التفاوت في الصور، والهيئات، والألوان، والصحة، والمرض، والضعف، والقوة، والغنى، والفقر، وأوجب لهم هذا التفاوت تفاوتاً في الهمم، والإرادات، والميول، والنزعات، والرغبات، كما أوجب لهم تفاوتاً في الفهوم، والإدراكات، والملكات؛ كل ذلك لحكم عظيمة تقوم بها حياة الناس، وتتحقق مصالحهم، ويُسخَّر بعضهم لبعض، ويحاسبهم الله بعد ذلك بحسب ما أعطاهم، وأولاهم من هذا الإفضال، والإنعام، فالغني لا يحاسب كما يحاسب الفقير، والذكي لا يحاسب كما يحاسب البليد، والصحيح لا يحاسب كما يحاسب المريض، والعالم لا يحاسب كما يحاسب الجاهل، فالتبعة تعظم، وتكبر بحسب ما أُعطي الإنسان، وما أولاه الله - تبارك، وتعالى - من إنعامه، وإفضاله، كما قال الله - تبارك، وتعالى - مبيناً هذا المعنى، وهذا التفاوت، وهذا الإفضال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا [32 سورة الزخرف].

ويقول في آخر الأنعام مبيناً هذا المعنى البديع: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [165 سورة الأنعام] فينتج عن هذا التفاوت تفاوت في التحصيل، وتفاوت في الإنتاج، وتفاوت، وتنافس في ألوان العلوم، والصنائع، ويحصل بذلك بناء الأرض، وعمارة الكون، ويحصل بذلك إقامة الدين، والدنيا، ومصالح الناس، ومعايشهم، وما يحتاجون إليه.

وقد اقتضت حكمة الله ألا يصب الناس صبة واحدة، وألا يجعل ميولهم واحداً، فلو كان كلهم يميل إلى الجوانب العلمية فمن يقوم بالأعمال المهنية؟

ولم يوجه ربنا - تبارك، وتعالى - قُدَر الناس، والملكات إلى الجوانب المهنية، كما أنه لم يوجه إلى جانب معين من هذه الجوانب المهنية، فهذا همته في الصناعة، وفي نوع أنواع الصناعة، وهذا همته في العلم، ونهمه فيه، وله القدرة على تحصيله، ولكنه يرغب في لون من ألوان العلوم، ويبدع فيه غاية الإبداع، ولو وجه إلى غيره لربما فشل فشلاً ذريعاً.

فأبواب الأعمال كثيرة جداً، وطرق الخير لا تحصى، فينبغي أن ندرك هذا التفاوت الذي خلق الله الناس عليه، وأن نلاحظ ذلك في أنفسنا، وفي غيرنا لدفع الملامة، ولتوجيه الطاقة، وللانتفاع بما عند الآخرين؛ فإن الرجل الناجح هو الذي يستطيع أن يوظف أكبر قدر من الطاقات بمجالها الصحيح، وهو الذي يضع الإنسان في المكان الذي يناسب له فيُنتِج، وهو الذي يستطيع أن يُشعر الآخرين أنهم يمكن أن يكونوا ناجحين في الحياة، وأن لهم دوراً ريادياً يستطيعون أن يخدموا دين الله بكل جدارة، فلا يكرس في نفوسهم الجدل، والشعور بالفشل، والإحباط، فإن هذا قصور في النظر لا يصلح لمن تصدى لتوجيه الناس، وتعليمهم، وأراد أن يستغل ما عندهم من إمكانات، وطاقات.

قسمة الأعمال كقسمة الأرزاق:

انظر إلى هذه الرسالة البديعة، هذا رجل يقال له: عبد الله العمري؛ أرسل إلى الإمام مالك رسالة يطالب فيها الإمام مالك - رحمه الله - أن يتوجه إلى التوجه نفسه الذي توجه إليه هذا الرجل، حيث كانت همته في العبادة، والزهد، وفي كثرة الركوع، والسجود، والصيام، والقيام، والأذكار، والإمام مالك عالم يعلم الناس، ويجلس لهم، ويفرغ لهم كثيراً من وقته، وهذا عمل يُحتَاج إليه، ولابد منه، فلما كتب إلى الإمام مالك يطالبه بالتفرغ للعبادة، والانقطاع للزهد، والذكر، والأوراد؛ ردَّ عليه الإمام مالك بردٍ بديع قال فيه: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشْرُ العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير".

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - سئل عن الأسباب التي يتقوى بها الإيمان فماذا قال؟ قال: "الناس يتفاضلون في هذا الباب"، فلم يقل: العمل الفلاني هو أعظم ما يقوي الإيمان، وما قال: العمل الفلاني هو أفضل الأعمال على الإطلاق فعليك به، بل قال: "الناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد - يعني فهو الأفضل في حقه - ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه من غيره، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما - من الزهد، ومن العلم - فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال الله تعالى - : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [16 سورة التغابن] وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله، وهو عليه أقدر - يعني هذا الإنسان - فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل"، فلو أنه قال: العلم أفضل من نوافل العبادة، لكنه لا يستطيع أن ينتج في العلم، وإذا حضر في مجلس العلم نام، فمثل هذا إذا قام يصلي تحركت نفسه، ونشط للعبادة؛ فما هو الأفضل في حقه؟ لا شك أن الأفضل أن يتعبد، وهذا فيما زاد عن القدر الواجب للعلم، وهكذا قد يكون بعض الناس همته في المنافع المتعدية مثل إغاثة الملهوفين، وإطعام الجوعى، والقيام على الأرامل، والأيتام، وما إلى ذلك، فهذا العمل عمل فاضل، والاشتغال بالعلم أفضل من هذا، لكن هذا الإنسان لو جاء إلى مجلس العلم نام؛ فما هو الأفضل في حقه؟ الأفضل في حقه أن يشتغل في هذه الأمور، وأن يكون سعيه، وجده، ودأبه في تحصيلها، وتكميلها.

يقول شيخ الإسلام: "فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقاً إذا كان متعذراً في حقه، أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له، وأنفع، كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره، وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأي عمل كان له أنفع، ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له"[1].

ويقول تلميذه ابن القيم - رحمه الله -: "فمن الناس من يكون سيد عمله، وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم، والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، قد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، ومن الناس من يكون سيد عمله، وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان، والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وأنواع الصدقات، ومن الناس من يكون طريقه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله تعالى في كل وادٍ، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل، وظائف عبوديته قبلةَ قلبِه، ونصب عينه يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، وقد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية، وجدتَه هناك، وإن كان علمٌ وجدته مع أهله، أو جهادٌ، وجدته في صف المجاهدين، أو صلاةٌ، وجدته في القانتين، أو ذكرٌ، وجدته في الذاكرين، أو إحسانٌ، ونفعٌ، وجدته في زمرة المحسنين، يدين بدين العبودية أنَّى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت"[2].

لكن هذا قليل في الناس، إذ أن الكاملين من كل وجه في كل جانب من هذه الجوانب الذين يستطيعون أن يزاحموا المتفوقين فيها - فيزاحموهم في الأكتاف - هؤلاء فئة نادرة، وقليلة، وسنة الله في الخلق أن الناس يحصّلون جوانب في الغالب، وتضيع عليهم جوانب، أو تضعف عندهم، ويحصل لهم فيها ضمور، فهذا همته في أعمال صالحة تتعلق بالزهد، ولكنه ضعيف في العلم، وهذا همته في العلم، وهو ضعيف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وآخر همته في الجهاد في سبيل الله ولكنه لا يصلح للتعليم، أو لا يصلح لطلب العلم، وهكذا، حتى إن ابن الجوزي - رحمه الله - يقول: "سبرت أحوال السلف فما وجدت أحداً قد تفوق منهم في جميع المجالات سوى ثلاثة يقول: وإن شئت أن تزيد عليهم رابعاً فعلت".

ثلاثة، أو أربعة من السلف مع ذكائهم، وهمتهم، وصلاحهم، وجدهم في طاعة الله هؤلاء الذين تفوقوا في جميع المجالات. 

  1. مجموع الفتاوى (ج 7 / ص 651 – 652).
  2. انظر كتاب: طريق الهجرتين لابن القيم (ج 1 / ص 280).
بيان شمول الشريعة، وكثرة أبواب الخير

هذه حقيقة شرعية، إذ أن من فضل الله على هذه الأمة أن وسع لها في الأعمال الصالحة، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - شبه هذه الشريعة في سعتها بالشرائع المتعددة، فإذا نظرت إلى جانب الصدقات، والعبادات المالية؛ وجدت باباً واسعاً، وإذا نظرت إلى الجوانب التعبدية البدنية من صلاة، وصيام، وما إلى ذلك؛ وجدت باباً واسعاً، بل في الصلاة من التنوع ما لا يخفى على أحد، وفي الصيام من ألوان العبادات المتعلقة بهذا الجانب ما لا يخفى، ثم إذا نظرت إلى أبواب العلم، والتعليم، وكثرة العلوم؛ وجدت باباً واسعاً، وإذا نظرت إلى مجالات الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وجدت باباً واسعاً، وإذا نظرت إلى سائر وجوه البر من قيام على الضعفاء، والمساكين؛ وجدت باباً واسعاً، فهذه الشريعة بمنزلة الشرائع المتنوعة.

وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ أنه قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان قال أبو بكر الصديق لما سمع النبي ﷺ يقول ذلك: يا رسول الله، ما على أحد يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله ﷺ: نعم، وأرجو أن تكون منهم[1].

والمقصود بهذا الحديث ما زاد على القدر الواجب، إذ أن القدر المتعين على جميع المكلفين يجب عليهم أن يقوموا به، وإنما هؤلاء تميزوا بكثرة الصلاة، أو تميزوا بكثرة النوافل في الصيام، أو تميزوا بكثرة الصدقات التطوعية فعُرفوا بذلك، ومَنْ أكثَرَ من شيء عُرِفَ به.

وإذا عرفت تفاوت الطاقات، وسعة الشريعة فأقول بعد ذلك: لا عذر لأحد، فمجالات الخير كثيرة جداً، ومهما كان الإنسان في قلة إمكاناته، في فقره، أو في ضعف علمه، أو في قلة مهاراته العقلية، أو في ضعف بدنه؛ فإنه يستطيع أن يقدم لهذا الدين الشيء الكثير.

ما الذي تملكه؟

هناك مجالات كثيرة تحتاج الأمة إليها، فمن كان يجيد لغة من اللغات الأجنبية لماذا لا يذهب إلى مكاتب توعية الجاليات، ويسجل اسمه، ويقول: أجيد هذه اللغة، وهذا رقم الهاتف، متى ما احتجتم إلى ترجمة سواء كانت ترجمة محاضرة، أو كان هناك رجل يريد الإسلام، أو رجل تريدون توجيه الدعوة إليه؛ فاتصلوا عليّ، بدلاً من أن يبقى هؤلاء يبحثون عن أحد، وقد لا يجدون، قد تكون هذه اللغة يقل من يتقنها، ويستطيع هذا الإنسان أن يترجم بعض المطويات، والمقالات، والكتيبات، ثم تنشر بعد ذلك، وينتفع بها الناس، يستطيع أن يترجم هذه الأشياء، وينشرها عبر شبكة الإنترنت، ولا يحتاج إلى أموال للطباعة، ووسائل للتوزيع، والشحن، وما إلى ذلك، بل يترجم هذه المقالة التي أعجبته، أو الرسالة، أو المطوية فيضع ذلك لينتفع به خلائق لا يحصيهم إلا الله - تبارك، وتعالى -.

هذا الإنسان الذي قد تخصص في الطب لماذا لا يعرض هذه الخدمات على هذه المؤسسات الخيرية التي تتيح لنا اليوم الكثير من مجالات العمل؟

لو ذهب هذا الطبيب، وقال: أنا أحسن هذا النوع من الطب، وأستطيع أن أسافر معكم في برامج دعوية، وأقدم الدعوة إلى الله عن طريق علاج هؤلاء المرضى من الناس.

قد تفتح هذه الجمعيات الخيرية عيادة صغيرة عبارة عن غرفة، يتناوب عليها أطباء ساعة في اليوم الواحد، تبرع بساعة لا أقول في اليوم الواحد بل في الأسبوع، فهذا طبيب في العيون، وهذا طبيب في الباطنية، وهذا طبيب في الأعصاب، وهكذا، فيأتي الفقراء الذين ترعاهم هذه الجمعية، ويُعالَجون مجاناً، حيث يعرفون أن الطبيب الفلاني يوجد في الساعة الفلانية من أيام الأسبوع، يعالجون مجاناً، فهذا عمل طيب يفرج عن الناس كثيراً، فالطبيب يستطيع أن يمسح على آلام الناس، فالناس يتأثرون من الطبيب جداً، والمريض يتعلق بالقشة، فإذا وجد من الطبيب إصغاء، واهتماماً بشئونه، وتطميناً له اطمأن إليه قلبه، وأحبه، وأحب ما يحمله من دعوة، ودين، ولربما أسلم على يده إذا كان هذا الإنسان غير مسلم، ولربما تاب على يده، وتأثر به غاية التأثر.

كما أن هذا الإنسان قد يكون من المعلمين كمعلم رياضيات، أو لغة عربية، أو غير ذلك، فيتفق مع إمام المسجد، ويقول: لا مانع عندي من بذل ساعة في اليوم، أو نصف ساعة، أو ساعة في الأسبوع لأدرس أبناء الحي الذين لديهم قصور في هذه المادة، فيجلس لهم، ويعلن عن ذلك في المسجد، ويأتي كل طالب في الحي بكتابه، ويحدد القضايا التي لم يفهمها، ويقدم له خدمة فيشرحها له بدلاً من أن يكون كاسداً لا ينتفع به، وبهذا يصبح الناس يدعون له، ويؤجر على هذا، وخاصة أن ذلك لا يكلفه كثيراً، بل أكثر من هذا أنه قد يكون هذا الإنسان من أصحاب المهارات الرياضية، يتقن بعض الألعاب، والقُدَر في الدفاع عن النفس، فيمكن له أن يأتي إلى بعض الأنشطة، والمشاريع الخيرية، والمراكز الصيفية، والمكتبات، والجمعيات الخيرية، ويقول: يمكن أن نفتح فرعاً للتدريب على هذه الألعاب - ألعاب الدفاع على النفس - ويكون ذلك سبباً لجذب كثير من الشباب إلى هذه الأنشطة، فينفع هذا الإنسان غيره، ويكون سبباً لتحريك، وتجديد النشاط في مثل هذه الأعمال، والأماكن التي يتعاون فيها الناس على البر، والتقوى.

وقد يكون هذا الإنسان من الخطاطين فيذهب إلى الإخوان في مركز الدعوة، أو في الجمعيات الخيرية، ويقول: أنا مستعد أن أطبع لكم مجاناً، أو أن أخط لكم الإعلانات، فكل من قرأ الإعلان للمحاضرة، أو الندوة، أو المؤتمر، أو نحو ذلك يكون له من هذا الأجر نصيب مع أنه عمل بسيط، ولا أقول: يفرغ نفسه لهذا بل ساعة في الأسبوع، أو ساعتان في الأسبوع، أو ساعة في اليوم الواحد، ويعتذر عما زاد على ذلك.

وقد يكون هذا الإنسان لديه مهارات في الحاسوب، ويستطيع من خلاله أن يطبع الدروس العلمية، والمحاضرات فيأخذ المحاضرة، ويفرغها، ويطبعها، ثم تنشر في الإنترنت فيقرؤها أكثر ممن سمعوها.

قد يستطيع هذا الإنسان أن يبرز في الإنترنت، فمن الممكن أن يصمم مواقع دعوية، أو أن ينقل الدروس، أو المحاضرات، فكل من سمع فهو شريك في الأجر، وقد لا يستطيع هو أن يلقي هذا الدرس لكنه شريك في الأجر، فلاحظ كيف أنه عمل عملاً بسيطاً لكن أثره عظيم عند الله وهذا العمل لا يكلفه مالاً.

وقد يعتذر بعض الناس فيقول: ليس عندي مال أتصدق به، فنقول: هو يستطيع أن يقدم دعوة عبر شبكة الإنترنت، كما يستطيع أن يضع بعض الروابط، ويطوِّف في المواقع الطيبة، ثم يحيل في الساحات، وفي غيرها إلى مقالات جيدة، وموضوعات مهمة مفيدة، ويرشد الناس إلى قراءتها، والوقوف عليها، فيؤجر على دلالته على هذا الخير.

كما أن هذا الإنسان قد يفتح موقعاً للاستشارات، وقد لا تتخيلون أثر هذه الأشياء، لكن هناك طوائف من البشر يعيشون في حالة بائسة، لا يجدون التوجيه، وعندهم حرقة في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله وإقامة شرائع الدين، لكن ليس لهم خبرات، فهم في بداية الدعوة، وإن كان عندهم حرص، وإخلاص إلا أنهم  ليس عندهم خبرة، ولا علم، وقد لا يكون عندك شيء من العلم لكن افتح هذا المكان، واتفق مع من تستطيع أن تصل إليهم من أهل المهارات؛ فهذا يستطيع أن يقدم لك بعض الأشياء في القضايا الدعوية، وهذا يستطيع أن يقدم لك بعض الآراء في إنشاء المقرات، والجمعيات، وهذا يستطيع أن يقدم بعض الآراء في الجوانب المتعلقة برعاية الضعفة في المجتمع، وهذا يستطيع أن يقدم أشياء في طريقة التعلم، والتعليم، وبم يبدأ في المنهج العلمي؟ وبم ينتهي؟ وكيف يتدرج ...الخ، وآخر يستطيع أن يقدم له حلولاً في بعض المشكلات التي تواجه الإنسان في عمله، وسيره إلى الله وهكذا، فيتفق مع هذا، وهذا، وهذا، ثم يعرض عليهم ما جاءه من أسئلة، نريد أن نقيم مركزاً؟ نريد أن نقيم جمعية؟ ما هي الأشياء التي نحتاج إليها؟ فيأخذ المعلومات من هؤلاء، ثم يقدمها لهؤلاء الذين ينتفعون بها، فيصير هو سبب الخير، ويجريه الله  على يده، وهؤلاء في شرق الأرض، وغربها.

قد يكون تمام هذا العمل عن طريق التعليم، فيمكن مثلاً لمعلم القرآن، أو غير معلم القرآن أن يجلس أمام الإنترنت، ويربط بين معلمين هذا في المغرب، وهذا في باكستان، والثالث في السودان، والرابع في بورما، ويحدد وقتاً معيناً مثلاً، ثم يعلن عن ذلك، ويأتي الطلاب، ويسجلون، ويوزعهم على هؤلاء في غرف معينة بطريقة معينة معروفة، ثم يقرؤون على الشيوخ في شرق الأرض، وفي غربها، والتلاميذ في مساحة الأرض جميعهاً ينتشرون، وللعلم فإن هذا أمر موجود، ومطبَّق، فبعض الإخوان يقيم درساً في الإنترنت يومياً، أو أسبوعياً، وبنظام معين من تحديد فصل دراسي، وإعداد كشف للحضور، والغياب، وهو جالس في بيته، هو قد لا يستطيع أن يقيم درساً في المسجد لكن يستطيع أن يقيم درساً في هذه الشبكة، فهناك مجالات كثيرة جداً من الخير ينبغي الحرص عليها، وعدم التفريط فيها، أو استصغارها.

قد يقول قائل: أنا من أصحاب الأعمال المهنية فماذا يمكن أن أفعل؟

أقول: تستطيع أن تخدم الدين، فما هي مهنتك؟

إن كنت نجاراً، أو سباكاً، أو كهربائياً مثلاً فاذهب إلى المقرات، والجمعيات الخيرية، وقل: أنا مستعد أتبرع بساعة في الأسبوع، اذهب إلى بيوت الفقراء، وأصلِحْ ما فسد عندهم من هذه الأشياء.

قل: هذه التبرعات التي تأتيكم من أفران، وأجهزة كهربائية، والتي بعضها معطلة أنا أستطيع أن أفرغ لكم يوماً في الأسبوع، أو عصرية، وأصلح لكم هذه الأجهزة، ولو كان عندك متجر قطع غيار فمن الممكن أن تتفق معهم، وتقول لهم: ما تحتاجون إليه من قطع غيار للصناعة الفلانية، أو الجهاز الفلاني أنا أعطيكم إياه مجاناً، لتُدفع هذه الأشياء إلى الفقراء.

إن كنت نجاراً فيأتيهم أثاث فتقول: أنا أتبرع لكم بنصف يوم في الأسبوع، أو في الشهر، وأصلح هذا الأثاث الذي انكسر، وينتفع به الفقراء؛ لماذا لا تفعل هذا في سبيل خدمة الدين؟!

قد يقول الإنسان: أنا عندي مقاولات، فما عساي أن أفعل؟

أقول: تستطيع أن تخدم الدين، فالمدارس النسائية في المنطقة هنا مثلاً بالعشرات، والصيانة تمثل عبئاً كبيراً، ولا نطلب منك أن تتبرع بالمال، بل نريد منك يوماً واحداً فقط ترعى صيانة مدرسة واحدة، أو اثنتين بحسب ما عندك من إمكانات، ففلان يتولى صيانة المدرسة الفلانية، والآخر يتولى المدرسة الفلانية، والثالث كذلك.. الخ.

كم عندنا من شركات مقاولات، ومؤسسات للصيانة، والتعمير، والإنشاءات؟ كثيرة جداً، فلو تبرع عشرة من هؤلاء لانحلت مشكلة صيانة الأعمال، والمشاريع، والمدارس الخيرية، وهكذا قد يكون عند الإنسان خبرات في مجالات معينة كوضع مناهج مثلاً فكم من الجمعيات، والمؤسسات الإسلامية، والمدارس بحاجة إلى مناهج، كذلك إقامة دورات علمية هنا، وهناك يشارك فيها الشخص في الداخل، وفي الخارج، في القرى، وفي المدن.

قد يكون عندك خبرات إدارية، ويوجد عندنا جمعيات، ومؤسسات تعمل بجد، ونشاط، ولكنها تحتاج إلى تطوير من الناحية الإدارية، فيتضاعف إنتاجها، فلماذا لا تأتي إلى هؤلاء، وتقدم لهم خبرات، واستشارات فينتفعوا بذلك؟ المطلوب فقط ساعة واحدة في الأسبوع، أو عبر الهاتف يتصلون عليك ليعرضوا عليك بعض الخطط، والمشاريع السنوية، أو غير ذلك، ثم تكتب لهم بعض الملحوظات.

وقد يقول الإنسان: أنا لا أصلح لا لهذا، ولا لهذا، فما عساي أن أصنع؟

أقول: خذ إعلانات للمحاضرات، وألصقها على المساجد، والحقيقة أن كثرة الإعلانات للمحاضرات يمثل عبئاً كبيراً، فلو قام بهذا بعض الشباب لانحلت مشكلة كبيرة.

قد يكون الإنسان يحسن الاستقبال، والحفاوة بالمشايخ، والمشايخ يأتون من مناطق مختلفة من خارج البلد - خاصة في الدورات العلمية - وهذا يحتاج إلى جهد كبير، فيمكن أن يتفرغ له أناس، فيذهب مع هذا الشيخ، ويأتي به إلى الفندق، ويجلس معه، ويذهب به إلى الدرس، يذهب به حيث شاء، ويقول: أنا مستعد أن أكون وقفاً لمدة أسبوع، أو أسبوعين لهذا الشيخ، فيذهب به، ويجيء، أي أنه يتكفل بهذا الجانب، فقد يقول: أين أجد هذا؟ أقول: اذهب إلى الذين يشرفون على الدورات، اذهب، وقدم خدماتك، اعرض خدماتك على هؤلاء.

قد يقول هذا الإنسان: أنا عندي قدرة على الإلقاء لكن ليس عندي وقت لتحضير المادة العلمية، فنقول: هناك آخرون يمكن أن يجمعوا المادة العلمية، ويقدمها آخر، فنوزع الأدوار، قد يقول إنسان: أنا عندي قدرة على الإلقاء الجيد الجذاب في المناسبات، أقول: نعم هناك حفلات تقيمها المؤسسات الخيرية، ومكاتب الدعوة، وهناك مناسبات كثيرة جداً تستطيع أن تدير فيها هذا الحفل، وتكون أنت المقدم فيه، وقد تقدم في الأشرطة الإسلامية - في أولها - كلمة بين يدي الشريط فتؤجر على هذا.

وقد يقول الإنسان: أنا أستطيع أن أفرغ الأشرطة، نقول: هناك دروس كثيرة، ومحاضرات تحتاج إلى تفريغ، وقد يقول هذا الإنسان: أنا عندي قلم سيال أستطيع أن أكتب، نقول: اكتب رسائل تتضمن نصائح لفئات من المجتمع، ثم يقوم آخر بطبعها، ويقوم آخر بتوزيعها.

إن نصر الدين لا عذر لأحد في القعود عنه، والقضية لا تتعلق بفئة معينة من الدعاة، أو المتدينين، فنحن جميعاً ننتسب إلى الإسلام.

وأبو محجن الثقفي كان يشرب الخمر، ويدمن على ذلك، وهو شديد التعلق بها؛ حتى إنه قال:

إذا مُتُّ فادفِنِّي إلى جنبِ كَرمةٍ تُرَوِّي عظامي في المماتِ عروقُه
ولا تدفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني أخافُ إذا ما مُتُّ ألا أذوقـها

حتى بعد الموت يريد أن يشرب الخمر، فيقول: لا تدفني في الصحراء بل ادفني تحت شجرة عنب؛ لأن الخمر يعصر من العنب، يقول: من أجل أن تُروِّي عظامي في الممات عروقُها، ومع ذلك لما كانت القادسية، ورأى كتائب الفرس تفل صفوف المسلمين، وكان محبوساً، وتعرفون ما وقع بينه، وبين امرأة سعد بن أبي وقاص حيث كان يلح عليها أن تُطلِقه، ويعاهدها العهود أن يرجع، ويضع القيد في رجله إذا سلم، فأخذ فرس سعد وصار يغير على جيوش الفرس، وعلى كتائبهم فيفلها، وكان سعد بن أبي وقاص يقول: "الضرب ضرب أبي محجن، لكنّ أبا محجن في الحبس"!!.

فانظر كيف كان سبباً لنصر المسلمين في وقعة القادسية، وهو رجل مدمن شرب الخمر، فما قال المسلمون: هذا رجل لا نحتاج إليه، وما قال هو: أنا مسرف على نفسي، لا أريد أن أقدم شيئاً، ولا أصلح لشيء، لا، بل تسبب في نصر عظيم لا زلنا نردده، ونتغنى به.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة – باب: قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلاً (3466) (ج 3 / ص 1340)، ومسلم في كتاب: الزكاة – باب: من جمع الصدقة، وأعمال البر (1027) (ج 2 / ص 711).
كلٌّ ميسر لما خلق له

الهمم متفاوتة، والقدرات متباينة، والله فاوت بيننا في ذلك لحكمة يعلمها هو، وجعل لنا من الاستعدادات ما يميز به بيننا، فهذا له همة عالية في جانب، وباب من أبواب الخير، وهذا له همة في جانب آخر، وقلَّ أن يجمع الإنسان هذه الأبواب، فينبغي للإنسان أن ينظر فيما فُتح له فيه من العمل الصالح، ويوجه همته، وعمله، ونهمته في الإجادة في هذا المجال، وما فُتح عليه فيه، وأن يقدم للأمة عبر هذه النافذة، أو الباب الذي يسره الله له، ولا يكون سعيه، وجدُّه في أمر لا يحصل من ورائه كبير طائل إما تقليداً للأقران، ومنافسة لهم، ومغايرة، أو أنه يفعل ذلك لما سمع من شرف هذا العلم، أو العمل، فيريد أن يحصل فيه، ولكنه لا يستطيع ذلك، فينبغي على الإنسان أن يدرك ما عنده من إمكانات، وطاقات، ويوجه عمله، وسعيه، وكده في تحصيل ما يستطيع أن يخدم دين الله فيه، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاها [سورة الطلاق: 7] فالمتربي يتعين عليه إدراك هذا المعنى.

والصحابة كانوا في غاية التفاوت، فأُبيّ بن كعب من المقرئين، وبلال مؤذن، وخالد بن الوليد قائد، وعلي كان بارعاً في القضاء، وهكذا معاذ بن جبل كان من العلماء الراسخين، فمن الخطأ أن يحقر الإنسان نفسه، أو أن ينظر من زاوية ضيقة بحسب ما شاهد من هذا المربي، أو القدوة الذي تأثر به، فأراد أن يكون مثله في الجوانب التي تفوَّق فيها، وهو لا يستطيع ذلك، فيسبب ذلك له فشلاً، ويسبب له ذلك إحباطات تقعده عن العمل، ولو بعد حين، فقد يجاهد الإنسان، وقد تكون هذه المجاهدة بسبب منافسة الأقران، فهو لا يريد أن يسقط لأول وهلة، فتتغير نيته، ويفسد عليه عمله الصالح، مع أنه لا يستطيع أن يحصّل كبير مطلوب، لكن يستطيع أن يبدع في جوانب أخرى.

فهذا الإنسان الذي تراه أسداً في الجهاد في سبيل الله أو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لربما أتيت به في مجلس العلم فنام، وضعف، ولم يعِ شيئاً، وآخر تجده طاقة هائلة فيما يتعلق بتوجيه الشباب، وإرشادهم، وإصلاح حالهم، وهو مستعد أن يفرغ الأوقات الكثيرة لهذا، وعنده إمكانات، وجاذبية لكنه لا يصلح في جانب العلم، فمن الخطأ أن يترك هذه الإمكانات، ويتخصص في العلم، وهو لا يحسنه، ولا يحصّل فيه كثيراً.

 
الإشارة إلى دور المربين

وهو أن هذه الإمكانات، والمهارات بمنزلة الزرع، فهو يقوى، ويشتد بأمرين:

الأول: قابلية المحل، والثاني: القيام عليه بالتعاهد، والسقي، والرعاية، وإزالة الشوائب عنه.

فالمربي ينبغي عليه أن ينظر في حال هؤلاء المتربين عنده، ماذا يحسنون؟ وما هي الأشياء التي يمكن أن يتقنها هذا، وهذا، وهذا؟

فمن الخطأ أن يحطِّم واحداً منهم في جانب من الجوانب الخيِّرة التي يمكن أن يبدع فيها، والمتفرس الذي يستطيع أن يعرف ما عند الناس من إمكانات في وقت مبكر سيكون أقدر على تحقيق النجاح من غيره، وعلى صقل مواهب الناس، وتخريج الطاقات الهائلة ليكونوا قادة في كل مجال من المجالات الخيرة، فيوجد عندنا دعاة كبار، وهم أئمة يتخرجون من المحاضن التربوية، ويوجد عندنا رءوس في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويوجد عندنا أصحاب خبرات في المجالات العلمية، أو التربوية، أو الدعوية، فنستطيع أن نكتشف مواهب هؤلاء الناس، ونستطيع أن نعرف ميولهم.

ففي البداية نربي الجميع تربية شاملة على طاعة الله  ونقلهم من المعاصي، والذنوب، والتشاغل بما لا ينفع، فإذا رفعناهم هذه الدرجة، وجّهناهم بعد ذلك إلى ما يحسنون من العلوم، والمعارف، والتخصصات، والأعمال، ففلان يوجه إلى العلوم الشرعية، ثم يوكل إلى أهلها؛ لأن هذا الإنسان المربي ليس أستاذاً في كل شيء؛ هو جيِّد في جانب لكن تنقصه جوانب أخرى، فلا يستقيم بحال من الأحوال أن يظن أنه يستطيع أن يصقل مواهب هذا الإنسان في الجوانب الأخرى التي هو ضعيف فيها، وإنما يوكل هذا الإنسان إلى أهل هذه المهارة، والحذق في هذا الفن، فإن كان عنده ميول في الحسبة يوكل إلى أهل الحسبة، وإن كان عنده ميول في جانب من جوانب العلم الشرعي يوكل إلى أهله فيصقلون مواهبه، ويعلمونه، ويستخرجون هذه القدرات الكامنة فيه، فيكون عالماً من علماء المسلمين، أما أن يبقى، وهو لا يجد متنفساً، ولا يجد من يشعر باهتماماته، ويقدّر ميوله، فإن هذا يعني أنه بعد ذلك يخور، ويفتر عزمه، ويتلاشى، وينتهي، فتُخرِّج المحاضن التربوية صغاراً إلى حد معين، وينتهي، بدلاً من أن يتخرجوا كباراً، ورءوساً في كل مجال من مجالات الخير.

انظر في العلوم الشرعية: كم عدد الذين يدرسون العلوم الشرعية، ولهم ميول فيها؟ كم تُخرج الجامعات؟ وأين من تميزوا منهم بالعلم؟

أقول: ينبغي لنا أن ندرك هذا، والمشكلة أننا نفكر أحياناً بطريقة ضيقة فننظر إلى الجانب الذي نحسنه، ونريد من الناس جميعاً أن ينصبّوا فيه، فإذا كان هذا المعلم، أو المربي يجيد العلم الشرعي، وله اهتمامات في العلم الشرعي فهو يريد أن يكون جميع هؤلاء الطلاب من أهل العلوم الشرعية، وهذا غلط، وهذا بالنسبة إليهم انتحار، إنما الصحيح أن توجِّه من يحسنون هذه الجوانب إليها فقط، واترك البقية ليخرج منهم الأطباء، ويخرج منهم أصحاب العلوم الرياضية، ويخرج منهم الفنيون، ويخرج منهم المهنيون، وهكذا التربية التي نمارسها في البيت، فقد صار الناس الآن يريدون من جميع أبنائهم أن يكونوا قد تخرجوا من الجامعة، ولربما، واصلوا دراستهم، وقد يكون الولد لا يصلح لهذا، فيورثه ذلك عُقَداً مستعصية، ونحن نلاحظ وقوع أمراض نفسية عند الطلاب بسبب هذا القهر، والدحر، والكد، والتوجيه القسري من البيوت للتعلم، والدراسة، هو لا يصلح للتعلم يا أخي؛ فمن يخبز للناس؟ ومن يرعى الغنم؟ ومن يقوم بالزراعة؟ ومن يصلح البناء؟ ومن يرصف الشوارع؟ ومن يقوم بسائر المهن التي يحتاج إليها الناس؟

لابد أن يقوم بها بعض البشر، وكلٌّ ميسر لما خلق له، فينبغي على المربي سواءً كان أباً، أو غير أب من المعلمين، وغيرهم أن يوجه الناس إلى ما ينفعهم بدلاً من هذا التصادم بين ميول الناس، وبين ما يساقون إليه قهراً، كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون.

فهذا الولد لربما تكون هذه الجامعة هي الظلام في عينه، وهي النقطة السوداء في العالم، لماذا؟ لأنه وُجه إليها، أو إلى هذا التخصص ليحصّل، وظيفة، وأسوأ من هذا كله أن تكون عنده قدرة في مجالات تكون الأمة أحوج ما تكون إليها، فيقال له: ادخل التخصص الفلاني من أجل أن تأكل لقمة عيش!!.

 فهل سيموت إن دخل التخصص الآخر؟ هذه أفشل، وأفسد تربية يُربَّى عليها الأبناء.

إنسان عنده قدرات على العلم الشرعي، وتقول له: اذهب، وتخصص في الفيزياء، والكيمياء؛ من أجل أن تجد وظيفة، فهل تخصصه في العلوم الشرعية سيحرمه من الوظيفة؟

كل إنسان سيأتيه رزقه، والعلم لا ينال من أجل الوظائف، فالعلم أشرف، وأكمل، وما صارت الجامعات تخرج موظفين إلا لأن الهم عند كثير من الناس هو الوظائف، يتعلمون من أجل الوظائف، فبئست الهمة هذه، الهمة التي غاية ما لصاحبها أن يحصّل شبعاً، وملبساً، فهي همة سافلة منحطة. 

والشاطبي - رحمه الله - ذكر مضمون هذا الكلام الذي ذكرته لكم في كتاب الموافقات، ولكنه ذكره بعبارته، وأسلوبه، وما ذكرته يفي بالمعنى، وإلا فهو كلامه - رحمه الله تعالى -.
 
محاذير يجب اجتنابها:

المحاذير في هذا الباب كثيرة، والتنوع مطلوب، والتكامل واجب؛ لتحصل العمارة للأرض، ويقام دين الله  ويكثر المعروف، ويقلّ الشر، والمنكر، لكن ينبغي أن نلاحظ بعض الأمور:

أولها: ألا يكون الانكفاء على عمل، أو تخصص، أو مجال سبباً لإهمال واجباته، فهناك قدر من الواجب لتعلُّم ما يجب على الإنسان أن يتعلّمه، فإذا قال: أنا أستطيع أن أبدع في المجالات المهنية، فليس معنى ذلك أن يغفل العلم الواجب فيما يتعلق به من الفرائض، أو يشتغل بالتجارة، وهو يستطيع أن يبدع فيها فليس معناه أن يغفل ما يحتاج إليه من أحكام المعاملات، والطهارة، والصلاة، وما إلى ذلك، فهناك حد أدنى يجب القيام به من العبادات، والعلوم، والمعاملات، فلا يكون ذلك سبباً للتفريط بالحد الأدنى مما يجب على الإنسان أن يحصله، وأما القدر الذي يحسن، ويليق، ولكنه لا يجب فهو كما يعبر بعضهم يقول: "خذ من كل شيء شيئاً، وخذ من شيء كلَّ شيء"، ومعنى هذا الكلام أنه لكي نُخرج مبدعين فإنه يجب أن نأخذ من كل شيء شيئاً واحداً، يعني من العلوم العربية خُذ إلمامة؛ لتقيم بها اللسان، وتتوقى اللحن، وتفهم، وخذ من العلوم الأخرى نبذة مبسطة؛ لأن من جهل شيئاً عاداه، لكن الجانب الذي تتخصص فيه ينبغي أن تتقنه، وأن تأخذ فيه كل شيء، فإن قلت: أنا متخصص في الحديث فهذا جيد، لكن لا يكون هذا سبباً لإهمال الأشياء الأساسية في الفقه، والعربية، وما إلى ذلك، بل خذ من كل شيء شيئاً، ومن شيء كلَّ شي.

وقد تتخصص بجزئية من علوم الحديث كعلم الجرح، والتعديل فقط، فهذا مطلوب، ونحن بحاجة إلى التخصصات الدقيقة، كما أن في الطب الآن تخصصات، فالركبة لها تخصص، والعمود الفقري له تخصص، والعين لها تخصص في العصب الفلاني في الجسم، والأعصاب عموماً لها تخصصات، وقد صارت العلوم تتجزأ، ويتخصص الطبيب سنوات طويلة جداً في عصب واحد يدرسه.

فأقول: والعلوم الشرعية كذلك لكن مع التكامل، لأنها مترابطة، فلا يكون ذلك على حساب الأشياء الأساسية من العلم، والعمل.

المحذور الثاني: لا يجوز لنا أن نروض أنفسنا، أو نروض غيرنا على تحقير الأعمال الأخرى، والجوانب الأخرى، فهذا الإنسان يحسن في هذا الجانب، فهذا خير تحتاجه الأمة، فلا يجوز لنا أن نحقر عمله، فإن كان لك زميل ميوله إلى العلوم الطبية، وميولك إلى العلم الشرعي فلا تحقر عمله، ولا تسخر منه، وهو في المقابل أيضاً لا يجوز له أن يحقر عملك، فلو أن إنساناً كانت له قدرات على توزيع الإعلانات، والذهاب، والمجيء في هذه الأشياء، وخدمة المسلمين، أو القيام على الضعفاء، والأرامل، وما إلى ذلك، وإنسان آخر عالم فلا يجوز له أن يحتقر عمل الأول، ويقول: هذا ليس له إلا القيام على هؤلاء العجائز، والأرامل.

وكذلك لا يجوز لإنسان أن يحتقر علوم الآخرين، فإن كنت متخصصاً في علم الحديث فلا تقل: هذا المتخصص في أصول الفقه مثلاً متخصص في علوم كلامية في أغلبها، وقضاياه جدلية.

لا يجوز لك أن تقول هذا الكلام إذا كان هذا من العلوم النافعة، فيجب أن نتفطن لهذا المعنى، وألا نحقر الجوانب الأخرى المهمة التي نحتاج إليها، ونتذكر أن كل إنسان ميسر لما خلق له، وأننا بحاجة إلى جهد الجميع، وإلى علوم الجميع، وإلى طاقات الجميع، أما النفسية الضيقة، والنظرة المحدودة الأحادية، وضِيق العطَن بأن يضيق الإنسان بالآخرين؛ لأنهم لا يشتغلون بتخصصه، وجانبه فهذا الذي يورث الأحقاد، والفساد، والتنافر بين طوائف الأمة، فالواعظ مثلاً نحن محتاجون إليه، فهل يصلح أن نقول: إننا غير محتاجين إلى رقائق، وغير محتاجين إلى دمعة حاضرة؟

نحن نحتاج إلى واعظ، والقلوب قد لا يصلحها في كثير من الأحيان إلا الواعظ؛ فهو سياط القلوب، ولا يصلحها أحياناً الدرس العلمي، وقد تكون بحاجة إلى واعظ، وقد تكون بحاجة إلى معلومة لتزيل الشبهة عنهم، فلا تحتقر هذا لأنه واعظ، فالقرآن موعظة، وقد سئل الإمام أحمد عن الفضيل بن عياض: هل هو من أهل العلم؟ وإخوانه يرون أنه رجل بسيط من الناحية العلمية، ومثله إبراهيم بن أدهم، وهذا كما نسمع من يسأل أحياناً عن بعض رجالات الإسلام: فلان هل عنده علم؟

فقال الإمام أحمد: وهل يُقصد العلم إلا لما عليه الفضيل بن عياض، أي: فما الذي تريده من العلم؟

فالعلم لا خير فيه إن لم يورث العمل، فقضية فلان واعظ، وفلان ليس من أهل العلم الشرعي؛ لأن تخصصه كذا، وفلان مشغول بإغاثة الفقراء، وما إلى ذلك، وفلان يقضي وقته في أعمال دعوية.

وهل صلحتْ حالك أنت، وأمثالك أيها المتكلم إلا بالأعمال الدعوية؟ فينبغي أن نتذكر هذه القضية، والله  يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ [ سورة الحجرات:11].

المحذور الثالث: أن لا نعقد الولاء، والبراء على هذه الأشياء، فهذا مشغول بالدعوة، وهذا مشغول بالعلم، وهذا مشغول بالإغاثة، وهذا مشغول بالجهاد، فالمجاهد لا يجوز له أن يحتقر أهل العلم، وأهل العلم لا يجوز لهم أن يحتقروا أهل الدعوة، وأهل الدعوة لا يجوز لهم أن يحتقروا أهل العلم، وإنما هذه مجالات تحتاج إليها الأمة، وإن نظرت إلى التاريخ الإسلامي تجد أن الذين قاموا بنهضة الأمة هم الذين حصّلوا هذه المجالات، واشتركوا فيها.

هذا ما أردت أن أذكِّر به في هذا المجلس الذي أسأل الله أن يبارك لي، ولكم فيه، وأن يجعله نافعاً، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وصلى الله، وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

مواد ذات صلة