بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد ﷺ حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، وسبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، وكل رطب ويابس، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وحجته على عباده، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، حديثنا في هذه الليلة -كما قد علمتم- عن سلامة الصدر، وسيكون هذا الحديث منتظمًا لأربع قضايا:
الأولى: أبين فيها المراد بسلامة الصدر.
الثانية: أذكر فيها الطريق إلى ذلك، كيف نحصل هذه الخَلة؟
الثالثة: في ذكر ثمراتها.
الرابعة: ذكر نماذج واقعية لهذه الصفة، تمثلت في رجال من السلف فمن بعدهم.
أولًا: المراد بسلامة الصدر
يقصد بسلامة الصدر طهارته من الغل، والحقد، والبغي، والحسد، فهذه خَلة وشعبة وصفة مما يدخل في القلب السليم، الذي لا ينجو إلا من آتى الله به، كما قال الله -تبارك وتعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89،88].
والحديث عن القلب السليم حديث متشعب، وهو ينتظم أوصافًا كثيرة، هذه واحدة منها، فأحببت أن أتحدث عن هذه الصفة؛ لعظم شأنها، وأن أفردها بالحديث لشدة الحاجة إليها، ثم أتحدث -إن شاء الله تعالى- في مجلس آخر عن القلب السليم، الذي جاء في هذه الآية التي ذكرتها آنفاً.
فنحن في هذا المجلس إنما نتذاكر، ونتحدث عن شعبة واحدة مما يدخل في القلب السليم، وهي سلامة الصدر.
سلامة الصدر تارة تكون وهبية من الله -تبارك وتعالى- يتفضل بها على من شاء من عباده، فيكرم بعض خلقه بهذه الخَله، وبهذه الصفة، فيكون صدره سليمًا لإخوانه المسلمين، وهذا قد يوجد في بعض الذوات، وقد يوجد في بعض الأسر، فيكون ذلك طبعًا مركوزًا جبليًا فيه، فإن مثل هذه الصفات كسلامة الصدر، أو الحلم، أو الأناة، أو الحياء، أو الشجاعة، أو غير ذلك، قد تكون أوصافًا جبلية، كما قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: إن فيك خلتين يحبهما الله، الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما، أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله[1].
فهكذا سلامة الصدر قد تكون موهبة من الله لبعض العباد، قد تجد أسرة بكاملها يتصفون بهذه الصفة، لا يحملون غلا، ولا غشًا، ولا حقدًا، ولا حسدًا، ولا ضغينة على أحد، قلوبهم كأفئدة الطير، قلوبهم بيضاء نقية، وإنك لترى ذلك في وجوههم، حتى إنك لربما رأيت وجه الرجل فعرفت أنه لا يصلح للغل، وأن الغل لا يجد طريقه إلى قلبه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد يكون ذلك غير مركوز في نفس الإنسان، فيحتاج إلى أعمال ومزاولات من أجل أن يحصله، فإن مثل هذه الأمور تكون كسبية، بحيث إن الإنسان يمكن أن يتصف بها بعد المجاهدة، وكثرة المزاولة، فكما قيل: "كثرة المزاولات تورث الملكات" فيكون ذلك سجية، وصفة راسخة للنفس، والنبي ﷺ قال: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2].
بمعنى أن الإنسان كما أنه يتعلم العلم ويتلقاه حتى يصير العلم صفة راسخة فيه، فيكون من الراسخين في العلم، فكذلك أيضًا هذه الأخلاق، الحلم يكون بالتحلم، بمعنى: أن الإنسان يروض نفسه على الحلم شيئًا فشيئاً، حتى يصير ذلك صفة ثابته، راسخة له.
فكيف الطريق لسلامة الصدر؟ كيف تكون قلوبنا وصدورنا سليمة لإخواننا المسلمين؟
أقول: هذا يكون العمل فيه على اتجاهين:
الجانب الأول: وهو ما يتصل بالتخلي عن كل ما يضاد هذه الصفة، وهذه الخَلة، جميع الأضداد، والعوائق، والعوارض، التي تحول دون الاتصاف بهذا الوصف العظيم، ينبغي على الإنسان أن يتخلى عنه، وأن يتباعد عن تلك المدنسات التي تدنس قلبه وتكدره وتلوثه، فيكون ضاغنًا على الناس، يكون ممن يحمل قلب جمل -كما يقال- يحقد على هذا، ويحنق على هذا، ويتغيظ من هذا.
أما الجانب الأول، وهو التخلي عن أضدادها فيكون ذلك بأمور:
الأول: بمجانبة الحسد، وأسباب العداوات، فتش عن الأمور الجالبة لهذه الأوصاف المذمومة، النبي ﷺ يقول ناهيًا لهذه الأمة -ومعلوم أن النهي يقتضي التحريم: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا....، فهذه أربعة أمور نهى النبي ﷺ عنها، وهي محرمة، بل لم يكتف النبي ﷺ أن ينهى أمته عن هذه القضايا الأربع، عن هذه الأوصاف الذميمة، بل قال: وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[3].
فقوله ﷺ: لا تباغضوا هذا نهي عن البغضاء، كما أنه نهي عن جميع الأمور التي توصل إلى هذه البغضاء، فإن الشارع إذا نهى عن شيء فإنه يكون ناهيًا عنه، وعن كل ما يوصل إليه، كما هو معروف في القواعد الفقهية.
لا تباغضوا، نهي عن البغضاء، وعن كل ما يوصل إليها، ما هي الأمور التي توصل إلى البغضاء؟ ما هي الأمور التي تجذب البغضاء إلى قلوبنا؟ فالشارع ينهى عنها.
وهكذا في قوله ﷺ: لا تحاسدوا، فهو نهي عن التحاسد، كما أنه نهي عن كل ما يؤثره الحسد، فإن الحسد يجر إلى أمور، مما يتصل باللسان، ويتصل بالجوارح، فذلك منهي عنه جميعًا، كما أنه نهي عن كل ما يوقع في الحسد؛ وذلك أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف في شيء لا يقدر عليه، فإن الحسد يتسلل إلى القلب من غير إرادة الإنسان، البغضاء قد تتسلل إلى القلب من غير إرادة الإنسان، فعندها يكون خطاب الشارع متوجهًا إلى سببه، أو إلى أثره، وتارة يكون متوجهًا إليهما، فإذا قال النبي ﷺ: لا تباغضوا، قد يقول الإنسان: أنا لا أملك قلبي، البغضاء تتسلل إلى القلب من غير إرادة، نقول: خطاب الشارع عندها يتوجه إلى النهي عن كل الأسباب التي توصل إلى البغضاء، وعن كل آثارها التي تنتج وتنجم عنها.
وكذلك نقول أيضًا فيما يتصل بالحسد، وهكذا في قوله ﷺ: ولا تدابروا، فهو نهي عن كل ما يؤدي إلى ذلك، بمعنى التدابر أن يلقى أخاه فلا يلقاه بوجهه، وإنما يوليه دبره، يعني: يعرض هذا، ويعرض هذا، فهذا كناية عن القطيعة والتهاجر بين المسلمين؛ ولهذا قال ﷺ: ولا تقاطعوا، فهو نهي عن كل الأسباب التي توصل إلى القطيعة بين المسلمين.
والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا كما أمرهم الله ، وكونوا عباد الله إخوانا فهذا خطاب الشارع، وظاهره العموم، والعموم يتوجه إلى أربعة أشياء: هذا يتوجه إلى كل واحد منا إلى كل الذوات، لا يوجد أحد مستثنى، ويتوجه إلى جميع الأوقات، فهذا في زمن النبي ﷺ، وفي القرن الماضي، والذي قبله، وفي قرننا هذا إلى قيام الساعة، وهو يتوجه إلى المحال والأمكنة، فذلك في كل مكان في المدينة النبوية، وفي غيرها، كما أنه يتوجه إلى جميع الأحوال، في كل حال ليس لك رخصة أن تقاطع المسلمين، وأن تهجرهم، وأن تكون ضاغنًا عليهم، بل يجب أن تقوم بما أمرك الله به: وكونوا عباد الله أخوانا، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10].
يقول عبدالله بن خبيق "إنما هي أربع: عينك، ولسانك، وقلبك، وهواك، فانظر عينك، لا تنظر إلى ما لا يحل"، هو يعدد أربعًا تتحقق بها النجاة والسلامة "فانظر عينك لا تنظر بها إلى ما لا يحل، وانظر لسانك لا تقل به شيئًا يعلم الله خلافه من قلبك"، والقلم أحد اللسانين، لا تكتب شيئًا يعلم الله من قلبك خلافه، "وانظر قلبك لا يكون فيه غل، ولا حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا يهوى شيئًا من الشر، فإذا لم تكن فيك هذه الأربع، فاجعل الرماد على رأسك فقد شقيت"[4].
فيجب أن نتباعد من جميع هذه الأمور التي نهى النبي ﷺ عنها، فيجتنب المؤمن ذلك، وما يسببه، وما يؤثره في الوقت نفسه، كما أنه على المربين، من الآباء والأمهات، والمعلمين، وغيرهم، في المحاضن التربوية وغيرها، أن يراعوا هذا في تعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، فلا يتصرفون تصرفات من شأنها أن تبعث الغيرة في نفوس هؤلاء الأولاد أو التلاميذ، فيكون ذلك ناقلًا للأحقاد والحسد التي من شأنها أن تورث العداوة والبغضاء في نفوس هؤلاء الأبناء، أو الطلاب، والتلاميذ.
أحيانًا يكون التصرف في التفضيل الظاهر، أو الخفي الذي يلاحظونه من فلتات اللسان، ونظرات العيون، هذا التفضيل قد يحمل هؤلاء على الحقد والكراهية لهذا الذي يرونه مفضلًا عليهم، إخوة يوسف قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، فحملهم ذلك على ارتكاب هذه الأمور العظام، وهذه الجناية في حق أخيهم يوسف والجناية في حق أبيهم، وهو نبي من كبار الأنبياء -عليهم السلام.
فأقول: مثل هذه الأمور ينبغي للإنسان أن يتفطن لها، فلا يتسبب في تصرفاته في شيء من ذلك، وعلى الإنسان نفسه أن يراعي هذا المعنى في خاصة نفسه، فلا يلتفت إلى شيء مما يوغر الصدور، وإنما يكون مطلوبه -كما سيأتي- هو ما عند الله -تبارك وتعالى- فلا يلتفت إلى شيء مما يتوهمه، أو يلقيه الشيطان في قلبه أن هذا من قبيل التفضيل، سواء كان ذلك من تصرفات بعض الآباء، أو من تصرفات بعض المربين، أو المعلمين.
الثاني: أن نقطع الطريق الذي يؤدي إلى هذه الأمور التي ذمها الشارع، فتؤدي إلى إيغار الصدور، أن نقطع الطريق على الشيطان بالكلية، وتأملوا في قول النبي ﷺ: ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس[5]، رواه مسلم.
فسماها النبي ﷺ "عضه"، والعضه من أسماء السحر، وذلك أن النميمة تفعل في النفوس فعل السحر، فتجد الرجلين بينهما من المصافاة والمحبة والأخوة والقرب ما لا يقادر قدره، ثم ينقلب ذلك في لحظه؛ بسبب نميمة تلقى في إذن واحد منهم، فتصل إلى قلبه، فتفتك به وتمزق هذه الأواصر والعلائق، فتتحول هذه المحبة والرابطة إلى جفوة وعداوة وبغضاء، هذه هي العضه، فهي تفعل في النفوس فعل السحر.
إذا ماذا نفعل؟ لا نصغي إلى كل قائل يكدر صفو النفوس، ويغير القلوب، فإذا جاءك من ينقل لك عن أحد من إخوانك شيئًا تكرهه، فاقطع عليه الطريق.
وانظر إلى هذا المثال، والنموذج الرائع: وهب بن منبه من التابعين، جاءه رجل فقال: "إني مررت بفلان وهو يشتمك -هذه نميمة- فغضب، وقال: ما وجد الشيطان رسولًا غيرك، ثم ما لبث ذلك الرجل أن جاء، فسلم، فرد عليه وهب السلام، ومد إليه يده وصافحه، وأدناه وأجلسه إلى جانبه"[6].
فهذا هو الطريق، ولكن أفعال الشياطين حينما تجد آذانًا قد أصغيت فإنهم يلقون فيها ما شاءوا، فتتكدر القلوب، وتتغير النفوس، والله يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].
بعض أهل العلم يقول: وَلَا تَقْفُ فسرها بالغيبة والنميمة؛ لأنها تقال في القفى[7]، والواقع أن هذا بعض ما يدخل في معنى الآية، لا تتبع، سواء كان ذلك عن طريق نميمة، أو قالة سوء، أو غيبة تقال في قفى الإنسان، أعرض عن هذا كله، واقطع الطريق، وبهذا يسلم لك قلبك، لا تصغي إلى أقوال هؤلاء النقلة ممن ينقلون لك هذه الآفات، فإنها تفسد قلبك، وتفتك بالعلائق والأواصر، وتزيل المحبة، وتذهبها، وتبطلها من أساسها.
لي بنفسي شغل عن كل من | للهوى قرظ قومًا أو قذف |
الثالث: أن نحذر من الأدواء الخفية، هذا الإنسان الذي يغار، إذا رأى أحدًا قد تميز، فإذا سمع من يثني على هذا الإنسان، ويطريه، أو يحبه، أو رأى القلوب تقبل عليه وتحبه، تميز من الغيظ، فكان ذلك كالرحى يفري كبده، مع أن هذا لم يصل إليه منه مكروه، لم يكن منه إساءه، ولكنه يتغيظ، يغار حينما يرى أحدًا يتميز، تجد هذا في التلاميذ الصغار في بدايات المراحل العمرية، بل تجد ذلك في الصغير الذي لا يميز، الطفل الصغير، إذا جاء مولود بعده، فإنه يجد بسبب ذلك من الغيظ والكراهية ما لا يقادر قدره، فإذا رأى التفضيل والحفاوة بهذا الصغير وهذا المولود الجديد، فإن ذلك لربما يحمله على تصرفات عجيبة غريبة، وهي غير خافية علينا، إذا كان هذا في هؤلاء الصغار دون سن التمييز، فكيف بالكبار الذين يعقلون ويدركون ويميزون؟ كيف يؤثر ذلك فيهم؟
وهذا المثال الذي ذكرته في أخوة يوسف كاف في بيان أثر هذا التغاير، أو التفضيل الذي يستشعرونه، هذا كله بسبب هذه الأدواء الخفية في هذه النفوس، فهي كامنة فيها كمون النار في الزناد، تجد هذا الإنسان يتحرك قلبه إذا وجد من ينافسه، أو من يتفوق عليه في دراسة، في علم، في معالي الأمور، في صنعة، في مال، في تجارة، في ذكاء، إلى غير ذلك مما يتمايز فيه الناس ويتفاضلون، فتارة تتصور هذه النفس بصورة وهيئة وكيفية الله أعلم بها؛ إذ يتصل ذلك بنوع من الغيب، فيصل أثر ذلك الحاسد إلى المحسود بإذن الله وقد يرتفع عنه هذا الشيء الذي قد تميز به، وقد يتمثل ذلك بما يتفوه به هذا الإنسان، أو يصدر عن جوارحه، وقد يكون ذلك تحت ستار رقيق يغطيه بشيء آخر من قصد النصيحة، أو بيان أخطاء لا يجوز السكوت عنها، إلى غير ذلك مما يمكن أن نجمله تحت قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15،14].
على كل حال، أقول: هذه الأدواء، حب الظهور، حب الرئاسة، حب الرفعة، حب التقديم، حب التصدير، هذه إذا لم تروض هذه النفوس، وتحمل على طاعة ربها ومليكها جل جلاله، ويقام القلب على الصراط المستقيم، فيكون متوجهًا إلى ربه وخالقه جل جلاله، وإلا فإن هذا الإنسان سيركب المراكب الصعبة؛ من أجل أن يفرغ هذه المشاعر.
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله: "ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير"[8].
قد تجد الإنسان أحيانًا إذا نظرت في خصومه وأعدائه، ومن يبغضهم، ومن يطلق لسانه فيهم، قد تجد أن هؤلاء هم الأماثل، هم الأخيار في المجتمع، هم المتميزون، فهم أشد أعدائه، ما السبب في هذا؟
السبب أنه يحمل نفسًا مريضة، لا يتميز أحد إلا عاداه، فهو يرى أن الطريق إلى الكمالات، والصعود إلى الدرجات، إنما يكون فوق هامات هؤلاء الناس، وأنهم يحولون بينه وبين تحصيل مطالبه، وهذا نظر ضيق قاصر، فالآفاق واسعة، وليس أحد يأخذ رزق أحد، وليس أحد يأكل رزق أحد، والأرزاق بجميع أنواعها من المال، والعلم، والعمل هذه كلها أرزاق، والنبي ﷺ يقول: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها[9]، ما كتبه الله للإنسان سيصل إليه، ولن يزاحمه أحد فيه، ولن يستولي أحد، أو يستحوذ على قليل منه، أو كثير، ولكن النفس أحيانًا تضيق، يضيق العطن أحيانًا، فتوجد مثل هذه الأدواء في نفوسنا.
الرابع: مما ينبغي التخلي عنه وهو التعصب، التعصب للشيوخ، التعصب للطوائف، التعصب لأي شيء يتعصب له، قد يكون هذا التعصب لقبيلة، قد يكون هذا التعصب لقول من الأقوال، لمذهب من المذاهب، فهذا فاقم الخلاف بين الناس، وسبب كثيرًا من الافتراق، فصار كثير من الناس شيعًا.
يقول الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين: "كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليه، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم، يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا. هذا والنبي واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والرب واحد"[10].
إذا لماذا هذا التفرق؟
إذا نظرت إلى حال الأمة في ميادين الدعوة تجد هذا الانشطار والتفرق، والعقيدة واحدة، الكتب التي يدرسونها في العقيدة واحدة، الكتب التي يدرسونها في الحديث واحدة، وكتابهم واحد.
وقل مثل ذلك أيضًا فيما يحصل من هذا التفرق والتناحر والانقسام في ميادين الدعوة، وميادين الجهاد والله يقول: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، فإن هذا كله بسبب التعصب.
أحيانًا تتحول الدعوة إلى شعار يدور الناس حوله، فكأن هذا الاسم هو الشيء الذي يدعى إليه، ويجتمع عليه، فكل من دخل فيه حصل له من المصافاة والمؤاخاة ولو كان مقصرًا في طاعة ربه -تبارك وتعالى- ومن لم يكن كذلك فإنه قد يحصل له من الجفاء ولو كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، هذا لا يجوز، نحن نقع في مثل هذه الأمور ولا نتبصر، ولا نتدبر فيما ينبغي علينا في مثل هذه المقامات، وإنما المؤمن يحب إخوانه بقدر ما عندهم من الإيمان والتقوى والعمل الصالح، ويكون للواحد منهم من البعد بقدر ما عنده من المخالفة.
فهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، دون اعتبار آخر، هذا على مذهب، وهذا على مذهب، هذا على رأي، وهذا على رأي، هذا له شيخ، وهذا له شيخ، كل ذلك لا يحسن، ولا يجمل أن تكون هذه الأمور سببًا للفرقة والعداوة والبغضاء، فلا تسلم صدورنا لإخواننا والله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
فهذا هو الجانب الأول، التخلية، أن نخلص هذه القلوب، فتسلم، فيكون ذلك كتنقية الأرض؛ من أجل أن تكون صالحة للزرع والنبات، فينمو ويشتد، فإن طيب المحل يكون سببًا لطيب هذا الزرع ونمائه وزكائه، هذه حقيقة التزكية، فإنها تجمع بين الأمرين التخليص والتطهير.
الجانب الثاني: وهو النماء، فنحن هنا أيضًا فيما يتصل بسلامة الصدر، وهي من أعظم مقومات تزكية النفوس بحاجة إلى هذا الجانب، أن نتخلى عن كل ما يؤثر ويعوقنا، ويحول بيننا وبين هذه الخصلة، وأن نتحلى بكل ما يقودنا ويوصلنا إلى هذه الصفة، فمن هذه الأمور التي نتحلى بها:
أولًا: أن الإنسان يلتجئ إلى الله -تبارك وتعالى- فيسأل ربه أن يلهمه رشده، وأن يخلصه من هذه الأدواء، وأن يسلم قلبه لإخوانه المسلمين، والله لما ذكر الطوائف الثلاث، ذكر المهاجرين، وذكر الذين تبوؤا الدار والإيمان، وذكر الطائفة الثالثة التي نكون في أحسن أحوالنا من المتحلين بها، وهي: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فهم يدعون لهم، وهذا يدل على أنهم على طريقتهم سالكون، وهم يقولون مع ذلك: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا.
فهذه الأمور أيها الأحبة لا يتخلص منها إلا من خلصه الله وسلمه ونجاه؛ ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، والرأفة هي أرق الرحمة، فمن رأف الله به، ورحمه، خلصه من هذه الأوصاف المذمومة، الغل لأهل الإيمان، وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وفيه: واسلل سخيمة قلبي[11]، النبي ﷺ يدعو بهذا، وهو أطيب الناس نفسًا، وأصلحهم قلبًا، فنحن من باب أولى، من منا يرفع يديه أو يسجد، ويقول: "اللهم اسلل سخيمة قلبي"، من منا يقول: ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا؟ هل نحن ندعو بهذا ؟ أو أننا لسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن قلوبنا قد سلمت، وتطهرت، وتنقت من هذه الأدواء والأوصاب.
ثانيًا: أن نتحلى بثلاث خصال، كما جاء عن النبي ﷺ في حديث ابن مسعود : ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم....، يعني: من تحقق بهذه الثلاث انتفى عنه الغل، إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم[12].
فهذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، ومن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة، والدخل، والشر، والغل، والبغضاء، فلا يبقى في قلبه غل، هذا الغل هو فساد القلب، سخايم القلب تذهب، فإنه لا يحمل الغل مع هذه الأمور الثلاث، فإنها تنفي غله وتنقيه وتطهره، وتخرج الغل منه.
فالقلب إنما يكون فيه الغل إذا ضعف فيه الإخلاص، فإذا ضعف فيه الإخلاص توجه إلى غير الله فصار ينافس على الدنيا، ينافس على الرئاسة، ينافس على الحطام، صار يتطلع إلى ما في أيدي الناس، هؤلاء قدروه أحبهم لم يقوموا بما يجب معه في زعمه ووهمه، فإنه يتحامل عليه ويبغضهم، هؤلاء يشعر أنهم قد أدوا حقه بالزيارة والعيادة حينما مرض، أو العزاء، أو نحو ذلك، فيكون قلبه تجاههم سليمًا، أما أولئك الذين يظن أنهم قد قصروا في يوم من الدهر فإن قلبه يكون غير نظيف، ولا نزيه، ولا سليم تجاه هؤلاء الناس؛ لأن هذا الإنسان لم يخلص الإخلاص المطلوب، الإخلاص الواجب، ففي قلبه شيء من الدغل، فيه أدواء، فيه أخلاط، يحتاج إلى تجريد، يحتاج إلى تنقية، يحتاج إلى تنظيف.
فإخلاصنا يخلص قلوبنا، وينظفها ويطهرها، والله يقول عن يوسف : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ [يوسف:24]، فهذه قراءة متواترة، فإخلاصه كان سببًا لصرف السوء والفحشاء، ويدخل في السوء هذه الأدواء التي توجد في النفوس، فإن الإخلاص يكون سببًا للخلاص، ولهذا في القراءة الثانية: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وراجعوا كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- على هذا، وابن الأثير، وغير هؤلاء.
الخصلة الثانية: وهي مناصحة أئمة المسلمين، فهذا ينافي الغل والغش، وهكذا لزوم جماعتهم؛ وذلك أن الإنسان حينما يرى شيئًا يوجب النصيحة فإنه حينما لا يفعل يبقى قلبه منطويًا على أمور يكرهها، ويتغيظ لها، ويتحرك قلبه تجاهها، فإذا وجدت النجوى فإن هذا يضخمها ويكبرها في قلبه، فتبقى القلوب مليئة بالغل.
هذا الغل نعذب به أنفسنا، ولا تنحل به المشكلات التي في الخارج، ولا تزول به المنكرات، ولا يتغير به الواقع، لكن النبي ﷺ ذكر لنا الطريق الذي يحصل به الصلاح والإصلاح: هو المناصحة، رأيت من أحد من هؤلاء ممن له ولاية أيًا كانت، أو على أحد من إخوانك ممن ليس له ولاية، اذهب إليه، وانصحه، وكلمه، ثم بعد ذلك تجد من الانشراح ما لا يقادر قدره، يبقى القلب نظيفًا سليمًا طاهرًا، لا تجتمع فيه مثل هذه القضايا، ولكنه إذا ترك ثم بعد ذلك طُعم بالنجوى، فإن هذا يكبره، ويعظمه في نفس الإنسان، مع أنه لا ينتفع به، وهذه قضية مهمة في السياسة الشرعية، يعني: ينبغي على من بسط الله يده أن يتفطن لهذه القضية، يعني: إذا كان يريد أن تكون قلوب الناس سليمة تجاهه، وأنهم يحملون تجاهه مشاعر طيبة حسنة، فعليه أن يفتح لهم الأبواب، وأن يفرح بالناصحين، وأن يرحب بهم، وأن يستقبلهم أحسن الاستقبال، ويقول: أنتم تكملونني، أنتم تهدون إلي عيوبي، بعضنا يكمل بعضا، فيذهب هؤلاء الناس وقد حطوا ما في نفوسهم بين يديه، وبهذا يحصل التسديد، يحصل الإصلاح، يحصل التمكين، يحصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على الصغير والكبير والرئيس والمرؤوس، وبهذا تكون هذه الأمة في حال من الضمانة التي لا يصل معها بإذن الله فساد إلى تلك المجتمعات، فلا تتفرق الأمة، ولا تنقسم، ولا يحصل بينهم الاحتراب، فإن منشأ ذلك هو ما تنطوي عليه القلوب من الأحقاد.
واليوم ما عادت النجوى، كما كانت في السابق يناجي ثلاثة، أو يناجي أربعة، أو يناجي خمسة، بين أربعة جدران، اليوم أصبحت النجوى بشكل أوسع من هذا، عن طريق مساحات واسعة لربما بين الملايين عن طريق وسائل الاتصال، فما هو الطريق لنصل إلى ما أمرنا به النبي ﷺ؟ فالشارع لا يأمر إلى بخير، والله عليم حكيم.
ثالثًا: الرضا بقضاء الله وقدره، هذا الإنسان الذي تتحرك نفسه تجاه إخوانه، هذا أعطاه الله مالًا، وهذا بنى قصرًا، وهذا تفوق في دراسته، وهذا محبوب بين زملائه، وفي دائرة جيرانه، ومحال عمله، وما إلى ذلك، فيبدأ هذا القلب يتحرك، بل لربما تحرك قلب الإنسان، وهو يعاني من مرض على من يشاكله في المرض؛ لأنه يشعر أن علته أخف قد يحسد الإنسان آخر مثله قد ابتلي بعلة وداء كالسرطان، أو غير ذلك، -أسأل الله أن يعافي الجميع- يحسده؛ لأنه يشعر أن العلة التي فيه أخف، وأن الجرعة التي يعطاها من هذا العلاج الكيميائي أنها أخف، إلى هذا الحد!
قد يحسد الإنسان -أحيانًا- على أن خسارته في تجارته أخف، أن خسارته في الأسهم أخف، الحسد حتى على المصيبة، نسأل الله العافية.
هذا منشأه عدم الرضا بقضاء الله وقدره، الله -تبارك وتعالى- هو الذي قسم الأرزاق نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32]، هذا القسم، وهذا العطاء إنما هو ابتلاء من الله -تبارك وتعالى- والله عليم حكيم، أعطاهم عن علم وحكمة، ولا يجوز لأحد أن يعترض على قضاء الله وعطائه، فإن ذلك لا يجوز بحال من الأحوال، والله يقول: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، وانظر بما ختم الآية: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، رحمته وجنته وعطاؤه في الآخرة خير من هذا العطاء في الحطام الذي يتحاسد عليه كثير من الناس.
فهذا الحاسد، وهذا الذي يجد غلًا على إخوانه؛ لأن الله أعطاهم وحباهم، هو معترض على قضاء الله وقدره، فينبغي عليه أن يروض نفسه على الرضا، فإنه يفتح له باب السلامة، سلامة القلب، وسلامة الصدر، فيكون قلبه نقيًا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو بين يدي الله ولا من عذابه إلا من جاء بقلب سليم، ومن السلامة: السلامة من هذه الأدواء، وكلما كان العبد أشد رضًا كان قلبه أسلم، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله[13].
فإن الغش والحقد والدغل والبغضاء كل ذلك مقترن بالتسخط، بالسخط، بعدم الرضا بعطاء الله وقضائه وقدره، وسلامة القلب وبره ونصحه قرين الرضا، والحسد الذي يقع بين الناس إنما هو ثمرة من ثمار هذا السخط، والسلامة منه إنما هي ثمرة من ثمرات هذا الرضا.
إذا يرضى الإنسان بما أعطاه الله، وما يدريك فقد يعطيك ثم بعد ذلك يكون ذلك سببًا للشقاء، الذكاء أحيانًا يكون سببًا للتعاسة، يكون سببًا للضلال، الكثير من الضالين المنحرفين الكبار، أئمة الضلال، كما قال شيخ الإسلام: "أوتوا علومًا، ولم يؤتوا فهوما، وأوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً"[14].
ليست العبرة بالذكاء، فكم من بليد الفهم يفضل عند الله ملء الأرض من النوابغ والأذكياء، هذا الذكاء قد يكون شؤما على صاحبه، وقائدا له إلى معاداة الرسل ومحاربتهم، وترك ما جاءوا به، وهكذا المال وما يدريك أن هذا المال يكون سببًا للطغيان كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:7،6].
فيبقى الإنسان على حالة متماسكة، قريب من الله خير له من أن يؤتى المال، ثم بعد ذلك يطغيه ويشغله، ليس فقط عن طاعة الله بل لربما عن أهله وولده، بعض النساء تقول: إن زوجها كانت حينما تزوجته في أحوال متواضعة، لا يكاد يجد ما يسد الرمق، تقول: صبرت عليه سنين طويلة، ثم فتحت عليه الدنيا، فتنكر لنا تمامًا، كأنه لا يعرفنا، ولا ينفق علينا، فنحن في بؤس أعظم من البؤس الذي كنا فيه قبل أن تفتح علينا الدنيا، هذا مثال.
كم من إنسان ترك طاعة الله، وترك عبادته، بسبب الغنى، فالله -تبارك وتعالى- حكيم عليم، فقد يفطم العبد من الدنيا؛ ليستصلحه، ليبقيه على إيمانه، على تقواه، على صلاحه، بعض كبار التجار يفتخر في مقابلة منشورة في الصحف أنه منذ خمس وعشرين سنة ما جلس مع أولاده على وجبة، ما قيمة هذا المال؟
بينما ذاك الإنسان الذي لا يملك من المال إلا القليل يغدوا ويروح على أولاده، لا يفارقهم، ولا يأكل دونهم، ولا يفقدونه.
وبعض هؤلاء يفتخر، ويذكر ذلك على الملأ أنه ما ذهب يتنزه، وما أخذ إجازة منذ ثلاثين سنة، ما فائدة هذا المال؟ إذا هو شقاء، هو كالحارس الذي لا يرقبه فقط، بل يطارده ويلاحقه، فهو في شقاء دائم.
رابعًا: أن الإنسان يسقط حقه على إخوانه، وعلى أهله ألا يرى لنفسه حقًا على أحد، يعفو، ويصفح، ويغفر، يعفو لا يبقى في النفس أثر وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، الصفح من صفحة العنق، لا تلتفت للإساءة، لا تقل أنا عفوت عنك، ليس في قلبي شيء عليك، لكنك أخطأت في حقي؟ لا لا، اصفح، لا تعاتب، هذا معنى الصفح أعطه صفحة العنق، لا تقف عند إساءته، وتقول: عفوت، لكن ترى أنت أخطأت، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.
وكذلك -أيضًا- الغفر، فإن الغفر يعني أن لا يصل إليه منك مكروه، وأن تستره، فإن الستر يعني هذا وهذا، الحماية والوقاية، بالإضافة إلى الستر كالمغفر يستر الرأس ويقيه، فما يذهب الإنسان، ويتكلم في المجالس، ويقول فلان أساء إلي، وفلان ظلمني، وفلان فعل كذا وكذا، وفلان أخطأ في حقي، ومع ذلك أنا عفوت عنه، فإن هذا ليس من الغفر في شيء، أعرض عن هذا بالكلية، تمثل بهذه الخصال الثلاث: العفو، والصفح، والغفر.
وإذا جاءك إنسان يعتذر إليك إنه مقصر، قل: أنا المقصر، الحق لك، قال: ما اتصلت عليك، قل أنا الحق إني اتصل عليك، إذا قال: تأخرت عليك، قل: أنا أشوف لنفسي، أنا أنظر في تقصيري، أنا أقصر في حقوق الآخرين، أنا أغفل عن الاتصال، أغفل عن الرد على الرسائل، لا تنتظر من أحد شيئًا.
لما عفوت ولم أحقد على أحد | أرحت نفسي من هم العدوات |
هذا هو الطريق، هذه راحة للقلب، أما إذا كان الإنسان عنده حسابات وتصفيات، ويحاسب هذا وهذا وهذا، فإنه سيَتعب ويُتعب من معه، وقد فسر ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله -تبارك وتعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، يعني: على النساء، فسرها بمرتبه الإغضاء، والتجاوز، والعفو[15]، بمعنى: أنه لا ينقر، ولا يدقق، ولا يستوفي، ولا يستنطف، يستنطف حقه منها وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، الدرجة عند ابن عباس -رضي الله عنهما- الإغضاء، بمعنى: أن يفوت، لا تقف عند كل شيء، وإلا ستتعب وستتعب الآخرين معك، الإنسان مجبول على التقصير، فهذه الزوجة لا بد أن تقصر، فإذا كانت كلما قصرت تغير قلبك عليها ثلاثة أيام، أربعة أيام، خمسة أيام، وبعضهن تقول: ستة أشهر ينام في المجلس، لا يكلمني من أجل قضية تافهة، كلمة قيلت خطأ، سبق لسان، تقصير، تصرف، تأخر الغداء، العفو التجاوز الصفح، ولهذا يقول ابن عباس: "ما أحب أن أستوفي حقي منها"[16]، وجاء عن الحسن وغيره: "ما استقصى كريم قط"[17]، هذا اللئيم البعيد هو الذي لا يفوت شيئًا، يريد الأمور أن تكون في سيرها كعقارب الساعة في غاية الانتظام، ومن الذي يستطيع هذا؟ ولكن تكون الحياة بشيء من الإغضاء والتحمل.
وهكذا يكون مع الأولاد، لا يقف عند كل خطأ، وكل تقصير، وكل إساءة، فإن هؤلاء الأولاد قد ينفرون منه، ولا أحصي كم سمعت من أولاد وبنات، وبعضهم يرسل رسائل كان كلامهم ومقالهم يدور حول قضية واحدة: أبي لا يحبني، أمي لا تحبني، وأحاول جاهدًا من غير ما طائل أن أزيل مثل هذا التصور، وأقر أنني أفشل في أكثر هذه الحالات أن أغير هذا التصور عند هذا الولد، أو هذه البنت، أن هذا غير صحيح، أبوك يحبك، أمك تحبك، لكنه يقصد التأديب، والتعليم والتربية، وتجد هذا الولد يعلق، أو هذه البنت تتمسك بهذه المشاعر، ولربما كانت مشاعر متبادلة، إذا كانت الصدور غير سالمة من الولد لأبيه من البنت لأمها، فهذه كيف تسلم تجاه الآخرين؟
خامسًا: إحسان الظن، إحسان الظن بالناس، احملهم على المحامل الحسنة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].
وجاء عن عمر : "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا"[18].
ويقول الشافعي -رحمه الله: "من أراد أن يقضي الله له بخير؛ فليحسن ظنه بالناس"[19].
ولما قال له الربيع بن سليمان -وكان الشافعي مريضًا: قوى الله ضعفك، قال الشافعي -رحمه الله- لو قوى ضعفي لقتلني".
يعني: لو زاد مرضي وعلتي قتلني، فالربيع قال: "والله ما أردت إلا الخير"، يعني: قوى الله ضعفك، يعني: شد من أزرك وقواك، وعافاك، الشافعي فسرها -وهو إمام في اللغة- قال: "لو قوى ضعفي لقتلني، فقال: والله ما أردت إلا الخير، فقال: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير"[20].
لاحظ إحسان الظن، بعض الناس لربما تلقف هذه الكلمة، وقال: انظر، ماذا يقول؟ وذاك غافل عن هذا كله، وما أراد إلا الإحسان، وتجد قلب هذا يحمل عليه؛ حيث حمل كلامه على أسوأ المحامل.
والنبي ﷺ يقول: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا[21].
كل هذا مما يؤثره الظن، فإن الإنسان إذا أساء الظن بدأ يتحسس ويتجسس، ثم بعد ذلك تتسلل العدوات إلى النفوس؛ ولهذا جاء عن شقيق -رحمه الله: استتمام صلاح عمل العبد بست خصال: تضرع دائم، وخوف من وعيده، والثاني: حسن ظنه بالمسلمين، والثالث: اشتغاله بعيبه لا يتفرغ لعيوب الناس، والرابع: يستر على أخيه عيبه، ولا يفشي في الناس عيبه؛ رجاء رجوعه عن المعصية، واستصلاح ما أفسده من قبل، والخامس: ما اطلع عليه من خسة عملها استعظمها رجاء أن يرغب في الاستزادة منها، والسادسة: أن يكون صاحبه عنده مصيبا"[22].
وانظر إلى واقعنا وحالنا، وما نتكلم به في مجالسنا، وما نكتبه عبر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وعادى محبيه بقول عداته |
وصدق ما يعتاده من توهم
|
هذا الإنسان الذي عنده سوء ظن لربما هجر إخوانه، أو بعض إخوانه، من غير ما إساءة، لم يكن هناك موقف، لكنه يشعر بوحشة، والسبب هو أنه لم يكن على حال مرضية، فساءت ظنونه بإخوانه المسلمين، فإذا مضى زمان ما رأى أحدًا منهم، ظن أنه قد اتخذ منه موقفا سلبيًا، وأنه لا يحمل مشاعر طيبة تجاهه، فانقبض منه، ولم يعد يلقاه، أو يتواصل معه.
فنحتاج إلى أن ننظر في نفوسنا، وفي ظنوننا، وأن نحسن الظن بإخواننا المسلمين، والله يقول في سورة النور: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ، يعني: الإفك، وهذا يقال في الإفك وفي غيره مما يقال في إخواننا المسلمين، ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12]، على المعنيين اللذين ذكرهما المفسرون: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا، يعني: أنه يظن بنفسه يرجع إلى نفسه، ويقول: لو كنت مكانه أفعل هذا أو لا أفعل؟ فإذا قال: لا أنا ما أفعل، يقال: هو أيضا لم يكن أفضل منك، فهو مثلك، فلماذا تسيئ الظن به؟
المعنى الثاني: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا، أنه ظنوا بإخوانهم، فإن النفوس المجتمعة على الإيمان بمنزلة النفس الواحدة، كما قال الله : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29]، يعني: لا يقتل بعضكم نفس أخيه، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:85]، يعني: يقتل بعضكم بعضًا.
فيحسن الظن، يضع نفسه مكان أخيه، وإلا فإن مثل هذا الإنسان سيتعب ويتعب الناس معه، فالناس إذا عرفوا عنه ذلك بدأوا يراعونه غاية المراعاة، فيتكلفون له، كذاك الذي لا يسقط حظ نفسه، فهو يطالبهم ويستنطف حقه منهم، وإلا فإنه سيتحامل عليهم، ولا يكون صدره سليما تجاههم، فمثل هذا لربما يؤدي الناس إليه حقوقه على تكره، واستثقال، وتبرم منه، وما الخير للإنسان أن يكون بهذه المثابة؟ أن يحسن الناس إليه اتقاء شره، فإن النبي ﷺ أخبر: أن من شر الناس من أحسنوا إليه اتقاء شره[24].
فإذا مرض، قالوا: نذهب إليه، نذهب إليه، ولو كانوا في غاية الحرج والانشغال، يأتون إليه؛ من أجل ألا يتحامل؛ لأنه سيصفي حسابات، عنده سجلات يأتون إليه في المناسبات، يأتونه في كل ما ألم به؛ من أجل أن يسلموا منه، ومن شره، ومن ظنونه.
سيء الظن إذا اهديته طيباً، أساء الظن، وقال: ماذا يرى؟ فإذا أعطيته شريطًا عن الصدق، قال: ماذا يقصد؟ فإذا أعطيته عن الكذب، قال: ماذا يقصد؟ فإذا أعطيته عن الأمانة، قال: ماذا يقصد؟ فإذا أعطيته عن الخيانة، قال: ماذا يقصد؟ فإذا أعطيته عن صلاة الجماعة كتيبًا أو مطوية، قال: ماذا يقصد؟ فإذا أرسلت إليه رسالة وقلت: قال ابن سيرين، قال الحسن البصري، وذكرت له عبارة مع جملة من الناس، أرسلت لعشرات، بدأ يقلبها، وينظر إليها، لماذا أرسلها؟ وماذا يريد؟ وماذا يقصد؟ ويبحث عن أسوأ المحامل، من أجل أن يحمل ذلك عليها، أنك تقصد نقده والإزراء به، وأنت إنما أرسلنها لكثيرين؛ لأنها فائدة أعجبتك، فأحببت أن يطلع إخوانك عليها.
إن سكت لم تسلم، لماذا سكت؟ فإن ابتسمت ظن أنك تسخر منه، فإن حركت شفتك أو عينك، أو نحو ذلك، قال: ماذا يقصد؟ فإن خرجت من المجلس، ولم تتأخر فيه، قال: ما الذي أخرجه؟ وهكذا في كل شيء تفعله يحمل على المحامل السيئة.
هذا الإنسان يتعب، ويُتعب الآخرين، وهو ينظر إلى هؤلاء الناس، هذا مر وما سلم، ثم بعد ذلك تأكل معه، هذه القضية وتشرب شهورًا ودهوراً، وذاك لم يشعر به ولم يتنبه إليه.
سادسًا: التماس المعاذير للناس، كما قال ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل لعل له عذرًا لا أعرفه"[25].
التمس المعاذير لهؤلاء الناس، الرسالة التي أرسلتها إليه ما وصلت، يوجد خلل في الشبكة، هناك أشياء أحيانًا تصل إلينا بعض الفوائد، وبعض العبر، وبعض الحكم، هذا رجل يقود سيارته عند منعطف، فيقابله سائق في سيارة أخرى، ويخرج رأسه ويقول له: خنزير، فيشتغل ذاك بشتمه، يظن أنه شتمه، فإذا بسيارته تقفز على خنزير ملقى على الأرض، قد صدمته سيارة، فذاك يحذره، وهذا يظن أنه يشتمه، هكذا ساءت ظنونه بالناس، وهو يحمل كل التصرفات على أسوأ المحامل.
من الأشياء التي تصلنا أحيانًا، وهي أشياء جميلة، وفيها وعبر: هذا يطلب من صاحبه أن يقرضه مبلغًا من المال لم يكن حاصلًا له، فيستأذنه ساعة، ثم يرجع إليه ليعطيه المبلغ، ولكنه يتأخر عليه، فذاك يتصل والهاتف مغلق، الجوال مغلق، ثم يعيد الاتصال ثانية وثالثة، وهو مغلق، ثم يرسل إليه رسالة شديدة اللهجة، لست بحاجة إلى قرضك، ففتح جوالك، ويذمه، ويعيبه، ثم بعد ذلك يضع ذاك الشريحة، وكان ذهب يبيع هذا الجوال، ويشتري جهازًا رخيصًا من أجل أن يعطي أخاه ذلك المال الذي طلبه منه، وهو لا يجده، فيأتيه ويعتذر إليه، ويقول له: لم يكن معي فبعت جهازي، واشتريت هذا الجهاز رخيص الثمن؛ من أجل أن أعطيك ما طلبت، ثم وإذا بالرسالة تقع، والله المستعان.
فيحسن الإنسان الظن بالناس، الناس عندهم ظروف، لربما يكون الإنسان في حال من المرض، لربما يكون الإنسان في حالة نفسية لا تهيئه بأن يلقاك بالبشر والطلاقة، ويستقبلك بما اعتاد، لربما يعاني من ألم، لربما عنده مصيبة، عنده هموم، عنده آلام، عنده مشكلة، فهو حزين كئيب، أما أن الإنسان دائمًا يطالب الناس بأن يوفوا له حقوقه كاملة، ثم هو لا يعذرهم، ولا يلتمس لهم الأعذار، ويسيء الظن بهم.
سابعًا: إفشاء السلام، وقد قال النبي ﷺ: دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم[26].
وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه حينما يمر الناس في الأسواق، والطرقات، والمساجد، وما إلى ذلك، ولا أحد يسلم على أحد، يجد انقباضًا ووحشة، فإذا كان السلام فاشيًا في الناس كانت المشاعر تجاه الآخرين طيبة، والقلوب سليمة.
بل هناك أمر أسهل من هذا قد لا نتفطن له، وهو:
ثامنًا: تسوية الصفوف في الصلاة، فإن النبي ﷺ قال: لَتُسَوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم[27]، فهذه أمور يسيرة قد نغفل عنها.
تاسعًا: الصيام، فإنه يذهب وحر الصدر، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر، ويذهب مغلة الصدر، ولما سئل عن مغلة الصدر، قال: رجس الشيطان[28].
وفي رواية: يذهبن وحر الصدر[29]، وفي رواية: ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر[30]، فهذا هو ما يجده الواجد في صدره من الغل والفساد، يقال له: مغل الصدر، كما فسره بذلك الخطابي[31].
عاشرًا: المجاهدة: أن نجاهد هذه النفوس دائما، وابن القيم -رحمه الله- يذكر أن تزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد[32].
الإنسان قد يصاب بصداع، أو نحو ذلك، ويأكل شيئًا من الدواء، وبعد دقائق، أو نصف ساعة، أو نحو ذلك، يتلاشى -بإذن الله- ولكن معالجة النفوس وهذه الأدواء، أمر في غاية الصعوبة، والنفوس تتفاوت، بعض النفوس مثل الأرض الجبلية، صعبة فيها حزن ووعورة، وليس بكل سهولة يمكن أن يذهب ما في قلبة، يحتاج إلى مدة طويلة، ولربما يحتاج إلى أعمال، وإلى شيء من المراضاة، ولربما العطاء والإهداء، والتأسف، والاعتذار، ومع ذلك يبقى في النفس أشياء.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد اتفق السالكون على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب، وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليه سبحانه، ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها"[33].
هذا الذي نسميه وقفة النفس، الإنسان أحيانًا تأبى بزعمه أن يتنازل، قطيعه مع زوجته، هجران وحشة اعتذر تلطف، هذه المرأة اعتذري تلطفي، تبقى هذه النفوس مشحونة، وكل إنسان متمسك بموقفه؛ لأنه يزعم أو يتوهم أن كرامته ترتبط بهذا، فيبقى يعذب، لا يهنأ بطعام، ولا شراب، ولا نوم، يتقلب كأنه على ملة، ولا يهنأ بعبادة، ولا بقراءة قرآن، ولا ذكر، وجهه مظلم.
ما حاجة الإنسان إلى مثل هذا؟ ما حاجتنا إلى ذلك؟ نحتاج إلى أن نجاهد هذه النفوس، فندفع عنها هذا، وندفع عنها سائر الأدواء.
يعني: هذه مطالب النفس، قلنا: هذه الغيرة التي تحصل والحسد إلى آخره، هذه مطالب تارة تكون حسية كالعمران، الأثاث، النعيم الحسي، الطعام، الشراب، والجمال، فتجد النفس تطلب هذه الأمور، فتتحرك.
وهناك مطالب معنوية أخطر وأشد، كما قلت لكم الرئاسة، الظهور، التقديم على الناس، هناك نزعة الانتقام، التشفي، هذا كله يحتاج إلى مجاهدة، حتى تروض هذه النفس، وتضبط وتزم، وإلا فإنها إذا تركت فهي شرود تحمل صاحبها إلى معاطبه.
الحادي عشر: الزهد في الدنيا، فإذا زهد الإنسان بالدنيا استراح من هذا كله، زهد في الرئاسات، وزهد فيما عند الناس، وزهد في هذا الحطام من أوله إلى آخره، ولما قال النبي ﷺ لأصحابه: إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟، قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله ﷺ: أو غير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض[34]، إذا ما هو الطريق؟ الزهد أن يزهد الإنسان.
الثاني عشر: الاعتذار، فهي خلة شريفة، وهي انتصار على النفس، إذا أخطأ الإنسان، أو توهم أخوك أنك أخطأت في حقه، هناك كلمات تذهب وحر الصدر، قل له: أنا آسف، أنا أخطأت.
عن عائذ بن عمرو، أن أبا سفيان، أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي[35].
انتهت المشكلة، فاذهب إلى هذا الإنسان، أو اتصل إليه قل أنا أخطأت في حقك، أنا أعتذر إليك، أطلب منك أن تسامحني أن تعذرني.
الثمرات التي نجنيها إذا تحققنا بهذه الخلة:
أولاً: أن هذا هو الطريق إلى الجنة، الرجل الذي قال عنه النبي ﷺ لأصحابه: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، ثلاثة أيام، ويطلع نفس الرجل، وتبعه عبدالله بن عمر في القصة المعروفة، فما رأى لا كثير صيام، ولا كثير صلاة، حتى كاد أن يحقر عمله، فلما سأله عن هذا، ماذا قال في النهاية ؟ ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أ جد في نفسي على أحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: هذه التي بلغت بك، يعني: أوصلتك إلى هذه المرتبة، وهي التي لا نطيق[36] هذا أخرجه الإمام أحمد وغيره، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، وصحح ابن كثير إسناده، وقال: على شرط الشيخين، وصححه أيضًا الشيخ شعيب الأرناؤوط، كما صححه قبله المنذري.
وفي رواية: "إلا أني لم أبت ضاغنًا على مسلم"[37]، انظروا هذه التي وصلت به.
أحد تلامذة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- سأله قال: أجمع الناس على محبتك، فلأي شيء كان هذا؟ قال: لا أعلم خصومة بين اثنين من المسلمين إلا سعيت في الإصلاح، ولا أحمل في قلبي غشا، ولا غلا، ولا حسدًا على أحد من المسلمين، وهذه التي بلغت به، كثيرون الذين يقولون: نحب الشيخ، ونحن على طريقة الشيخ، ونحن على منهج الشيخ، ويعظمونه ويجلونه، ولكن إذا نظرت إلى السلوك العملي أحيانًا تجد بونًا شاسعًا، الشيخ ينصح، ويحب الخير للجميع، ويحب الجميع، ويدعو للجميع، والكل يشعرون أنه والد لهم، وناصح ومحب، وأنه أقرب الناس إليهم، لكن قد لا نكون نحن، ونحن نقتدي به ونحبه، ونقول على طريقته، قد لا نكون على طريقته في العمل من الناحية الواقعية، هذا الذي قد يقول هذا الكلام قد يكون في الواقع، قد يكون قلبه مليئًا على إخوانه المسلمين بالغل والضغينة، والحقد والحسد والبغضاء، فهو إن تكلم في ثوب ناصح، فهو يشنع ويقتص، ويصفي حسابات ويرمي هذا بكذا، ويبغض هذا، ويحقد على هذا.
ليس هذا هو الطريق، والنبي ﷺ صح عنه أنه قال: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير[38]، وهذا في صحيح مسلم، يعني: في الرقة، واللين، والرحمة، والصفاء، والخلو عن الحقد، والحسد، والغل والبغضاء، تكون قلوبهم سليمة خالية من هذه الأوصاب والأدواء.
أصل الدين -كما يقول بعضهم- أصله الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأفضل طرق الجنة سلامة الصدر.
ثانيًا: أنه طريق إلى النجاة، كما سيأتي مفصلًا الحديث عن قوله تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
وهذه من أسس السلامة، وقد سئل ابن سيرين -رحمه الله- ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله في خلقه[39]، الناصح، يحب لهم ما يحب لنفسه، يحب لهم الخير، يحب لهم الرفعة، يحب لهم الكمالات.
ويقول ابن العربي: "لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبراً"[40].
وقد شرط النبي ﷺ فيه: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه[41]، فالقلب السليم عند هؤلاء هو الذي يريد الخير لا الشر، يحب الخير لإخوانه، يحب لهم النفع والرفع، والمعروف والبر.
ثالثًا: أن هذا الوصف والخلة تبلغنا المراتب العالية، وقد سئل النبي ﷺ: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد[42]، وفي رواية: خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق[43]، هذا صححه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله.
(مخموم)، يعني: مكنوس القلب، نظيف، تقول: خم الدار، يعني: كنسها نظفها، ليس فيها شيء من الكدر والأوضار والشوائب.
وجاء عن إياس بن معاوية -رحمه الله- أنه قال: "كان أفضلهم عندهم -عند السلف : أسلمهم صدورًا، وأقلهم غيبة"[44].
فإذا كانت القلوب سوداء، والغيبة هي عامرة المجالس، فإننا لا نكون على منهج السلف أبدًا، وإنما نكون في حال بعيدة عنهم تحتاج إلى أن نعالج هذا النفوس، نحتاج أن نراجع، نحتاج أن نعرض أنفسنا على مثل هذه القضايا، فالدعاوى لا يعجز عنها أحد، نحن نستشعر أحيانًا أننا قد حصلنا الكمالات، لكن على الناس أن يصححوا واقعهم وحالهم، ونحن أحوج ما نكون إلى المراجعة والتصحيح، وفي كل هذه المجالس إنما يعظ الإنسان نفسه، وإلا والله لم يجرؤ الإنسان أن يتكلم في مثل هذه القضايا.
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله: لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة الصيام ولا الصلاة، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة[45].
القضية ما هي بصلاة، أو صيام، يركع ويسجد فقط، يركع ويسجد ويقوم الليل، ويصوم النهار، وقلبه مظلم أسود، حقود على المسلمين، هذا الإنسان الذي يكتفي بالفرائض أفضل منه بكثير، إذا كان قلبه نظيفًا لإخوانه المسلمين.
قيل لأحد التابعين، يقال له أبو بشير، كان من أصحاب علي: أخبرني أعمال من كان قبلنا، يعني: من الصحابة رضي الله عنهم؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويؤجرون كثيرًا، فسئل عن سبب ذلك، قال لسلامة صدورهم[46].
ولهذا يقول ابن رجب -رحمه الله: "لم يكن أكثر تطوع النبي ﷺ ولا خواصه من أصحابه الصلاة والصيام، بل ببر القلوب، وطهارتها، وتعلقها بالله خشية له ومحبة وإجلالًا وتعظيمًا، ورغبة فيما عنده، وزهدا فيما يفنى"[47].
هذا أبو دجانة الذي أعطاه النبي ﷺ السيف يوم أحد لما قال: من يأخذ هذا السيف بحقه فأخذه، وفلق به هام المشركين، وشهد بدرًا عند الموت كان يتهلل وجهه، فقيل له: لم يتهلل وجهك؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين، ما المتوقع؟ يقول: شهدت بدرًا، وأخذت السيف يوم أحد من النبي ﷺ بحقه ففلقت به هام المشركين؟ ما ذكر واحدة من هاتين.
قال: أما أحدهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني.
وانظر الآن التعليقات في المنتديات، ووسائل الاتصال يعلق على كل شيء، بما يعرف الإنسان خلفياته، وما لا يعرف، فيما يعنيه، وما لا يعنيه، فيما يحسنه وما لا يحسنه، المهم يقول أنا موجود، أنا هنا أنا أعلق، بلغت تعليقاتي عشرات آلاف تعليق، ما قيمة هذه العشرة آلاف؟ هي عشرة آلاف خطيئة، يتكثر من الخطايا، هذه القضية الأولى التي ذكرها.
الثانية: قال: كان قلبي للمسلمين سليمًا[48].
قال السقطي: -رحمه الله: "من أجل أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان، والنصيحة لهم"[49].
بل إن بعض أهل العلم قال في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، بعضهم قال: سلامة الصدر من الشرور[50]، وإن كان هذا ليس هو المعنى الراجح، لكن هذا من باب الشيء بالشيء يذكر.
رابعًا: أنه من أعظم أسباب قبول الأعمال الصالحة، كما في الحديث المشهور: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله في ذلك اليوم، لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يصطلحا[51] إذا نحن نجني على أنفسنا.
خامسًا: من هذه الثمرات سعادة النفس، وراحة القلب، إذا تخلصنا من هذه العلة، فليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه، من أن يعيش سليم القلب.
فأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة المعبود جل جلاله والعمل على طاعته؟ وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ والله قد أثنى على إبراهيم : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، من شيعة نوح : إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84].
فنوح كان يحمل قلبًا سليمًا، ومن شيعته إبراهيم؛ لأنه كان على منهاجه وطريقته، فدل على أنهم يتصفون بهذه الأوصاف ولا بد، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وكما قال بعضهم: ما رأيت أنور للقلب من سلامة الصدر[52].
ويكفي أن الله لما ذكر نعيم أهل الجنة قال: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ [الأعراف:43].
فدل أن غل الصدر لا يجتمع مع النعيم أبدًا، فهو يكدره، تجد الإنسان أحيانًا في نعيم ولذات، ويكون في نزه، فإذا تذكر من يبغضه تنغصت عليه لذاته، وهو يريد أن ينام إذا تذكره ذهب عنه النوم وطار عن غامضه، فهذا عذاب في الدنيا قبل الآخرة.
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، فما مصلحة الإنسان أن يعذب قلبه، وأن يشقيه؟ ولربما كان ذلك الذي يبغضه ويحسده في غفلة عنه لا يدري ماذا يدور في نفسه وقلبه ودواخله.
سادسًا: هذه الصفة تقطع سلاسل العيوب، وأسباب الذنوب، فيتطهر القلب من الظنون السيئة والإرادات الفاسدة، ويسلم من الشرور، من الغيبة، والنميمة، والكلام في أعراض الناس.
فسلامة الصدر للمسلمين يثمر طيب النفس، وسماحة الوجه، كما يقول ابن جُزي الكلبي [53]، وإرادة الخير لكل أحد، والشفقة، والمودة، وحسن الظن، ويذهب الشحناء، والبغضاء، والحقد والحسد، وهذا لا ينال لا بالصيام، ولا بالقيام، يعني: أن يصل الإنسان إلى هذه المراتب العالية.
سابعًا: قبول الناس، فالناس يحبون من كان يبتسم ويتصف بسلامة الصدر؛ لذلك انظروا في كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما يتكلم على عقوبات المجرمين من الزناة، وإقامة الحدود على السارقين وغيرهم، وكذلك ردع أهل البدع والأهواء، يقول: هذه العقوبات الشرعية، إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان، هذا الإنسان الذي يؤدب الناس، هذا الإنسان الذي يتولى التوجيه، ينبغي أن يحمل مشاعر طيبة، يقول: لهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
ويقول: وهكذا الرد على أهل البدع، أن لم يقصد بيان الحق، وهدى الخلق، ورحمتهم، والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا. بل قصده النصح للناس رفع الناس انتشال الناس من هذه الأوضار.
يقول: وإذا غلظ في ذم البدعة، أو المعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد؛ ليحذرها العباد، ويقول: كل هذا من الهجر وغيره، إنما يقصد به الرحمة والإحسان، لا التشفي والانتقام.
ثم يتكلم عن هؤلاء من أهل البدع والأهواء، يقول: إذا كان هؤلاء ليسوا في نفس الأمر من الكفار والمنافقين فهم من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم والله يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا [الحشر:10]، هذا يدخل فيه كل مؤمن كل من هو في دائرة الإيمان عبر قرون هذه الأمة، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو ذنب أذنبه، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم.
يقول: وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحق عصاة المؤمنين[54]. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.
أمثلة ونماذج:
عمران بن طلحة بن عبيد الله، دخل على علي بعد وقعة الجمل، وأبوه كان ممن في صف أهل الشام، فرحب به علي وأدناه، وقال إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
وأمر أن ترد ضيعة أبيه (مزرعة)، وقال: ما أخذناها هذه المدة إلا من أجل أن نحفظها؛ لئلا تنتهك، وأمر بأن يعطى ما يكافئ غلتها عبر تلك السنين[55].
بعد معركة يرحب به، ويقول مثل هذا الكلام؟
وجاء رجل وشتم ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال ابن عباس: "إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا".
ليست عندي قضيه عنده، لكن أحب الخير للناس "وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة"[56].
هذه محبة النفع للناس، سلامة الصدر لهم.
ولما احترق السوق، وجاء أحد السلف وله ضيعة –دكان- له محل في هذا السوق، فقابله رجل، وقال له: دكانك لم يحترق، فقال: الحمد لله، يقول: أنا استغفر لها منذ كذا وكذا[57].
يستغفر من هذا الذي قاله حينما قال الحمد لله يقول: كيف إني فرحت بهذا لما لم يحترق دكاني، مع أن محال المسلمين قد احترقت، انظروا القلوب السليمة.
ولما فتح المعتصم عمورية، وكان قد جلد الإمام أحمد وحبسه وآذاه، قال الإمام أحمد: هو في حل من ضربي[58]، وقال: كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعًا، وقد جعلت أبا إسحاق في حل -يعني المعتصم- ورأيت الله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22].
وأمر النبي ﷺ أبا بكر بالعفو في قصة مسطح.
ثم قال الإمام أحمد: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك في سبيلك؟[59].
شيخ الإسلام لما خرج من السجن، وبدأ الناس يتكلمون، وبعضهم يقول: فلان قصر فلان ما قام بالواجب، حينما سجن الشيخ، بعضهم ما كتب، بعضهم ما تكلم بعضهم ما كان له موقف واضح، بعضهم تسبب في أذية الشيخ، ماذا كان يقول -رحمه الله؟
يقول لأصحابه: إني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلًا عن أصحابنا بشيء أصلًا، لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا مذنبًا، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور، -ما عنده تصفية حسابات- والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين.
يقول: فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، كقول القائل: فلان قصر، فلان عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من أذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله[60].
انظروا إلى النفوس، وقد تكلمت في درس بعنوان: "أخلاق الكبار" عن أمثلة ونماذج فذة من هذا القبيل.
ولما مات ابن مخلوف، يقول ابن القيم: أتينا نبشره بموت ألد أعدائه الذي كفره، وأفتى بقتله، قال: تبشرني بموت رجل من المسلمين، فذهب إلى أولاده واسترجع، وقال: أنا لكم مكانة، لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه[61].
انظر القلوب الكبيرة والنفوس، وسلامة الصدور، مع أن هذا رجل من أهل الأهواء والبدع.
بل كان بعض أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه[62].
يقول ابن القيم: وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم[63].
ونحن إذا أساء إلينا أحد دعونا عليه دعاء يكسر الجبال.
على كل حال، هذه بعض الجوانب، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، والحديث في هذا الموضوع ذو شجون، وهي قضية نحتاج إليها جميعًا، فأسأل الله أن يصلح قلوبنا ونفوسنا، وأن يجعلها سليمة لإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه، رقم: (17)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في قبلة الرجل، رقم: (5225)، واللفظ له.
- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: (2663)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (10254).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة، رقم: (6076)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن، والتجسس، والتنافس، والتناجش ونحوها، رقم: (2563). واللفظ للبخاري.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 168).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم النميمة، رقم: (2606).
- حلية الأولياء (4/ 71).
- تفسير الرازي (20/ 339).
- جامع بيان العلم وفضله (1/ 571)، رقم: (971).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم: (9891)، ومعرفة السنن والآثار (1/ 102).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 173).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، رقم: (1510)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3830).
- أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، رقم: (2658).
- مدارج السالكين (2/ 201).
- الفتوى الحموية الكبرى (ص: 555- 556).
- تفسير الطبري (4/ 536).
- المصدر السابق (4 /535).
- تفسير القرطبي (18/ 187).
- شعب الإيمان (10/ 559)، رقم: (7992)، الكامل في ضعفاء الرجال (8/ 479)، روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، لابن حبان (ص: 90).
- المجموع شرح المهذب (1/ 13).
- آداب الشافعي ومناقبه (ص: 209).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم: (6064)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن، والتجسس، والتنافس، والتناجش ونحوها، رقم: (2563).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 66).
- الشعر للمتنبي، انظر: شرح معاني شعر المتنبي لابن الإفليلي - السفر الثاني (1/ 101).
- جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)). صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، رقم: (6032).
- شعب الإيمان (10/ 558)، رقم: (7989).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (2510)، وأحمد، رقم: (1412).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، رقم: (717)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها....، رقم: (436).
- أخرجه أحمد، رقم: (21364)، وأبو داود الطيالسي، رقم: (484)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (3573).
- أخرجه أحمد، رقم: (20738).
- أخرجه النسائي، كتاب الصيام، صوم ثلثي الدهر وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك، رقم: (2385).
- غريب الحديث للخطابي (1/ 585).
- مدارج السالكين (2/ 300).
- إغاثة اللهفان (1/ 75).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، رقم: (2962).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل سلمان، وصهيب، وبلال رضي الله تعالى عنهم، رقم: (2504).
- أخرجه أحمد، رقم: (12697)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، رقم: (10633)، والطبراني في مكارم الأخلاق (ص: 337).
- مسند البزار (13/ 14)، رقم: (6308).
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، رقم: (2840).
- الهداية إلى بلوغ النهاية (9/ 6122).
- أحكام القرآن لابن العربي (3/ 459).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم: (13).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، رقم: (4216).
- شعب الإيمان (6/ 449)، رقم: (4462).
- مكارم الأخلاق للطبراني (ص:338).
- شعب الإيمان (13/ 316)، رقم: (10392)، حلية الأولياء (8/ 103).
- الزهد لهناد بن السري (2/ 600).
- لطائف المعارف لابن رجب (ص:254).
- الطبقات الكبرى (3/ 420)، الصمت لابن أبي الدنيا (ص:95).
- آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة (ص:21).
- لطائف الإشارات = تفسير القشيري (3/ 190).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر رقم: (2565).
- رسالة المسترشدين (ص:162).
- القوانين الفقهية (ص:285).
- منهاج السنة النبوية (5/ 237-241).
- الطبقات الكبرى (3/ 169).
- المعجم الكبير للطبراني (10/ 266)، رقم: (10621)، حلية الأولياء (1/ 322).
- مجموع رسائل ابن رجب (3/ 319).
- سير أعلام النبلاء (11/ 258).
- المصدر السابق (11/ 261).
- مجموع الفتاوى (28/ 52-53).
- مدارج السالكين (2/ 329).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.