الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
وقفات مع قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك) -2
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٣٠
التحميل: 9480
مرات الإستماع: 4303

العقل وحده لا يكفي، والعلم وحده لا يكفي

لو أن الإنسان ذهب منه نور العين، والشمس في رابعة النهار هل يُبصر؟.

لا، فالعقل وحده لا يكفي، والعلم وحده لا يكفي، قد يكون الإنسان يشار إليه بالبنان: ما أعقله، ولكنه لا يوفق، ولا يحسن التدبير، وقد يكون عند الإنسان كثير من العلم، حافظٌ أشياء كثيرة جدًّا، لكن لم يُرزق العقل الراجح، فيكون هذا العلم سبباً للفتك به، وبغيره، يتلاعب به أصغر الصحفيين، يوجه إليه أسئلة، وتأتيك الإجابات تُشرِّق، وتُغرِّب، ثم تُفاجأ أنها بالخط العريض في اليوم التالي في تلك الصحيفة، ليس هناك عقل، لا يقيس الأمور بصورة صحيحة، ليس عنده حسن نظر، فتأتي إجاباته غير مسددة مع كثرة العلم، والحفظ، فيُسأل عن أشياء فيجيب، ويذكر أدلة، ثم يُفتَن الناس بسبب ذلك، فهذا يُفسد أكثر مما يصلح، يهدم، معه معول قوي هو هذه النصوص، والأدلة، والحفظ، والعلم لكنه لم يكن بيد راشدة.

 إذن الداعية حتى يكون حكيماً "بالحكمة" لا بد له من العلم، ولا بد له من العقل، فإذا اجتمعا فهما كنور العين مع ضوء الشمس فيبصر الأشياء على حقيقتها، طيب من فقد العقل الراجح لكن عنده علم طالب علم ماذا يفعل؟ نقول: لا تستعجل، ولا يصدر منك شيء، شاور، وراجع أهل العلم، ولا تتسرع

لاسيما فيما يتصل بالبرامج المباشرة فهذه أخطر، هذه تحتاج إلى علم، وتحتاج إلى سرعة بديهة، وتحتاج إلى حكمة، وتحتاج إلى حُسن تصرف، فقد يحسن الإنسان أحياناً الكتابة، ونحو ذلك لكنه إذا خرج ببرنامج مباشر أزرى بنفسه.

إذن نحن بحاجة أن نقول لمثل هذا - من فقد العقل الراجح - عليك أن تشاور، وتستفيد من أولي الألباب، فهذا إذا تُرك وحده يطيش، وكل يوم يخرج لك ببلية، ومصيبة، وباقعة، ومن كان عنده عقل، وليس عنده علم بما أنزله الله على رسوله ﷺ ليس له فقه في الدين، فنقول: ارجع إلى أهل العلم، اسأل أهل العلم، شاور أهل العلم، لا تثق بعقلك، فهذا يكمل هذا، وبهذا نسلم من كثير من الإشكالات.

الحكمة تقتضي معرفة بمراتب الأشياء

"بالحكمة" الحكمة تقتضي معرفة بمراتب الأشياء، مراتب الأفعال، والأقوال من جهة الحُسن، والقبح، والصلاح، والفساد، قيل لها: حكمة، هذه المادة "حَكَمَ" تدل على المنع، الحَكَمَة حديدة في الفرس في فم الدابة تمنعها من الانفلات، تضبطها في سيرها، الحاكم؛ لأنه يمنع أحد الخصمين من التعدي على حق الآخر، والحُكم كذلك، فالحكمة تزمّ صاحبها، ينضبط، تأتي أقواله مسددة، وأفعاله مسددة على نهج صحيح، فهي منع من الخطل في الرأي، والخلل في القول، والفعل، الحكمة تقتضي معرفة بمراتب الأشياء، مراتب الأفعال، هناك ضرورات، ثم حاجيات، ثم تحسينيات، على ثلاث مراتب، ليس على مرتبة واحدة، ثم إن الضرورات خمس، وليست على مرتبة واحدة، أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ويأتي بعد ذلك العرض، والمال، فالحكيم يدرك هذه المراتب، فإذا ازدحم عنده مصلحتان لابد من إهدار واحدة، لا يستطيع أن يقوم بهذا، وهذا، فإنه يقدم الأرفع، كيف يعرف الأرفع؟.  

يعرف أن هذه في قسم الضروريات، أو الحاجيات، أو التحسينيات، وإذا كان كل واحدة من قبيل الضروري في قسم الضروريات فإنه ينظر هذه تتعلق بالدين، وهذه تتعلق بالعرض مثلاً، هذه تتعلق بالنفس، وهذه تتعلق بالمال، فيقدم التي تتعلق بالنفس على التي تتعلق بالمال. 

 
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

كذلك أيضاً هناك أمور تعتور هذه الأحوال، والأعمال، فقد تكون المصلحة متعلقة بالمجموع، يعني: مصلحة عامة، ومفسدة خاصة، فهنا نقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، لكنه ليس دائماً، قد تكون المفسدة الخاصة تتعلق بالدين، وهو أعلى الضروريات، والمصلحة العامة تتعلق بالمال فماذا نقدم؟ درء المفسدة الخاصة على تحصيل المصلحة العامة، ولهذا نعرف أن القاعدة المشهورة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" أنها ليست على إطلاقها تحتاج إلى ميزان، وقل مثل ذلك في "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة" ليس على إطلاقه، قد تكون المصلحة الخاصة مقدمة، لماذا؟ لأن المصلحة الخاصة تتعلق بالدين، والمصلحة العامة تتعلق بالمال، فازدحمتا، فماذا نقدم؟ المصلحة الخاصة، لكن حال التساوي بين المفسدة، والمصلحة في المرتبة كلاهما من قبيل الضروري، وكلاهما يتعلق بالنفس، أو كلاهما يتعلق بالدين فهنا نقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، أو نقول: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

إذا تساوت مفسدتان ننظر في المراتب، القاعدة المشهورة أنه يُرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، كيف نعرف الأعلى، والأدنى؟.

هذا يحتاج إلى عقل، ويحتاج إلى علم، ولا أقصد من هذا أن الدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - لا يتصدى لها إلا من كان على هذا المستوى الرفيع من الفهم، والمعرفة، والعقل، ثم يترك الناس الدعوة، لا، كما قلت: هناك أشياء يدركها كل أحد، فالدعوة مراتب، فالحكمة تتطلب هذه الأشياء، وكذلك يحتاج إلى النظر في أحوال المخاطبين، ما القدر الذي يُبينه لهم "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"[1] ولهذا كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : "من المسائل ما جوابه السكوت؛ لأن الجواب قد يكون فتنة لهذا السائل"[2] إذا علم الداعية أن عقول هؤلاء لا تحتمل هذا الجواب، ولا تدركه، ولا تصل إليه لا داعي لإشغالهم به، أو علم أن قُدَرهم العملية لا تتمكن منه، فلا داعي للإشغال، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "إن المهتدي الجديد مثل حديث العهد بالدخول في الإسلام، لا يمكن أن يُخاطب بجميع الأمور دفعة واحدة، فهذا خارج عن الإمكان، ولا يكون السكوت عن بعضها من باب إقرار المنكر، وإنما إلى وقت الإمكان"[3] فهذا الإنسان اهتدى حديثاً تقول له: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة هذا خاتم ذهب تخلعه، متزوج، وثنية تفارقها، تعمل في بنك ربوي تخرج منه، ثوبك طويل تقصره الآن عند الخياط، ما اختتنت تذهب إلى أقرب مستوصف، تحلق لحيتك أطلقها، وأعفها، وهذا اللباس من تشبه بقوم فهو منهم[4] غيّر لباسك هذا، هذا قد يرتد، ولا يحتمل، ولا يستطيع، لكن

إنّ اللبيبَ إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا

أبدأ - كما كانت دعوة الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - بالتوحيد، والقضايا العظام، ثم تأتي القضايا الأخرى شيئاً فشيئاً بحسب ما يُطيق، ويحتمل، فيُراعي استعداد النفوس، والطريقة التي يُخاطب بها هذا، والطريقة التي يُخاطب بها هذا، ولا يكون المحرك له هو الاندفاع، والحماسة فحسب، ولهذا كان من الحكمة أن يُتعامل مع كل واحد من المدعوين بحسب حاله فيما يقال له، وما يقدم له من التعليم، وما يُطالب به، وما يؤجل، الدعوة بالحكمة تقتضي أن تكون بعلم، الدعوة بالحكمة تقتضي البداءة بالأهم، الدعوة بالحكمة تقتضي أن نبدأ بالأقرب، والأسهل إلى الأفهام، نخاطب العامي بغير ما نخاطب به طلاب العلم، والدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى -.

قضايا الهجر متى يُهجر الشخص، الهجر تأديب فإذا كان لا ينزجر من الهجر فلا داعي لهجره، يتحول الداعية، أو الهاجر إلى كونه مهجوراً بعد أن كان هاجراً، فلا يصح هذا، إنما يهجر الإنسان يعالج، ويداوي بالهجر فإذا كان يزيد من ضراوته، وشره، وعتوه بسبب الهجر فالهجر هنا لا محل له، إنما يهجر ليداوي، أو ليسْلم، إذا كان لا يسلم من شره إلا بهجره.

وهكذا يُراعي المناسبة في المكان، والحال، حينما يتحدث في مناسبة، عبادة من العبادات مثلاً لا يتحدث في موضوع آخر، مثلاً يتحدث عن صيام في موسم الحج، فمثل هذا لا يليق، ويتحدث عن أحكام الحج في شهر رمضان، أو عند دخول الشهر، وهكذا أيضاً حينما يُعرِض يُعرِض بعلم، المقصود أنه يُقدر المصالح، والمفاسد، وتأمل قوله - تبارك، وتعالى - : بِالْحِكْمَةِ الباء هذه لماذا جاءت؟ ما الفائدة منها؟ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] وهي غير موجودة فيما بعده، ما قال: وبالموعظة الحسنة، قال: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فالباء هذه حينما دخلت دلت على معنى زائد يتعلق بالحكمة، وهو الاستصحاب، أنك تستصحب الحكمة معك في كل دعوتك في مراحلها المختلفة، لا يصح أن تتخلى عن الحكمة في الدعوة، حال الغضب، والرضا، مع الصغير، والكبير، مع الجمع، والآحاد، في بلدك، وفي خارجها، عبر الفضائيات، وفي المسجد، الحكمة تصاحبك دائماً، لا يمكن أن تفارق الداعية، وإلا حصل منه شطط.        

  1.  أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، برقم (1/11) عن عبد الله بن مسعود .
  2.  انظر: رسالة في أصول الدين (ص: 24)، ودرء تعارض العقل، والنقل (1/ 51).
  3.  لم أقف عليه.
  4.  أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم (4031)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6149).
الدعوة لا يصح أن تتخلى عن الحكمة، والمصلحة

ولاحظ هنا أنه قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فهذا يدل على أن الدعوة لا يصح أن تتخلى عن هاتين الخصلتين؛ لأنه كما سيأتي في المجادلة جاء بالفعل قال: وَجَادِلْهُمْ [النحل:125] لكن في الدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، لا تغضب، ولا تنسَ الحكمة، ثم بعد ذلك تريد أن تنكر على هذا سمعت منه نغمة في الجوال محرمة، نحن ننسى كثيراً، ونغضب، ونتكلم بكلام يجرح أحياناً، لربما بعضهم دعا عليه، أو نحو ذلك في المسجد، لا، لا ينفرط الصبر، بالحكمة، والموعظة الحسنة، قد يكون هذا الإنسان لا يعلم أصلاً أن هذا حرام، جاء من بلده لا يعلم، وقد يكون أعجميًّا كل ما تقوله في المسجد عن هذه النغمة هو لا يفهمه، وقد يكون حديث عهد بالإسلام، وقد حصل هذا، أحد هؤلاء كان في سائر الصلاة هذه النغمة موسيقى أغنية طول الصلاة، والناس يسمعونه، فغضب الناس ينتظرون متى يسلم الإمام فقط، وإذا بالرجل تبين أنه ما أسلم إلا قبل نحو أربعة أيام، أدركهم الإمام، أخبرهم أن هذا حديث عهد فكان يمكن أن يرتد، فلا تستعجل، تُبيِّن، وتُعلِّم، وتنصح، تذكر باللطف، والإحسان، لا يمكن كما قال بعض أهل العلم عن بعض من كان فيه صلف أن تصكه بالجندل، وتنشقه الخردل، وتقول له: اقبل مني، لا يمكن، لابد أن نقدم هذه الدعوة بقالب مقبول بأسلوب لطيف، ولا داعي لجرح المشاعر، فإن هذا الأثر قد يبقى دائماً يتذكره، ولا ينساه، ويصده عن القبول، وعن أهل الخير جميعاً بسبب كلمة سمعها قبل ثلاثين سنة من داعية، أو من آمر بالمعروف، وناهٍ عن المنكر.  

 
لحكمة حسنة في كل حالاتها

ولاحظ هنا أنه أطلق الحكمة، في الموعظة قال: "والموعظة الحسنة" وفي الحكمة ما قال: بالحكمة الحسنة؛ لأن الحكمة حسنة في كل حالاتها، ولا يمكن أن تقع غير ذلك، فالحُسن وصف ذاتي لها، فلا تحتاج أن تقيد، لكن الموعظة قد تكون بالتي هي أخشن، قد تكون هذه الموعظة في غير محلها، في غير وقتها، ولذلك من الأمور التي تحرج الداعية أحياناً، ويصعب الكلام فيها في مقامين الناس في المآتم، وفي الأفراح، وقد يكون التصرف غير المحسوب يحول هذه المناسبة إلى شيء آخر، ولذلك يحتاج الداعية إلى أن يتبصر، ويتصرف بأسلوب لائق.

من الذي يُخاطَب بالحكمة؟ من أهل العلم كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - وذكر هذا بعض المفسرين يقول: "هذا يكون للمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق، ولا يأباه، بل يكون طالباً له راغبًا فيه محبًّا له مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا بحاجة إلى أمر، ونهي فيُدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة، ولا جدال"[1] هكذا قالوا، والذي أظنه أقرب - والله تعالى أعلم - أن الحكمة يحتاج إليها في الجدال، ويحتاج إليها الداعية عند الموعظة، فهي في كل الحالات كما سبق، لا تختص بهذا القابل. 

  1.  انظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية، والمعطلة (4/ 1276).
ما هي الموعظة؟

ثم تأمل قوله - تبارك، وتعالى - : وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ما هي الموعظة؟.

الموعظة هي الأمر، والنهي المقرون بالترغيب، والترهيب، كثير من أهل العلم يُطلقها على هذا المعنى، وقد تُطلق على نفس الرغبة، والرهبة، والمقصود بها القول الذي يحصل به التليين للمدعو، يحتاج إلى شيء من التذويب لهذا الجليد، يحتاج إلى شيء من الجذب، أن تلين عريكته من أجل أن يقبل، فيحتاج إلى شيء، التذكير بالآخرة، يحتاج إلى تذكير بالمصير، بالنهاية، قِصر الدنيا، تذكير بمنافع هذا الذي تدعوه إليه في العاجلة، والآجلة، ومضار ذلك الذي تنهاه عنه في العاجل، والآجل من قلب مشفق محب له، فينجذب، ويقبل، بخلاف توجيه الأمر المباشر له بأسلوب فظ غليظ فإن ذلك ينفره عن ما تدعوه إليه، وبهذا نعرف متى تكون الموعظة حسنة، ولماذا قُيدت بهذا القيد "الموعظة الحسنة"؟.   

فليس كل موعظة حسنة، قد تعظ إنساناً لو سمعت منه قبل أن تعظه لعذرته، قد يكون معذوراً، قد يكون مريضاً، قد يكون متأولاً، قد يكون من أهل  العلم، لربما لو أبان لك دليله، ونحو ذلك لاقتنعت بقوله، فلا تتعجل، وقدر الأمور بصورة صحيحة، ولهذا أنت بحاجة إلى حكمة مع الجميع، والمقصود أن الموعظة الحسنة هي التي تدخل القلوب، ولا يحصل ذلك بفظاظة، وغلظة، وفضح، وتشهير، وجرح للمشاعر، إنما هي التي تؤلف القلوب النافرة، والنفوس الشاردة، الولد أقرب الناس ٍإليك لربما لو استعملت معه أسلوب التعنيف، أو خطاب المتهم تخاطبه على أنه متهم، وقد يكون بريئاً مما تظن به لربما نفر منك غاية النفور، وكم سمعت من أبناء يفصحون، ويُبينون عن كرههم، وبغضهم لآبائهم، والسبب أن الأسلوب غير مناسب، الأب يعظ دائماً لكن موعظة ليست بالتي هي أحسن، وإنما هي بالتي أخشن، الهدف أن يستجيب، وأن يقبل إذن قدمها بطريقة يقبلها، حينما يقول: "بالتي هي أحسن" معناها لابد أن تكون لينة، ومقبولة، ويحصل بها المطلوب.

فصّل ذلك التفصيل ابن القيم - رحمه الله - في مثل: "مفتاح دار السعادة" و"الصواعق المرسلة" وكذلك بعض المفسرين كما في "نظم الدرر" يقولون: "الموعظة الحسنة هذه خُوطب بها من عنده شيء من الغفلة، والتأخر، والتباطؤ، والتلكؤ، بغلبة شهوة، ونحو ذلك"[1] عنده تباطؤ بالاستجابة فيحتاج إلى حث فيوعظ، ويذكر بترغيب، وترهيب مما يدفعه إلى الامتثال، هكذا يقولون.

ولا شك أن القابل المستجيب الذي خفي عليه هذا الأمر لا يحتاج إلى وعظ، إنما الذي يحتاج إلى موعظة هو من عنده شيء من التباطؤ في الاستجابة، هذا لا شك فيه، لكن ذلك لا يعني اختصاص بعض الناس بالموعظة، وبعض الناس بغيرها، لا، الإنسان نفسه تكون له حالات، فأحياناً يكون بحاجة إلى وعظ، وأحياناً فقط بحاجة إلى تعليم أن هذا ثابت عن النبي ﷺ فيستجيب، ويقول: صحيح ما كنت أعلم، ويشكرك على هذا، ويمتثل، فالإنسان له أطوار، وله أحوال، وله أوضاع، وله أعمال، ومزاولات في بعضها يحتاج إلى موعظة، وفي بعضها لا يحتاج إلى ذلك، وإنما المقصود بالموعظة هو الزجر، والردع من أجل أن ينكف عن المخالفة، وأن يمتثل ما أمره الله به، أن تنكسر نفسه، ويذعن، ويتأثر، وإن لم تكن كذلك فليست بحسنة، ولهذا فإن حُسنها يشمل مضمونها كما يشمل مبناها - الصيغة، العبارات - هذا كله لابد منه، لا تقل له: أنا أقول حقًّا، قال الله، وقال رسوله فاقبل عني، وانتهَى، لا، قدم له هذا الكلام بأسلوب المشفق، وانظروا دعوة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - لأبيه، وانظروا في مؤمن آل فرعون ماذا قال، أسلوب المشفق، لا يتكلم من علو كأن الناس هم الذين يحترقون، ويموتون كما نُقل عن بعض الوعاظ، كان يعظ الناس، ويقول لهم: يا جماعة المسألة فيها جنة، ونار، المسألة جد، لا يأتيني بكرة أحد يقول لي: كيري ميري، بكرة يعني ماذا؟ يعني يوم القيامة، فهذا الكلام تفهم منه أنه قد ضمن النجاة، هو ناجٍ لكن المشكلة في الناس، يقول: المسألة جد جنة، ونار، لا يأتيني أحد بكرة يقول لي: كيري ميري، هل سيأتيك أحد يقول لك: كيري ميري، خلِّص نفسك، لكن الإنسان أحياناً ينسى نفسه، لذلك تجد الإنسان أحياناً يتكلم عن الآخرين فيضلل هذا، ويرمي هذا بكذا، ويرمي هذا بكذا، ويرمي هذا، ولا يسلم منه أحد من الأخيار، والصالحين، ومن أهل العلم، وكأنه جالس على عتبة الجنة آخذ ببابها، ويتكلم من هذا المنطلق، وأنت إذا كان كل هؤلاء هلكى ما حالك، وما موقعك؟ فالإنسان أحياناً ينسى نفسه، ويغفل.

  1.  انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات، والسور (11/ 279).
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

ثم قال الله - تبارك، وتعالى - : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] النبي ﷺ كان يلقى من قومه أذى كثيراً، ورموه بالعظائم، وكان يدعوهم، ويجادلهم، فالله علمه أن تكون المجادلة بالتي هي أحسن مع ذلك الصلف الذي كان يلقاه منهم، لاحظ المجادلة يكون فيها حضور قوي للنفوس، ولذلك المناظرات بين العلماء، وبين الفقهاء ذكر جماعة من أهل العلم أشياء، وأمورًا، بعضهم يزحف للآخر حتى يأخذ بلحيته، ولربما قذفه، وتحمر الوجوه، لماذا؟ حضور قوي للنفس في حال المناظرة، والمجادلة؛ لأنه يشعر أن ذلك لربما تهتز به مرتبته، ومكانته، ولربما يصر على الباطل، وقد ذكر ابن حزم مثالاً عجيباً لأحدهم كما في كتاب "الإحكام" له في أصول الفقه: أن أحد هؤلاء من المنتسبين للعلم نطق بالآية - تكلم بالآية - بطريقة خاطئة، فلما قالوا له: ليست هكذا، قال: بلى، فأحضروا له المصاحف، فقال: لا، فدخل إلى بيته، يقول: فجاء بها، والحبر لم يجف[1] معناه أنه غيّرها من أجل أن يقول: أنا مصيب، ما أخطأت تُخطِّئونني؟ فالمجادلة هي الاحتجاج لتصويب شيء، وإبطال ما يخالفه، والكلام في الجدل يطول، الجدل أحياناً يكون مع من يريد إقرار الباطل، ولا يريد الحق فهذا لا يُجادَل، يكون أحياناً مع متمحل يجادل في أمور من صعاب المسائل، والأغاليط من أجل أن يُظهر ما عنده، أو أن يختبر الآخرين في علمهم، أو من أجل أن يقضي وقت الفراغ، أو يُشبع نهمةً في نفسه، يحب الجدال، أو يجادل في أمور فرضية لا يمكن أن تقع، أو يبعد جدًّا أن تقع، فهذا لا يُجادَل، من يقصد رد الحق بكل وجه، ولا يريد أن يسمع الحق فهذا لا يُجادَل، ولذلك تسمعون قبل أيام في بعض القنوات سمعته في الإذاعة تلك القناة تخرج في الإذاعة مناظرة بين رجل يتحدث عن النقاب من أهل العلم، وبين رجل آخر يجادل في هذه القضية، ويقول: هذا لا علاقة له بالدين، فتعجبت من الأسلوب، ذاك يتكلم بأدلة، وحجج، وبراهين بكلام علمي، وبهدوء، أما ذاك فملأ الدنيا، ملأ الاستديو ضجيجاً؛ لئلا يُسمَع من الآخر شيءٌ إطلاقاً، وين الدعوة إلى الحوار؟! من الإقصائي، ومن أُحادي الرأي، والتفكير، والمتقوقع، والمنزوي، والمنكفئ على الذات، والسياط التي ألهبوا بها جلود الدعاة إلى الله ؟! لا يريد أحداً أن يسمع ما يقوله هذا الرجل من أهل العلم في مسألة النقاب، هذا مثال، فهذا لا يُجادَل، يقال له كما كان يفعل بعض أهل العلم كالشعبي - رحمه الله - إذا سأله أحد عن سؤال يقول له: كم بلغ سعر الحنطة؟ الذي يريد أن يجادل في مسائل بدهية، أو في قضايا فقط للجدال، أو نحو ذلك قل له: كم بلغ سعر الحنطة؟ طبعاً غالباً لن يفهم هذا، يقول: هاه، تقول له: كيف الحال؟ عله أن يفهم، إذا جاءك إنسان يريد أن يجادل في بدهيات، في مسلّمات، وبعض المشايخ كان يقول له إذا كانوا على طعام يقول له: كُل أرزًا، هذه المجادلة بالتي هي أحسن تكون لمن عنده شبهة، عنده إشكالات، عنده إيرادات، عنده رواسب، عنده خلفية معينة، مواقف، رؤى معينة منحرفة، فهذا يُجادَل لا يحتاج إلى وعظ، هذا تقول له: اتقِ الله، وراءك موت، وجنة، يقول لك: أنا أعتقد هذا أنه حق أموت عليه، وأدعو الله أن يثبتني عليه، هذا ما يحتاج إلى موعظة، هذا يحتاج إلى مجادلة لكن بالتي هي أحسن، فيحتج الإنسان بهذه الأدلة الصحيحة، يحتج عليه بأدلته كما كان يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "لا يوردون دليلاً إلا جعلته حجة عليهم"[2] أن لا تتحول المجادلة إلى مشاتمة، وانتصار للنفس، ابدأ معه بنقطة الاتفاق، تجنب العبارات المستفزة، اجعل له خط رجعة، بعض الناس يحشر المُجادَل في زاوية ضيقة، أنت قلت كذا، يقول: لا، أنا أعوذ بالله، أنا ما أقول هذا، يقول: أنت قلت، عندي شهود، لكن: الحمد لله هذا الظن بك أنك ما تقول هذا الكلام، والحمد لله أنه لا يصح عنك هذا، ولا يثبت، ومثلك لا يقول هذا، بارك الله فيك، وسددك، لكن بعض الناس: لا، أنت قلته، يا أخي لو حشرتَ دويبة كالهرة في زاوية قفزت في حلقك.   

وهكذا أيضاً لا نضخم الشبهة كما كان يفعل بعض الناس، ولهذا قالوا عن الرازي: إنه يورد الشبهة نقداً، ويرد عليها نسيئة، يأتي بالشبهة يقررها بطريقة قوية، ويأتي الرد ضعيفاً، لا، لا تضخم الشبهة الرد يجب أن يكون قويًّا، وما إلى ذلك بعيداً عن التحامل، والترذيل، والشتائم، فإذا تحولت القضية إلى شتائم، وسباب، وإلى آخره معناها أن الحُجج قد أقفرت، لا يوجد عنده حُجج فتحولت القضية إلى مغالبة، الحُجج هي التي تفعل فعلها، هذا ميدان الحُجج، وليس ميدان الشتائم، والعراك بالأيدي، فإذا أفلس الناس من الحجة تحول جدالهم إلى مهاترة، وشتائم، وسباب لا تليق بالعقلاء فضلاً عن الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى - وكثيراً ما يختلط على الإنسان قيمة النفس عند الناس، وقيمة الرأي، فيعتقد أنه إن تراجع عن الرأي معنى ذلك أنه حط من قيمته عند الناس، لا، الرجوع عن الباطل فضيلة، الرجوع إلى الحق فضيلة، تتبُّع الحق خير من أن تستمر على الباطل، والكلام على هذا كثير، ولذلك ينبغي أن يكون هناك في المجادلة أسلوب حكيم بحيث لا تُشعر هذا بطريقة مباشرة أنه قد ذل، وانكسر إلا في حالة، وهي ما إذا كنت تقصد من المجادلة كسر هذا الإنسان، وبيان جهله، لا تقصد هدايته، فعندئذ هات من الحُجج القوية ما يكسره، متى يكون هذا؟ إنسان فتن الناس، وهو جاهل صاحب شُبه، صاحب هوى، ولا يقبل الحق، ولا يريد من الجدال الحق، وفُتن به الناس، تقام محاضرة، وتُدمغ بها حُججه، ويُبطل باطله، ويُكسر، ويُفضح، ويُعرى جهله، هذا لا إشكال، لا نقصد هدايته، وإنما نقصد أن نبين جهله للناس فهذا لا إشكال فيه، لكن ما عداه يشعر أن ذاته مصونة، قيمته باقية كريمة، إنما المقصود كشف الحقيقة، والاهتداء إليها في سبيل الله، ولله، لا لشيء من حظوظ النفوس، كل ذلك يدل على أن هذه المجادلة تكون بالتي هي أحسن، فهذا القيد لا بد منه، ولا يصح أن تتحول المجادلة إلى شيء آخر، فتكون العبارات، والأساليب، والقوالب كلها بالتي هي أحسن.  

  1.  انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (4/164).
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (6/ 254).
تخير الأحسن، والأنفع، والأرفع، والأرفق

وهنا قال: أَحْسَنُ تخير الأحسن، والأنفع، والأرفع، والأرفق، ترددت بين عبارتين خذ الأفضل، وكذلك أيضاً هي أحسن مما يقوله ذاك، فقد لا ينضبط، قد لا يحفظ لسانه، قد لا يتأدب فلا تجاره فتنزل معه، حلِّق "بالتي هي أحسن" تكون كالشجرة المثمرة يرميها الناس بالحجر، وتُسقط عليهم الثمر، ولاحظ هنا أنه قال: وَجَادِلْهُمْ [النحل:125] ما قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ والمجادلة بالتي هي أحسن وَجَادِلْهُمْ دل على أن المجادلة حالة عارضة، وأن الإذن فيها إنما يكون بهذا القيد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وإلا فالأصل في المجادلة انظروا إلى ورودها في القرآن في عامة المواضع إنما وردت في مقام الذم - على سبيل الذم - الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا [الشورى:35] وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ [الكهف:56] وتتبع ورودها في القرآن، وهي مأخوذة من الجِدالة كما يقولون، وهي الأرض الصلبة فلا يُلجأ إليها إلا عند الحاجة، وبهذا القيد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يكفي أن فيها حضور النفوس، والتوتر فما تحتاج إلى من يصب عليها مزيداً من الوقود فتشتعل ناراً محرقة، وأيضاً لما كانت المجادلة للمعرضين، والمخالفين وَجَادِلْهُمْ قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ثم قال: وَجَادِلْهُمْ جاء بضمير الغائب لأولئك الذين لم يقبلوا دعوتك، لديهم شبهات، لديهم عقائد يحتاجون إلى مجادلة وَجَادِلْهُمْ وجاء هنا بهذا الضمير ضمير الجمع للغائب.

 
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125] هذه فيها عبرة حيث ختم الله بها هذه الآية، عليك أن تُبلغ، وعليك أن تقدم الدعوة إلى الله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48] ليس عليك أن تُنقر عن قلوبهم: هذا ما فيه خير، وهذا ما يصلح، وهذا فيه كذا، وهذا منطوٍ قلبه على كذا، وهذا يقصد فقط كذا، وهذا يُمثل، وهذا يتظاهر، وهذا يتستر بكذا من أجل كذا، لا، لا، ما أُمرنا بهذا، النبي ﷺ وهو رسول الله، ومؤيد بالوحي يُعلن الناس بأنه ما أُمر بأن يشق عن قلوب الناس، عن صدورهم، ولا يُنقر عن قلوبهم، يُعلن هذا، فالقلوب تتُرك لربها مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:52] حسابهم على الله، فهذه الجملة أيضاً إن ربك هو "إنّ" هذه تُشعر بالتعليل إن ربك، فهي فيها تعليل للاستمرار بالدعوة إلى الله لا تترك الدعوة، أو دعوة إنسان، أو نحو ذلك، وتقول: هذا ما فيه خير، هذا يتظاهر، هذا يُنافق، استمر فالله بصير بالعباد إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النحل:125] هذا الأمر ليس إليك، ما عليك إلا البلاغ فلا تيأس من هداية أحد، وأيضاً لا تحزن إن لم يستجب لك الناس، فالعلم بمن يهتدي، ومن لا يهتدي هذا كله موكول إلى الله - تبارك، وتعالى - وهكذا أيضاً تأمل قوله هنا: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فالمجيء بضمير الفصل "هو" فيه تقوية للكلام "هو أعلم" الفصل بين طرفي الكلام بالضمير "هو" يقوي، وفيه أيضاً دلالة على الاختصاص، أو يشبه الاختصاص، أو الحصر، هو وحده فقط أعلم بمن ضل عن سبيله، ليس ذلك إليك. 

ولاحظ هنا أنه قدم الضال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ما قال: هو أعلم بمن اهتدى، وهو أعلم بالضالين، لماذا قدم من ضل عن سبيله؟.    

من أهل العلم من يقول: لأن دعوة هؤلاء أوكد، فالمستجيب القابل يسمع منك، لكن أولئك الذين لم تصلهم هذه الهدايات بحاجة إلى مزيد من الجهد، لا تتركهم؛ لأنهم ضُلال لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] هذا في باب الصدقة، والنفقة، والإحسان إلى الناس، ما نقدمه إنما نقدمه لأنفسنا، فهذا فيه تأكيد على دعوة الضُلال، والبُعداء من الناس، وأن هؤلاء بحاجة إلى رفق، وحكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن، ما هي فقط باللطف، والرفق بأصحابنا، وزملائنا، وأحبابنا، وإنما مع الجميع، ثم فيه إشارة أيضاً إلى أن هؤلاء قد يتحول الواحد منهم فيما بعد إلى داعية يُشمر في هذا الطريق، ويدعو الناس، ويكون من أنصار دين الله - تبارك، وتعالى - كثير ممن حاربوا النبي ﷺ وآذوه صاروا من خيار المسلمين، ومن الدعاة إلى الله، وأبلوا في الإسلام بلاءً حسناً، ونحن نترضى عليهم إلى يومنا هذا إلى يوم القيامة، فالله أعلم بعباده، عليك أن تدعو، وبهذا نأخذ أدباً في الدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - وهو أن لا نتسرع في الحكم على الناس، لا تستعجل، وقد جربت هذا في نفسي، وجربه كثيرون، لربما الإنسان يتسرع في الحكم على أحد من الناس، ثم يتبين له خطأ ذلك الرأي، والنظر.  

فالناس كما قال بعض الفضلاء: "مهما بدا الإنسان بعيداً فيه صلف، وجفاء، وغلظة، وبعد عن الخير إلا أنه إذا وجد الكلمات الصادقة، والحنوّ، والرحمة، والحرص على نفعه، ومصلحته، ووجد الأمان سرعان ما تتكشف تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية" لكن هؤلاء الناس من أين جاءتهم هذه الطبقة الغليظة؟ يقول: "هم يصارعون في الحياة فيشعرون أنهم في بيئة في غابة إن لم يغش، ويخدع، ويأخذ حقه بكل ما أوتي من قوة، وبكل ما استطاع من حيلة، وإلا فإن حقه مُضيع، فيبدو هكذا أمام الآخرين" لكن إن وجد من يمسح على آلامه، ويهتم بمشكلاته، وجد من يعطيه الأمان، ويثق به، ويخلص في دعوته تتكشف هذه القشرة عن شيء آخر، فهذا تجده كثيرًا، الإنسان العاتي لربما إذا وجد من يعرف كيف يصل إلى قلبه بدأ يشكو همومه، وآلامه، وندمه، وما يتردد في نفسه من أمور تدعوه إلى ترك ما هو عليه من الباطل، ومحاولة التوبة، والصلاح، والإصلاح، فلا نتسرع في الحكم على الآخرين.

 
على الداعية أن يكون سالكاً للحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن

وأخيراً: التخلق بهذه الآية، وما تضمنته تعطينا أن كل من قام مقاماً من مقامات الرسول ﷺ في إرشاد المسلمين، أو سياستهم، أو دعوتهم فإنه يجب عليه أن يكون سالكاً للطرائق الثلاث:

الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وإلا كان منصرفاً عن الآداب الإسلامية، وغير خليق بسياسة الأمة، وحُسن تدبير الدعوة، ومعرِّضاً مصالح الأمة للتلف، فإصلاح الأمة يتطلب إبلاغ الحق لها بهذه الطرق الثلاث، فالمجتمع لا يخلو من مستجيب، أو متعنت، أو ملبس، وهؤلاء يلقون في طريق المصلحين الشوك من الشبهات بقصد، أو بغير قصد، فهنا يحتاج الداعية إلى الإقناع؛ لكشف القناع كما يقول الطاهر ابن عاشور - رحمه الله تعالى -[1].

فهذه الجملة اليسيرة القصيرة تحتها من المعاني العظيمة الشيء الكثير، فيحتاج الإنسان أن يرجع إلى القرآن، والكلام في الدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - ليس فلسفة عقلية، وإنما هو حديث ينطلق من القرآن، والانطلاق من القرآن أنفع، وأبرك، وأبلغ.

أسأل الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

أسأل الله أن يوفقني، وإياكم لما يحب، ويرضى، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1.  انظر: التحرير، والتنوير (14/ 329).

مواد ذات صلة