الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
وقفات مع قوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)
تاريخ النشر: ١٥ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 13700
مرات الإستماع: 8690

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد: 

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.

أحبتي، يقول النبي ﷺ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى.

فهذه بشرى أيها الأحبة لمن اجتمعوا في بيت من بيوت الله - تبارك، وتعالى - وهذا بيت من بيوته يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وهي سكون القلب، وطمأنينته وغشيتهم الرحمة والغشيان يدل على اشتمال من كل وجه، ومن كل ناحية، فتكون الرحمة مُجلِّلة لهم وحفّتهم الملائكة أحاطت بهم، وإذا حضرت الملائكة، وحفت قوماً من المؤمنين فإن ذلك مؤذن بطرد الشياطين، ويكون ذلك سبباً لنزول الألطاف الربانية، والرحمات، والهبات.

وذكرهم الله فيمن عنده[1] من الملأ الأعلى.

فنسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يجعلنا جميعاً من أولئكم، وأن يكتب خطواتكم، وأن يغفر لنا، ولكم، وأن يرحمنا، وأن يتقبل منا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يشفي مرضانا، ويرحم موتانا، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

أيها الأحبة، في هذه الليلة نتدارس آية من كتاب الله - تبارك، وتعالى - من هذه السورة الكريمة، السورة الزهراء، سورة آل عمران، وذلك قول الله - تبارك، وتعالى -: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].

هذه الآية هي تسلية، وتهيئة، هي تسلية للنبي ﷺ ولأصحابه، ولأهل الإيمان عموماً.

ذكر الله - تبارك، وتعالى - قبل ذلك في سياق طويل ما جرى لأهل الإيمان في يوم أحد من الهزيمة، والجراح، والألم، والقتل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 166].

وعزّاهم تعزية رقيقة في غاية اللطف، وقال: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 139، 141].

فعزاهم، وسلاهم، وبين لهم أن الموت الذي تخطّف سبعين منهم في غزاة أحد أنه طريق مسلوك، وأنه سبيل العالمين، وسنة الله في الخلق أجمعين كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185].

وقد صاح الشيطان في يوم أحد مُرجِفاً بأهل الإيمان، ومعلناً قتل النبي ﷺ فأصاب المؤمنين ما أصابهم من الحزن الذي أنساهم ذلك الحزن الأول بسبب القتل، والجراح، والهزيمة فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران: 153] فالغم الثاني هو هذا الإعلان بقتله ﷺ فأنساهم الغم الأول، وذلك ما وقع لهم من الانكسار في المعركة، والجراح، والقتل، والهزيمة.

ثم تكشفت الحقيقة عن كذب تلك الدعوى التي صاح بها الشيطان، فكان ذلك تخفيفاً على نفوسهم، وكان ذلك سبباً لنسيانهم الغم، والحزن الأول، ثم بعد ذلك قال لهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].

وقال لهم مسلياً، ومهيئاً لنفوسهم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30].

وكذلك أيضاً أرجف المنافقون بسبب ما وقع في يوم أحد، وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران: 154].

وقالوا: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران: 154] فجاءت الردود من الله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران: 154] قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154].

ولهذا قال الله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة: 8].

ما قال: فإنه يتبعكم، فالذي يتبع غيره قد يدركه، وقد لا يدركه، ولهذا يقول العامة فيما درج بينهم من العبارات في هذا المعنى، يقولون: "الموت طَرّاد لاحق" الطرّاد قد يَطْرد، أو يتبع غيره، ولكنه لا يدركه، "لاحق" يعني: يدرك، لكن العبارة القرآنية أبلغ من هذا كله: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة: 8].

تفرّ من شيء فيلقاك، ولهذا كان من كلام العرب في منظومها، ومشهور شعرها، حتى صار ذلك بمنزلة الأمثال لكثرة تداوله قول الشاعر:

لو أنّ عبدًا مُدرِك الفلاحِ لناله مُلاعِبُ الرّماحِ

والمقصود بالفلاح هنا البقاء.

يعني: هذا الذي يركب الأخطار، ويلقى العدو، ويخوض غمار المعركة، لو أن أحداً سيدرك البقاء فلا يموت لناله ذلك الذي يلاعب الرماح؛ لأن ذلك كان عند الله بآجال مضروبة لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154].

له وقت محدود، ومكان محدود، ولهذا قال الله - تبارك، وتعالى -: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدً [القمان: 34].

لا يدري ما الذي يقع، ويجري له في المستقبل، والغد تقوله العرب لليوم الذي يلي ليلتك، وتقوله للمستقبل، وإنّ غداً لناظره قريب.

لا يدري الإنسان ماذا سيكسب في مستقبل الأيام، وما يقع له من المحاب، والمكاره، وما يُقضَى في ذلك من الآجال وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34].

لو قيل للصغير، والكبير على حد سواء: من الأول؟ لم يُحِر أحد بجواب، لا أحد يستطيع أن يجيب، من الأول؟ من الذي يأتي أجله أولاً؟ هل هو هذا الطفل الصغير؟ أو هذا الشيخ الكبير؟ ذلك عند الله.

لو قيل ذلك في العليل - المريض - والصحيح، من الذي يأتي أجله أولاً؟ لم يُحِر أحد بجواب، الإنسان يدرك هذا باعتقاد ثابت جازم.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يبعث في نفسه الطمأنينة، الحذر لا ينجي من القدر، لكن لابد من فعل الأسباب، لابد من التوقي، وبذل السبب الصحيح المشروع، ولكن مهما كان الإنسان حذراً فإن ذلك لا يدفع عنه قدر الله - تبارك، وتعالى -.

يقال: إن الهدهد - الطائر المعروف - يرى الماء، وهو في الهواء، يعني: يرى الماء تحت الأرض، يعرف مواطن الماء، فقيل لابن عباس - رضي الله عنهما - وهو ترجمان القرآن: هذا الهدهد يرى الماء، وهو يطير في الهواء، فكيف يأخذه الصبي بالفخ؟

يعني: يضع له حبة في فخ، ويصيده، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إن القدر إذا جاء حال دون البصر"[2].

فالمقصود هو أن العبد يثق بتدبير الله، وأن الآجال بيده، فلا تذهب نفسه حسرات قلقاً على مستقبله، يترقب، ويخاف من الموت، وإذا أصابه المرض جزع، وأصابه الهلع، وساءت ظنونه بربه - تبارك، وتعالى -.

  1. أخرجه أبو داود، باب في ثواب قراءة القرآن (2/71)، رقم: (1455).
  2.  أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/440)، رقم: (3526)، وابن أبي شيبة (6/336)، رقم: (31852)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/403)، رقم: (247).
ليس للمرض علاقة بالأجل

لكن من علم تلك الحقيقة عَلِمَ عِلم اليقين أن المرض لا علاقة له بالأجل أبداً، لو قال الأطباء قاطبة: إن هذا أصح الناس فلن يؤخر ذلك أجله لحظة، ولو قال الأطباء قاطبة: إن هذا قد اجتمعت فيه أخطر العلل، والأمراض، والأوصاب، لم يتقدم أجله ثانية واحدة، لو اجتمعت أمراض الدنيا لن يتقدم الأجل، هو نفس الأجل.

لو أعاد الأطباء الدراسة، والفحص، وقالوا: النتائج رائعة، والمرض قد زال، ولا حقيقة له لم يتغير من الأجل شيء، يفرح الإنسان، ويسر، لكن الحقيقة أن الأجل هو الأجل، لو كان أصح الناس، وأنشط الناس، وأقوى الناس إذا جاء الأجل برك في مكانه.

فهذا يجعلنا نعمل العمل الطيب المثمر الذي يقربنا إلى الله، والدار الآخرة، ويجعل الإنسان في راحة من تلك الناحية؛ لأنها بيد مدبر هذا الكون بعلمه، وحكمته، قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات، والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.

وفي الحديث - حديث الصادق المصدوق - حينما يُبعث الملك إلى الجنين، وهو في بطن أمه إذا استتم أربعة أشهر: ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي، أو سعيد[1] أربع كلمات، وهو في بطن أمه.

الأجل، والرزق أكثر ما يقلق الناس عليه، وهو مقسوم، قد فُرغ منه، ولذلك انظروا فيما يجري هنا، وهناك مما فيه عبرة، وأعطيكم أمثلة مما وقع في ناحيتنا من الوقائع التي يعرفها الصغير، والكبير:

هذا رجل سقط في البئر، فتداعى الناس، وصاح الصائح، فاجتمعوا، فأخرجوه من البئر، وإذا به صحيح لم يُمس بسوء، سقط مباشرة على الماء، لم تصبه جوانب البئر، فخرج، فأخذوه إلى مجلسهم، وسقوه لبناً، ثم قالوا: يا فلان، ما الذي جرى لك؟.

فقال: تعالوا حتى تروا كيف وقعت.

فرجعوا عند البئر، وجعل يحكي لهم ما جرى، فزلت قدمه، فسقط ثانية حقيقة، فأصابته جوانب البئر، فما وصل إلى قعرها إلا وقد مات.

باقٍ بالأجل شيء بسيط، وباقٍ في الرزق شربة لبن، هذه وقعت في ناحيتنا، ومعروفة.

وهذا آخر توفي قبل سنوات قد عُمّر حتى قارب الثمانين، لما كان في مقتبل العمر صغيراً كان في حالٍ من المرض قد أوشك على الهلكة، ينتظرون أن تخرج نفسه، فأراد أخوه الأكبر، ومعه رجل آخر أن يخرجوا من القرية للاحتطاب، فقال أبوه، وهو شيخٌ كبير: إن أخاك قد أشفى على الهلكة كما ترى، وقد تخرج روحه هذه الليلة، أو من صبيحتها، وليس بي طاقة أن أحفر له قبراً، فاحفر قبره، ثم اذهب.

فحفر له القبر، وخرج، ولما خرج مع صاحبه تلقاهم بعض قطاع الطرق، فرموا ناحيتهم فأصابوا هذا الكبير الصحيح القوي الذي خرج ليحتطب.

وأخذوا ما معهم من زادٍ، وراحلة، وجيء بهذا الابن الكبير، ووضع في القبر نفسه، وعاش ذلك الصغير أكثر من سبعين سنة، برئ من المرض، وشُفي وما توفي إلا قبل سنوات، قارب الثمانين.

وهذا الذي حفر قبره هو الذي دُفن في المكان نفسه وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34].

فهذه أمور مفروغ منها، لا يدري الإنسان متى يقال له: ارحل، وهو طريق مسلوك للجميع، ولذلك قلت: "تهيئة" تهيئة للنفوس، وذلك من رحمة الله - تبارك، وتعالى - بعباده أن يوطن نفوسهم لتحمل الأمور المكروهة الشاقة، فيقول لهم: هذا طريق يجري على الصغير، والكبير، والغني، والفقير، والقوي، والضعيف كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] فهذا ليس لأحد دون أحد.

ومن هنا فلا شماتة في الموت.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ [الصافات: 171] (9/135)، رقم: (7454)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته (4/2036)، رقم: (2643).
الزهد في الحياة

ولهذا - أيها الأحبة - إذا عُرف هذا المصير فينبغي على العبد أن يزهد في هذه الحياة الدنيا كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] فهذه الحياة ليست غاية، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكُن كما شئت فكما تدين تدان.

هذه الحياة قصيرة مهما طالت أيامها، ولذلك قال الله - تبارك، وتعالى -: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم: 55].

الحياة طويلة، يحلفون أنهم ما بقوا غير ساعة، ولو نظر الإنسان إلى ما مضى من أيامه - وإن طالت - يشعر كأنها كالأحلام، أيام الصبا، أيام الشباب مضت كأنها ليلة واحدة، ثم بعد ذلك بدأ الشيب يغزوه، ويكسو مفارقه، وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: ما شبّهتُ الشباب إلا بشيء كان في كُمي، فسقط[1].

الأيام ترحل، تجري جري السحاب، والعاقل لا يغتر مهما أوتي من نشاط، وصحة، وقوة، ومال، وأولاد، ومراكب، وزروع، لا يغتر؛ لأنه عما قريب سينتقل إلى دار أخرى، سينتقل إلى البرزخ، والبرزخ عبارة عن زيارة حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر: 2] والزائر ما يستقر، قد تكون هذه الزيارة ألف سنة، قد تكون آلاف السنين كالذين ماتوا من زمن نوح إلى اليوم، المدة زيارة حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ.

وإذا أردت أن تعرف هذا في الحياة الدنيا فهؤلاء أصحاب الكهف بقوا تلك المدة الطويلة، ضرب الله على أسماعهم ثلاثمائة، وتسع سنوات، فلما قاموا قالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19].

وذاك الذي قال الله عنه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة: 259].

يقال: إنه وقع له ذلك في أول النهار، ثم أحياه الله في آخر النهار، فشك هل أكمل يوماً كاملاً، أو بعض يوم لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ مائة سنة!.

وأولئك ثلاثمائة، وتسع سنوات، النتيجة واحدة يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19].

فالدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وإذا كانت قصيرة فهي حريّة بألا يغتر العبد بها، فيؤدي حق الله، ويؤدي حقوق العباد، ويعاشر الناس عشرة يرضاها لنفسه.

يأتي الناسَ بما يحب أن يؤتى إليه، يعاملهم بما يحب أن يُعامَل به، بكلامه، ومخاطبته، ومعاملته، وأداء الحقوق لذوي الحقوق من الأهل، القرابات، الوالدين، الأولاد، الجيران، المعارف، العمال، والأجراء، هي معبر، ثم بعد ذلك الجزاء يكون هناك في دار القرار، في الدار الباقية التي أنعامها لا تزول، ولا تحول وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 185] جاء بثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر "إنما" الجزاء هناك تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يعني: كاملة يوم القيامة لا حذف.

بعض الناس قد يذهب حقه في الدنيا، ولكن الجزاء هو في الآخرة، بعض الناس لا يرى نتائج العمل في الدنيا، وذلك ليس بمستغرب؛ لأن مكان التوفية في الآخرة، وهذا يبعث الإنسان على إرادة ما عند الله - تبارك، وتعالى - والدار الآخرة.

أن لا يطلب في عمله الصالح شكر الآخرين، وحفاوة الآخرين، وتقدير الآخرين، وتقديم الآخرين، فيقول: ما عرفوا قدري، ما عرفوا بذلي، ما عرفوا جهودي، لم يقدروا ما عملت.

ليس هذا هو المطلوب، أنت تعمل لله الواحد القهار، العليم، الحكيم، الغني، الكريم، كما قال الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة: 272].

تقدم لنفسك، ليس لهم، إن تصدقت فلنفسك، وإن عملت فلنفسك، دعوت إلى الله فهو لنفسك وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة: 272] ما شأنكم بالآخرين؟ تقول: ما قدروني، ما عرفوا جهودي، ما عرفوا بذلي، جحدوني، تنكروا لي.

  1.  سير أعلام النبلاء (11/305).
وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ

أنت تعمل لهم، أو تعمل لله؟ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272].

بأقوى صيغة من صيغ الحصر وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ "خير" نكرة في سياق النفي، وسبقت بمِن التي تفيد التنصيص في العموم.

لا يضيع عنده شيء، يجازي بمثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُا [لزلزلة: 7، 8].

الأجور الكاملة تحصل في الآخرة، نعم في الدنيا قد يحصل للإنسان بسبب إحسانه من انشراح الصدر، وكذلك الزكاة، والصدقة تكون سببًا لنماء المال، صلة الرحم تكون سبباً فيُنسأ للإنسان في أجله، هذا جزاء معجّل في الدنيا، ولكنه غير كامل.

الجزاء الكامل هناك، فهذا يبعثنا على التجرد، ويرتاح الإنسان، ما يقول: أنا أحسنت إلى هؤلاء، أحسنت إلى فلان، أحسنت إلى فلانة، ثم بعد ذلك جحد الإحسان، وتنكر لي، وأساء.

كان شيخ الإسلام يقول - على كثرة ما بذل، وهو الذي واجه التتار بعدما فر الناس -: ما منّي شيء، ولا لي شيء، أنا المُكدَّى، وابن المُكدَّى[1].

هذه لو قالها كل واحد كان أراح، واستراح، "ما منّي شيء، ولا لي شيء" ما يقول: هذه جهودي، هذه مكتسباتي، هذه إمكاناتي، هذا عملي، أنا الذي فعلت، وأنا الذي فعلت، وأنا الذي فعلت، هذه بينك، وبين الله وأنت عبد، كلنا عبيد لله .

فيستمر الإنسان في العمل، ولو تنكر له الناس، يستمر في الإحسان، ولو جحده أقرب الناس إليه، ما تنقطع.

اتُّهم عرض النبي ﷺ تهمة قذرة، زوجته عائشة - رضي الله عنها - أبو بكر أحب الناس إلى النبي ﷺ ووُزن بالأمة فوزنها، خير الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر اتُّهم عرضه، ابنته عائشة، عائشة أحب زوجات النبي ﷺ إليه يتهم عرضها، ويبقى مدة أكثر من شهر لا ينزل عليه الوحي، في شدة.

أحد هؤلاء الذي يَتهم بهذه التهمة مِسطح، أمه بنت خالة أبي بكر الصديق قريب، وفقير، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، ثم تأتي التهمة من قِبله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه بعدما نزل الوحي في براءة عائشة - رضي الله عنها - كانت تبكي الليل، والنهار، فماذا قال الله ؟

هذه التربية القرآنية: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22][2].

وَلَا يَأْتَلِ "الأليّة" هي الحلف، يعني: لا يحلف، أبو بكر حلف، قال: والله لا أنفق على مسطح.

قال: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ يعني: أصحاب المراتب العالية وَالسَّعَةِ الغنى أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مسطح كان من المهاجرين وَلْيَعْفُوا العفو هو المحو، يعني: ما يبقى أثر في النفس وَلْيَصْفَحُوا من صفحة العنق، يعني: لا تقف عند الإساءة، وتقول: أنا ما في نفسي شيء عليك، لكن تُراك أخطأت في حقي.

لا، لا تقل له شيئًا، أعرض عن الإساءة تماماً، لا تجرها على لسانك، ولا تعاتب، ولا تقف وَلْيَصْفَحُوا وهذا أمر، اللام للأمر وَلْيَصْفَحُوا ثم قال: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.

الجزاء من جنس العمل، فالذي يصفح عن الناس حري بصفح الله، والذي يغفر للناس حري بمغفرة الله له.

فأقول: هذا يبعث العبد على ترقب الجزاء من الله - جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه - وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 185]. لا تقل: أنا أحسنت، وفعلت، وما رأيت شيئًا في الدنيا، الجزاء هناك، وأخفِ عملك ما استطعت.

ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله: ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه[3].

من شدة الإخفاء يخفيها عن نفسه، فلا داعي للحديث صراحة، أو تعريضاً أنك أنفقت، وأحسنت إلى فلان، أو عمرت مسجداً، أو أطعمت مسكيناً، أو غير ذلك.

  1.  المستدرك على مجموع الفتاوى (1/143).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، (3/173)، رقم: (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف (4/2129)، رقم: (2770).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين (2/111)، رقم: (1423)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2/715)، رقم: (1031).
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منهم.

قوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ كلمة "زُحزح" تدل على نقل ثقيل، زحزحة الشيء الثقيل، الشيء الخفيف ما يُزحزح، لكن الثقيل هو الذي يزحزح، كأن النار فيها جاذبية شديدة، وهي تقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟

وهؤلاء الخلق يتهافتون فيها، ويقال لآدم ﷺ: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة، وتسعة، وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها[1].

من شدة الفزع، والهلع، والرعب، والخوف، هذا الخوف الأكبر، الإنسان في الدنيا مهما أصابه فهو لا شيء، لكن عذاب النار للكفار عذاب أبدي سرمدي، لا يقاس بمليار سنة، ولا بمليارات السنين، بلا انتهاء فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر: 25، 26].

فيه رباط، سلاسل، قيود، وحديد، في الرقاب، في الأيدي، في الأرجل، وليس وحده، يربط مع آخرين مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ۝ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 49، 50].

فهذا هو العذاب الحقيقي، الخسارة الكبرى فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] أُدخل الجنة، كان يمكن أن يقال: "فمن أدخل الجنة فقد فاز" لأن الذي أُدخل الجنة قد نجا من النار، ولكن هنا لبيان أن الفوز الأكبر يحصل بهذه الزحزحة عن النار، فذلك لا شك أنه من أعظم الحظوظ، والمكاسب، وكذلك دخول الجنة.

يلفت الأنظار إلى أهمية الزحزحة عن النار، فنسأل الله أن يزحزحنا، وإياكم، وأن ينجينا من النار، وأن يدخلنا الجنة، ووالدينا، وإخواننا المسلمين. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] الفوز الحقيقي، الفوز الأكبر بالزحزحة عن النار، ودخول الجنة، هذا الفوز، ليس الفوز الحقيقي أن الإنسان ينجح، ويتخرج من المدرسة، أو من الجامعة، أو يحصّل الشهادات العليا، أو يحصل الأموال، ويكسب في التجارات.

الفوز الكبير هو في الزحزحة عن النار، ودخول الجنة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: 19] هذا يكون فائزاً، فهذا هو الذي يطير من الفرح، فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ۝ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20] يقول: أنا عارف أني سألقى الجزاء، وكنت أعمل من زمان في الدنيا لهذا.

الظن هنا بمعنى العلم، علمت أني ملاقٍ حسابيه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ۝ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ۝ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 21 - 24] بدون تنغيص، الإنسان إذا أكل وجبة أحياناً يحصل له من الآثار، والتنغيص ما لا يخفى، هناك "هنيئاً" بماذا؟ بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] ذكر، عبادة، صيام، صلاة، بر، صلة، إحسان بجميع صوره، وأشكاله.

لكن ذاك الآخر الذي أوتي كتابه بشماله، فيقول: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ۝ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ۝ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ۝ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ۝ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 25 - 29] لا المال، ولا السلطان، ثم يقال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] والغُلّ رباط يوضع في العنق ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ۝ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 31، 32].

بعضهم يقول: بذراع الملَك "فاسلكوه" قال ابن عباس: تدخل مِن فيه، وتخرج من الناحية الأخرى[2].

إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ۝ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۝ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة: 33 - 35].

ما فيها أحباء، كل هؤلاء بعيد، كما قال الله عن الأقارب: يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج: 11] يرى قرابته، يعرفهم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج: 11] الأولاد الذين يجمع لهم، ويكدح من أجلهم، ويلملم لهم، ويفديهم بنفسه في الدنيا، هنا: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج: 11] كل الأولاد يُلقون في النار في سبيل أنه ينجو، بل الزوجة، والإخوة، والأخوات، كل هؤلاء يتمنى لو أنهم كانوا فداء له.

فالفوز الحقيقي هو في النجاة من النار، والفوز بالجنة وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] جاء بأقوى صيغة من صيغ الحصر في بيان حقيقة الدنيا.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قوله إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] (8/110)، رقم: (6530)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة، وتسعة، وتسعين (1/201)، رقم: (222).
  2. تفسير الطبري (23/589).
لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء

هذه الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[1]. هذا كلام المعصوم ﷺ.

هذه الدنيا التي يتنافس عليها الناس، ويتهافتون عليها لو كانت من أولها منذ خلقها الله إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها تساوي عند الله جناح بعوضة، وليس بعوضة، جناحًا واحدًا، جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء.

قيل لسعيد بن المسيب لما خطب الخليفة ابنة سعيد لولده: جاءتك الدنيا بقضّها، وقضيضها.

فقال: أخبر النبي ﷺ أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، فماذا عسى أن يُقص لي من الجناح هذا؟.

ماذا عسى أن أُعطَى من جناح البعوضة في مقابل تزويج هذا الرجل بصرف النظر عن حاله، وصلاحه، وتقواه؟

هذه الدنيا التي يبطر الإنسان بسببها كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7] يأخذ أحياناً من الحلال، والحرام، ويأخذ حقوق الناس، ويستعمل أجراء، ولا يعطيهم، ولا يوفيهم حقهم، ويتنافس الناس في بناء الدُّور، والقصور، والأملاك، والمراكب، والزروع، والدواب، والبهائم.

الحقيقة الناصعة: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة إذاً المؤمن يطمئن، ويهدأ، ويسكن من جهة أنه إن لم يعطَ من الدنيا كثيراً لا تذهب نفسه حسرات، ويقول: فلان أُعطي، وآل فلان أُعطوا، وآل فلان أُعطوا، وأنا ما أُعطيت شيئًا، فالدنيا ما تساوي عند الله شيئًا، ما تساوي عند الله جناح بعوضة.

وكذلك ما فاته منها، يخسر الإنسان أحياناً، فربما تذهب نفسه حسرات بسبب هذه الخسارة، تراها ما تساوي عند الله جناح بعوضة.

وكذلك لا تكون الدنيا هي أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، فلا تكون هي الغاية، وإنما الغاية هي الآخرة، هي العمل بطاعة الله .

انظروا إلى القرون من قبلنا، من أُعطي كثيراً من الدنيا، ومن لم يُعطَ، كلهم ذهبوا، أين دورهم؟ وأين أملاكهم؟ وأين زروعهم؟ وأين قصورهم؟ كل هذا قد ذهب، ما الذي بقي؟

الذي بقي هو الأعمال، فالدنيا تعبر على الغني، والفقير، والصغير، والكبير، والصحيح، والعليل، لا يبقى إلا ما قدمه الإنسان لحياته الحقيقية.

فهذا يجعلنا لا نثق بهذه الدنيا كثيراً، ولا نتهافت عليها، فنجعل ذلك هو الغاية، ونتنافس فيها، فيكون ذلك سبباً لنسيان الدار الآخرة.

هذه بعض المعاني وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] يغرّ ببهرجه من لا بصر له، ولا معرفة بحقائق الأمور، ثم بعد ذلك ينكشف الأمر عن سراب خادع كان يطارده، ويلاحقه، وحطام زائل كان يجمعه، ويتعب في جمعه، ثم بعد ذلك: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45].

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلً [االكهف: 46] سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والأعمال الصالحة عموماً هي الباقيات الصالحات.

فهذا هو الذي يُعوَّل عليه، ويؤمَّل عائدته، وأجره عند الله، أما هذه الحياة فكما ترون، وأنتم أعرف، ترون الربيع يخرج، ترون هذه الروضات، والفياض، ونحو ذلك، يفرح بها الناس مدة شهر، أو تزيد، أو تنقص، ويطربون لهذا، وتأخذ الأرض زينتها، ويخرجون إلى ذلك يتنزهون، ثم بعد ذلك يبدأ يتحوّل يتغير لونه، ييبس، ثم يكون هشيماً تذروه الرياح كأنه لم يكن.

هذا مشهد يتكرر نراه دائماً، فهذا الذي نتسابق عليه من حطام الدنيا هو مثل هذا تماماً، هذه هي الحقيقة.

فأسأل الله أن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

أسأل الله أن يغفر لي، ولكم، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يتقبل مني، ومنكم، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره.

نسأل الله أن لا يحرمنا، وإياكم بركته، وعائدته، وثوابه، إنه سميع مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه. 

  1.  أخرجه الترمذي، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله - عز، وجل - (4/560)، رقم: (2320).

مواد ذات صلة